أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

التكليف هو إرادة شرب ما هو معلوم الخمرية ، بأن يمنعه عن إرادة الشرب المذكور ولو بنحو لحاظ الإرادة آلة لما تتعلّق به من الشرب المذكور ، المفروض كونه شرب معلوم الخمرية على نحو يكون العلم تمام الموضوع.

وبذلك يتمّ ما أراده شيخنا قدس‌سره من أنّ أخذ هذه النتيجة موقوف على اجتماع هاتين المقدّمتين ، فإنّا لو سلّمنا المقدّمة الأُولى من أنّ إرادة المكلّف تتعلّق بشرب ما هو معلوم الخمرية عنده أو بما علم أنّه شرب خمر ، لكن منعنا المقدّمة الثانية وقلنا إنّ التكليف لا يتعلّق بنفس تلك الإرادة بل يتعلّق بشرب الخمر ، لم تتمّ النتيجة المذكورة. كما أنّا لو سلّمنا المقدّمة الثانية وهي أنّ التكليف يتعلّق بإرادة المكلّف ، لكن منعنا المقدّمة الأُولى ، وقلنا إنّ إرادة المكلّف إنّما تتعلّق بنفس شرب الخمر الواقعي ، على وجه يكون كونه معلوم الخمرية غير داخل تحت الارادة ، بل يكون من قبيل الداعي لها ، لم تتمّ النتيجة المذكورة.

وبالجملة : أنّا نحتاج إلى إثبات أنّ إرادة المكلّف إنّما تتعلّق بما علم أنّه شرب خمر ، وإلى إثبات أنّ التكليف إنّما يتعلّق بإرادة المكلّف ، ليكون الحاصل هو أنّ النهي يتعلّق بالمنع من إرادة المكلّف ما علم أنّه شرب خمر ، ليكون ذلك جامعاً بين العلم المصيب والعلم المخطئ.

لا يقال : يكفي في هذا القدر الجامع أن نقول في المقدّمة الثانية إنّ النهي تعلّق بما علم أنّه شرب خمر ، من دون توسّط تعلّقه بإرادة المكلّف.

لأنّا نقول : إنّه لو ثبت ذلك لكان كافياً في المطلوب ، لكنّه يكون دعوى بلا دليل ، إذ عمدة الدليل هو كون إرادة المكلّف تتعلّق بما هو المعلوم ، وأنّ إرادة المولى تتعلّق بتحريك إرادة العبد أو بالمنع عنها ليتمّ أنّ إرادة المولى في النهي قد تعلّقت بالمنع من إرادة المكلّف المتعلّقة بما علم أنّه شرب خمر ، هذا.

١٢١

ولكن يمكن أن يقال : إنّا لو سلّمنا المقدّمة الأُولى فلا نحتاج في المقدّمة الثانية إلى القول بكون النهي متعلّقاً بإرادة المكلّف ، بل نقول إنّ النهي يكون مانعاً عمّا تتعلّق به إرادة العبد بإظهار طلب تركه ، فيكون المطلوب بالنهي هو ترك الشرب الذي علم المكلّف أنّه شرب خمر ، فلا تكون هذه المقدّمة الثانية محتاجة إلى شيء جديد غير مألوف ، بل نقول إنّ النهي على ما هو المعروف من كون الغرض منه أن يكون مانعاً ممّا يمكن تعلّق إرادة المكلّف به ، والذي يمكن تعلّق إرادة المكلّف به هو ما علم أنّه شرب خمر ، فيكون الممنوع عنه هو هذا ، وحيث إنّ حاصل المقدّمة الأُولى هو أنّ إرادة العبد إنّما تتعلّق بما يعلم أنّه شرب خمر على وجه يكون العلم تمام الموضوع ، يكون ذلك هو الممنوع عنه في النهي.

وكيف كان ، لابدّ لنا من إبطال كلا المقدّمتين فنقول بعونه تعالى : إنّه لا إشكال في فساد المقدّمة الأُولى ، فإنّ الفعل الخارجي الصادر من المكلّف مثل شرب الخمر بالقياس إلى كلّ من الآثار والفوائد المترتّبة عليه مثل الإسكار ، ومن العناوين الصادقة عليه مثل كونه شرب خمر ، لا يكون مقيّداً بشيء منها ، بمعنى أنّ متعلّق إرادته لا يكون هو عنوان الإسكار ولا يكون هو عنوان شرب الخمر ، فإنّ هذه الجهات إنّما تؤثّر في تحريك إرادته نحو ذلك الفعل الخارجي بوجودها العلمي ، بمعنى أنّه إنّما يريد شرب هذا المائع لعلمه بأنّه مسكر وبأنّه شرب خمر ، فهذه العناوين لا يعقل أن تكون تحت إرادته ومتعلّقة للارادة الخارجية منه ، لكونها بوجودها العلمي في مرحلة داعي تلك الارادة ، ولا يعقل أن تكون واقعة تحت الارادة الخارجية التي هي المحرّكة لعضلاته ، بل إنّ متعلّق تلك الارادة الخارجية لا يكون إلاّشرب ذلك المائع بأي عنوان اتّفق ، وإن كان هو إنّما أراده لعلمه بأنّه مسكر وبأنّه شرب خمر.

١٢٢

وما يقال من أنّ العنوان الفلاني أُخذ بنحو الداعي أو بنحو التقييد في الفعل الفلاني ، ليس محلّه الأفعال الخارجية مثل شرب هذا المائع الذي يعلم أنّه مسكر وشرب خمر ، أو إكرام هذا الشخص الذي يعلم أنّه صديقه ، أو ضرب ذلك الشخص الذي يعلم أنّه عدوّه ، فإنّ هذه العناوين في مثل تلك الأفعال الخارجية لا تكون إلاّفي مرحلة الداعي ، وأنّ وجودها العلمي هو المؤثّر في تعلّق الارادة بايجاد ذلك الفعل الخارجي المتعلّق بذلك الموجود الخارجي ، ويستحيل أن يتقيّد الفعل الخارجي كالضرب الواقع على زيد بكونه عدوّاً له مثلاً.

نعم ، إنّ ذلك الترديد إنّما يكون في الأفعال الانشائية مثل التمليك ونحوه من الإذن ، ومن نيّة الامتثال ، فلو اعتقد أنّ هذا الشخص صديقه أو أخوه وملّكه شيئاً ، أو أذن له في دخول داره ، أو اعتقد أنّ الأربع ركعات بين المغرب والعشاء واجبة عليه ففعلها ، ففي مثل ذلك يصحّ أن يقال إنّه يملّك هذا الشخص بداعي أنّه أخوه فلو صادف خلاف الواقع يكون التمليك للشخص الحاضر واقعاً. كما يصحّ أن يقال إنّه تمليك له على أنّه أخوه ، فإنّ التمليك والإذن والامتثال ونحوها قابلة للتعليق والتقييد بالعنوان ، بخلاف الفعل الخارجي مثل الشرب والاكرام والضرب ونحوها فإنّها غير قابلة للتقييد ، فلا يكون العنوان المقصود في مثل ذلك إلاّمن قبيل الدواعي والخطأ في التطبيق ، مع وقوع الفعل خارجاً على ما وقع عليه ، أيّاً كان ذلك الذي وقع عليه ، هذا حال عنوان مثل شرب الخمر.

ومنه يتّضح بطريق أولى حال نفس العلم بذلك العنوان ، فإنّ العلم بأنّ هذا الفعل شرب خمر لا يكون إلاّمن مقدّمات الارادة ، ولا يكون واقعاً منها إلاّموقع الداعي ، ولا يعقل أن يكون واقعاً تحت الارادة ، فهو وإن كان تمام الموضوع في تحريك الارادة ، إلاّ أنّه فوقها وهو العلّة في وجودها ، لا أنّه يكون واقعاً تحتها

١٢٣

على وجه تكون معلومية شرب الخمر واقعة تحت الارادة ، ليكون المراد هو ما علم كونه شرب خمر ، هذا حال المقدّمة الأُولى.

ومنه يتّضح لك الحال في المقدّمة الثانية ، فإنّ طلب الطالب ونهيه من الأفعال الاختيارية له ، والغاية له من ذلك الفعل الاختياري ـ أعني إيجاد ذلك الأمر أو ذلك النهي ـ والفائدة المترتّبة عليه هو تحريك إرادة المكلّف نحو الفعل بإيجاد الداعي له إلى ذلك الفعل ، فهي ـ أعني إرادة العبد نحو الفعل ـ لا تكون بالنسبة إلى إرادة المولى إلاّواقعة في مرحلة الداعي إلى إيجاد إرادته التي هي الطلب أو النهي ، فكيف يعقل أن تكون نفس تلك الارادة من العبد متعلّقة لارادة المولى ، وذلك واضح لا ريب فيه ، هذا ما أفهمه.

أمّا ما اشتمل عليه هذا التحرير ، وكذلك التحرير المطبوع في صيدا (١) من التطويل في بيان هاتين المقدّمتين وفي بيان ردّهما ، فممّا لم أتوفّق لفهمه ، وهناك عبائر لا تخلو من الخلط بين الداعي والقيد ، فراجع وتأمّل.

قوله : مع أنّ هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصلّ وتخلّف علمه عن الواقع ، فإنّ البيان المتقدّم لا يجري في هذا القسم من التجرّي كما هو واضح (٢).

الظاهر أنّ هذه الطريقة لا تتأتّى في التجرّي الذي يكون بنحو الشبهة الحكمية ، سواء كان في الواجبات أو كان في المحرّمات ، فإنّ المدار في هذه الطريقة على كون الفعل الذي يتجرّى به له تعلّق بموضوع خارجي ، وكان ذلك الموضوع هو مورد الخطأ. أمّا إذا كان مورد الاشتباه هو نفس الحكم الشرعي ، بأن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤١.

١٢٤

قطع بوجوب الفعل الفلاني فتركه ثمّ تبيّن أنّه ليس بواجب ، أو قطع بحرمة الفعل الفلاني فارتكبه ثمّ تبيّن أنّه ليس بحرام ، فإنّ أمثال [ ذلك ] لا تتأتّى فيه المقدّمة الثانية التي هي عبارة عن كون متعلّق التكليف هو إرادة المكلّف واختياره لما هو معلوم لديه ، وإن تأتت فيه المقدّمة الأُولى ، بأن يكون علمه بحرمة ذلك الفعل موضوعاً لمتعلّق إرادته وقصده ، لكن لا يعقل أن يكون التحريم الشرعي متعلّقاً بتلك الارادة المتعلّقة بما هو معلوم الحرمة المذكورة على ما شرحه قدس‌سره في المقدّمة الثانية ، وكذلك الحال لو قلنا بأنّ المقدّمة الثانية هي عبارة عن كون النهي متعلّقاً بما تتعلّق به إرادة المكلّف الذي هو معلوم الحرمة ، إذ لا يعقل تعلّق الحرمة بما هو معلوم الحرمة.

وبالجملة : أنّ هذه الطريقة لا تتأتّى إلاّفيما يكون من الأفعال له تعلّق بموضوع خارجي ، سواء كان في الواجبات كما لو قطع بالوقت فلم يصلّ ، أو قطع بحدوث الآية فلم يصلّ ، ثمّ انكشف الخلاف ، أو كان في المحرّمات كما في المثال المعروف ، أعني القطع بكون هذا خمر فشربه.

وملخّص تأتّي المقدّمتين في ذلك : هو ما أشار إليه الأُستاذ قدس‌سره من أنّ في مثل ذلك لا يكون وجود ذلك الموضوع ولا تعلّق الفعل به راجعاً إلى اختيار المكلّف ، فالذي يبقى لاختيار المكلّف في مثل شرب الخمر إنّما هو قصده واختياره لما علم أنّه شرب خمر ، على نحو يكون ذلك العلم هو تمام الموضوع فإنّ حركته وإن كانت إلى الخمر الذي يراه خمراً واقعياً ، ولكن الحقيقة أنّه متحرّك لذلك عن علمه بأنّه خمر ، فيكون المراد والمقصود والمختار إنّما هو شرب ما علم أنّه خمر لا شرب الخمر الواقعي ، فإنّ ذلك خارج عن اختياره ، هذا حال ما يبقى اختيارياً للمكلّف.

١٢٥

ويتبعه ما يتعلّق به التكليف ، فإنّه تابع لاختيار المكلّف ولما يمكن أن يقع تحت قصده وإرادته ، فراجع ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، وأنت إذا تأمّلته تعرف اختصاص هذه الطريقة بما يكون من الأفعال له تعلّق بموضوع خارجي دون ما لم يكن كذلك وانحصرت جهة الخطأ فيه في ناحية القطع بالحكم الشرعي على نحو الشبهة الحكمية ، من دون فرق في المقامين بين الواجبات والمحرّمات.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ التكليف إنّما يتعلّق بما يكون داخلاً تحت اختيار المكلّف دون ما هو خارج عن اختياره ، فلو قال صلّ عند الظهر ، فالذي هو داخل تحت اختيار المكلّف هو نفس الصلاة ، وأمّا كون الزمان الذي تقع فيه هو الظهر ، فليس هو أمراً اختيارياً له ، بل يمكن أن يكون ظرفاً لها إن صادف أنّ الزمان الذي أوقعها فيه كان ظهراً في الواقع ، وإن أخطأ لم يكن ذلك الزمان أعني الظهر ظرفاً لها ، ولأجل ذلك أحلنا الواجب المعلّق وأرجعناه إلى المشروط الذي يؤخذ الزمان فيه مفروض الوجود كسائر شروط التكليف ، وحاصل هذه الدعوى مأخوذ ممّا أفاده الشيخ قدس‌سره من الحصر في الوجوه الأربعة في المثال المشهور.

والحاصل : أنّ المولى لو قال لعبده : لا تشرب الخمر ـ مثلاً ـ فالذي هو باختيار المكلّف وداخل تحت قدرته إنّما هو القصد إلى شرب الخمر ، بمعنى أنّه يختار الشرب عن علم وعمد إلى أنّه شرب خمر ، وأمّا كون المشروب خمراً واقعياً فذلك أمر خارج عن اختياره ، فلا يكون الداخل في حيّز التكليف إلاّذلك الأمر الاختياري ، أعني القصد إلى شرب الخمر عن علم بأنّه شرب خمر ، وعن عمد إليه.

وهذا المقدار هو الذي يتعلّق به التكليف ، وهو بعينه موجود فيما لو أخطأ

١٢٦

القطع وكان ما شربه خلاً ، فيكون داخلاً في قوله لا تشرب الخمر ، فإنّه لا يفقد إلاّ مصادفة ما قطع بكونه خمراً للواقع ، وهو أمر خارج عن اختياره ، فيكون أجنبياً عن ذلك التكليف المتوجّه إليه ، فإنّ مناط صحّة التكليف هو الاختيار والعلم ، وهما حاصلان ، دون المصادفة المفروض عدم حصولها.

والجواب : أنّ مناط صحّة التكليف وإن كان هو الاختيار والعلم كما ذكر ، إلاّ أنّهما ليسا على نحو الموضوعية والنظر الاستقلالي بحيث يكون المنهي عنه هو اختيار شرب الخمر عن علم ، بل هو على نحو الطريقية واللحاظ الآلي ، فالمنهي عنه هو نفس شرب الخمر ، وأمّا اختياره وقصده والعلم به فهي عناوين ملحوظة باللحاظ الآلي توصّلاً إلى نفس المتعلّق ، وحينئذ يكون النهي عن شرب الخمر عبارة عن المنع عن شرب ما هو خمر واقعاً ، ولا ربط لذلك بشرب الخل المعتقد كونه خمراً ، وإن كان شربه عن قصد إلى شرب الخمر وعن اعتقاد بأنّه شرب خمر. ثمّ قال قدس‌سره في توضيح هذه الجملة ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه :

وتوضيح ذلك : أنّ جميع القضايا الأحكامية راجعة إلى القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على فرض وجود الموضوع ، ومن الواضح أنّ إحراز الحكم حينئذ يكون متوقّفاً على إحراز موضوعه ، وإلاّ فلا أثر لمجرّد وجوده الواقعي ، فالسعي إلى امتثال التكليف المتعلّق بموضوع خارجي يتوقّف على إحراز ذلك الموضوع والعلم به ، وإلاّ فلا يعقل أن تتعلّق به الارادة ، كما هو الحال في جميع الموضوعات الخارجية ، فإنّ وجود الأسد واقعاً في المكان الخاصّ لا يؤثّر في إرادة الهرب منه إلاّمع العلم بذلك ، كما أنّ وجود الماء في المكان المخصوص لا يؤثّر في إرادة السعي نحوه لمن كان عطشاناً إلاّمع العلم بذلك.

وبالجملة : أنّ توقّف الارادة على العلم بتحقّق الموضوع من الأُمور

١٢٧

الوجدانية غير القابلة للانكار ، وهذا العلم بالنسبة إلى الارادة يكون على نحو الموضوعية والطريقية ، بمعنى كون العلم علّة أو بمنزلة العلّة للانبعاث.

وهذه المقدّمة الأُولى من المقدّمتين اللتين عليهما يبتني أساس القول بدخول التجرّي تحت عموم الخطاب الواقعي ، وحاصله : أنّ الانبعاث نحو الشيء يتوقّف على العلم بتحقّقه ، على وجه يكون العلم به بالنسبة إلى تلك الارادة من قبيل العلّة بالنسبة إلى معلولها ، فيكون معتبراً على نحو الموضوعية.

والمقدّمة الثانية : أنّ تعلّق الفعل المأمور به أو المنهي عنه بموضوع خارجي يوجب كون ذلك الموضوع الخارجي أجنبياً عن دائرة التكليف ، بل لابدّ أن يكون مأخوذاً في التكليف على نحو يكون مفروض الوجود كما هو الشأن في جميع شرائط التكليف ، ولا يعقل أن يتعلّق التكليف بالفعل المقيّد بذلك الموضوع الخارجي بأي نحو من أنحاء التقييد ، سواء كان من قبيل تقييد الفعل بالمفعول به أو كان من قبيل تقييده بالظرف ، أو غير ذلك من أنحاء التقييدات الناشئة عن تعلّق الفعل بما تعلّق به من الموضوعات الخارجية ، فإنّ جميع تلك المتعلّقات إنّما تكون مأخوذة في التكليف على نحو مفروض الحصول ، ولا تكون مأخوذة قيداً في الفعل المتعلّق به ذلك التكليف ، ولأجل ذلك أبطلنا الواجب المعلّق وأرجعناه إلى الوجوب المشروط.

وحاصل الأمر : أنّ التكليف إذا كان متعلّقاً بفعل له تعلّق بموضوع خارجي يكون الداخل تحت حيّز التكليف ما هو راجع إلى اختيار المكلّف وداخل تحت قدرته ، وليس ذلك إلاّاختيار نفس الفعل وإرادته دون تعلّقه بذلك الموضوع الخارجي ، وبضميمة مدخلية العلم بذلك الموضوع الخارجي في انبعاث تلك الارادة ، ينتج أنّ التكليف إنّما يتعلّق بنفس اختيار ذلك الفعل الناشئ عن العلم

١٢٨

بتحقّق موضوعه ، وهو مشترك ومتحقّق في صورة خطأ القطع ، كما أنّه متحقّق في صورة إصابته ، هذا غاية توضيح مبنى القول بشمول الخطاب الواقعي لمورد التجرّي.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا المقدّمة الأُولى ففيها : أنّ الارادة وإن كانت متوقّفة على العلم بتحقّق الموضوع ، إلاّ أنّه إنّما يؤثّر فيها باعتبار أنّه طريق إلى متعلّقه ، لا باعتبار نفسه ، فليس العلم بالنسبة إلى الارادة من قبيل الموضوع بل من قبيل الطريق إلى متعلّقه ، فإنّ الهرب إنّما ينشأ عن نفس الأسد الذي يراه العالم بوجوده هناك كما يرى المحسوس ، لا أنّ نفس العلم بما أنّه علم يكون هو العلّة في الانبعاث إلى الهرب ، وهكذا الحال في غيره من الأمثلة. مضافاً إلى أنّ العلم ليس علّة للانبعاث نحو المعلوم ، وإنّما هو من قبيل الداعي ، ويكون خطؤه وعدم إصابته للواقع من قبيل تخلّف الداعي.

وأمّا المقدّمة الثانية ، ففيها : أنّ مناط التكليف وإن كان هو الاختيار ، إلاّ أنّه لا يكون متعلّقاً بنفس الاختيار ، بل بنفس ما تعلّق به الاختيار ، ويكون الاختيار في ذلك ملحوظاً باللحاظ الآلي إلى متعلّقه ، لا أنّه ملحوظ استقلالاً كي يكون هو المكلّف به ويكون التكليف متعلّقاً باختيار ما يراه شرب خمر كي يتمّ بذلك ما رامه من شمول الخطاب لمورد التجرّي ، فتأمّل.

قوله : الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلّق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارئة على ذلك الشيء المغيّرة لجهة حسنه وقبحه فيكون القطع بخمرية ماء موجباً لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه ... الخ (١).

إن كان المراد بالقبح المذكور هو ما يكون ملاكاً للحكم الشرعي ، وهو ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤١.

١٢٩

نعبّر عنه بالمصالح والمفاسد ، فلا ينبغي الريب في إمكانه ، لما عرفت من إمكان أخذ القطع بحكم أو موضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر ، لكن ذلك بمجرّد الإمكان غير نافع فيما نحن فيه ، إذ ليس هذا القبح في هذا المقام ممّا يستقلّ به العقل نظير قبح الظلم ، كي نستكشف حرمته بمجرّد حكم العقل بقبحه على ما حقّق في محلّه (١) من قاعدة الملازمة ، بل أقصى ما في المقام هو أنّ الشارع لو حكم بالحرمة مثلاً في هذا المقام لاستكشفنا المفسدة من حكمه المذكور ، بناءً على ما حقّق في محلّه (٢) من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد.

وحينئذ لابدّ من الدليل الدالّ على ثبوت الحرمة في هذا المقام بأن يقول الشارع : لا تشرب معلوم الخمرية ، على أن يكون العلم تمام الموضوع ، لكن يلزم منه أخذ العلم موضوعاً لحكم يماثل حكم متعلّقه ، فيلزم منه اجتماع المثلين ولو في نظر القاطع ، إلاّأن يلغي الحكم الأوّلي وهو حرمة شرب الخمر الواقعي ويقتصر على الحكم الثاني الذي كان موضوعه العلم بأنّه خمر على نحو تمام الموضوع ، وحينئذ تخرج المسألة عن باب التجرّي.

لكن الظاهر أنّه ليس المراد بالقبح المدّعى في هذا المقام الناشئ عن القطع بالحرمة ، هو القبح الذي يكون ملاكاً للأحكام الشرعية ، أو القبح الذي يكون مورداً لقاعدة الملازمة ، بل الظاهر أنّ مرادهم بذلك هو القبح المعصيتي ، بدعوى أنّ تعلّق القطع بكون هذا المائع خمراً مثلاً يوجب اتّصافه بكونه معصية ، ولا ريب في قبح المعصية عقلاً ، لكن من الواضح أنّ هذا الذي يدّعى من القبح المعصيتي ، سواء كان قبحاً فعلياً أو كان قبحاً فاعلياً ، سواء كان سارياً إلى نفس الفعل أو كان مقصوراً على الجهة الفاعلية ، لا يمكن أن يكون ملاكاً للحكم

__________________

(١ و ٢) لاحظ ما يذكره قدس‌سره في الحاشية الآتية في الصفحة : ١٥٤ وما بعدها.

١٣٠

الشرعي ، لما حقّق في محلّه (١) من أنّ قبح المعصية وكذلك حسن الطاعة أجنبي عن باب الملازمة ، وحينئذ لا يترتّب على القبح المذكور إلاّمحض العقاب ، لكن ذلك إنّما هو عند الاصابة وتحقّق العصيان واقعاً كما في مورد الاصابة ، أمّا في مورد الخطأ كما هو محلّ الكلام فلا ريب في عدم كونه معصية حقيقية ، بناءً على أخذ مخالفة التكليف فيها ، وأقصى ما في البين أنّ ذلك بحكم المعصية ، فيرجع الكلام حينئذ إلى الجهة الآتية (٢) وهي الاستدلال على استحقاق المتجرّي للعقاب بكونه بحكم العاصي ، وأين هذا ممّا أُريد بهذه الجهة التي نحن فيها من إثبات القبح المدّعى أنّه موجب للحرمة الشرعية بقاعدة الملازمة.

قوله : نعم ، يمكن ذلك بنتيجة الاطلاق والتقييد ـ إلى قوله ـ نعم قد يتّفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسناً ... الخ (٣).

فإنّ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى العصيان والاطاعة ، والاطلاق والتقييد وإن لم يمكن أن يكون لحاظياً إلاّ أنّه يكون ذاتياً ، بمعنى كون الخطاب متحقّقاً ذاتاً في كلّ من حالتي إطاعته وعصيانه وإن كان سابقاً في الرتبة على كلّ منهما على نحو تحقّق العلّة في حال وجود المعلول ، إلاّ أنّه قدس‌سره يريد بالقبح الفاعلي غير نفس العصيان ، وحينئذ يحتاج الاطلاق الذاتي فيه إلى دليل من قبيل متمّم الجعل ، والاستشهاد بمسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى ليس من جهة أخذ عدم عصيان النهي في متعلّق الأمر ، لأنّ ذلك ممّا لا مانع منه ، بل من جهة

__________________

(١) راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة ٣٦٢ وما بعدها.

(٢) وهي الجهة الثالثة في فوائد الأُصول ٣ : ٤٦ ، ويأتي تعليق المصنّف قدس‌سره عليها في الصفحة ١٣٤ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣.

١٣١

أخذ عدم القبح الفاعلي في نفس الصلاة ، فلاحظ وتأمّل.

والإنصاف : أنّ مقام الاطاعة والعصيان خارج عن كلّ من الاطلاق والتقييد الذاتي واللحاظي ، وأنّ مسألة الاجتماع أجنبية عن التقييد بعدم عصيان نفس الخطاب ، بل هي من وادي أخذ عدم عصيان خطاب في متعلّق خطاب آخر ، ففي حدّ نفسه لا مانع فيه من الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، نعم لمّا كان مضرّاً بقصد القربة كان راجعاً إلى القيود الذاتية لا اللحاظية.

قوله : فإنّ موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختصّ بذلك إنّما هو عنوان المتجرّي أو العالم المخالف علمه للواقع ـ إلى قوله ـ بأن يقال لا تشرب معلوم الخمرية ، فإنّ هذا العنوان يعمّ كلتا الصورتين ... الخ (١).

لا يخفى أنّ عنوان المتجرّي اصطلاحاً مختصّ بمن كان قطعه مخالفاً للواقع وهذا العنوان بقيد المخالفة للواقع لا يمكن أخذه في الخطاب ، لما أُفيد من كونه موجباً للانقلاب والتفات المخاطب إلى أنّ قطعه مخالف للواقع ، لكن أخذه بعنوان المتجرّي اللغوي بمعنى المتمرّد الطاغي يكون شاملاً للصورتين ، فلا حاجة إلى أخذ معلوم الخمرية عنواناً في الخطاب ، بل كفى حينئذ أخذ المتجرّي موضوعاً في الخطاب ، بأن يقال : أيّها القادم على مخالفة مولاه المتجرّي على معصيته لا تفعل ، وحينئذ يعمّ من كان قطعه مخالفاً للواقع ومن كان قطعه مطابقاً للواقع ، لكن توجيه الخطاب بهذا العنوان غير ممكن من [ جهة ] أنّ المخاطب لا يراه إلاّنهياً عن المعصية التي لا يكون النهي عنها نهياً مولوياً ، وكأنّه لأجل ذلك احتاج شيخنا قدس‌سره في توجيه العنوان العام إلى أخذ معلوم الخمرية ، فأورد عليه بأنّه يلزم اجتماع المثلين في نظر المخاطب. ولا يخفى أنّ الكلام في القبح الفاعلي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٤ ـ ٤٥.

١٣٢

وهو منحصر بما عرفت من التجرّي والتمرّد والطغيان ، أمّا العلم ومعلوم الخمرية ونحو ذلك فهي على الظاهر أجنبية عن القبح الفاعلي ، بل هي عناوين لنفس الأفعال ، أو لما تعلّقت به من الخمر ونحوه.

قوله : بخلاف المقام ، فإنّه لو فرض أنّ للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية أيضاً حكماً ، فبمجرّد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنّه رتِّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثاً ويلزم لغويته ... الخ (١).

هذا الإشكال جارٍ في العلم الموضوعي المأخوذ موضوعاً لحكم مماثل لمتعلّقه أو لحكم متعلّقه. لكن ربما يقال هناك بالتأكّد ، وإن عرفت هناك (٢) أنّه لا يمكن التأكّد لاختلاف الرتبة ، لكن في المقام لا يتأتّى التأكّد وإن قلنا به هناك ، وذلك لأنّ هذا الحكم المماثل إنّما يرد على نفس الجهة الفاعلية ، وذلك الأصلي إنّما يرد على نفس الفعل ، وبعد فرض عدم اتّحاد المتعلّق لا يعقل التأكّد في الحكمين ، لأنّ مورد التأكّد هو وحدة المتعلّق.

ثمّ إنّي لم أتوفّق لتعيّن الثاني للغوية بعد فرض كونه ممّا يمكن أن يلتفت إليه ، فلِمَ لا نقول إنّ الحكم الأوّل ـ أعني ما تعلّق بنفس الخمر الواقعي ـ يكون لغواً لأنّه مع عدم العلم به لا يؤثّر في انزجار المكلّف ، ومع العلم يكون الحكم الثاني هو الموجب للانزجار. نعم إنّ الحكم الأوّل لابدّ من جعله لكي يكون موضوع الثاني الذي هو العلم متعلّقاً به.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

١٣٣

ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرناه من عدم إمكان التأكّد لما ذكرناه من اختلاف المتعلّق ، لِمَ لا يلتزم شيخنا قدس‌سره بالتأكّد ويكون ذلك قهرياً ، حيث إنّ نفس الفعل فيه مفسدة كافية في المنع عنه ، وقد فرضنا أنّ هذا العنوان الثانوي أيضاً فيه مفسدة كافية في المنع أيضاً ، فيلزم الحاكم إنشاء حكمين ، وجعل نهيين أحدهما متعلّق بنفس شرب الخمر واقعاً ، والآخر متعلّق بما علم أنّه خمر ، غايته أنّ فعلية أحد هذين الحكمين ملازم لفعلية الآخر ، فدائماً هما متأكّدان في نظر العالم ، ولا وجه لجعل حكم واحد مؤكّد ، إذ للأوّل أثر وهو فيما لو فرض عدم العلم ، وقصرت الأُصول النافية عن نفيه ، كما لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي ونحو ذلك ، كما أنّ للثاني أثراً كما لو شرب ما يعلم أنّه خمر وكان علمه مخالفاً للواقع ، فإنّه لو كان ذلك في الصيام يكون قد أفطر على الحرام ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ التأكّد منسدّ هنا ، لاختلاف المتعلّق وهما الفعل نفسه وجهة الفاعلية. ومنه يظهر لك المنع من كون المقام من قبيل اجتماع المثلين ، إذ مع اختلاف المتعلّق لم يجتمع المثلان ، فليس المقام من قبيل العالم والهاشمي اللذين يتّحد أحدهما بالآخر عند الاجتماع ، بل هما عند الاجتماع متباينان ، فلا تأكّد في البين ولا اجتماع المثلين. لكن لا محصّل لتحريم الجهة الفاعلية إلاّ تحريم العصيان ، ومن الواضح عدم قابلية العصيان للتحريم المولوي.

قوله : الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب لا من باب المخالفة لخطاب شرعي كما في الجهتين الأُوليين ، بل من باب استقلال العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب ، وأنّه يكون في حكم العاصي ... الخ (١).

الذي نتعقّله هو العقاب على مخالفة التكليف الشرعي عن علم وعمد ، وإن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٦.

١٣٤

شئت فقل : بعد قيام الحجّة على ذلك التكليف الشرعي بالمعنى الأعمّ من الحجّة العقلية والحجّة الشرعية ، سواء قلنا إنّ استحقاق العقاب الذي هو بتقرير من الشارع من باب اللطف ليكون رادعاً عن المعصية ، أو قلنا بأنّه من باب السمع الثابت بالتواتر ، فراجع التجريد وغيره (١) من الكتب الكلامية في كيفية تقرير الشارع العقاب على المعصية التي هي مخالفة التكليف الشرعي بعد قيام الحجّة عليه.

أمّا الأحكام العقلية فهي بنفسها ما لم تستتبع تكليفاً شرعياً لا تستتبع ثواباً ولا عقاباً ، وإنّما أقصى ما في موافقتها هو المدح وفي مخالفتها هو الذمّ العقلائيان. أمّا حكم العقل بقبح المعصية ، فإن كان من باب شكر المنعم فهو أيضاً لا يستتبع العقاب ، وإنّما يستتبع الذمّ العقلائي. وإن كان من باب دفع ضرر العقاب المتوعّد به من قبل الشارع ، فحيث إنّ موضوعه هو الضرر العقابي فهو لا يعقل أن يكون مولّداً للعقاب ، وإنّما يكون ذلك الضرر الذي هو العقاب تابعاً لواقعه.

وكنت قبل أعوام حرّرت في هذا المقام ما لا بأس بالحاقه هنا ، وهو هذا :

بقي الكلام في الجهة الراجعة إلى دعوى كون التجرّي بحكم العصيان في كونه موجباً لاستحقاق العقاب وإن لم يكن عصياناً حقيقة ، وبرهان هذه الدعوى على ما حرّره الأُستاذ قدس‌سره فيما نقلناه عنه أحد أمرين : الأوّل هو كون حكم العقل بقبح المعصية منوطاً بالعلم ، فيكون شاملاً لصورة خطأ العلم ، ولو بناءً على كون العلم تمام موضوع حكم [ العقل ] بالقبح المذكور. الثاني : هو القبح الفاعلي الذي يحكم به العقل ، بدعوى عدم الفرق بين القبح الفاعلي في صورة الاصابة والقبح الفاعلي في صورة الخطأ.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٠٧ ـ ٤٠٩.

١٣٥

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ، فإنّه يرد عليها ـ مضافاً إلى ما أفاده قدس‌سره من الايراد على كلّ من الوجهين المذكورين بما حرّرناه عنه قدس‌سره ـ أنّ مخالفة حكم العقل في حدّ نفسه مع قطع النظر عن مخالفة حكم الشرع لا أثر له فيما نحن بصدده من استحقاق العقاب ، إذ ليست مخالفته بنفسها علّة لاستحقاق العقاب الذي هو المدّعى في هذا المقام.

وحينئذ نقول : إنّ حكم العقل بحسن الاطاعة وبقبح المعصية إمّا أن يكون من باب شكر المنعم ، وإمّا أن يكون من باب البعث على استحقاق الثواب والفرار عن استحقاق العقاب. فإن كان ملاكه هو الأوّل ، فإمّا أن نقول باختصاصه بلزوم شكر المنعم في امتثال أحكامه ولزوم الجري على وفق مراداته ، وإمّا أن نقول إنّه أعمّ من ذلك ، بحيث يشمل لزوم شكر المنعم بعدم إظهار الطغيان وإن لم يتّفق في البين مخالفة لمراداته.

فإن قلنا بالثاني ـ أعني تعميم حكم العقل بلزوم شكر المنعم لعدم إظهار الطغيان عليه ، وإن لم يكن في البين مخالفة لمراده كما هو غير بعيد ـ كان ذلك بالنسبة إلى هذه الجهة من التعميم من باب محض الحكومة العقلية ، التي قد عرفت أنّه لا دليل على كون تلك الحكومة علّة لاستحقاق العقوبة ، بل وهكذا الحال في الحكم المذكور أعني لزوم شكر المنعم بالاتيان بما هو مراده مع مصادفة الواقع ، فإنّ هذه الجهة ـ أعني مجرّد حكم العقل بلزوم الشكر ـ لا دليل على كونها علّة لاستحقاق مخالفها العقاب.

فقد ظهر لك من هذا : أنّ حكم العقل بقبح المعصية من باب مجرّد لزوم شكر المنعم لا دليل على كون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب حتّى في صورة المصادفة للواقع فضلاً عن صورة الخطأ ، فإنّ مخالفة الحكومة العقلية لا توجب

١٣٦

العقاب إلاّإذا كانت مستتبعة لحكم شرعي ، والمفروض فيما نحن فيه عدم استتباعها للحكم الشرعي ، لما حقّق في محلّه (١) من عدم قابلية مقام الاطاعة والعصيان للحكم الشرعي.

لا يقال : كيف لا يعاقب وقد صار بصدد الطغيان وأظهر العصيان. لأنّا نقول : إنّ ذلك بمجرّده لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب ما لم يكن مخالفة إرادة المولى. ولو سلّم استحقاقه بذلك كان توسّط حكومة العقل بقبح التجرّي من باب حكومة العقل بلزوم شكر المنعم لغواً صرفاً ، إذ لم يكن هو المنشأ في الاستحقاق وإنّما كان المنشأ له هو كون العبد بصدد الطغيان.

وبالجملة : أنّ حكومة العقل بقبح التجرّي لا أثر لها في الاستحقاق ، إذ لا أثر لمخالفة هذه الحكومة العقلية. وإنّما تكون مخالفة الحكومة العقلية مقرونة باستحقاق العقاب إذا كان ملاك تلك الحكومة هو الفرار عن العقاب المرتّب على مخالفة إرادة المولى ، وفي الحقيقة يكون حكم العقل بالقبح المذكور معلولاً لاستحقاق العقاب على ما قد حكم بقبحه ، ومن الواضح أنّ الانتقال من الحكم إلى علّته إنّما يتمّ في غير الأحكام العقلية كما في الأحكام الشرعية المعلولة عن المصالح والمفاسد ، فإنّ الحكم الشرعي يكون كاشفاً عن ثبوت علّته ، بحيث إنّه لو ثبت الحكم بطريق آخر غير علّته المذكورة لكان ثبوت الحكم المذكور دليلاً عليها وكاشفاً عنها ، أمّا حكم العقل نفسه فلا يتأتّى فيه الاستكشاف المزبور ، إذ ليس الحاكم غيره. وفي الحقيقة أنّه مع قطع النظر عن لزوم شكر المنعم لا يبقى للعقل حكم استقلالي بقبح المعصية ، بل ليس في البين إلاّانزجار العقل وفراره عن المعصية حذراً من الوقوع على ما رتّبه الشارع عليها من العقاب ، وفي

__________________

(١) راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٢ وما بعدها.

١٣٧

الحقيقة لا يكون في البين إلاّالفرار من العقاب المترتّب على مخالفة مراد الشارع ، ومن الواضح أنّ الفرار من العقاب إنّما يتحقّق بعد إحراز العقاب.

وحينئذ فيكون زبدة المخض في هذا المبحث هو أنّه هل في البين استحقاق للعقاب أو لا ، وبذلك تعود الحرب جذعة ، كأنّا لم نصنع شيئاً في تشبّثنا بأذيال هذه الحكومات العقلية التي لا حقيقة لها إلاّالفرار من العقاب المتوقّف على تحقّق الاستحقاق ، ولا يكون التشبّث بأمثال الحكومات إلاّمن باب المصادرة ، إذ لا يكون إلاّمن باب الاستدلال بعين ما هو المدّعى ، سيّما بعد فرض أنّ القاطع وإن كان مخطئاً فهو لا يرى إلاّالواقع ، ولا يرى إلاّ أنّه عاصٍ بالنسبة إلى الحكم الواقعي الذي قطع به ، وأنّ الذي يحكم بقبح فعله إنّما هو شخص آخر غير القاطع المذكور ، ومن الواضح حينئذ أنّه لا يكون في البين إلاّمجرّد الحكم باستحقاق العقاب من دون أن يتوسّط في البين حكم بقبح عقلي أو فرار وانزجار عقلي.

وإذا انتهى بنا الكلام إلى ذلك ، وعاد بنا البحث إلى أوّل المسألة الذي هو أوّل الدعوى أعني استحقاق العقاب فنقول : إنّ عقاب الشارع لعبيده لا دليل عليه سوى وعيده على مخالفتهم لما أراده تعالى منهم ، غايته أنّ تلك المرادات لا تكون عندنا جزافية ، بل هي ناشئة عن مصالح ومفاسد هو تعالى عالم بها ، كما أنّ وعيده بالعذاب على مخالفتها لم يكن جزافياً أيضاً ولا تشفّياً منهم ، بل كانت هناك حكمة داعية إلى ذلك الوعيد ، وأقلّ ما يتصوّر في حكمة ذلك هو إحداث الداعي الملزم لعبيده بالجري على طبق تلك المرادات ، لخوفهم من العقاب المترتّب على مخالفتها ، فيكون المنشأ في وعيده هو المحافظة على تلك المرادات التي لا تكون إلاّصلاحاً لهم.

١٣٨

وحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك الوعيد فنراه كما هو واضح مختصّاً بمن خالف مراداته ، غايته أنّه لابدّ أن تكون تلك المرادات معلومة واصلة إلى ذلك العبد الذي خالفها ، لكن ذلك ـ أعني تقيّدها بالعلم ـ لا يوجب كون العلم بنفسه هو تمام العلّة في الاستحقاق ، وإنّما أقصى ما في البين هو خروج الارادة غير الواصلة عن كون مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب ، لا أنّها تنعزل بالمرّة عن إيجاب الاستحقاق ، ويكون الموجب للاستحقاق هو مجرّد القطع بها وإن لم تكن هي ثابتة في الواقع ، وبذلك ينقدح لك ما في الدليل الأوّل.

وأمّا الدليل الثاني ، وهو التمسّك بأذيال القبح الفاعلي ، فنحن يمكننا القول به ، وأنّه متحقّق في صورة الخطأ ، إلاّ أنّ ذلك القبح لا أثر له بعد أن عرفت أنّ المدار في الاستحقاق إنّما هو مخالفة مراد المولى. وأمّا كون العبد بصدد مخالفته لكنّه لم يتّفق له ذلك ، فلا دليل على كونه موجباً لاستحقاق العقاب ، وإن كان في حدّ نفسه ممّا يقبّحه العقل لكونه مخالفاً لما يستحسنه من لزوم شكر المنعم ، ولا يلزم من ذلك إناطة العقاب بأمر غير مقدور ، وإنّما يلزم منه عدم العقاب لأمر غير مقدور ، وهذا لا ضير فيه ولابدّ من الالتزام به ، كما لو حبس خبيث السريرة ومنع من الخروج عن الدار مثلاً ، وكان بحيث لو أُطلق عنانه لارتكب المعاصي العظام ، فهل ترى أحداً يلتزم بأنّه يستحقّ العقاب على تلك المعاصي التي لو أُطلق عنانه لارتكبها ، كلاّ ثمّ كلاّ ، مع أنّه من قبيل عدم العقاب لأمر غير مقدور.

والحاصل : أنّ العقاب لا يكون معلولاً إلاّلمخالفة إرادة المولى ، ولا دليل على استحقاقه بمجرّد إظهار الطغيان ، سواء كان بالتجرّي المعروف ، أو كان من مجرّد النيّة مع الشروع في المقدّمات أو بدون الشروع فيها ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ العقاب إنّما يأتي من ناحية الوعيد على المخالفة كما حرّرناه. أو

١٣٩

نقول إنّه يكون من ناحية كون تلك الأفعال المخالفة لإرادة المولى بحيث يكون ذلك بمنزلة العلّة التكوينية للعقاب ، كما أنّ الثواب يكون من قبيل المعلول التكويني للاطاعة والموافقة لارادة المولى ، سواء كان ذلك على نحو الاقتضاء أو كان على نحو العلّية التامّة. أو نقول إنّ العقاب يكون لإزالة الكدورة الطارئة على النفس بواسطة مزاولة ارتكاب المعاصي ، فيكون العقاب بمنزلة المطهّر لها من تلك القذارة ، المزيل عنها هاتيك الكدورة ، ليتمّ بذلك صفاؤها وقابليتها للالتحاق بالرفيق الأعلى ، لتكون محلاً لذلك الرضوان والفيض التامّ ، فإنّه على جميع هذه الوجوه أو الأقوال لا يكون إلاّمن ناحية مخالفة إرادة المولى.

نعم ، لو قلنا إنّ العقاب يكون لازالة الخبث الباطني وتطهير الطينة الخبيثة ولو لم يكن في البين ارتكاب المخالفة لارادة المولى ، لكان العقاب جارياً في صورة التجرّي ، بل اللازم على هذا القول جريان العقاب حتّى على الطفل الذي لم يبلغ وحتّى على من منع من ارتكاب المعاصي بمانع قهري من حبس ونحوه ، لكن لا أظنّ أنّ أحداً من المسلمين يقول بذلك بحيث إنّه يلتزم بلوازمه المذكورة.

وممّا يتفرّع على عدم استحقاق المتجرّي للعقاب ، أنّه لو علم إجمالاً بخمرية أحد المائعين ، وقامت بيّنة على كونه أحدهما المعيّن ، وتجرّى وشرب ذلك الذي قامت عليه البيّنة ، وشرب الآخر أيضاً ، ثمّ تبيّن العكس وأنّ ما قامت عليه البيّنة لم يكن خمراً بل كان الخمر هو الآخر ، فإنّ مقتضى عدم استحقاق المتجرّي للعقاب أنّه لا يستحقّ العقاب لا على الأوّل لأنّه لم يصادف الواقع ، ولا على الثاني لأنّه لم يكن منجّز الحرمة ، ولا ضير في ذلك ، سواء كان من أوّل الأمر بانياً على شربها على التدريج ، أو كان قد بدا له شرب الثاني بعد شرب الأوّل ، إذ

١٤٠