أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

ليس ذلك بأقلّ ممّن علم تفصيلاً بأنّ هذا المائع خمر وأنّ الآخر خل فشربهما على التدريج ثمّ تبيّن العكس.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّه لو كان بانياً من أوّل الأمر يصدق عليه أنّه شرب الخمر عن علم وعمد إليه. لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ العلم والعمد إنّما يكون في الأوّل وهو ليس بخمر واقعي ، والثاني وإن كان خمراً واقعياً لكنّه لم يكن شربه عن علم بكونه خمراً ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الجواب عن الأوّل فيمكن التأمّل فيه باعتبار كونه موجباً لسدّ باب كون العلم تمام الموضوع في الأحكام العقلية ، فإنّ لازمه هو كون العلم فيها دائماً جزءاً من الموضوع ، ولا يعقل كونه تمام الموضوع ، بل يكون الحال كذلك في الأحكام الشرعية التي يكون العلم مأخوذاً فيها على نحو الموضوعية ، إذ بعد البناء على أنّ العلم المخطئ لا يكون علماً بل لا يكون إلاّمن قبيل الجهل المركّب ، لا يكون العلم المأخوذ إلاّما يكون جزءاً من الموضوع.

وأمّا الجواب عن الثاني فهو منوط بتمامية الجواب الأوّل ، فإنّه بعد تماميته يكون القبح الفاعلي منحصراً بسوء السريرة ، إذ لا يكون لنا حينئذ قبح فعلي ، وقد عرفت عدم تمامية الجواب عن الأوّل ، وحينئذ فلا ينحصر القبح الفاعلي فيما نحن فيه بقبح السريرة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ اللغوية التي أشكل بها هنا شيخنا قدس‌سره آتية في أخذ العلم تمام الموضوع وإن لم يكن من قبيل اجتماع المثلين كما لو قال : من علم بطلوع الفجر وجب عليه التصدّق بدرهم ، وأخذنا العلم تمام الموضوع بنحو يكون شاملاً لمن كان قطعه مخالفاً للواقع ، فإنّ كلّ قاطع لا يرى قطعه مخالفاً للواقع ، فلا يرى نفسه داخلاً في الشقّ الثاني الذي هو المخالف ، بل وإنّما يرى القاطع أنّه من الشقّ الأوّل

١٤١

أعني المصيب.

قوله : الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب ـ إلى قوله ـ بدعوى أنّ المناط في استحقاق العاصي للعقاب موجود في المتجرّي أيضاً ... الخ (١).

صدر هذه الجمل يعطي الاشارة إلى البرهان المعروف من فرض شخصين المنتهي بالجواب بأنّ الممنوع هو إناطة العقاب بأمر غير اختياري ، لا إناطة نفيه بأمر غير اختياري الذي هو عدم إصابة الواقع. لكن شيخنا قدس‌سره ربط هذا البرهان بمسألة مدخلية العلم في الأحكام العقلية ، فقال (٢) : ببيان أنّ العلم والالتفات في باب الأحكام العقلية له جهة موضوعية ، بل هو تمام الموضوع في المستقلاّت العقلية ، الخ (٣).

والظاهر أنّه ليس المراد هو المدخلية في الحكم الكلّي مثل الظلم قبيح ، إذ لا مدخلية للعلم في القبح الكلّي الذي يحكم به العقل على كلّي الظلم ، بل الظاهر هو مدخلية العلم بالصغرى في أخذ النتيجة ، فإنّ هذا الضرب لهذا اليتيم إنّما يحكم العقل بقبحه بعد إحرازه كونه تعدّياً وظلماً ، فيقول : إنّ هذا الضرب الخارجي الواقع على هذا اليتيم ظلم ، وكلّ ظلم قبيح ، فهذا الضرب قبيح ، في قبال ما لو احتمل كونه إحساناً وتأديباً. ومن الواضح أنّ مدخلية العلم بهذا المقدار لا تختصّ بالأحكام العقلية ، بل هي جارية في جميع الأحكام ، سواء كانت عقلية أو عرفية أو شرعية. نعم لمّا كان العقل هو الحاكم في الأحكام العقلية وهو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٦.

(٢) وقد نقل ذلك عن أُستاذه السيّد الشيرازي قدس‌سره [ منه قدس‌سره ].

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٦.

١٤٢

المستنتج بعد إحراز الصغرى ، كان علمه بالصغرى تمام الموضوع في حكمه ، بخلاف الأحكام الشرعية والعرفية فإنّه لمّا كان الحاكم فيها هو غير المستنتج لم يكن العلم فيها إلاّطريقاً صرفاً.

ثمّ إنّ العبائر هنا مضطربة ، فبعضها يظهر منه أنّ الحكم العقلي الذي هو محلّ الكلام فيما نحن فيه هو قبح المعصية ، ويظهر من أغلبها أنّ الحكم العقلي هو حكم العقل بأنّ المعصية توجب استحقاق العقاب.

أمّا الأوّل وهو قبح المعصية ، فلا دخل له بما نحن بصدده من إثبات استحقاق العقاب ، فالمتعيّن هو الثاني ، وحينئذ يتعيّن الجواب بأن يقال : إنّ استحقاق العقاب سواء كان بحكم العقل لا من باب التحسين والتقبيح ، بل من باب الملازمة بين المعصية واستحقاق العقاب ، بمعنى أنّ العقل يحكم بالملازمة بين المعصية وبين استحقاق العقاب ، أو كان بحكم الشرع ، أو كان من جهة إخبار الشارع ، أو غير ذلك من وجوه تصحيح العقاب ، إنّما هو تابع لمخالفة التكليف الواقعي ، غايته أنّه يحتاج إلى منجّز وهو العلم ، فالعلم لا يكون في ذلك تمام الموضوع ، لا لأنّه يكون عبارة عن الجهل ، بل لما عرفت من أنّ العقاب تابع لمخالفة التكليف الواقعي ، غايته لابدّ في ترتّب العقاب على مخالفته من كونه منجّزاً بالعلم أو ما يقوم مقامه ، وفي الحقيقة يكون العلّة في الاستحقاق هو مخالفة التكليف الواقعي ، لكن بشرط كونه منجّزاً بالعلم أو ما يقوم مقامه ، ففي موارد التجرّي لا يكون تكليف واقعي ليكون هذا العلم منجّزاً له ، ليكون نفس العلم هو موضوع استحقاق العقاب ، ليكون حال المتجرّي حال العاصي في استحقاق العقاب. وهذا هو الذي أشار إليه بقوله : بل لمكان أنّ الارادة الواقعية

١٤٣

غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل الخ (١) فهذا هو الجواب الصحيح ، دون ما تقدّمه من أنّ العلم المخطئ لا يكون علماً بل يكون جهلاً ، فإنّ ذلك أجنبي عمّا نحن بصدده من دفع الاستدلال على الاستحقاق. فلاحظ وتأمّل.

قوله : الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجرّي من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار عليه ، فيكون البحث من هذه الجهة فقهياً ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الجامع بين أقسام التجرّي التي يكون منها التجرّي المعروف ومنها ما لو نوى الحرام وشرع في بعض مقدّماته ثمّ عدل أو لم يتيسّر له ، إمّا أن يكون غير شامل لفعل الحرام فلا إشكال في عدم إمكان الخطاب به بالنسبة إلى القسم الأوّل منه ، وما أُفيد من تصوير الجامع بالقصد الذي يكون له مظهر ، محلّ تأمّل ، فإنّه على الظاهر غير قابل للخطاب به بالنسبة إلى القسم الأوّل منه ، أعني ما لو قطع بحرمة الشيء وارتكبه ثمّ تبيّن له الخلاف.

ولو أردنا من الجامع ما يكون جامعاً بين هذين القسمين والمعصية الحقيقية ، فأي جامع تصوّرناه يكون موجباً للجمع بين العقابين في صورة المصادفة ، لأنّ الشارع في حكمه بالحرمة على القصد الذي يكون له مظهر ليس معناه أنّه تنازل عن حرمة شرب الخمر الواقعي ، وحينئذ يكون في هذه الصورة قد خالف كلا الحرمتين فيستحقّ عقابين. مضافاً إلى أنّه في صورة المصادفة يلزم اجتماع المثلين ، وإن كان مورد أحدهما هو الشرب نفسه ومورد الآخر هو القصد مع المظهر المذكور ، فإنّ ذلك الاختلاف لا يخرجه عن كونه من قبيل اجتماع الحرمتين ، وغاية أثر اختلاف المورد هو المنع من التأكّد.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٨.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٥٠.

١٤٤

ولو سلّمنا أنّ اختلاف المورد يخرجه عن اجتماع المثلين حقيقة إلاّ أنّه مثله في الامتناع ولا أقل من الاستبشاع ، هذا في صورة المصادفة.

أمّا في صورة المخالفة للواقع فيلزمه اجتماع الضدّين ، وهكذا نقول لو كان الجامع هو عنوان القطع بالحرمة المفروض كونه جامعاً بين صورة المصادفة وصورة المخالفة ، فإنّه يلزم عليه استحقاق العقابين في صورة المصادفة ، كما أنّه يلزمه اجتماع المثلين في صورة المصادفة ، والضدّين في صورة المخالفة ، هذا كلّه بالقياس إلى نفس الواقع.

وأمّا بالقياس إلى نظر القاطع فهو دائماً يكون من قبيل اجتماع المثلين ، فإنّه وإن لم يكن حقيقة من قبيل اجتماع المثلين ، إلاّ أنّه مثله في المحالية ، ولا أقل من استبشاع ذلك ، بل لا أقل من استبشاع تعلّق التحريم بالقصد والارادة مع قطع النظر عن دعوى صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كونها غير اختيارية ، وإلاّ كان من التكليف بغير الاختياري.

وأمّا الايراد على أخذ العنوان هو عنوان العلم والقطع ، بأنّ العلم لا يكون من العناوين ذات الملاك ، فقد مرّ الكلام (٢) في نظيره مراراً وأنّه لا مانع من كون العلم له المدخلية [ في ] الملاك ، كما هو الشأن في القطع الموضوعي.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يقال : إن ضمّ القسم الثاني من التجرّي إلى القسم الأوّل منه بحيث نحتاج إلى التماس الجامع بينهما ، لا داعي إليه ، فإنّ الظاهر أنّ القسم الثاني ـ وهو ما لو نوى وقصد فعل الحرام وشرع في بعض مقدّماته ثمّ عدل أو لم يتيسّر له ذلك ـ داخل في باب نيّة المعصية ، ولا داعي لادخاله تحت عنوان

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٦١.

(٢) في الصفحة : ٤٢ ـ ٤٥.

١٤٥

التجرّي ، وحينئذ ينحصر الكلام في القسم الأوّل ، وهو ما لو قطع بحرمة الشيء وارتكبه ثمّ تبيّن الخلاف ، فعلى القول بالحرمة لابدّ من عنوان يكون هو الواسطة في الخطاب فإن كان ذلك العنوان جامعاً بينه وبين المعصية الحقيقية توجّه عليه ما قدّمناه ، وليس لنا عنوان يختصّ بصورة المخالفة.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّا لا نحتاج في الحكم بالحرمة إلى عنوان يختصّ بصورة المخالفة ، لأنّ ذلك إنّما نحتاج إليه لأجل تصحيح الخطاب ، والمفروض أنّه لا داعي للخطاب إلاّزجر المكلّف عن الارتكاب ، وهو ـ أعني الزجر المذكور ـ حاصل فيما نحن فيه بواسطة ما يتخيّله المتجرّي من الواقع.

والحاصل : أنّ المطلوب والغرض من الخطاب إنّما هو إحداث داعي الانزجار في حقّ العبد ، ويكفي في ذلك ما يتخيّله من الحرمة الواقعية ، وإن كان الذي هو محرّم عليه في الواقع هو نفس ذلك التجرّي دون ما تجرّى به.

ولكن هذا التقريب لو سلّمنا تماميته وإن لم يلزم عليه اجتماع المثلين واقعاً في صورة المصادفة ، ولا يلزم عليه اجتماع المثلين دائماً في نظر القاطع ، إلاّ أنّه يلزم عليه اجتماع الضدّين واقعاً في صورة المخالفة ، كما لو قطع بحرمة شيء وارتكبه وكان في الواقع واجباً عليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّه إنّما يجري في ناحية التجرّي ، أمّا في ناحية الانقياد الذي هو توأم مع التجرّي ، ففيه إشكال ، لأنّه لو قطع بأنّ الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً واجب في الواقع ، لو قلنا بوجوب الدعاء عليه لأجل قطعه المذكور وحرمة تركه كما قلنا في حرمة ما قطع بحرمته وإن لم يكن في الواقع حراماً ، فلابدّ في توجيه الخطاب من التماس عنوان يكون هو الباعث له على ذلك الفعل العبادي ، ولا ينفع في صحّته ما يتخيّله القاطع من الوجوب الواقعي ، لأنّ الاتيان بالدعاء بداعي

١٤٦

أمره الواقعي الذي تخيّل أنّه قد تعلّق بنفس الدعاء لا يكفي في إتيانه بداعي أمره المتعلّق به بعنوان كونه مقطوع الوجوب ، أعني أمره الآتي من ناحية كونه انقياداً فلاحظ وتأمّل.

قوله : أمّا في الأوّل ، فلأنّ خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعاً ، ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسياً لا طريقياً إرشادياً ... الخ (١).

لا يخفى أنّ ما حكموا به وادّعي عليه الإجماع من عدم جواز التأخير عند ظنّ الضيق ، وإن أمكن حمله على ما أفاده قدس‌سره من كون المنع شرعياً ثابتاً بالإجماع ، وأنّ موضوعه هو الأعمّ ، لكن لازمه أنّه لو أخّر في صورة الظنّ بالضيق واتّفق مصادفة ذلك الظنّ للواقع هو استحقاق عقابين ، أحدهما من جهة ترك الصلاة في الوقت ، والآخر من جهة مخالفته لذلك النهي الشرعي ، فيكون قد ترك واجباً وفعل حراماً. وهكذا الحال فيما لو أخّر وظهر الخلاف لكنّه ترك الصلاة عمداً ، فإنّه يلزمه حينئذ العقابان ، ويبعد الالتزام بالتعدّد في أمثال ذلك. كما أنّه لو كان من أوّل الوقت معذوراً بمثل نوم أو إغماء ونحوه ثمّ بعد ارتفاع العذر ظنّ أنّه لم يبق من الوقت إلاّمقدار الصلاة ومقدّماتها ولو مثل التيمّم ، ومع ذلك لم يتحرّك نحو المقدّمات ، وتبيّن أنّ الوقت قد خرج بعد ارتفاع العذر والظنّ المذكور بلحظة مثلاً بحيث انكشف أنّه لا يسع التيمّم ، أو انكشف أنّ ارتفاع العذر كان بعد خروج الوقت ، فإنّ اللازم على هذا القول من موضوعية الظنّ المذكور للحرمة أن يكون مستحقّاً للعقاب ، وهو بعيد فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ هذا الإجماع لو سلّم فليس هو إجماعاً على حكم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٥١.

١٤٧

شرعي ، بل ليس هو إلاّعبارة عن الاتّفاق على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، أعني العقاب على ترك الصلاة لو أخّر واتّفق مصادفة ذلك الظنّ للواقع فلا يكون قولهم : إنّه لو ظنّ ضيق الوقت لا يجوز له التأخير حكماً شرعياً ، بل لا يكون منهم إلاّعبارة عن بيان الحكم العقلي.

نعم ، لو كان الإجماع المذكور إجماعاً على العصيان واستحقاق العقاب بمجرّد عدم المبادرة إن انكشف بقاء الوقت وصلّى بعد ذلك ، كما يظهر ممّا نقله الشيخ قدس‌سره من دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت (١) ، لتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون هذا الإجماع كاشفاً عن الحرمة الشرعية ، وأنّه خارج عن محض العقاب على التجرّي ، لأنّ الإجماع لا مورد له في مجرّد استحقاق العقاب ، كما أشكل به الشيخ قدس‌سره على الإجماع المزبور.

لكن يلزم على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ما تقدّم ذكره من لزوم استحقاق العقابين في صورة المصادفة للواقع.

فتلخّص لك : أنّ الإجماع على العصيان واستحقاق العقاب بالتأخير حتّى مع انكشاف بقاء الوقت ، ممّا لا يمكن أن يتوجّه ، لأنّهم إن أرادوا بذلك مجرّد استحقاق العقاب على التجرّي فلا محصّل للاستدلال به ، لكون المسألة حينئذ عقلية لا شرعية ، وإن أرادوا بذلك الإجماع على الحرمة الشرعية التعبّدية التي يكشف عنها الحكم باستحقاق العقاب ، فيكون حكمهم باطلاق العصيان واستحقاق العقاب حتّى لو تبيّن الخطأ وانكشف سعة الوقت وأدّى الصلاة فيه

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٧.

١٤٨

كناية عن الحرمة الشرعية ، توجّه عليه ما ذكرناه من اللوازم المذكورة.

لكن يهوّن الخطب أنّ الإجماع المذكور غير ثابت كما نقله الشيخ قدس‌سره بقوله : نعم ، حكي عن النهاية (١) وشيخنا البهائي (٢) التوقّف في العصيان ، بل في التذكرة : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه فالوجه عدم العصيان انتهى (٣) ، واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح (٤) ، (٥).

وبناءً على عدم ثبوت الإجماع المزبور ولا أقلّ من عدم تحقّق هذه الكلمة ـ أعني العصيان ـ في معقده ، فلا يكون حكمهم بلزوم المبادرة إلاّعبارة عن ذلك الحكم العقلي الناشئ عن لزوم دفع الضرر الناشئ عن فوت الصلاة ، هذا كلّه في حرمة تأخير الصلاة مع الظنّ المزبور.

وأمّا حرمة سلوك الطريق المظنون الضرر ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيها ، ويكفي في ذلك حكمهم بلزوم الاتمام في ذلك السفر ، وقوله تعالى : ( لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(٦). والظاهر أنّه لا يتوجّه عليها ما ذكر من لزوم اجتماع العقابين في صورة المصادفة ، فتأمّل (٧)

__________________

(١) لاحظ نهاية الوصول ١ : ١١٠ ـ ١١١ ، ٥١٧.

(٢) زبدة الأُصول : ٧٣.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩١ ( مع اختلاف يسير ).

(٤) مفاتيح الأُصول : ٣٠٨.

(٥) فرائد الأُصول ١ : ٣٨.

(٦) البقرة ٢ : ١٩٥.

(٧) في الكلام على التنبيه الأوّل بعض الجهات لم يسع الوقت لنقلها ممّا علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره ، فينبغي تلخيصها وإلحاقها [ منه قدس‌سره ].

١٤٩

قوله : وأمّا في دعواه الثانية من أنّ العلم بحرمة ما يكون واجباً مغيّر لجهة قبح التجرّي ، ففيها أنّه لو سلّمنا اختلاف قبح التجرّي بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيّرة للحسن والقبح لابدّ وأن تكون ملتفتاً إليها ، لما تقدّم من أنّ العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : ولا ينتقض ذلك بما تقدّم في الجواب عن الاستدلال على قبح التجرّي وكونه موجباً لاستحقاق العقاب بما مرّ من المثال المشهور ، بأن يقال : قد اعترفتم في جوابكم عن ذلك الاستدلال بأنّ الجهة الواقعية الخارجة عن الاختيار مؤثّرة في عدم الاتّصاف بالقبح ، وعدم استحقاق العقاب ، وبيان عدم الانتقاض : أنّ ذلك الذي ذكرناه فيما تقدّم إنّما هو كون الجهة الواقعية الخارجة عن الاختيار مؤثّرة في رفع قبح الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، ولا ربط لذلك بما ذكرناه هنا من أنّ الجهة الواقعية لا يعقل أن تؤثّر في الحسن ، كي تكون بتأثيرها في ذلك الحسن كاسرة لجهة التجرّي المقتضية للقبح.

والحاصل : أنّ كون الجهة غير الاختيارية رافعة للقبح غير كونها موجبة لحسنه كي تكون بذلك كاسرة لجهة قبحه ، والذي ذكرنا في الجواب عن ذلك المثال هو الأوّل ، والذي ذكرناه هنا هو الثاني ، ولا تدافع بين الأمرين كما هو واضح ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٥٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٦٣ ـ ٦٥.

١٥٠

قلت : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة (١) أنّ حكم العقل بقبح التجرّي لا يكون علّة لاستحقاق العقاب ، وأنّ من قطع بحرمة شيء فارتكبه وانكشف خطأ قطعه لا إشكال في حكم العقل بقبح ارتكابه ، إمّا لجهة الفعل أو للجهة الفاعلية ، لكن حكم العقل بقبح ذلك لا يكون علّة لاستحقاق العقاب. وأمّا الإشكال باناطة العقاب بأمر غير مقدور ، فقد تقدّم الجواب عنه (٢) بما هو مأخوذ من كلام الشيخ قدس‌سره وحاصله : أنّ ارتفاع العقاب لأمر غير داخل تحت الاختيار لا ضير فيه ، وحينئذ فليس مرجع ذلك الجواب إلى ارتفاع جهة القبح بأمر غير اختياري ، كي يكون ذلك نقضاً على ما أفاده قدس‌سره من أنّ الجهة الواقعية لمّا لم تكن معلومة لم تكن مؤثّرة في ارتفاع القبح ، فلا حاجة حينئذ إلى ما أفاده قدس‌سره من الجواب عن النقض المذكور بالتفرقة بين المقامين.

وقد سبقه الشيخ قدس‌سره إلى التفرقة المذكورة ، فإنّ قول الشيخ قدس‌سره : ودعوى أنّ الفعل الذي يتحقّق به التجرّي وإن لم يتّصف في حدّ نفسه بحسن ولا قبح ، لكونه مجهول العنوان ـ إلى قوله ـ مدفوعة مضافاً إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي كما لا يخفى الخ (٣) راجع إلى هذا الذي شرحه شيخنا قدس‌سره.

وكلّ ذلك ناشئ عن دعوى كون حكم العقل بالقبح علّة لاستحقاق العقاب ، فأرادوا أن يمنعوا حكم العقل بقبح التجرّي فراراً من الالتزام باستحقاق العقاب ، وجعلوا ذلك الدليل العقلي مسوقاً لاثبات القبح الموجب لاستحقاق العقاب. وأجابوا عنه بامكان ارتفاع القبح بأمر غير اختياري ، وهو عدم مصادفة

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٣٤ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٤٢ وما بعدها.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٤٤.

١٥١

القطع للواقع ، فورد عليهم الإشكال هنا بأنّه يمكن أن تكون الجهة الواقعية المشتملة على الحسن رافعة لقبح التجرّي ، فاحتاجوا إلى الجواب بالفرق بين المقامين بما أشار إليه الشيخ قدس‌سره من أنّه يظهر بالتأمّل الذي شرحه شيخنا قدس‌سره ، وحاصله : أنّ كلامنا في ذلك المقام كان عبارة عن دعوى كون ما هو خارج عن الاختيار الذي هو عدم مصادفة الواقع مؤثّراً في رفع القبح الطارئ على التجرّي ، وكلامنا في هذا [ المقام ] هو عبارة عن دعوى أنّ الجهة الواقعية أعني جهة الحسن التي هي ملاك الوجوب الواقعي لمّا لم تكن معلومة وكانت غير ملتفت إليها ، لم يعقل أن تكون مؤثّرة في الحسن كي يكون ذلك الحسن كاسراً لقبح التجرّي.

ولا يخفى أنّ جميع هذه التكلفات إنّما نشأت عمّا أشرنا إليه من دعوى كون حكم العقل بقبح التجرّي علّة لاستحقاق العقاب ، فلذلك احتاجوا إلى إنكار ذلك القبح ، ولكن حسبما عرفت فيما تقدّم أنّ حكم العقل بقبح التجرّي ينبغي أن يعدّ من المسلّمات ، إلاّ أنّه لا أثر له في استحقاق العقاب ، وأنّ أقصى ما فيه أن يكون موجباً لاستحقاق الذمّ واللوم عند العقلاء.

قوله : وأمّا ما في دعواه الثالثة من أنّ التجرّي لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها : أنّ التجرّي لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتّى يتداخل العقاب ... الخ (١).

لم يتّضح لنا مسلك صاحب الفصول قدس‌سره في مسألة التجرّي ، فإنّه إن كان يقول بحرمته شرعاً في قبال الحرمة الواقعية ، اجتمعت الحرمتان حينئذ في صورة المصادفة ، لكن لا وجه للحكم بتداخل عقابيهما ، بل كان اللازم حينئذ هو استحقاق كلا العقابين ، مضافاً إلى ما تقدّم من الإشكالات الواردة على الالتزام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٥٥.

١٥٢

بحرمة التجرّي تعبّداً.

وإن لم يكن قائلاً بالحرمة التعبّدية وكان قائلاً باستحقاق العقاب على التجرّي ، توجّه عليه أنّه لا وجه لاستحقاق العقاب على التجرّي إلاّما تقدّمت الاشارة إليه في المباحث السابقة من أنّ مدار استحقاق العقوبة وملاكها متحقّق في من قطع بالحرمة وارتكب ، سواء صادف الواقع أو لم يصادف ، فلا يكون في البين إلاّعلّة واحدة لاستحقاق العقاب وهي متحقّقة في كلّ من المقامين بنسبة واحدة ، فلا معنى لقوله حينئذ إن صادف المعصية تداخل عقاباهما (١) ، إذ ليس حينئذ إلاّعقاب واحد لا عقابان متداخلان.

ولو حملنا كلامه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ المراد مصادفة معصية أُخرى غير التي قطع بها ، فإن قلنا إنّ تلك الحرمة الواقعية ـ أعني الغصبية ـ تتنجّز ولو بالقدر المشترك بالقطع بالخمرية ، كان اللازم استحقاق عقابين ، أحدهما لجنس التحريم المفروض تنجّزه ، والآخر للتجرّي في الخمرية المفروض كونه علّة لاستحقاق عقاب ما قطع به ، ولا وجه لتداخل العقابين ، فلا محصّل لوحدة العقاب حينئذ.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من توجيه وحدة العقاب ، فكأنّه مبني على أنّ التجرّي في حدّ نفسه لا يوجب استحقاق العقاب ، لكن القطع بالخمرية المفروض خطؤه ومصادفة الغصبية ، يوجب تنجّز القدر المشترك بينهما ، فتكون النتيجة حينئذ هي استحقاق عقاب أقلّهما ، فلاحظ وتأمّل.

تنبيه : ينبغي زيادة تنبيه ثالث ، وهو أنّا وإن قلنا بعدم حرمة التجرّي ولا باستحقاق العقاب عليه ، إلاّ أنّه يكون مخلاًّ بالعدالة ، وهل يوجب الفسق ، أو لا

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٧ / التنبيه الرابع من تنبيهات مقدّمة الواجب ، سطر ٣٤.

١٥٣

فيكون واسطة بين العدالة والفسق ، بمعنى أنّه لا عادل ولا فاسق؟ والوجهان مبنيان على أنّ الفسق هو مجرّد عدم العدالة ، أو أنّه عبارة عن ارتكاب المعصية الواقعية.

كما أنّه بقيت أبحاث ومناقشات في مسألة التحسين والتقبيح وقاعدة الملازمة وما ينقل عن الأخباريين فيما علّقته على الدرس لم يسعني فعلاً نقله إلى هنا.

قوله : المبحث الخامس : ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدّمات العقلية. وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة ... الخ (١).

من المعروف أنّ الأدلّة في الفقه أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل (٢). وقد وقع الكلام في هذا الأخير ، فأنكره جماعة من المحدّثين ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٥٧.

(٢) [ وجدنا ورقة منفصلة كأنّها فهرسة للمطالب التي كان قدس‌سره ينوي بحثها ، وإليك نصّ ما في الورقة ] :

هل في الأحكام العقلية وجوب واستحباب؟

لو قلنا بالانتقال إلى الحكم الشرعي هل يكون المنتقل إليه هو الوجوب الشرعي أو الاستحباب الشرعي؟

هل الانتقال من التحسين العقلي أو الانتقال من علّته التي هي المصلحة والمفسدة؟

لماذا يجب اللطف على الحكيم في عباده بأمرهم بما فيه المصلحة؟ هل لأنّ ذلك حسن أو لأجل أنّه ملازم لحكمته أو أنّ تركه مناقض لها؟

هل يدرك العقل الصلاح في أمر الشارع أو لا؟ ولا أقل من كونه كسائر الأفعال ربما

١٥٤

والمقصود منه أمران :

الأوّل : بحث الملازمات العقلية ، مثل ملازمة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها ، ومثل ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، ومثل ملازمة وجود أحد التكليفين من الوجوب والحرمة لعدم الآخر عند الاجتماع ، وإن شئت فارجعه إلى حكم العقل بعدم اجتماع الضدّين أو النقيضين.

وعلى كلّ حال ، أنّ المستدلّ لو استدلّ على وجوب هذا الفعل بأنّه مقدّمة للفعل الآخر لكونه متوقّفاً عليه ، وقد علمنا وجوب ذلك الفعل الآخر فانتقلنا من وجوبه إلى وجوب مقدّمته بعد فرض ثبوت الملازمة عقلاً بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، فهل لأحد أن يناقشه في ذلك بأنّ « دين الله لا يصاب بالعقول » (١) كلاّ ثمّ كلاّ. نعم يمكن أن يناقشه في صغريات هذه المقدّمات ، بإنكار الملازمة بين الوجوبين ، أو إنكار وجوب المقدّمة ، وهذه مناقشات أُخرى لا دخل لها بحجّية العقل في الأحكام الشرعية.

الأمر الثاني : باب التحسين والتقبيح العقليين ، ودعوى الملازمة بين حكم العقل بالقبح والحسن وحكم الشرع بالوجوب أو الحرمة من باب لطفه بعباده في إيصالهم إلى ما هو الحسن ومنعهم عمّا هو القبيح.

ولا يبعد مناقشة الأخباريين في هذا الأمر الثاني من الأدلّة العقلية ، بمنع حكم العقل بالتحسين والتقبيح أخذا ممّا عليه الأشاعرة ، أو منع الملازمة بين

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣ / ٤١ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ٦ ح ٢٥ ، وفيهما : « بالعقول الناقصة ».

١٥٥

حكم العقل وحكم الشرع بناءً على عدم تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، أو منع قاعدة اللطف.

وعلى كلّ حال ، أنّه قد حقّق في محلّه (١) محصّل الحكم الشرعي تكليفياً كان أو وضعياً ، وأنّه إنّما يكون بجعل الشارع ، وأنّه لا وجود له واقعاً قبل جعله. أمّا الأحكام العقلية فمنها ما يسمّونه المستقلاّت العقلية ، مثل حكمه بمحالية اجتماع النقيضين ، أو التفكيك بين المتلازمين ، أو تقدّم المعلول على علّته ، ونحو ذلك من أحكامه العقلية.

ولكن من الواضح أنّ حكم العقل بذلك ليس هو على وتيرة ما سبق من الحكم الشرعي بحرمة الشيء من كون الحاكم هو الجاعل لذلك الحكم ، وأنّه لا وجود له قبل جعله ، إذ من الواضح أنّ عدم إمكان اجتماع النقيضين متحقّق وثابت في الواقع ، لا أنّ العقل يجعله من قبل نفسه كما يجعل الشارع الحرمة ، فليس للعقل في ذلك إلاّالادراك والتصديق والموافقة على تطبيق كبرى المحال على اجتماع النقيضين. فهل أنّ حكمه بالحسن والقبح من قبيل حكمه بمحالية اجتماع النقيضين في أنّه لا نصيب فيه للعقل إلاّالادراك والانكشاف ، كما أنّ طول الشيء أمر واقعي وليس للبصر فيه إلاّالادراك والانكشاف ، أو أنّ حكمه بذلك من قبيل حكم الشارع بحرمة الشيء ليكون الحسن أو القبح مجعولاً عقلاً كما تكون الحرمة مجعولة شرعاً ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل ليس في البين إلاّميل العقل لما نسمّيه حسناً واشمئزازه عمّا نسمّيه قبيحاً ، أو عن ذلك الميل ننتزع عنوان الحسن فنقول : إنّه حسن عقلاً ، أو عن ذلك الاشمئزاز ننتزع عنوان القبح فنقول إنّه قبيح

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٣٧٨ وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك تأتي في المجلّد التاسع من هذا الكتاب في الصفحة : ١٤٦ وما بعدها.

١٥٦

عقلاً.

ثمّ نعود ونقول : إنّ ذلك الميل أو ذلك الاشمئزاز لا يكون منه بلا جهة توجبه ، وتلك الجهة هي ما في الأوّل من الصلاح وما في الثاني من الفساد ، ونعبّر عن ذلك بجهات الحسن والقبح ، وحينئذ يتوجّه السؤال في كثير ممّا يقبّحه العقل مثل الترجيح بلا مرجّح ، أو الاقدام على فعل بلا غاية تترتّب عليه ، فيقال ما هي المفسدة في ذلك الفعل ، وهل هي شخصية بالنسبة إلى الفاعل أو هي نوعية ، فتؤثّر في النوع وإن لم يكن لها في هذا الشخص الفاعل أثر أصلاً ، هذه جهات ينبغي البحث عنها وحلّها.

والذي يمكننا القول به فعلاً : هو أنّه ليس في الواقع إلاّالمصالح والمفاسد والعقل بعد اطّلاعه على صلاح هذا الشيء يميل إليه ، وبعد اطّلاعه على فساد ذلك الشيء الآخر ينفر عنه.

ولنا أن نقول : إنّ ذلك الميل وذلك الاشمئزاز والنفرة ليس من آثار الصلاح والفساد ابتداءً ، بل بعد كون الشيء ذا صلاح في الواقع أو كونه ذا فساد في الواقع يكون الأوّل حسناً واقعاً ويكون الثاني قبيحاً واقعاً ، والميل من آثار الحسن الواقعي ، والنفرة من آثار القبح الواقعي ، والعقل بعد اطّلاعه على فساد هذا يقول إنّ هذا فاسد واقعاً ، وكلّ ما هو فاسد واقعاً يكون قبيحاً واقعاً ، فهذا قبيح واقعاً وهكذا في ناحية الصلاح والحسن ، فليس للعقل إلاّالتطبيق ، أعني إحراز الصغرى وانطباق الكبرى عليها وأخذ النتيجة التي هي عبارة عن الحكم على الأصغر بالأكبر ، فهو يحكم ويقول إنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح ، فيكون حاله في الحسن والقبح كحاله في محالية اجتماع النقيضين ، فيقول إنّ قيام زيد وعدم قيامه نقيضان ، وكلّ متناقضين يمتنع اجتماعهما ، فقيام زيد وعدم قيامه يمتنع

١٥٧

اجتماعهما ، فهو أيضاً يحكم ويقول إنّ قيام زيد وعدمه يمتنع اجتماعهما ، لكن ذلك الحكم وهذا الحكم ليس جعلاً منه كما يجعل الشارع الوجوب ، بل هو تصديق واستكشاف ، ولا يكون إلاّمن الكشف والطريقية لا من باب الجعل والموضوعية ، فتأمّل.

والذي تلخّص : هو أنّ في الحسن والقبح العقليين احتمالات أربعة :

الأوّل : كونهما واقعيين ، والأوّل ناشٍ عن الصلاح في الشيء والثاني ناشٍ عن الفساد فيه ، وليس للعقل في ذلك إلاّالإدراك كما يدرك نفس الصلاح والفساد.

الثاني : أنّ الحسن العقلي والقبح العقلي عبارة عن الانفعال ، أعني ميل العقل ونفرته الناشئين عن إدراك المصلحة في الأوّل والمفسدة في الثاني.

الثالث : كون الحسن العقلي عبارة عن حكم العقل بأنّ الشيء حسن ، لا من باب تطبيق الكبرى على الصغرى ، بل من باب الجعل والإنشاء ، نظير جعل الشارع الأحكام الوضعية ، فيكون حكم العقل بحسن الشيء عبارة عن جعله حسناً كحكم الشارع بطهارة الشيء ، وحكم العقل بقبح الشيء جعله قبيحاً كحكم الشارع بنجاسة الشيء.

الرابع : كون الحسن العقلي عبارة عن حكم العقل بلزوم الاتيان بما فيه المصلحة ، وكون القبح عبارة عن حكمه بلزوم ترك ما فيه المفسدة ، فيكون من سنخ الأحكام التكليفية ، نظير حكم الشارع بالوجوب وحكمه بالتحريم أعني بذلك الأمر والنهي الشرعيين ، وهل يتأتّى في الأوّل ـ أعني أمر العقل ـ الوجوب والاستحباب ، وفي الثاني ـ أعني نهي العقل ـ التحريم والكراهة ، فيه تأمّل.

ثمّ بعد هذا يتوجّه السؤال إلى الأشعري المنسوب إليه عدم حكم العقل

١٥٨

بالحسن أو القبح ، أو إلى المعتزلي المنسوب إليه أنّ العقل يحكم بذلك ، فيقال له أيّ عقل هو المخبر عنه بأنّه يحكم أو أنّه لا يحكم ، هل هو عقل نفسه وعقل غيره أو هو عقل نفسه فقط ، أو أنّ هناك محكمة خارجة عنه وعن غيره. وبعد وضوح بطلان الأوّل والثالث وتعيّن الثاني ، يتوجّه السؤال هل إنّ عقل الشخص هو غيره أو هو نفسه ، ويكون المحصّل هو أنّ عقلي يحكم بالحسن أو أنّي أنا الحاكم ، فيكون المخبر عنه هو عقل المخبر أو هو نفس المخبر ، ولا يكون حال الخلاف في أنّ هذا الفعل حسن أو أنّه قبيح إلاّكحال الخلاف بين الأشخاص في المحسوسات كالشبح من بعيد في أنّه جماد أو حيوان ، أو كحال الخلاف بين أهل الخبرة في أنّ هذه الدار ما قيمتها ، أو أنّ المرض الفلاني ما دواؤه.

بل لنا أن نقول : إنّه بعد أن رجع المطلب إلى أساس الصلاح والفساد ، فلنا أن نقول ليس الصلاح إلاّما فيه النفع ، وليس الفساد إلاّما فيه الضرر ، ويكون حكم العقل بقبح هذا أو حسن ذاك من مقولة أحكامه في النفع والضرر بالاقدام على الأوّل والفرار من الثاني. وهذه جهات طبيعية موجودة في الحيوانات ، فإنّها تقدم على الماء فتشربه ، وتفرّ من النار المحرقة لها. نعم يمتاز الإنسان عنها بأنّه يدرك النفع والضرر في غير المحسوسات ، وما إقدامه على الفحص عن النبوّة مثلاً أو عن التكليف الإلزامي إلاّمن هذا السنخ ، أعني خوف الضرر الذي هو العقاب والنار الكبرى ، والميل إلى النفع الذي هو الثواب ، بل هكذا حاله في الاطاعة والمعصية.

ثمّ إنّه ربما كان أو كثيراً ما يكون قبح الشيء من جهة التعارف مثل التعرّي أمام الملأ ، أو من جهة الدين كما تراه في ذبح الحيوان المأكول وذبح غير المأكول غير المؤذي بلا فائدة تترتّب على ذبحه ، فهل هو قبيح في نفسه والشارع المالك

١٥٩

الحقيقي قد جوّز بعضه ، أو أنّه ليس بقبيح في نفسه ، وعلى الأوّل فلماذا يفعله من لا يعتقد بالدين بل تعدّوا إلى ذبح البشر وأكل لحومهم ، فهل يمكننا أن نقول إنّ أمثال أُولئك ليسوا بعقلاء أو أنّهم بمنزلة الوحوش الضارية ، فإذن لا يكون العقل إلاّ كسبياً من الدين أو المدنية ، لا أنّه جبلّي في طبيعة البشر مع قطع النظر عن التعليمات الدينية أو المدنية ، أو نقول إنّ أمثال هؤلاء يتخيّلون أنّ غيرهم أعداء لهم وأنّهم لو تمكّنوا لأعدموا وجودهم ، ولأجل ذلك يقدمون على قتل أُولئك الأعداء بزعمهم وأكل لحومهم.

والغرض من هذه الاطالة أنّا لم نجد حتّى الآن فعلاً يمكن الجزم باتّفاق البشر على قبحه الذاتي مع قطع النظر عن الأُمور التي يكتسبها البشر من الأديان أو قوانين المدنية حتّى مع قطع النظر عن كون الشخص متديّناً.

ولكن لنرتقي فوق ذلك ونقول : إنّ القبح الآتي من تعارف البشر باعتبار التعاليم المدنية مثل قبح كشف العورة ، لماذا يكون قبيحاً بعد التعارف ، وبعبارة أُخرى كيف كان الخروج عن المتعارف قبيحاً ، فذلك شاهد على تحقّق القبح العقلي مع قطع النظر عن التعارف المدني وعن التعارف الديني ، ولا ينتقض بما نقل من عمل جمعية العراة في ألمانيا ، فيقال هل هم عقلاء ، أو يقال إنّهم أرادوا قلب هذا التعارف ليرتفع القبح الآتي من الشذوذ عن المتعارف ، فهم في بادئ الأمر يرتكبون هذا الفعل القبيح الناشئ قبحه من الشذوذ ، إمّا لعدم المبالاة ، أو أنّ قصدهم بذلك إخراجه عن الشذوذ الموجب لقبحه.

ويمكن أن يقال : إنّ الشذوذ والخروج عن قواعد المحيط ليس من باب القبح العقلي ، بل من باب المفسدة ، إذ لا أقل من تعريض الشاذّ نفسه لمقت الوسط والمحيط وهتكهم عرضه ، وفي ذلك من الفساد والضرر عليه ما لا يخفى ،

١٦٠