أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

فهو من قبيل تجنّب الضرر ، وقد عرفت أنّ الفرار منه بعد إحرازه طبعي ، وهذه الكلمات أجنبية عن المقام. فلنعد إلى ما كنّا فيه.

فنقول بعونه تعالى : إنّ ما ادّعي من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ليس أساس الملازمة فيه ـ أعني الملزوم ـ هو الحسن والقبح العقليين ، بأيّ واحد أخذناه من هذه الاحتمالات الأربعة ، بل إنّ أساسه وطرف الملازمة فيه إنّما هو الصلاح في الفعل أو الفساد فيه ، فإذا أدرك العقل أنّ في هذا الفعل صلاحاً ، انتقل إلى لازمه وهو إيجاب الشارع على نحو الانتقال من العلّة إلى المعلول ، أعني الانتقال اللمّي ، بناءً على قاعدة اللطف وأنّ الشارع الحكيم يلزمه اللطف بعباده ويوصلهم إلى ما فيه صلاحهم بإيجابه عليهم ، ولازم ذلك الانتقال الإنّي ، أعني الانتقال من الوجوب الشرعي إلى كون الواجب ذا مصلحة ، لكونه حينئذ انتقالاً من المعلول إلى العلّة.

ثمّ إنّ أساس الانتقال الأوّل هو اللطف ، بدعوى كونه لازماً على الحكيم ، لماذا؟ لأنّه حسن وتركه قبيح ، فتعود مسألة التحسين والتقبيح ، أو لأنّ اللطف لازم حكمته ، فيكون من قبيل الانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر ، أو لأنّ عدم اللطف مناقض أو مضادّ لحكمته ، فيكون الحكم به من باب امتناع اجتماع النقيضين أو الضدّين. وعلى كلّ حال ، ليس ذلك من باب مجرّد حسن اللطف عقلاً.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا أنّ العقل يدرك الصلاح والفساد في الأفعال ولو في بعضها ، إلاّ أنّه هل يدرك ذلك في أفعال الشارع أعني إيجابه أو تحريمه ، أو أنّ هذا الباب ـ أعني الصلاح والفساد ـ في نفس تكاليف الشارع موصد دون الفعل.

ولو سلّمنا أنّه يدرك ذلك في بعض الأحكام ، فلا نسلّم أنّه يدركه في جميع

١٦١

الأحكام ، إذ ليست هي بأقرب إليه من الأفعال الخارجية ، وقد قلنا إنّه ربما أو كثيراً ما عجز عن إدراك صلاحها وفسادها أو عن حسنها وقبحها.

وحينئذ فيمكن القول بإنكار الملازمة بين ما يدركه العقل في بعض الأفعال من صلاح أو فساد أو من حسن أو قبح ، وبين صدور إيجاب الأوّل شرعاً ، وتحريم الثاني شرعاً ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما أفاده في الفصول (١) من إنكار الملازمة بعد تسليم الملزوم أعني الحسن والقبح العقليين ، فإنّ حسن نفس الفعل لا دخل له بحسن الأمر به ، إذ ربما كان هناك مانع عن نفس الأمر به حيث كان في الأمر به مفسدة ، وإن كان الفعل في حدّ نفسه لو فعله الفاعل لكان بكمال الحسن ، وكانت مصلحته تامّة ، لكن هناك مفسدة في نفس الأمر به تكون مانعة من الأمر به ، ولو من جهة كون الأمر به لغواً لا يصدر من الحكيم لعلمه بأنّه لا يمتثله أحد ونحو ذلك من موانع الأمر به مع فرض كون الفعل في حد نفسه بكمال الحسن والصلاح.

وربما انعكس الأمر بأن كان الفعل خالياً من المصلحة ، لكن في الأمر به مصلحة تبعث على الأمر به ، ولا يرد عليه لزوم الترجيح بلا مرجّح وهو قبيح ، لما حقّقناه من أنّ ذلك ـ أعني الترجيح بلا مرجّح ـ وإن كان قبيحاً إلاّ أنّ الحكيم لابدّ له من ذلك لأجل تحصيل المصلحة الحاصلة بنفس الأمر مع فرض كونها أهمّ ، ولا يكون حصول المصلحة بنفس الأمر موجباً لسقوطه ، لامكان توقّف المصلحة في الأمر على امتثاله ، بحيث يكون في الأمر إذا عقّب بالاطاعة مصلحة كافية ، على وجه لو لم يمتثله المكلّف فوّت على نفسه تلك المصلحة واستحقّ العقاب على تفويتها.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٣٧.

١٦٢

ومن ذلك يعلم أنّا لو قلنا بتبعية الأحكام للمصالح فلا يلزمه كونها في المتعلّق ، بل يمكن أن تكون المصلحة في نفس الأمر مع فرض امتثاله وإن لم يكن في نفس الفعل مصلحة أصلاً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله قدس‌سره : حكي عن الشيخ الكبير ... الخ (١).

لم يذكر ذلك في البحث المتعلّق بالقطع من مباحث كشف الغطاء ، وهو المبحث الخامس والأربعون والمبحث الخمسون ، وإنّما ذكره في المقصد العاشر فيما يتعلّق بالعبادة : في أنّه لو شكّ في فعل عبادة أو جزئها أو شرطها أو مانعها الخ ، ثمّ قال : وكثير الشكّ عرفاً ـ ويعرف بعرض الحال على عادة الناس ـ لا اعتبار بشكّه ، وكذا من خرج عن العادة في قطعه وظنّه ، فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه (٢).

ولا يبعد أن يكون نظره إلى الموارد التي يكون القطع أو الظنّ فيها معتبراً من باب الموضوعية ، لقوله : يلغو اعتبارهما في حقّه. لكن هذا إنّما يتمّ في الظنّ والشكّ لأخذهما موضوعاً في أحكام الخلل ، أمّا القطع فلم يؤخذ موضوعاً في شيء من أحكامه ، إلاّأن يريد به ما لو أُخذ موضوعاً ولو في غير أحكام الخلل مثل الشهادة ونحوها. ولعلّ مراده بمن خرج عن العادة بقطعه ، هو في خصوص هذا الباب وهو باب الخلل في الصلاة ، بأن يكون المكلّف كثير القطع بأنّه قد ترك الجزء الفلاني ، ويكون مرجعه إلى اغتفار الخلل في حقّ القطاع حتّى في مثل زيادة الركن ونقصه.

ولعلّ من هذا الوادي ما ذكره قدس‌سره في مباحث الصلاة في المقصد الثالث في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٤.

(٢) كشف الغطاء ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

١٦٣

الأجزاء المنسية وأحكامها ، وهو قوله : السادس عشر : أنّ كثير السهو ككثير الشكّ لا اعتبار بسهوه مع تعذّر أسباب الضبط ، وإذا أمكنت وجبت. السابع عشر : أنّ الأحوط ترك الاعتماد على حكم كثرة سهوه مع عدم إمكان تنبيهه وضبطه في إمامة أو نيابة عن ميّت ، فلا يكون ككثير الشكّ (١) ، وحينئذ يكون مرجع ما أفاده كاشف الغطاء إلى دعوى اغتفار الخلل في كثير السهو وفي قطع القطاع ، ومرجعه إلى إسقاط ذلك الجزء أو الشرط على حذو حديث « لا تعاد ».

وعلى أي حال ، تخرج دعواه عن حيّز عدم حجّية القطع الذي هو غير معقول ، وتدخل في أمر معقول وهو اغتفار الخلل ، غايته يكون قدس‌سره مطالباً بالدليل على سقوط الجزئية أو الشرطية أو المانعية في موارد كثرة القطع أو في موارد كثرة النسيان.

__________________

(١) كشف الغطاء ٣ : ٤٠٥ [ لا يخفى أنّه في الطبعة الجديدة ذُكرا تحت عنوان : السابع عشر ، الثامن عشر ].

١٦٤

[ العلم الاجمالي ]

قوله : الأمر الأوّل : ينسب إلى جمهور المتكلّمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ... الخ (١).

قال المحقّق الطوسي قدس‌سره في التجريد : ويستحقّ الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب ، وفعل ضدّ القبيح والإخلال به ، بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك ، والضدّ لأنّه ترك القبيح والإخلال به.

وقال العلاّمة قدس‌سره في الشرح : واعلم أنّه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه ، وكذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه ، وكذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك ، والإخلال بالقبيح لكونه إخلالاً بالقبيح ، فإنّه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً عليهما ، وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذّة أو غيرها لم يستحقّ المدح والثواب (٢).

وقوله : إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه الخ ، مراده هو أن يأتي بالفعل بداعي وجوبه أو بداعي وجه وجوبه ، وهو الحسن العقلي أو المصلحة الباعثة على إيجابه. والحاصل : أنّه لابدّ من كون الداعي هو الوجوب أو جهة الوجوب في قبال فعله بداع آخر من لذّة وغيرها ، وهذا المقدار لا دخل له بنيّة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٦.

(٢) كشف المراد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

١٦٥

الوجه التي هي أمر آخر وراء فعله بداعي الوجوب.

قوله : الأمر الثاني : لا إشكال في أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل ... الخ (١).

لا يخفى أنّك قد عرفت أنّ الطاعة التي يستقلّ بحسنها العقل ، هي مجرّد الاتيان بالمأمور به في قبال عدم الاتيان به الذي هو العصيان ، وبعض مراتب الرياء ليس تصرّفاً في هذه الاطاعة ، وإنّما هو تقييد للمأمور به ، بأن يكون خالياً عن تلك المرتبة ، وأمّا الأُصول الجارية في وادي الفراغ فليست هي تصرّفاً في تلك الاطاعة ، وإنّما هي أحكام ظاهرية يحرز بها حصول المأمور به ، ولو اتّفق الخطأ فيها ولم يعلم به المكلّف يكون مرجعها إلى تنازل الشارع عن وجوب ذلك الجزء المفقود. وأما قاعدة « لا تعاد » فهي تنازل صرف عن الجزئية. نعم بنظرية الشيخ قدس‌سره وشيخنا قدس‌سره أنّ استحسان العقل وإن كان مقصوراً على أصل الاتيان بالمأمور به في قبال عدم الاتيان به ، إلاّ أنّ للشارع أن يحكم ثانياً من باب متمّم الجعل بلزوم الاتيان به بداعي [ الأمر ] ، ولو حصل الشكّ في هذا الجعل الثاني كان المرجع فيه هو أصالة البراءة.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل في قوله : فلو لم يقم دليل شرعي على التصرّف في بيان كيفية الاطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل (٢) ، إذ قد عرفت أنّ التصرّف الشرعي الزائد على أصل الاطاعة العقلية التي هي مجرّد الاتيان بالمأمور به يكون المرجع فيه عند الشكّ هو البراءة. نعم بعد أن حكم الشارع بلزوم الاتيان به بعنوان الطاعة ، أعني بداعي الأمر الذي سمّاه شيخنا متمّم الجعل ، لو حصل الشكّ في شيء زائد عليه كما في نيّة الوجه كان المرجع فيه هو البراءة أيضاً ، لكن لو كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨.

١٦٦

المشكوك فيه من كيفيات الاطاعة مثل الجزم ونحوه رجع ذلك إلى البحث الآتي (١) وهو هل أنّ ذلك راجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر أو أنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

قوله : لأنّ الشكّ في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشكّ في اعتبار قيد في المأمور به شرعاً زائد عمّا يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدّم من أنّ العقل لا يعتبر في الاطاعة أزيد من كون الشخص منبعثاً عن البعث ومتحرّكاً عن الارادة ، فقصد الوجه لو كان معتبراً فلابدّ وأن يكون ذلك من جهة الشرع والمرجع حينئذ عند الشكّ في الاعتبار هو البراءة ، كما أنّ المرجع عند الشكّ في أصل التعبّدية والتوصّلية ذلك ، بناءً على ما هو المختار من أنّ التعبّدية تتوقّف على الأمر بها ولو بمتمّم الجعل ، على ما تقدّم تفصيله في مبحث التعبّدي والتوصّلي (٢).

الظاهر أنّ التعبّدية التي أفاد قدس‌سره أنّها تتوقّف على الأمر ليست هي إلاّعبارة عن الاتيان بالفعل المأمور به بداعي الأمر ، فلابدّ أن نقول إنّ الطاعة التي يحكم بها العقل ليست هي هذا المقدار ، بل هي أوسع من ذلك على وجه تكون قدراً مشتركاً بين التعبّدي والتوصّلي ، وليس ذلك إلاّعبارة عن فعل المأمور به وإن لم يكن بداعي الأمر ، في قبال العصيان الذي هو عبارة عن عدم الاتيان بالمأمور به.

وكيف كان نقول : إنّ ذلك الذي تعلّق به الأمر الثاني الذي هو متمّم الجعل أي شيء هو كان ، يمكن أن يدّعى أنّ قصد الوجه ليس هو شيئاً زائداً عليه ، بل هو كيفية له ونحو من أنحائه ، وحينئذ يكون الشكّ في اعتباره من قبيل ما يأتي من

__________________

(١) في الحاشية الآتية في الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٦٧.

١٦٧

الجزم والاطاعة التفصيلية في كونه من قبيل التخيير والتعيين الموجب للشكّ في حصول ما هو المأمور به بذلك المتمّم للجعل بدونه ، ويكون اللازم هو الاحتياط. اللهمّ إلاّأن يدّعى القطع بحصول الطاعة المأمور بها بمتمّم الجعل بدون قصد الوجه ، بخلاف مثل التمييز والقصد التفصيلي المعبّر عنه بالاطاعة التفصيلية ، للشكّ في مدخلية هذه الأُمور في تحقّق الطاعة ، بخلاف مثل الوجه فإنّه على تقدير اعتباره يكون شيئاً زائداً على الاطاعة المذكورة ، وبعد إثبات هذه الدعوى نحكم بعدم اعتبار نيّة الوجه ، إمّا بطريق القطع من جهة ما أفاده قدس‌سره من كون عدم الدليل السمعي عليه دليل العدم (١) ، وإمّا بطريق البراءة الشرعية عن ذلك الزائد.

ولا يخفى أنّ إثبات هذه الدعوى المبنية على الفرق المزبور لا يخلو من صعوبة ، فإنّ الظاهر أنّه لا فرق بين المقامين ، فإن قلنا بالدخول فيهما يلزمنا القول بالدخول فيه ، وإن قلنا بأنّه غير داخل في حقيقة الاطاعة يلزمنا القول بعدم دخولهما ، ولا يبعد القول الثاني وخروج الجميع عمّا يحكم به العقل أو ما يحكم به الشرع بطريقة متمّم الجعل من الاطاعة ، كما لعلّه سيتّضح لك من مطاوي الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.

قوله : نعم بناءً على أنّ اعتبار قصد الامتثال ... الخ (٢).

لعلّ هذا تعريض بما أفاده في الكفاية ، فإنّه بعد أن بنى على كون قصد التقرّب له المدخلية في الغرض ، وأنّه ليس بداخل تحت الأمر الشرعي ، وأنّ المرجع عند الشكّ في مدخليته هو الاشتغال ، قال ما هذا لفظه : نعم ، يمكن أن يقال : إنّ كلّ ما يحتمل بدواً دخله في الامتثال وكان ممّا يغفل عنه غالباً العامّة ، كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعاً ، وإلاّ لأخلّ بما هو همّه وغرضه ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

١٦٨

أمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف عن عدم دخله ، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، وكانا ممّا يغفل عنه العامّة ، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصّة فتدبّر جيّداً (١).

لكن لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره لم يستند في نفي اعتبار الوجه إلى البراءة كي يتوجّه عليه أنّ ذلك منافٍ لمسلكه من أخصّية الغرض وأصالة الاشتغال عند الشكّ في حصوله ، بل إنّما استند في ذلك إلى أنّ ما يتوقّف عليه حصول الغرض إن كان ممّا يلتفت إليه العامّة لم يجب على الشارع بيانه ، اكتفاءً بأنّهم يلتفتون فيشكّون فتلزمهم عقولهم بالاتيان بما يشكّون في حصول الغرض بدونه ، أمّا ما لا يلتفت إليه عامّة الناس فلا يصحّ من المولى السكوت عن بيانه ، لأنّ سكوته مفوّت لغرضه ، وحيث إنّ الوجه من هذا القبيل ، حكمنا بعدم اعتباره ، وحيث إنّ عدم العلم بالبيان لا يكفي في الحكم بعدم الاعتبار في المقام ، بل لابدّ فيه من العلم بالعدم ، ومجرّد عدم وصول ذلك إلينا في الأخبار والآثار لا يكفي في الحكم بعدم صدور البيان ، إذ لعلّه قد صدر بيانه لكنّه لم يصل إلينا ، كان صاحب الكفاية قدس‌سره في حاجة إلى الدعوى التي أفادها الأُستاذ قدس‌سره (٢) وهي أنّ هذا الأمر وهو نيّة الوجه ممّا تتوفّر الدواعي إلى نقله ، لكونه ممّا يبتلى به عامّة المكلّفين ، على وجه لو كان بيانه صادراً لكان قد وصل إلينا ، فيكون المقام من موارد عدم الدليل دليل العدم.

ولكن لا يخفى أنّ هذه المقدّمة لا توجب القطع بالعدم ، إذ [ من ] الممكن

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٦٧.

١٦٩

أن يكون قد صدر بيانه ولم يصل إلينا ، كما نراه في كثير ممّا هو من هذا القبيل ، أعني ممّا يبتلى به العامّة ولم يصل إلينا بيانه ، وليس هو بأعظم من اعتبار قصد القربة على رأي الأُستاذ قدس‌سره من احتياجها إلى متمّم الجعل ، مع أنّه لم يتمّ الدليل النقلي التامّ الدلالة على اعتبارها ، وهكذا الحال في غيرها من الفروع الفقهية التي لم يرد فيها نصّ بنفي ولا بإثبات مع كثرة الابتلاء بها.

لكن شيخنا قدس‌سره في راحة في هذا المقام من ذلك ، لأنّه قدس‌سره يجري البراءة لو لم تتمّ عنده دلالة الدليل السمعي. لكن يبقى الإشكال على مسلك صاحب الكفاية من أنّه يلزمه الاحتياط في مثل ذلك ، لكن قد حقّقنا في الجزء الثاني عند التعرّض لذلك في محلّه من خاتمة البراءة الفرق بين أصل قصد القربة وبين نيّة الوجه بعد ثبوت أصل القربة ، فراجع ما شرحناه هناك (١).

قال شيخنا قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا بناءً على أنّ التعبّدية ناشئة من أخصّية الغرض كما ربما يلوح من كلام الشيخ قدس‌سره (٢) ، فيكون الشكّ في هذه الصور الثلاث كلّها مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال ، سواء كان الشكّ في أصل التعبّدية أو كان في كيفية الاطاعة من جهة اعتبار القيد الفلاني أو عدمه ، سواء كان ذلك القيد على تقدير اعتباره أمراً زائداً على أصل الاطاعة كما في نيّة الوجه ، أو كان على تقدير اعتباره دخيلاً فيها كما في نيّة الجزم والاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، لرجوع الشكّ في جميع هذه الصور إلى الشكّ في حصول الغرض الموجب للشكّ في الخروج عن العهدة ، ولأجل ذلك احتاج قدس‌سره في نفي اعتبار نيّة الوجه إلى دعوى

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية على فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٨ في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٩٤ وما بعدها.

(٢) راجع مطارح الأنظار ١ : ٣٠٥ وفرائد الأُصول ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

١٧٠

القطع بعدم مدخليته في الغرض والاطاعة الناشئة عن أخصّية الغرض ، انتهى.

قوله : كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلّة الشرعية على اعتبار خلوّ العبادة عن أدنى شائبة الرياء ، مع أنّ العقل لا يستقلّ بذلك (١).

يمكن أن يقال : باستقلال العقل بلزوم خلوّ الاطاعة عن الرياء ، لكونه منافياً لما حكم به العقل من الاتيان بالفعل بداعي الأمر. ولو أنّ اعتبار عدمه لا يكون إلاّ زائداً على ذلك المقدار من الحسن العقلي لم يكن ذلك من باب التصرّف الشرعي فيما هو من المستقلاّت العقلية ، بل لا يكون إلاّمطلوباً شرعياً ، نظير سائر المطلوبات الشرعية مثل أن لا يكون اللباس ممّا لا يؤكل لحمه.

قوله : وللشارع أيضاً أن يكتفي في امتثال أوامره بما لا يكتفي به العقل لو خلي ونفسه كما في الأُصول الشرعية الجارية في وادي الفراغ ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ ذلك ليس تصرّفاً في الاطاعة ، وإنّما هو رافع لموضوع حكومة العقل بالاشتغال الذي هو عبارة عن أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فإنّ قاعدة الفراغ تكون من الأُصول الاحرازية للفراغ ، وتجعل الشاكّ فارغاً يقيناً ، خصوصاً لو قلنا بأنّها من الأُصول العقلائية التي أمضاها الشارع. وعلى أيّ حال هي رافعة للشكّ في الفراغ الذي هو موضوع قاعدة شغل الذمّة اليقيني.

قوله : فلو لم يقم دليل شرعي على التصرّف في بيان كيفية الاطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فإن استقلّ بشيء فهو ، وإلاّ فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة (٣).

إذا كان الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة هو العقل كيف يمكن أن يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٦٨.

١٧١

العقل شاكّاً ، ولو سلّمنا تحقّق الشكّ منه في ذلك مع فرض كون المسألة موكولة إليه وفرض أنّ الشارع لم يقم دليل من ناحيته على التصرّف ، فمن يكون هو المستفتى في المسألة ، وهل يكون حينئذ معنى محصّل للرجوع إلى البراءة عقليّها ونقليّها ، كلّ ذلك سيتّضح لك إن شاء الله تعالى فيما ننقله عمّا حرّرناه عنه قدس‌سره (١) ومنه أيضاً يتّضح لك الوجه في هذه المقدّمة في كيفية تصرّف الشارع في مقام الاطاعة.

قوله : ولا يقاس الشكّ في اعتبار شيء في كيفية الاطاعة العقلية بالشكّ في اعتبار مثل قصد التعبّد والوجه ، لما عرفت من أنّ اعتبار مثل قصد التعبّد والوجه إنّما يكون بتقييد العبادة شرعاً بذلك ولو بنتيجة التقييد ... الخ (٢).

إذا كانت الاطاعة العقلية التي حكم العقل باعتبارها هي عبارة عن الاتيان بالفعل بداعي الأمر كما مرّ (٣) تفسيرها بذلك ، فهذا هو عبارة أُخرى عن العبادية وحينئذ لا يكون قصد التعبّد محتاجاً إلى التصرّف الشرعي الذي هو المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، هذا كلّه نظراً إلى ما يتراءى من عبارة الكتاب.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين : أحدهما إلزامي من باب الخوف من العقاب أو من باب شكر المنعم ، وهذا المقدار من الحكم العقلي لا يتعلّق بأزيد من الاتيان بما تعلّق به الأمر في قبال العصيان وعدم الاتيان بذلك المتعلّق ، وهو مشترك بين التوصّليات والتعبّديات ، وهو أيضاً غير قابل

__________________

(١) في الصفحة ١٧٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٦٩.

(٣) في الأمر الأوّل من فوائد الأُصول ٣ : ٦٦.

١٧٢

للأمر المولوي ، بل لا يكون الأمر به إلاّإرشاداً لذلك الحكم العقلي.

والحكم الآخر للعقل هو حكمه بحسن الاطاعة بمعنى الاتيان بالمأمور به بداعي أمره ، وهذا الاستحسان العقلي مجرّد استحسان لا إلزام فيه من ناحيته ، لكن لا مانع من القول بأنّه يستكشف من هذا الاستحسان العقلي الاستحسان الشرعي بقاعدة الملازمة ، ومعنى الاستحسان الشرعي في المقام هو الأمر المولوي الندبي الاستحبابي ، وفي هذا المقدار يشترك الأمر التوصّلي والتعبّدي.

لكن ربما كان نفس الفعل غير وافٍ بالمصلحة الباعثة على تعلّق الأمر به ، لتوقّف حصول المصلحة منه على الاتيان به بداعي الأمر ، وحينئذ يكون ذلك الأمر الشرعي الثانوي المتعلّق بالاتيان به بداعي الأمر أمراً إلزامياً وجوبياً ، على وجه يكون منتجاً للتقييد وإن لم يكن من التقييد المصطلح ، ونعبّر عن ذلك الأمر الثاني بمتمّم الجعل.

وعلى كلّ حال ، أنّ متعلّق هذا الأمر الثانوي هو نفس الاطاعة بالمعنى الثاني التي هي مورد استحسان العقل ، ولكن هل أنّ مثل قصد الوجه والجزم والتفصيل من الأُمور الزائدة على ما يعتبره العقل من الاطاعة المذكورة التي كانت مورد استحسانه ، أو أنّها من أنحاء نفس الاطاعة المذكورة ، أو أنّ الأوّل من الأُمور الزائدة بخلاف الأخيرين.

وعلى أي حال ، فهل يكون الشاكّ في الاعتبار في الاطاعة المذكورة هو العقل ، أو أنّ العقل لا يمكن أن يشكّ في مورد حكمه؟ الظاهر الثاني. وبناءً على ذلك لا يكون الشكّ إلاّفي ناحية ذلك الأمر الشرعي الذي عبّرنا عنه بمتمّم الجعل وأنّ الشارع هل اعتبر في ذلك الواجب الثانوي وهو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي أمره أن يكون مقروناً بنيّة الوجه ، أو قيّده بالجزم مثلاً ، ولا ريب حينئذ في

١٧٣

أنّ المرجع هو البراءة ، سواء كان من قبيل الأمر الزائد كنيّة الوجه أو كان نحواً من أنحاء الاتيان المذكور ، ككون الآتي بالفعل جازماً بوجود الأمر ، أو كونه عالماً بأنّ هذا الفعل مأمور به تفصيلاً.

والظاهر أنّ ذلك لا يرجع إلى مسألة الترديد بين التعيين والتخيير ، بل هو لا يخرج عن الاطلاق والتقييد ، فإنّ الظاهر أنّ مسألة التخيير والتعيين إنّما هي فيما لو كان في البين اختلاف بالهوية ، دون ما لو كان أصل الواجب معلوماً وشكّ في تقييده بقيد من القيود ، وإلاّ لرجعت مسألة الشكّ في الأقل [ والأكثر ] الارتباطيين إلى مسألة التخيير والتعيين ، سواء كان الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ أصل ما وجب بهذا الأمر الذي سمّيناه متمّم الجعل إنّما هو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي أمره ، فيكون كلّ من اعتبار الجزم والتفصيل قيداً زائداً في ذلك المطلوب الثانوي ، من دون اختلاف في أصل هوية ذلك المطلوب الثانوي بالنسبة إلى ما يكون واجداً لذلك القيد وما يكون فاقداً له.

نعم ، هنا دعوى أُخرى أشار إليها شيخنا قدس‌سره وهي الأساس في كون المسألة من قبيل التخيير والتعيين المبني على الاختلاف بالهوية ، وتلك الدعوى مشتركة بين الاحتياط المتوقّف على التكرار ، والاحتياط في مورد الشبهة البدوية ، وهي دعوى كون الفعل المأتي به في كلّ من الموردين غير صادر بداعي الأمر الواقعي ، بل بداعي احتمال الأمر ، فيكون خارجاً عن الطاعة المأمور بها. لكن لازم هذه الدعوى هو انسداد الاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من تحصيل العلم ، إلاّأن يقوم حينئذ دليل بالخصوص يدلّ على سقوط هذا المقدار من الداعوية والاكتفاء بداعوية الاحتمال في المورد المذكور ، ولو كان أصل اعتبار الاطاعة عقلياً لقلنا إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم تلك المرتبة المبنية على داعوية الأمر الواقعي في

١٧٤

خصوص مورد التمكّن منها ، أمّا مع عدم التمكّن منها فينتقل العقل إلى الحكم بلزوم داعوية الاحتمال ، لكنّا قد أخرجنا الحكم بالاطاعة المذكورة عن حكم العقل وقلنا إنّ الحاكم بلزومها هو الشرع بنحو متمّم الجعل.

اللهمّ إلاّأن نقول : إنّ هذا الحكم الشرعي المولوي يكون تابعاً لحكم العقل من جهة الملازمة ، من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الحكم الشرعي المولوي الثانوي استحبابياً كما في التوصّليات ، أو وجوبياً كما في العبادات ، فإنّ إيجابه وإن لم يكن بملاك الملازمة ، إلاّ أنّ أصل الطلب لمّا كان بملاك الملازمة كان ذلك الطلب ذا درجتين كما في استحسان العقل للاطاعة ، ولا يخلو ذلك عن تأمّل.

ولكن الشأن كلّ الشأن في أنّ الداعوية فيما نحن فيه كانت من ناحية الاحتمال نفسه ، بل ليست هي إلاّمن قبل الحكم الواقعي على وجه لو صادف الواقع يكون هو عين ذلك الداعي الذي دعاه على الاتيان بالفعل ، ولا يكون الاحتمال في ذلك إلاّكالعلم في كونه طريقياً ، بمعنى كون الداعي في الواقع نفس الواقع ، غايته أنّه بوجوده العلمي أو الاحتمالي ، وإن كانت الفاعلة والمؤثّرة في نفس المكلّف إنّما هي تلك المرتبة من الوجود العلمي أو الوجود الاحتمالي ، لكن المكلّف لا يرى نفسه متحرّكاً إلاّعن نفس ذلك الواقع الذي علمه أو الذي احتمله ، والأمر الثانوي الشرعي إنّما يتعلّق بهذا المقدار من الداعوية ، فلو قال له : ائت بالفعل بداعي أمره ، فإنّما يريد هذا الأمر الوجداني الذي يجده المكلّف من نفسه حينما يأتي بالفعل بداعي أمره الذي علمه ، وإلاّ سرى الإشكال إلى صورة العلم ، بأن يقال إنّ المطلوب منه هو داعوية الأمر الواقعي بحيث يكون هو المحرّك له ، والمفروض أنّ وجوده العلمي كان محرّكاً له ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأمر بنفسه لا معنى لكونه داعياً على الاتيان بالعمل

١٧٥

المأمور به ، بل الداعي في الحقيقة إنّما هو الفائدة المترتّبة على العمل ، وهي هنا ليست إلاّالامتثال ، فإنّ المكلّف يتصوّر تلك الفائدة المترتّبة على العمل التي نعبّر عنها بالفائدة المترتّبة عليه ، وإذا وصلت النوبة إلى ذلك نقول : إنّه لا فرق في الداعوية المذكورة بين كون الأمر معلوماً أو مشكوكاً في كون الغاية المترتّبة على الفعل هي الامتثال لذلك الأمر الواقعي ، غايته أنّ ترتّب تلك الفائدة على ذلك العمل تارة معلوماً وأُخرى يكون محتملاً.

ويمكن أن يقال : إنّ تعنون الفعل بعنوان كونه مأموراً به للمولى يكون هو المحرّك لارادة المكلّف نحوه ، وهذا أيضاً لا يفرق فيه بين كون تعنونه بذلك العنوان معلوماً وبين كون تعنونه به مشكوكاً. وعلى أي فنحن لا نشكّ أنّ في البين نحوين من الاطاعة ، ولكن ندّعي أنّه لا فرق بينهما في استحسان العقل ، ولو فرضنا الشكّ في ذلك بأن احتملنا الفرق بينهما ، لم يكن الواجب علينا إرضاء العقل ، وإنّما الواجب سدّ ثغرة ذلك الأمر الشرعي الثانوي الذي هو المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، ويكفي في ذلك أصالة البراءة في نفي التقييد فيه.

ولعلّ الأولى في المقام ـ أعني مقام الشكّ في ذلك ـ نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره ، فإنّ هذا المرسوم في هذا الكتاب هو من الدورة السابقة على هذه الدورة التي حرّرت عنه قدس‌سره فيها ، قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه بعد [ ما ] أفاد أنّ المرجع في المسألة هو أصالة الاشتغال : وتوضيح ما تقدّم يحتاج إلى ذكر مقدّمتين :

الأُولى : أنّ ما يكون مورداً للشكّ إمّا أن يكون من الأُمور العقلية الصرفة التي لا تنالها يد التصرّف الشرعي أصلاً ابتداءً ولا امضاءً ، لا وضعاً ولا رفعاً ، سواء كان ذلك الرفع بدليل عام أو كان بدليل خاصّ بالمورد ، وذلك مثل حجّية القطع.

وإمّا أن يكون مورد الشكّ من الأُمور المجعولة للشارع إمّا ابتداءً أو امضاء

١٧٦

وهذا يجري فيه الرفع ، سواء كان بدليل عام مثل حديث الرفع أو كان بدليل خاصّ بالمورد.

وإمّا أن يكون متوسّطاً بين الأمرين ، بأن كان ذلك المشكوك من الأُمور العقلية القابلة للرفع ، لكن لا بالدليل العام ، بل بالدليل الخاصّ بالمورد ، وذلك مثل ما نحن فيه ممّا يشكّ في اعتباره في الطاعة عقلاً ، ككونها إطاعة تفصيلية عند التمكّن منها ، فإنّ الاطاعة بنفس مفهومها من الأُمور العقلية ، فإذا دلّ الدليل الشرعي على اعتبارها في المأمور به ، وحصل الشكّ في اعتبار كونها تفصيلية عند التمكّن من ذلك ، كان المرجع في ذلك هو الاحتياط ، للشكّ في تحقّقها بدونه ، ما لم يرد دليل بالخصوص يدلّ على عدم اعتبارها والاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية ولو عند التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، ولا ينفع في الحكم بعدم اعتبارها ورود الدليل العام مثل حديث الرفع.

وهذا بخلاف قصد الوجه فإنّه على تقدير اعتباره فإنّما يكون معتبراً بتصرّف شرعي زائد على أصل اعتبار الطاعة ، لما عرفت من حكم العقل بعدم اعتبارها في تحقّق الطاعة ، وحينئذ ففي مورد الشكّ في اعتبارها يكون المرجع في عدم اعتبارها هو الدليل العام مثل حديث الرفع ، ولا يتوقّف الحكم بعدم اعتبارها على ورود الدليل الخاصّ بالمورد. ومن ذلك يعرف الحال في :

المقدّمة الثانية : وحاصلها الفرق بين صورة الشكّ في نيّة الوجه فإنّ المرجع فيه هو حديث الرفع ، وبين صورة الشكّ في اعتبار الاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، فإنّ المرجع فيه هو الاحتياط. إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول الخ. هذا ما حرّرته في درس ليلة الأحد ٩ ج ١ سنة ١٣٤٨ ، ثمّ إنّه في درس ليلة الثلاثاء ١١ ج ١ عرّج على ما تقدّم وقال حسبما حرّرته عنه :

١٧٧

ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على ما هو المختار من احتياج الأمر التعبّدي إلى أمر ثانٍ يكون بالنسبة إلى الأمر الأوّل من قبيل متمّم الجعل ، فإنّه بناءً عليه يكون الشكّ في أصل العبادية مجرى للبراءة ، وكذلك الشكّ في اعتبار شيء زائد عليها شرعاً بعد الفراغ عن عدم مدخليته فيها عقلاً مثل نيّة الوجه ، فإنّه أيضاً يكون عند الشكّ في اعتباره مجرى للبراءة.

نعم ، لو شكّ في مدخلية شيء في الاطاعة عقلاً كان المرجع فيه الاحتياط ، كما لو حصل الشكّ في أنّ مثل نيّة الجزم وكون الاطاعة تفصيلية عند التمكّن منها هل يكون له المدخلية في حسن الاطاعة عقلاً بعد الفراغ عن أصل اعتبارها شرعاً في المأمور به ، فإنّ مثل هذا الشكّ لا يمكن الرجوع فيه إلى البراءة ، لعدم الشكّ فيما جعله الشارع ، إذ ليس المشكوك فيه هو الجعل الشرعي ، بل المشكوك هو مدخلية ذلك القيد عقلاً فيما أخذه الشارع في المأمور به شرعاً ، فلا يكون مجرى للبراءة ، بل يكون مجرى للاحتياط والاشتغال للشكّ في تحقّق الاطاعة بدونه.

نعم ، يمكن للشارع أن يتصرّف في ذلك الأمر العقلي الذي أخذه في المأمور به أعني نفس الطاعة ، بأن يقول لا أُريد الطاعة العقلية التي حكم العقل بحسنها ، بل اكتفي بما يكون فاقداً لذلك القيد المشكوك ، وإن لم يكن الفاقد له ممّا يحكم العقل بحسنه. ومن الواضح أنّ هذا التصرّف لا يتكفّله الدليل العام المتعرّض لرفع ما يكون جعله بيد الشارع ، فلا يمكن جريانه في المورد ليحكم بعدم مدخلية ذلك القيد المشكوك المدخلية عقلاً في الطاعة ، إذ أنّه على تقدير اعتباره إنّما يكون معتبراً في نظر العقل وحكمه ، لا بالجعل الشرعي كي يتأتّى فيه حديث الرفع.

نعم ، الدليل الخاص يمكن أن يكون متكفّلاً لذلك التصرّف ، إذ محصّل

١٧٨

ذلك الدليل الخاصّ هو إلغاء ذلك القيد المشكوك عن المدخلية في حكم العقل بحسن الاطاعة ، بل يكون هذا الشكّ بحاله مع وجود ذلك الدليل الخاصّ ، وإنّما أقصى ما فيه أن يكون ذلك الدليل الخاصّ مفيداً لاكتفاء الشارع بالاطاعة الفاقدة لذلك القيد ، وإن لم يحكم العقل بحسنها ، وحيث لم يوجد لنا مثل هذا الدليل فلا محيص عن الرجوع إلى الاحتياط.

وأمّا بناءً على أنّ التعبّدية ناشئة عن أخصّية الغرض كما ربما يلوح من كلام الشيخ قدس‌سره (١) فيكون الشكّ في هذه الصور الثلاث كلّها مجرى لأصالة الاشتغال ، سواء كان الشكّ في أصل التعبّدية أو كان في كيفية الاطاعة من جهة اعتبار القيد الفلاني أو عدمه ، سواء كان ذلك القيد على تقدير اعتباره أمراً زائداً على أصل الطاعة كما في نيّة الوجه ، أو كان على [ تقدير ] اعتباره دخيلاً فيها كما في نيّة الجزم والاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، لرجوع الشكّ في جميع هذه الصور إلى الشكّ في حصول الغرض الموجب للشكّ في الخروج عن العهدة ، ولأجل ذلك احتاج قدس‌سره في نفي اعتبار نية الوجه إلى دعوى القطع بعدم مدخليّته في الغرض والاطاعة الناشئة عن أخصّية الغرض ، انتهى ما حرّرته عنه في هذا المقام ، أعني مقام الشكّ.

وكنت في وقته علّقت على قوله : ولا ينفع في الحكم بعدم اعتبارها ورود الدليل العام الخ ما هذا لفظه : قلت السرّ في ذلك أنّ هذا القسم الثالث يكون الشكّ [ فيه ] من قبيل الشكّ في المحقّق والمحصّل ، وفي مثله لا يجري حديث الرفع كما هو واضح ، لكن لا مانع من ورود دليل بالخصوص يدلّ على عدم الاعتبار ، ويكون محصّل ذلك الدليل هو التصرّف في الموضوع ، وأنّه يتحقّق ويحصل

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ١ : ٣٠٥ ، وفرائد الأُصول ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

١٧٩

بالفاقد لذلك المشكوك ، فتأمّل.

لكنّه ( دام ظلّه ) أفاد ما محصّله : أنّ عدم جريان حديث الرفع فيما نحن فيه ليس من جهة كونه من قبيل [ الشكّ ] في المحصّل ، بل من جهة أنّ المورد ليس قابلاً للرفع الشرعي إلاّباعتبار اللازم العقلي ، فيكون الأصل حينئذ مثبتاً ، فتأمّل. هذا ما كنت علّقته في وقته.

والظاهر أنّ معنى كونه مثبتاً هو أنّه يرفع اعتبار الاطاعة التفصيلية في ذلك الحال ، يعني حال التمكّن منها ، فيلزمه تحقّق الاطاعة العقلية التي اعتبرها الشارع.

ولكن لا يخفى أنّه مع الغضّ عن كون المسألة من قبيل الشكّ في المحقّق ، بأن نقول : الشارع في هذا الحال هل اعتبر الاطاعة التفصيلية التي يعتبرها العقل أو اكتفى في الاعتبار بمجرّد الاطاعة ولو احتمالية ، فأصالة البراءة تنفي هذا التقييد كما هو الحال في الشكّ في الشرطية الارتباطية. نعم لو قام الدليل على اعتبار الاطاعة العقلية بمفهومها البسيط ، وكانت هذه الكيفيات محقّقات لها ، كان المقام من قبيل الشكّ في المحقّق ، والشاهد على أنّ المسألة ليست من قبيل الشكّ في المحقّق للمأمور به البسيط ، هو صلاحية المقام للتصرّف الشرعي بالدليل الخاصّ.

والخلاصة : أنّ العقل سواء كان شاكّاً في أنّ هذه المرتبة من الاطاعة الاحتمالية في صورة التمكّن من الاطاعة التفصيلية إطاعة ، أو كان قاطعاً بأنّها ليست باطاعة ، أو كان قاطعاً بأنّها إطاعة ، لا يكون اللازم علينا إلاّالأخذ بما يحكم به الشارع بمقتضى ذلك الأمر الثانوي الذي هو متمّم الجعل ، ونحن إذا فتحنا باب إمكان التصرّف الشرعي في كيفية الاطاعة ، وقلنا بأنّه للشارع أن يكتفي بذلك

١٨٠