أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

المقدار من الاطاعة التي يقطع العقل بكونها غير اطاعة ، أو يشكّ بكونها إطاعة ، نقول : إنّ حديث الرفع يرفع ذلك التقييد بالاطاعة العليا ، ومقتضاه الاكتفاء بالاطاعة الثانوية ، ولا يكون هذا الأصل مثبتاً ، وليس هو إلاّكاجرائه في مسألة الشرطية والجزئية في أنّه يترتّب الاجتزاء بالفاقد مع أنّه لو كان جزءاً أو شرطاً في الواقع لم يكن ذلك الفاقد مغنياً فتيلاً ، لكون المركّب ارتباطياً ، فلاحظ وتأمّل ، هذا.

ولكنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ الداعي عبارة عمّا يكون بوجوده الواقعي معلولاً للفعل ، وبوجوده العلمي يكون علّة للفعل ، بمعنى أنّ وجوده العلمي والتصديق بترتّبه على ذلك الفعل يكون من مقدّمات إرادته والاقدام عليه ، وذلك فيما نحن فيه عبارة عن الامتثال وإسقاط الأمر والحصول على الثواب والتخلّص من العقاب أو القرب من المولى ، إلى غير ذلك من الفوائد المترتّبة على الفعل المأمور به ، أمّا الأمر نفسه فالظاهر كونه أجنبياً عن كونه داعياً للفعل.

وبالجملة : أنّ نفس الأمر يكون أجنبياً عن الداعي ، أعني فائدة الفعل التي هي بوجودها الخارجي من معلولات الفعل ، وبوجودها العلمي علّة في تعلّق الارادة به ، كالثواب وما يتلو تلوه من الخلاص من العقاب ، أو مجرّد القرب بالاتيان بما هو مراد المولى ، إلى غير ذلك من فوائد الفعل المأمور به ، فإنّها بوجودها الواقعي لا تكون إلاّمعلولات لذلك الفعل ، وبوجودها العلمي تكون علّة في تعلّق الارادة به ، لكونها بوجودها العلمي من دواعي تعلّق إرادة العبد به.

وهذا هو المراد بقولهم : إنّ الغرض من الأمر هو إحداث الداعي ، ولعلّ إطلاق لفظ الداعي على نفس الأمر كان بهذه الملاحظة ، أعني كونه من قبيل المقدّمة الاعدادية لتكوّن ذلك الداعي في نفس العبد ، وطريقة تكوّنه فيها هو أنّ

١٨١

الأمر يكون موجباً لكون ذلك الفعل ذا ثمرة وغاية مترتّبة عليه ومعلولة له ، وتلك الغاية هي الحصول على الثواب وما يتلو تلو ذلك ، وهذه الفائدة لو علم بها العبد يكون علمه بترتّبها عليه هو الداعي والمحرّك له على تعلّق إرادته بذلك الفعل.

وحينئذ فقد بان لك انعزال نفس الأمر بوجوده الواقعي عن أن يكون بنفسه هو نفس الداعي والمحرّك ، بل قد بان لك من ذلك انعزال العلم به عن أن يكون داعياً ومحرّكاً للارادة ، بل بان لك انعزال الوجود الواقعي لتلك الثمرة عن أن تكون داعياً على الفعل ، بل إنّ الداعي الفعّال الموجد للارادة في نفس المكلّف هو الوجود العلمي لتلك الثمرة وإن كان ذلك العلم خطأً ، فالعلم في ذلك وإن كان طريقاً صرفاً إلاّ أنّه يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى التحريك.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّ وجودها العلمي مباين لوجودها الاحتمالي ، فالطاعة العلمية مباينة للطاعة الاحتمالية ، فيكون الشكّ في تعيّن الطاعة العلمية عند التمكّن منها أو عدم تعيّنها راجعاً إلى الشكّ بين التخيير والتعيين لا إلى الأقل والأكثر ، بأن يقال : إنّ أصل الطاعة معلوم الوجوب ، وأنّ الشكّ إنّما حصل في تقيّدها بكونها علمية ، لأنّ ذلك حينئذ من الأغلاط. بل يتعيّن كون الشكّ المذكور من قبيل التعيين والتخيير لا من قبيل الأقل والأكثر ، بناءً على عدم رجوع الوجوب التخييري إلى وجوب القدر الجامع ، وإلاّ كانت مسألة التعيين والتخيير من قبيل الأقل والأكثر.

لا يقال : إنّ الانقياد هو القدر الجامع بين الاطاعتين ، فيمكن أن نحلّل الأمر الثانوي إلى أنّ أصله هو الاتيان بالفعل بعنوان كونه انقياداً للمولى ، المفروض كونه حاصلاً في صورة الاطاعة الاحتمالية كحصوله في الاطاعة الجزمية ، فيكون تعيّنه في ضمن الاطاعة الجزمية أمراً زائداً فينفى بالبراءة.

١٨٢

لأنّا نقول : إنّ الانقياد ليس من الدواعي والثمرات المترتّبة على نفس الفعل بل هو من الثمرات المترتّبة على الفعل المأتي به بأحد الدواعي القربية ، وليس الامتثال والاطاعة بمعنى مجرّد الموافقة مثل الانقياد ، بل إنّهما يترتّبان على نفس الفعل ، فإذا كان الداعي على الفعل هو الامتثال أو هو الاطاعة بمعنى مجرّد الموافقة ، حصل على الطاعة بالمعنى الثاني التي هي مورد استحسان العقل ، أعني بذلك الاتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر ، وبذلك يكون عبادياً ، في قبال الاتيان به لا بداعي موافقة الأمر بل بداعٍ آخر من الدواعي النفسانية ، فإنّه وإن حصل به موافقة الأمر ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن الاتيان به بداعي موافقة الأمر بل كان مجرّداً عن هذا الداعي لم يكن بذلك عبادياً.

وإن شئت فقل : إنّ الاطاعة وكذلك الامتثال إن أُخذت بالمعنى الذي قلنا إنّه مورد للاستحسان العقلي ، لم يكن من الغايات بل كان ممّا يترتّب على الفعل المأتي به بداعي الأمر وما يتلو تلوه من الغايات الإلهية ، وكان حالهما حال الانقياد.

وإن أخذناهما بمعنى مجرّد الاتيان بمتعلّق الأمر ليكون الطاعة بالمعنى الأوّل الذي قلنا إنّه مشترك بين التعبّدي والتوصّلي ، كانا من قبيل الدواعي ، وكان الاتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر محقّقاً للعبادية التي قوامها الطاعة بالمعنى الثاني أمّا ترتّب الثواب فهو في طول الاطاعة بالمعنى الثاني ، بمعنى أنّه يقصد الاتيان بالفعل بداعي امتثال أمره ليترتّب الثواب على ذلك ، فيكون أشبه شيء بالداعي إلى الداعي بل هو هو ، نعم ربما كان قصد ترتّب الثواب قصداً إجمالياً لقصد الطاعة بالمعنى المذكور أعني المعنى الثاني ، فتأمّل.

ولو تمشّينا في هذه المسألة إلى هذا الحدّ من الشكّ ، أعني كونه من قبيل

١٨٣

التعيين والتخيير بين المتباينين ، كانت كما أفاده شيخنا قدس‌سره مورداً للاحتياط والاشتغال دون البراءة ، فليس المانع من الرجوع إلى البراءة من جهة كون الشكّ في المحقّق ، ولا من جهة المثبتية ، ولا من جهة أنّ دليل الرفع لا يجري فيما يستقلّ به العقل ، بل المانع من ذلك هو ما ذكرناه من عدم كون الشكّ راجعاً إلى الشكّ في التكليف الزائد ، وإنّما هو راجع إلى الاكتفاء بهذا المباين لما هو معلوم الكفاية ، فيكون ما نحن فيه نظير الشكّ في كون الكفّارة مثلاً مخيّرة بين العتق والصيام ـ بناءً على عدم الإرجاع إلى الجامع ـ أو أنّها مرتّبة فلا يجزي الصيام إلاّ حيث يتعذّر العتق ، إذ لو قلنا إنّ الحكم الشرعي باعتبار الاطاعة حكم مولوي مستقلّ ليس بناشئ عن حكم العقل باستحسانها ، ولكن حصل الشكّ في أنّ ذلك المأمور به المسمّى بمتمّم الجعل هل هو خصوص الاطاعة التفصيلية في مورد التمكّن منها ، أو أنّه مخيّر بينها وبين الاطاعة الاحتمالية ، يكون المتعيّن في المرجعية هو أصالة الاشتغال ، ولا مورد فيه لعموم البراءة.

نعم ، لو ورد دليل خاصّ في المقام كان مقبولاً ، من جهة أنّ محصّله هو كون الوجوب المذكور تخييرياً لا مرتّباً ، وهذا لا دخل له بعموم الرفع كي يتوجّه على شيخنا قدس‌سره ما حرّرناه آنفاً من أنّه إذا فتحنا باب التصرّف الشرعي في الاطاعة ، فأيّ فرق بين كون ذلك بالدليل الخاصّ بالمورد ، أو كونه بالدليل العام.

وبناءً على ذلك فقد تسجّل إشكال شيخنا قدس‌سره (١) من أنّ اللازم هو كون المرجع في المسألة التي نحن فيها بعد الوصول إلى مرتبة الشكّ هو الاشتغال دون البراءة ، ولا يبقى باليد ما به التخلّص عن هذا الإشكال إلاّدعوى كون المأمور به شرعاً هو تلك الاطاعة التي يستحسنها العقل باضافة دعوى أُخرى ندّعيها على العقل ، وهي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨ ـ ٦٩.

١٨٤

أنّه لا يرى طولية بين الاطاعتين بعد فرض التباين بينهما ، بل إنّه يستحسن الاحتمالية منهما في عرض استحسانه الجزمية منهما.

وكلّ من الدعويين قابلة للتأمّل بل للمنع. أمّا الثانية فقبولها للمنع واضح ولا أقلّ من عدم الجزم بأنّ العقل حاكم بالعرضية.

ثمّ لو سلّمنا عدم تطرّق الشكّ إلى ذلك ، وجزمنا بأنّ العقل حاكم بالعرضية لا الطولية ، فلا أقل من تطرّق المنع إلى الدعوى الأُولى ، وهي دعوى كون متعلّق ذلك الأمر الشرعي المولوي الذي هو متمّم الجعل هو عين ما حكم العقل باستحسانه ، وبأيّ شيء نثبت ذلك ، أبقاعدة الملازمة التي عرفت أنّها لو سلّمت فإنّما هي بين استحسان العقل وبين الحكم الشرعي الاستحبابي الذي عرفت أنّه قدر مشترك بين التوصّليات والتعبّديات ، لا الحكم الوجوبي الذي هو مختصّ بالعبادات.

ودعوى كون هذا الحكم الوجوبي على وتيرة ذلك الحكم الاستحبابي ، ممنوعة أشدّ المنع ، لأنّ ذلك الحكم الاستحبابي ناشٍ عن ملاك الحسن العقلي ، وهذا الحكم الوجوبي ناشٍ عن كون وفاء الصلاة مثلاً بمصلحتها الباعثة على الأمر بها متوقّفاً على الاتيان بها بداعي التقرّب ، وأيّ دليل يدلّ على أنّ ما يتوقّف عليه الملاك والمصلحة هو عين ذلك الذي حكم العقل باستحسانه من الطاعة المخيّرة بين الطاعتين.

كما أنّ ذلك ـ أعني التخيير الشرعي بين الطاعتين ـ لا يمكن إثباته باطلاق الدليل اللفظي الدالّ على وجوب الاطاعة في خصوص العبادات ، وأين هذا الاطلاق اللفظي وفي أي مقام ورد من مقامات البيان ، كلّ ذلك لا نجزم به فعلاً ، إذ ليس لنا ما يدلّ على وجوب التقرّب في العبادات بالمعنى الذي يريده الفقهاء ، إلاّ

١٨٥

إجماعات منقولة ، وأدلة لفظية هي في غاية الاجمال ، بل هي قاصرة الدلالة فضلاً عن أن تكون مطلقة في مقام البيان.

ولو سلّم ذلك كلّه فمن يمكنه الجزم بأنّ مقتضى ذلك الاطلاق هو اعتبار نفس ما حكم به العقل ، أو أنّه منصرف إليه بعد تمامية التسوية العقلية بين الاطاعتين ، بل لعلّ لقائل أن يقول إنّ المنصرف من هذا الاطلاق هو الدرجة الأُولى لو كانت ممكنة.

فالإنصاف : أنّ هذه الجهات أعني كون المسألة من قبيل التعيين والتخيير لا من قبيل الأقل والأكثر ، وكون التباين بين الاطاعتين تبايناً بالهوية ، وكون الحكم في مسألة التخيير والتعيين هو الاشتغال ، تعيّن ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه عند وصول النوبة إلى الشكّ يكون المرجع هو الاشتغال.

نعم ، يخرج عن ذلك المستحبّات والشبهات الموضوعية قبل الفحص ، إذ لا مورد فيها لقاعدة الاشتغال كما جرى عليه شيخنا قدس‌سره أخيراً ، لكن ذلك لا يصحّح الاحتياط فيها على وجه يوجب القطع بحصول امتثال المستحبّ الذي احتمله ، أو التكليف الذي احتمله في الشبهة الموضوعية ، بل يبقى الاحتياط ناقصاً لاحتمال اعتبار الجزم في تلك العبادة التي احتملها ، وإن لم يكن احتمالها مورداً لقاعدة الاشتغال.

نعم ، هناك مطلب آخر ينحصر به التخلّص عن الإشكال الذي أفاده شيخنا قدس‌سره ، وهو أن نعمد إلى مسألة التعيين والتخيير ، ونهدم أساس القول بالاشتغال فيها ونشيد القول بالبراءة في ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في هذا الطريق موكول إلى محلّه الذي حقّق فيه شيخنا قدس‌سره ما أوجب سدّ ثغور احتمال الرجوع إلى البراءة ، فراجع وتأمّل.

١٨٦

واعلم أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره في حواشيه على العروة في مسائل الاجتهاد والتقليد (١) وفي الوسيلة طبع النجف (٢) والوسيلة طبع صيدا (٣) في مسائل الاجتهاد والتقليد ، هو المنع من الاحتياط الموجب للتكرار فيما لو تمكّن من تحصيل العلم والسكوت عن الباقي ، بل ظاهره حصر المانع فيما يوجب التكرار فقط ، ومقتضاه جواز الاحتياط في الشبهة الوجوبية البدوية قبل الفحص ، سواء كانت حكمية كما لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال واحتاط بالاتيان به قبل الفحص ، مع فرض تمكّنه منه اجتهاداً أو تقليداً ، أو كانت موضوعية كما لو احتمل حدوث الزلزلة وصلّى احتياطاً صلاة الآيات ، مع تمكّنه من الفحص عن ذلك ولو بالسؤال من الغير.

والذي يظهر ممّا أفاده قدس‌سره في الوسيلة طبع النجف في مبحث النيّة هو عدم جواز الاحتياط إلاّفي مورد دوران الأمر بين استحباب شيء وعدمه ، فإنّه قال فيها ـ بضميمة التصحيح الذي ألحقه بعد الطبع ـ ما هذا لفظه : نعم ، لو لم يكن أصل التكليف قطعياً ( ودار الأمر بين استحباب شيء وعدمه ، ولم يحتمل وجوبه ) فلا يبعد حسن الاحتياط ( حينئذ ) وكفايته في العبادية ، ولو مع التمكّن من الامتثال القطعي ( لا ) مطلقاً الخ (٤).

وما بين القوسين هو التصحيح بعد الطبع ، وكانت العبارة قبل هذا التصحيح موافقة لما أفاده في مباحث التقليد في هذه الكتب الثلاثة.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٢ / مسألة (٤).

(٢) وسيلة النجاة : د [ لا يخفى أنّ الصفحات الأُولى من الكتاب قد رمز لها بالحروف ].

(٣) وسيلة النجاة : ٣.

(٤) راجع وسيلة النجاة : ١١٦.

١٨٧

والذي يظهر من الوسيلة طبع صيدا في مبحث النيّة هو المنع عن الاحتياط مطلقاً مع التمكّن من تحصيل العلم ، حتّى في الشبهات الاستحبابية ، فقال : وأمّا بالنسبة إلى ركنها الثاني وهو داعي التقرّب ، فالذي يعتبر فيه هو الجزم بمطلوبية العمل ومقرّبيته على تقدير التمكّن منه وعدم القناعة باحتمالها في العبادة إلاّبعد تعذّر الجزم بها على الأقوى (١).

والذي صرّح به في هذا الكتاب (٢) هو المنع من الاحتياط في مورد التكرار وفي مورد الشبهة الوجوبية الحكمية قبل الفحص ، دون باقي الصور ، وبمثل ذلك صرّح في التقرير المطبوع في صيدا (٣) ، وبنحوه صرّح فيما حرّرته عنه قدس‌سره ، وهذا هو الذي بنى عليه أخيراً ، فيكون المدار في ذلك على كون التكليف الزامياً منجّزاً ، إمّا بالعلم الاجمالي أو الاحتمال ، ليكون مورداً لقاعدة الاشتغال ، دون ما لو كانت الشبهة استحبابية أو كانت وجوبية موضوعية ، وقد عرفت أنّه وإن لم تجر فيه قاعدة الاشتغال ، إلاّ أنّ الاحتياط يكون ناقصاً من جهة احتمال المصادفة واحتمال تقدّم الجزمية على الاحتمالية ، فتأمّل.

وينبغي أن يستثنى من الاحتياط الموجب للتكرار ما لو علم أنّ الواجب عليه إمّا هذه العبادة والأُخرى مستحبّة ، أو أنّ الأمر بالعكس ، فإنّ ذلك وإن أوجب التكرار إلاّ أنّه لا مانع منه ولو قبل الفحص ، لكون كلّ منهما متيقّن المطلوبية ، غايته مردّدة بين الوجوب والاستحباب ، فلا يفقد الجزم به بل يفقد الوجه ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا المقام في غاية الإشكال ، فإنّ

__________________

(١) وسيلة النجاة : ٨٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٧٩ وما بعدها.

١٨٨

لازمه هو سدّ باب الاحتياط في المقامات المزبورة ، أعني مسائل المستحبّات ومسائل الأقل والأكثر ومسائل الشبهات البدوية ، إلاّمع عدم التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، والالتزام به في غاية البعد ، ولأجل ذلك اختلفت كلماته قدس‌سره كما عرفت من رسائله العملية.

فالأولى هو الالتزام بالتخيير بين نحوي الاطاعة ، ولو من جهة عدم تفرقة الذوق بينهما ، وعدم دليل يدلّ على الطولية بينهما ، سيّما بعد أن صحّحنا الطولية وأدخلنا الاطاعة الاحتمالية فيما هو المأمور به بالأمر الثانوي الذي هو متمّم الجعل لا بأمر آخر في طوله.

ومع قطع النظر عن ذلك لو وصلت النوبة إلى الشكّ فالتخيير والتعيين فيما نحن فيه وإن لم يرجع إلى الأقل والأكثر لعدم كونه من قبيل الاطلاق والتقييد ، بل ولا من قبيل العام والخاصّ ، لما عرفت من عدم الجامع بين الاطاعتين ، أعني كون الداعي هو العلم بالموافقة والامتثال أو احتمال ذلك ، ولا ريب في التباين بين الطريقتين ، أنّه عند التمكّن من الأُولى يكون المكلّف مردّداً بين كونه مخيراً بينهما وكونه يتعيّن عليه الأُولى ، فلا تدخل المسألة في الأقل والأكثر ، لعدم انتهائها إلى العلم بوجوب مقدار والشكّ في وجوب الزائد ، إلاّ أنّه مع ذلك يمكن القول بالرجوع إلى البراءة الشرعية باعتبار كون التخيير بين المتباينين مشتملاً على مقدار من الفسحة على المكلّف ، بخلاف ما لو كان الواجب هو المعيّن منهما ، فإنّه يوجب التضييق على المكلّف وإن لم يكن مشتملاً على زيادة في الواجب ، فلاحظ وتدبّر.

وينبغي ملاحظة المستمسك ج ١ ص ٤ وص ٤٥٥ فقد فسّر داعي الأمر هناك بكون الأمر مرجّحاً للفعل على تركه ، ثمّ أفاد أنّه بذاته لا يكون مرجّحاً ،

١٨٩

وإنّما يوجب الترجيح بواسطة عناوين عرضية تنطبق على الفعل بواسطة كونه مأموراً به ، ثمّ بعد ذلك أفاد أنّ تلك الدواعي ربما تسمّى بالغايات مسامحة حيث إنّها لا تترتّب على الفعل العبادي ، وإنّما هي عناوين توجب الرغبة فيه (١).

ويمكن التأمّل في ذلك. أمّا ما أُفيد ص ٤ ، فقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد ص ٤٥٥ ، فإنّ الأمر بنفسه وكذلك العناوين الناشئة منه لم يكن اعتبار قصدها في العبادة باعتبار كونها مرجّحة للفعل على تركه ، بل إنّما يكون المعتبر في العبادة هو كونها داعية إلى الفعل ، تكون هي الداعي للمكلّف على ذلك الفعل والمحرّك له على الاقدام عليه ، وقد عرفت أنّ حقيقة الداعي هو الغاية ، فلا تكون تسمية تلك الدواعي بالغايات مسامحية ، بل هي تسمية حقيقية وليس النزاع في التسمية ، وإلاّ لسهل الأمر لكون باب التسامح مفتوحاً ، بل النزاع إنّما [ هو ] في حقيقة التعبّد المعتبر في العبادة ، وأنّه لابدّ أن تكون صادرة بداعي الأمر ، ومعنى صدورها بداعيه هو صدورها بداعي امتثاله أو ما يترتّب على امتثاله من مجرّد القرب أو نيل الثواب أو الفرار من العقاب ، إلى غير ذلك من الدواعي التي هي عين الغايات.

نعم ، يرد على ما شرحناه في مسلك شيخنا قدس‌سره ، ما عرفت من أنّه ليس في البين إلاّأمر واحد ، وهو ذلك المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، وهذا الأمر الواحد لا يعقل أن يكون جامعاً بين الشيء وهو الاتيان بداعي الامتثال المعلوم ، وبين ما هو في طوله لكونه معلّقاً على عدم التمكّن منه ، وذلك هو الاتيان بداعي الامتثال المحتمل ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّه لا طولية في البين ، وأنّ كلاً من الاتيان بداعي

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٨ / مسألة ٤ من مسائل الاجتهاد والتقليد ، ٢ : ٤٦١ ـ ٤٦٢ / مبحث النية.

١٩٠

الامتثال المعلوم والاتيان بداعي الامتثال المحتمل مندرج في عنوان الاطاعة ، التي هي كون المحرّك والباعث هو الحصول على الامتثال ، سواء كان الأمر معلوماً أو كان محتملاً ، فإنّ الذي يحمل العبد على الاتيان بالفعل في الموردين هو شوقه وعشقه للحصول على امتثال أمر مولاه ، فإنّ العبد يسعى للحصول على تلك الغاية المطلوبة ، وهذا هو المطلوب منه بذلك الأمر الثانوي الذي هو المسمّى بمتمّم الجعل ، فإنّ ذلك هو القدر الجامع بين الاطاعتين الجزمية والاحتمالية ، من دون دلالة على كون الثانية مختصّة بصورة العجز عن الأُولى ، وإلاّ لكان ذلك موجباً لعدم إمكان شمول ذلك الأمر لهما معاً ، بل لابدّ حينئذ من أمرين يتعلّق أحدهما بالأُولى والثاني بالثانية مقيّداً بالعجز عن الأُولى ، فلاحظ وتدبّر.

وإذا وصلت النوبة إلى الشكّ في ذلك ، يكون المرجع هو أصالة البراءة من اعتبار الجزم في حصول الامتثال عند التمكّن من الحصول على الجزم المذكور.

وحيث تحقّق ذلك فيما لا يتوقّف على التكرار كان الحال مثله فيما يتوقّف على التكرار ، فإنّ الإشكال فيهما واحد وهو كون الاطاعة الاحتمالية في طول الاطاعة الجزمية.

والخلاصة : هي أنّه لو كان لنا في ناحية متمّم الجعل أمران ، يتعلّق أحدهما بالاتيان بالفعل بداعي امتثال أمره المعلوم ، والآخر بالاتيان به بداعي امتثال أمره المحتمل ، لتمّ ما أُفيد من التردّد بين التخيير والعرضية بين الأمرين ، أو كون الثاني منهما في طول الأوّل وأنّه إنّما يتوجّه الثاني عند العجز عن الأوّل ، أمّا إذا لم يكن لنا في ناحية متمّم الجعل إلاّأمر واحد حاصله هو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي الحصول على امتثال أمره المتعلّق به الذي هو الجامع بين الامتثالين ، فلا تكون قضية ذلك الأمر الواحد إلاّالتخيير بين الامتثالين ، فلم يبق لنا إلاّالشكّ في تقيّد

١٩١

ذلك التخيير بما إذا عجز عن الأوّل ، وأنّه عند عدم العجز عنه يكون المتعيّن هو الأوّل ، وحينئذ يكون المرجع في ذلك التقييد هو البراءة.

إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من متمّم الجعل هو الاتيان بداعي الامتثال المعلوم وأقصى ما في البين قيام الدليل على صحّة الاحتياط ، وهو منحصر بما إذا لم يمكن الحصول على العلم بالأمر. لكن ذلك لا يخرج عن كون الأمر الأوّل مقيّداً بداعي الامتثال المعلوم ، ومع الشكّ في هذا القيد يكون المرجع هو البراءة. على أنّ تقييد مشروعية الاحتياط بما إذا لم يمكن الحصول على العلم بالأمر ممنوع ، بل أقصى ما في البين هو مشروعية الاحتياط عند عدم العلم بالأمر ، سواء أمكن تحصيل العلم أو لم يمكن ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وما ربما يتوهّم من أنّه كيف يكون الظنّ بناءً على الكشف في عرض العلم مع أنّ اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فإنّ المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها ، ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون الظنّ المستنتج حجّيته من مقدّمات الانسداد بناءً على الكشف في عرض العلم ... الخ (١).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ انفتاح باب العلم في مورد خاصّ ومسألة خاصّة وإن لم يوجب سقوط مقدّمات الانسداد في معظم الأحكام ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب حجّية الظنّ المطلق في خصوص ذلك المورد ، بل الذي يكون حجّة في ذلك المورد هو العلم فقط ، لفرض تمكّنه منه ، فلا يعقل أن يكون الظنّ المستنتج حجّيته بمقدّمات الانسداد في معظم الأحكام حجّة في ذلك المورد ، كي يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٠ ـ ٧١.

١٩٢

بناءً على الكشف حجّة في ذلك المورد في عرض العلم.

وإن شئت فقل : ليس منشأ الإشكال هو كون الظنّ المذكور في عرض العلم أو في طوله ، كي يتوجّه الإشكال بأنّه بعد فرض انسداد باب العلم كيف يعقل القول بأنّه في عرض العلم ، كي نحتاج إلى الجواب عنه بما أُفيد في هذا التحرير. بل يمكن أن يقال : إنّ الظنّ التفصيلي الذي هو حجّة بالخصوص لعلّه في طول العلم التفصيلي عند التمكّن من تحصيله ، غير أنّه في عصر الغيبة لا يظهر لذلك أثر. نعم يظهر أثره في الشبهات الموضوعية.

وعلى كلّ حال ، أنّ منشأ الإشكال فيما نحن فيه ليس هو كون الظنّ المطلق في طول العلم ، إذ لا شبهة في كونه في طول العلم ، إلاّ أنّ كونه في طول العلم لا يوجب أن يكون في عرض الاحتياط. وهذه الجهة هي العمدة في الإشكال ، وهي أنّه بعد انسداد باب العلم حتّى في ذلك المورد الخاصّ ، هل يكون العمل بالظنّ في ذلك المورد مقدّماً على الاحتياط ، أو أنّه يكون في عرض الاحتياط بحيث إنّه يجوز له العمل بالاحتياط وترك تحصيل الظنّ ، فصاحب القوانين (١) بنى على الأوّل ، والشيخ قدس‌سره بنى على الثاني ، أعني كون العمل بالظنّ في عرض الاحتياط فيما إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار ، فقال في الظنّ الذي لم تثبت حجّيته إلاّ بدليل الانسداد ما هذا لفظه : فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار ، والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ، ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه ، ولإبطال هذه الشبهة وإثبات صحّة عبادة

__________________

(١) راجع قوانين الأُصول ١ : ٤٤٠.

١٩٣

المحتاط محلّ آخر (١).

أمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، فهو وإن تردّد أوّلاً في تقديم الظنّ بل جعله أحوط ، إلاّ أنّه أخيراً أفتى بعدم لزوم ذلك الاحتياط ، فراجع كلامه رفع الله مقامه (٢).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في قصر إشكاله على نيّة الوجه ، مع أنّ فيه إشكال الاطاعة الاحتمالية في قبال الاطاعة التفصيلية ، المفروض تمكّنه منها بتحصيل الظنّ الذي هو حجّة شرعية بناءً على الكشف ، وعلى ذلك جرى في الاحتياط في قبال تحصيل العلم التفصيلي ، فقال في ذلك : ودعوى أنّ العلم بكون المأتي به مقرّباً معتبر حين الاتيان به ولا يكفي العلم بعده باتيانه ممنوعة ، إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الاطاعة بغير ذلك أيضاً ، فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط ( الذي يكون بالتكرار ) وترك تحصيل العلم التفصيلي ، لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة (٣) ، إلى آخر ما أفاده قدس‌سره.

نعم ، قال في الاحتياط المتوقّف على التكرار في قبال تحصيل الظنّ الخاصّ ما هذا لفظه : وإن توقّف الاحتياط على التكرار فالظاهر أيضاً جواز التكرار ، بل أولويته على الأخذ بالظنّ الخاصّ ـ ثمّ قال : ـ إلاّ أنّ شبهة اعتبار نيّة الوجه كما هو قول جماعة ، بل المشهور بين المتأخرين ، جعل الاحتياط في خلاف ذلك. مضافاً إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة ، مع إمكان

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٧٣.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٣) المصدر المتقدّم : ٧١ وما بعدها.

١٩٤

أن يقال : إنّه إذا شكّ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به لا حصوله بأي وجه اتّفق ، في أنّ الداعي هو التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، أو التعبّد بخصوصه متميّزاً عن غيره ، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، وهذا ليس تقييداً في دليل تلك العبادة حتّى يدفع باطلاقه كما لا يخفى ، وحينئذ فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط في جميع موارد إرادة التكرار بتحصيل الواقع أوّلاً بظنّه المعتبر من التقليد أو الاجتهاد بإعمال الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وإتيان الواجب مع نيّة الوجه ، ثمّ الاتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط ، الخ (١).

ومع ذلك فهذا الذي صرّح به أخيراً بكونه مانعاً من تكرار العبادة ، ليس هو من جهة الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال المتمكن منه من تحصيل الاطاعة الجزمية ، وإلاّ لكان جارياً في الاحتياط غير المتوقّف على التكرار ، بل إنّ المانع هو احتمال اعتبار التعبّد بالمأمور به بخصوصه متميّزاً عن غيره في قبال الاكتفاء بالتعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، وذلك هو المعبّر عنه بالتميّز.

والحاصل : أنّ كلامه في المانع من الاحتياط لا يحوم إلاّحول احتمال اعتبار نيّة الوجه ، واحتمال اعتبار تمييز المأمور به عمّا عداه ، والأوّل متأتّ في الاحتياط المتوقّف على التكرار وغيره ، والثاني مختصّ بخصوص ما يتوقّف على التكرار. أمّا ما ركن إليه شيخنا قدس‌سره في المنع من الاحتياط من عدم كفاية الاطاعة الاحتمالية في قبال الاطاعة الجزمية ، ممّا هو جار في الاحتياط المتوقّف على التكرار وغير المتوقّف عليه ، فالظاهر أنّ كلام الشيخ قدس‌سره في هذا المقام خالٍ عنه.

وكيف كان ، فإنّ الظاهر أنّ مدرك إشكاله على المحقّق القمي قدس‌سره بقوله :

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٧٥ ـ ٧٦.

١٩٥

والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط الخ (١) ليس هو ما أُفيد في هذا الكتاب عن شيخنا قدس‌سره من دعوى تأخّر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي التفصيلي ليتوجّه عليه ما أُفيد بقوله : فإنّ المحقّق القمي من القائلين بالكشف فيكون حال الظنّ حال العلم الخ (٢) بل إنّ مدرك إشكال الشيخ قدس‌سره على المحقّق القمي هو ما أشار إليه في العمل بالاحتياط المتوقّف على التكرار وهو : أنّ العمل بالظنّ المطلق لم يثبت إلاّجوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ، أمّا تقديمه على الاحتياط فلم يدلّ عليه دليل (٣). ومن الواضح أنّ هذا المانع بعينه متأتّ في الاحتياط غير المتوقّف على التكرار في قبال تحصيل الظنّ المطلق.

نعم ، يرد على الشيخ قدس‌سره أنّه إن كان من مقدّمات الانسداد عدم جواز الاحتياط ، تكون النتيجة هي الكشف ، ويكون العمل بالظنّ مقدّماً على الاحتياط. وإن كانت تلك المقدّمة عبارة عن عدم وجوب الاحتياط ، تكون النتيجة هي الحكومة ولا يكون الظنّ مقدّماً على الاحتياط. وصاحب القوانين قدس‌سره (٤) قائل بالكشف ، فلأجل ذلك أفتى ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد. وعبارة التحرير المطبوع في صيدا (٥) لا تخلو عن الإيماء أو التصريح بذلك ، فراجعه.

لكن هذا وإن أوجب تقدّم العمل بالظنّ على الاحتياط ، إلاّ أنّ الاحتياط

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٧٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٧١.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٧٣.

(٤) القوانين ٢ : ١٤٠ وما بعدها.

(٥) أجود التقريرات ٣ : ٨٤ ـ ٨٦.

١٩٦

المذكور هو الاحتياط الكلّي ، أمّا الاحتياط الشخصي في هذه المسألة التي هي محلّ الابتلاء مثلاً ، فلا دليل على كون الظنّ المطلق فيها مقدّماً على الاحتياط. لكن لمّا استكشفنا من تلك المقدّمات أنّ الشارع جعل لنا مطلق الظنّ حجّة ، كان الظنّ في هذه المسألة كسائر الظنون الخاصّة مورداً لدعوى كون الامتثال التفصيلي ولو ظنّياً مقدّماً على الامتثال الاجمالي.

ولكن مع ذلك كلّه ينبغي ملاحظة باب الانسداد ، فلعلّ بعض ما حقّقناه هناك (١) من كيفية الكشف ولوازمه يكون منافياً لما ذكرناه هنا ، وأنّه هل يستكشف منه حجّية الظنّ شرعاً بقول مطلق بعد تمامية الانسداد الكلّي على وجه يكون الظنّ حجّة حتّى في المسألة التي يمكن تحصيل العلم فيها أو ما يقوم مقامه من الظنون الخاصّة ، أو أنّه إنّما يكون حجّة في خصوص ما لا طريق إلى تحصيل العلم به من المسائل.

قوله : ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنّه يتعيّن أوّلاً العمل بمقتضى الطريق ثمّ العمل بما يقتضيه الاحتياط ... الخ (٢).

الظاهر من الشيخ قدس‌سره في هذه الصورة حيث يقول في عبارته السابقة (٣) : فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط الخ ، هو أنّ الوجه في ذلك هو المحافظة على نيّة الوجه ، وعدم الركون إلى فاقدها مع التمكّن من تحصيل الواجد لها. لكن الظاهر من شيخنا قدس‌سره هو أنّ الوجه في ذلك هو المحافظة على الاطاعة الجزمية ، وعدم الركون إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من تحصيل الاطاعة الجزمية ، فلاحظ

__________________

(١) يأتي مبحث الانسداد في أوّل المجلّد السابع.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٧١.

(٣) في الصفحة : ١٩٥.

١٩٧

وتأمّل. وسيأتي لذلك تفصيل في خاتمة البراءة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى (١).

قوله : ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّبعد تعذّر الامتثال الظنّي ، ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي إلاّبعد تعذّر الامتثال الاجمالي ، إنّما الإشكال في المرتبتين الأُوليين ... الخ (٢).

هذه الجملة لا تخلو عن تأمّل ، لأنّ هذه المراتب الثلاث إنّما هي مراتب الخروج عن عهدة التكليف ولو كان توصّلياً ، وأنّه بعد انشغال الذمّة بالتكليف لابدّ من الخروج عن عهدته ، إمّا بالعلم التفصيلي أو الاجمالي بالاحتياط ، ولا يكتفي العقل بالخروج الظنّي إلاّبعد تعذّر الخروج العلمي ولو بالاحتياط كما حرّر (٣) ذلك في حجّية الظنّ على الحكومة. ثمّ إنّه بعد تعذّر الامتثال الظنّي بحيث إنّه لا يقدر على الجمع بين المحتملين ولم يحصل له الظنّ بأنّ هذا المعيّن هو الواجب ، لا محيص حينئذ من الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي وهو المعبّر عنه بتبعيض الاحتياط.

ومن الواضح أنّ هذه التنقّلات لا دخل لها بما نحن بصدده من الاطاعة التفصيلية في العبادة ، وأنّها مقدّمة على الطاعة الاحتمالية ، إذ لا وجه فيما نحن فيه لتقدّم الطاعة الاجمالية على الطاعة الظنّية ، بل لا معنى لذكر الطاعة الظنّية هنا كما هو واضح.

وبالجملة : أنّ عمدة ما هو محلّ الكلام في هذا المقام هو تقدّم الطاعة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٦ ، وسيأتي تعليق المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٧٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٧٢.

(٣) في المجلّد السابع من هذا الكتاب مبحث الانسداد.

١٩٨

الجزمية على الطاعة الاحتمالية الحاصلة في كلّ واحد من طرفي العلم الاجمالي وفي مورد احتمال الوجوب بدوياً كما حقّقه بقوله : فإنّ حقيقة الاطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الاجمالي لا يتحقّق ، فإنّ الداعي له نحو العمل بكلّ واحد من فردي الترديد ليس إلاّاحتمال تعلّق الأمر به ، فإنّه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص الخ (١). ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا دخل له بتلك التنقّلات التي هي مشتركة بين التكاليف توصليّها وعباديّها ، فإنّ هذه التنقّلات إنّما هي في وادي أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وما نحن فيه في وادي أنّ الاطاعة التي يحكم العقل بحسنها هل يكفي فيها الاتيان بالفعل بداعي أمره المحتمل وإن كان متمكّناً من تحصيل العلم بذلك الأمر ، أو أنّه لا ينتقل إلى هذه المرتبة من الاطاعة الاحتمالية إلاّ بعد تعذّر تلك المرتبة من الاطاعة التفصيلية ، أعني بها الاتيان بالفعل بداعي أمره المعلوم تعلّقه به بالخصوص.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المانع وهو كون الداعي له نحو العمل هو احتمال تعلّق الأمر به ، لا ينبغي أن يفرّق فيه بين الاحتياط المتوقّف على التكرار والاحتياط غير المتوقّف على التكرار كما في الشبهات البدوية ، من دون فرق في ذلك بين كون الشبهة قبل الفحص وبينها بعد الفحص ، ولا ينحصر بما إذا كانت الشبهة قبل الفحص حكمية ، بل هو جارٍ في الشبهة الموضوعية قبل الفحص ، فإنّ الفحص فيها وإن لم يكن لازماً ، وكان المورد مرجعاً للأُصول النافية قبل الفحص ، ولم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٣.

١٩٩

يكن احتمال التكليف منجّزاً ، إلاّ أنّ ذلك لا يصحّح الاعراض عن هذا المانع المدّعى مانعيته ، وهو الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة الجزمية ، بل هو جارٍ في الشبهات الاستحبابية. نعم يخرج عنه الشبهات بعد الفحص ، سواء كانت موضوعية أو كانت حكمية ، لعدم التمكّن حينئذ من الاطاعة الجزمية.

ومن ذلك يظهر أنّ قوله : وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط الخ (١) لا يخلو من تأمّل ، فإنّ ظاهره انحصار الوجه في الحكم بالبطلان بالاحتياط الموجب للتكرار ، والمفروض جريان المانع بعينه في الاحتياط في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص.

ثمّ إنّ الذي ينبغي أن يقال بجريان هذا المانع في الاحتياط في مسألة الأقل والأكثر ، لأنّ هذا المانع لو سلّم كونه مانعاً ، فلا يفرق فيه بين وقوعه في الأجزاء ووقوعه في جملة العمل ، إذ لا ريب في أنّ كلّ واحد من الأجزاء عبادي وإن لم يكن محتاجاً إلى قصد مخصوص ، ويكفي فيه قصد جملة العمل مع الغفلة عن كلّ واحد من الأجزاء ، لكن لو التفت إلى هذا الجزء فماذا يقصد به ، والمفروض أنّ المانع عقلي ، وليس هو بدليل لفظي حتّى يمكن التمسّك بمثل الانصراف ونحوه إلى جملة العمل ، وليس الإشكال فيه من ناحية قصد الوجه كي يقال فيه : إنّه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل للعلم بتعلّق الأمر به ، وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلاّإذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء وقد تقدّم ضعفه (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٧٤.

٢٠٠