أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

وفيه : أنّه لو فرضنا الالتفات إلى صحّة العقد ووقوع الشكّ في صحّته ، لم يكن جريان السيرة على الشهادة مسلّماً بل هو ممنوع. نعم إنّ الغالب في من سمع العقد يقطع بصحّته ، أو لا يلتفت إلى احتمال فساده احتمالاً عادياً ، فلأجل ذلك يقدم على الشهادة.

ولا يخفى أنّ الغالب في السجلاّت هو الشهادة على وقوع البيع ووقوع الطلاق مثلاً ، لا الشهادة بملكية المشتري أو بينونة الزوجة ونحو ذلك من آثار ما شهد بوقوعه من المعاملات. وأمّا الشهادة بالنسب استناداً إلى قاعدة الفراش فلم يعلم جريان السيرة بها أيضاً ، فلاحظ وتأمّل.

وهكذا الحال في الشهادة على مثل انشغال الذمّة اعتماداً على الاقرار ، فإنّ جريان السيرة بها ممنوع ، وأقصى ما في البين هو الشهادة على نفس الاقرار.

وأمّا العلم في مسألة الركعتين الأُوليين ، فالظاهر أنّه ليس من قبيل أخذه على نحو الصفتية ، وإلاّ لما صحّ أن يقوم مقامه الظنّ ، فإنّ دليل حجّية الظنّ في عدد الركعات بل في مطلق أفعال الصلاة ليس بمقصور على الأُوليين المفروض أخذ العلم فيهما موضوعاً ، بل هو عام لجميع الركعات حتّى الأُخريين المفروض عدم اعتبار العلم فيهما من حيث الموضوعية ، وقد عرفت أنّ دليل الحجّية إذا كان عاماً لموارد القطع الطريقي المحض وللموضوعي ، لا يمكن أن يكون موجباً لقيامه مقام القطع الصفتي ، وأنّه إنّما يمكن قيامه مقامه لو ورد دليل بالخصوص يدلّ على قيامه مقام القطع في خصوص المورد الذي أُخذ فيه القطع صفتياً.

وبالجملة : أنّ قيام الظنّ بعموم دليل حجّيته مقام العلم بالنسبة إلى الركعتين الأُوليين كاشف عن أخذه فيهما موضوعاً من حيث الطريقية. لكن ذلك لا يلزمه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الالتزام بكون المراد بالعلم المذكور هو العلم

١٠١

الوجداني ، ليكون المدرك في قيام الظنّ مقامه هو ما أفاده قدس‌سره من الحكومة الظاهرية ، بل الظاهر أنّ المراد به هو مطلق الاحراز ولو من سائر الأمارات ، فيكون دليل حجّية الظنّ المذكور وارداً على ما دلّ على اعتبار الإحراز في الأُوليين ، وإن كان بالنسبة إلى الأُخريين حاكماً حكومة ظاهرية ، ولا ضير في ذلك ، بعد أن فرضنا أنّ دليل حجّية الظنّ يجعله محرزاً ، فبالنسبة إلى ما كان الإحراز فيه موضوعاً كالأُوليين يكون وارداً ، وبالنسبة إلى ما لم يؤخذ الإحراز موضوعاً فيه كالأُخريين يكون حاكماً حكومة ظاهرية.

وإنّما قلنا إنّ الظاهر من اعتبار العلم في الأُوليين هو مطلق الإحراز ، لأنّ الظاهر من أخباره كما هو صريح بعضها أنّه لا يدخلهما الشكّ ، ومن الواضح أنّ حصول الإحراز ولو من الأمارة التي قام [ الدليل ] على حجّيتها ، كافٍ في عدم دخول الشكّ فيهما ، ففي صحيح زرارة : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : كان الذي فرضه الله على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة ، وليس فيهنّ وهم يعني سهواً ، فزاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعاً ، وفيهنّ الوهم وليس فيهنّ قراءة ، فمن شكّ في الأُوليين أعاد حتّى يحفظ ويكون على يقين ، ومن شكّ في الأخيرتين عمل بالوهم » (١) فإنّ الظاهر من قوله : « يحفظ ويكون على يقين » هو عدم الشكّ السابق في قوله عليه‌السلام : « ليس فيهن وهم ».

ومثل ذلك خبر محمّد بن مسلم المروي عن الخصال عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال عليه‌السلام : « لا يكون السهو في خمس : في الوتر والجمعة والركعتين الأوّلتين من كلّ صلاة مكتوبة وفي الصبح وفي المغرب » (٢). والمراد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ١٨٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ١٩٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢ ح ١٤ ، الخصال : ٦٢٧ / حديث الأربعمائة.

١٠٢

بالسهو هو الشكّ بقرينة مضمرة سماعة ، قال عليه‌السلام : « والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلّى فعليه أن يعيد الصلاة » (١) وقوله في موثّقته : « قال : إذا سها الرجل في الركعتين الأوّلتين من الظهر والعصر فلم يدر واحدة صلّى أم ثنتين فعليه أن يعيد الصلاة » (٢).

ولعلّ هذا الذي ذكرناه من أنّ المراد من الإحراز هنا هو مجرّد عدم الشكّ هو المراد في باقي الروايات ، مثل ما رواه الشيخ عن الفضل بن عبد الملك في الصحيح ، قال « قال لي : إذا لم تحفظ الركعتين الأوّلتين فأعد صلاتك » (٣) وعن أبي بصير في الصحيح أو الموثّق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا سهوت في الأوّلتين فأعدهما حتّى تثبتهما » (٤) وعن الحسن بن علي الوشّاء قال « قال لي أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : الإعادة في الركعتين الأوّلتين والسهو في الركعتين الأخيرتين » (٥) وبعضها الآخر يتضمّن الاعادة بالشكّ في الأوّلتين : وفي بعضها : « إذا سها الرجل في الركعتين الأوّلتين من الظهر والعصر فلم يدر واحدة صلّى أم ثنتين فعليه أن يعيد الصلاة » (٦) وفي بعضها : « إذا لم تدر واحدة صلّيت أم اثنتين فاستقبل » (٧).

فراجع الحدائق فإنّه قد جمع هذه الأخبار وقال : هذه جملة ما حضرني من

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ١٩٥ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢ ح ٨.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ١٩١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ١٩٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١٣.

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ١٩١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١٥.

(٥) وسائل الشيعة ٨ : ١٩٠ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١٠.

(٦) تقدّم ذكر مصدرها في هذه الصفحة برقم (٢).

(٧) وسائل الشيعة ٨ : ١٩١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١ ح ١٦.

١٠٣

الأخبار الدالّة على القول المشهور (١) ، لكنّه لم يذكر الخبر السابق أعني صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، مع أنّه ذكره في الفصل الثاني فيما يعمل في الركعتين الأخيرتين من الرباعية (٢) نقلاً عن ثقة الإسلام في الكافي (٣) وعن الشيخ في من لا يحضره الفقيه (٤) باختلاف يسير بين الكتابين.

ثمّ إنّه بعد البناء على أنّ المراد بإحراز الأُوليين هو مجرّد عدم الشكّ فيهما ، يكون تقديم ما دلّ على حجّية الظنّ في عدد الركعات على هذه الأخبار واضحاً لا سترة [ فيه ] ، سواء كان ذلك الدالّ على حجّية الظنّ مثل النبوي « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وليبن عليه » (٥) أو كان مثل صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع وهمك على شيء فأعد الصلاة » (٦) ، فإنّ الحكم بإعادة الصلاة عند عدم وقوع وهمه ـ أي ظنّه ـ على شيء يدلّ على كون الشكّ مبطلاً ، وحينئذ يكون مورده وهو قوله عليه‌السلام : « كم صلّيت » هو خصوص الشكّ في الأُوليين. ولو قلنا إنّ المراد به هو مجرّد عدم العلم بأنّه كم صلّى من دون قدر متيقّن ، كان شاملاً أيضاً للشكّ في الأُوليين.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٩ : ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٢) الحدائق الناضرة ٩ : ١٧٣ / المقام الثاني.

(٣) الكافي ٣ : ٢٧٢ / ٢.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٠١ / ٦٠٥.

(٥) صحيح مسلم ١ : ٤٠٠ / ٥٧٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٨٢ / ١٢١١ ، السنن الكبرى ٢ : ٣٣٥ ( مع اختلاف في الألفاظ ).

(٦) وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٥ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٥ ح ١.

١٠٤

نعم ، نقل عن ابن إدريس المنع (١) ، وقد تعرّض لذلك الفقهاء ، ومنهم من منع حجّية الظنّ في الأُوليين ، ومنهم من تردّد في ذلك وتوقّف ، فراجع ما حرّره المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم في صلاته في هذه المسألة (٢).

هذا بعض ما ورد من اعتبار حفظ الأُوليين ، ولا يبعد أن يكون المراد بالحفظ ونحوه هو مجرّد عدم الشكّ ، كما هو صريح قوله عليه‌السلام : « وليس فيهنّ وهم » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لا يكون السهو في خمس » (٤).

وحينئذ يكون مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النبوي : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وليبن عليه » حاكماً عليها ، وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، من جهة دلالة الأُولى على أنّ عدم الحفظ في الأُوليين مبطل ، سواء كان مع الترجيح أو بدونه ، ودلالة الأخير على أنّ الرجحان حجّة سواء كان في الأُوليين أو كان في الأُخريين ، ووجه الحكومة هو ما عرفت من دلالة الأخبار السابقة على اعتبار الحفظ ، والخبر المتكفّل لحجّية الظنّ يجعله حافظاً. وتتّضح الحكومة بوجه أجلى بناءً على ما ذكرناه من أنّ المراد من ذلك هو مجرّد عدم الشكّ ، فتأمّل.

وأمّا قوله عليه‌السلام في صحيحة صفوان : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع

__________________

(١) راجع كتاب السرائر ١ : ٢٤٥ ، ٢٥٠.

(٢) كتاب الصلاة : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ / في الشكوك المتعلّقة بالركعات.

(٣) تقدّم متن الرواية ومصدرها في الصفحة : ١٠٢.

(٤) تقدّم متن الرواية ومصدرها في الصفحة : ١٠٢ ، راجع الهامش (٢).

١٠٥

وهمك على شيء فأعد الصلاة » (١) فإن قلنا إنّه يصدق على مثل الشكّ بين الثلاث والأربع ونحوه من الشكوك الصحيحة ، كان حاله حال النبوي في الحكومة. لكن يمكن أن يقال حينئذ : إنّ الحكم بالاعادة عند عدم الرجحان كاشف عن أنّ المنظور إليه هو خصوص الشكّ في الأُوليين.

وإن قلنا إنّه لا يصدق على مثل الشكّ بين الثلاث والأربع من الشكوك الصحيحة ، بأن نقول بأنّه مسوق لسعة دائرة المحتملات في الشكّ ، على وجه لا يكون في البين قدر متيقّن ، كان نصّاً في الشكّ في الأُوليين ، فيكون مفهومه أخصّ مطلقاً من منطوق تلك الروايات.

أمّا احتمال كون العلم والحفظ في الروايات السابقة صفتياً فبعيد غايته ، بل الظاهر أنّه إنّما أخذ في ذلك من حيث الكشف والطريقية. بل قد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار العلم ولو من جهة الطريقية ، بل أقصى ما في البين هو كون الشكّ وعدم الحفظ والإحراز مبطلاً ، فتكون الحكومة حينئذ أوضح وأسهل منها على تقدير أخذ العلم والحفظ من حيث الطريقية.

أمّا الاستصحاب وأصالة عدم الاتيان بالثانية ـ مثلاً ـ فهو وإن كان مقتضى القاعدة حكومته على تلك الأخبار ، إلاّ أنّه لو قدّم عليها لبقيت بلا مورد ، فلأجل ذلك سقطت حجّيته في المقام. ومنه يعلم عدم حجّيته في الشكوك الصحيحة ، إذ لو كان حجّة لبقيت قاعدة البناء على الأكثر بلا مورد ، ومع هذا كلّه فقد أنكر ابن إدريس حجّية الظنّ في الأُوليين وتوقّف في ذلك المرحوم الشيخ عبد الكريم في صلاته ، فراجع وتأمّل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٥ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٥ ح ١.

١٠٦

قوله : وردّه في الكفاية بما حاصله : أنّ ذلك يستلزم الدور المحال ـ إلى قوله ـ هذا ولكن لا يخفى عليك أنّه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في الحاشية بالدور ، بل مضافاً إلى الدور يرد عليه أوّلاً ... الخ (١).

ظاهر الكفاية في بيان ما أفاده في الحاشية هو أنّ التنزيل الأوّل الذي يتكفّله دليل الاعتبار هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وأنّ هذا التنزيل يلزمه تنزيل آخر وهو تنزيل العلم بذلك الواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، فيلزمه الدور كما قرّره في الكفاية (٢).

ويتوجّه عليه المنع من هذه الملازمة ، إذ لا مدرك لها إلاّلغوية التنزيل الأوّل بالنسبة إلى ما يكون الأثر مترتّباً على الواقع المعلوم ، ومن الواضح أنّ هذه اللغوية إنّما تلزم لو كان مفاد دليل التنزيل الأوّل مختصّاً بما يكون الواقع جزء الموضوع ، أمّا لو كان الدليل المذكور شاملاً لما يكون الواقع فيه تمام الموضوع أعني موارد القطع الطريقي الصرف ، فلا يكون الدليل المذكور لغواً إلاّبعد جريان أصالة العموم في التنزيل ، ليكون شاملاً لذلك ولما يكون الواقع فيه جزء الموضوع ، فنلتزم حينئذ بالتنزيل الثاني إخراجاً للتنزيل الأوّل عن اللغوية بالنسبة إلى ما يكون الواقع جزء الموضوع ، وقد حقّق في محلّه أنّ شمول العام لما يتوقّف شموله له على إعمال عناية ، لا يحكم بكون العام شاملاً لذلك كي نحتاج في إتمامه إلى الالتزام بالعناية المذكورة.

أمّا لو قلنا بأنّ ذلك التنزيل الآخر الذي يدعى كونه لازماً للتنزيل الأوّل إنّما هو تنزيل العلم بمؤدّى الأمارة منزلة العلم بالواقع ، وأنّ مدرك هذه الملازمة ليس

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٦٦.

١٠٧

هو اللغوية ، بل مدركها هو دعوى التلازم العرفي بين اطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بنفس ذلك المؤدّى منزلة العلم بالواقع ، فإنّ قضية إطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع هو كونه بمنزلته من جميع الجهات ، حتّى من جهة كون العلم به بمنزلة العلم بالواقع ، بحيث إنّ قوله : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع ، هو أنّه قائم مقام الواقع بقول مطلق حتّى من جهة أنّ العلم بذلك المؤدّى يكون علماً بالواقع.

وحينئذ فلا يكون أحد التنزيلين متوقّفاً على التنزيل الآخر كي يلزم الدور لأنّ التنزيل الثاني يكون في عرض التنزيل الأوّل ، ويكون الدليل المذكور دالاً على كلّ من التنزيلين ، غايته أنّ دلالته على التنزيل الأوّل تكون بالمطابقة ، ودلالته على التنزيل الثاني تكون بالالتزام الذي مدركه هو التلازم العرفي بين التنزيلين والدلالة الالتزامية وإن كانت في طول الدلالة المطابقية ، إلاّ أنّ نفس المدلول في الثانية لا يكون في طول المدلول في الأُولى كي يكون موجباً للدور.

لا يقال : إنّ هذه الملازمة العرفية إن كانت متحقّقة حتّى في الموارد التي يكون الواقع فيها تمام الموضوع ، توجّه عليه لغوية التنزيل الثاني في الموارد المذكورة ، وإن كانت هذه الملازمة مختصّة بخصوص ما يكون الواقع فيها جزء الموضوع ، لم يكن لها مدرك إلاّلزوم اللغوية ، وحينئذ يعود الإشكال الذي وجّهتموه سابقاً على اللغوية المذكورة.

لأنّا نقول : المراد هو الأوّل ، أعني دعوى فهم العرف من إطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع أنّه بمنزلته حتّى من جهة أنّ العلم به يكون بمنزلة العلم بالواقع ، من دون فرق في ذلك بين الموارد التي يكون الواقع فيها تمام الموضوع والموارد التي يكون الواقع فيها جزء الموضوع ، لأنّ هذا التنزيل الثاني لمّا كان

١٠٨

لازماً عرفياً للتنزيل الأوّل ، كان تحقّقه قهرياً ، غايته أنّه بالنسبة إلى الموارد الأُولى لا يترتّب عليه أثر شرعي ، ولا ضير فيه بعد أن لم يكن بجعل استقلالي من الشارع وإنّما كان لازماً قهرياً للتنزيل الأوّل ، فيكون أثره مقصوراً على تنجيز الآثار الشرعية المتعلّقة بالواقع ، ولا يظهر أثر شرعي للتنزيل الثاني في تلك الموارد وذلك لا يضرّ بدعوى الملازمة المذكورة ، وإنّما يضرّ لو كان التنزيل الثاني صادراً استقلالاً من الشارع فتأمّل. بخلاف الموارد الثانية فإنّ أثره الشرعي فيها ظاهر وهو ترتّب الأثر الشرعي المترتّب على الواقع المعلوم.

فالذي تلخّص : أنّه بناءً على أنّ مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالمؤدّى نفسه لا الواقع الجعلي منزلة العلم بالواقع ، لا يرد عليه إشكال الدور ولا إشكال منع الملازمة ، بدعوى أنّه لا مدرك لها إلاّلزوم اللغوية ، التي عرفت حالها فيما لو كان مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي.

والظاهر أنّه لو كان مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، لم يتوجّه عليه إلاّمنع لزوم اللغوية ، أمّا الدور فيمكن منعه بأنّ الاستكشاف بطريق الملازمة المذكورة إنّما هو في مقام الاثبات ، أمّا في مقام الثبوت فلا يكون إلاّتنزيل المؤدّى والعلم به منزلة الواقع والعلم به. وإن شئت فقل : تنزيل المؤدّى المعلوم منزلة الواقع المعلوم بلا تقدّم لأحد التنزيلين على الآخر كي يكون مستلزماً للدور.

وفي التحريرات المطبوعة في صيدا في آخر ما أورده ثالثاً على صاحب الكفاية قدس‌سره ما هذا لفظه : وحيث إنّ المفروض في المقام هو تركّب الموضوع من الإحراز ومتعلّقه ، فلو كان الجزء الآخر منزّلاً في عرض الجزء الأوّل بأن يكون

١٠٩

مشكوك الخمرية منزّلاً منزلة الخمر الواقعي ، وكان إحراز الخمر الواقعي بالأمارة منزّلاً منزلة القطع بالواقع ، فيتمّ الموضوع حينئذ. وأمّا إذا كان الإحراز المتأخّر عن التنزيل وهو القطع بالواقع الجعلي الذي لا مساس له بالواقع الحقيقي منزّلاً منزلة القطع بالواقع ، فيستحيل التئامه مع الجزء الأوّل حتّى يتحقّق المركّب الذي هو الموضوع للحكم. وليت شعري ما الذي دعا هذا المحقّق إلى جعل الجزء الآخر المنزّل منزلة القطع بالواقع هو القطع بالواقع الجعلي حتّى يرد عليه ذلك ، ولِمَ لم يلتزم بكون الجزء الآخر المنزّل منزلته بالملازمة هو الإحراز الناقص المتعلّق بنفس الواقع حتّى يسلم من ذلك (١).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ كلامه في الحاشية (٢) بالنسبة إلى أنّ أساس هذه الملازمة ماذا ، لا يخلو عن اضطراب ، فإن كان أساس ذلك عنده هو دعوى التلازم العرفي بين التنزيلين ، لم يتوجّه الإشكال المزبور ، لوضوح أنّه لا ملازمة عرفية بين تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع وتنزيل كشفها الناقص منزلة الكشف التامّ ، وإنّما الملازمة العرفية مسلّمة بين هذا التنزيل وتنزيل القطع المتعلّق بمؤدّى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

نعم ، لو كان المدرك في التلازم المذكور هو عدم اللغوية ، لكان لدعوى كون المنزّل بالتنزيل الثاني هو كشفها الناقص مجال واسع كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الملازمة لو تمّت من طريق العرف أو تمّت من طريق لزوم اللغوية ، لكان مقتضاها هو قيام الأمارة مقام العلم الطريقي والموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو كان جزء الموضوع. أمّا ما يكون مأخوذاً على نحو

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٨.

١١٠

الصفتية فيمكن أن يقال بأنّه داخل في ذلك أيضاً ، خصوصاً على دعوى الملازمة من طريق اللغوية ، إذ لا شبهة في أنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بدون تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي يكون لغواً صرفاً في الموارد التي يكون العلم الموضوعي فيها صفتياً ، سواء كان تمام الموضوع أو جزأه.

لكن في النفس إشكال في قيام الأمارة حينئذ مقام العلم الموضوعي المأخوذ على نحو تمام الموضوع ، بناءً على كون مدرك الملازمة هو التلازم العرفي ، فإنّ التنزيل الأوّل لا يتحقّق ، إذ لا أثر للواقع كي يصحّ قوله : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع. اللهمّ إلاّأن يقال : كما صحّ هذا التنزيل الأوّل في صورة جزء الموضوع ، يصحّ أيضاً في صورة تمام الموضوع ، بأن يقال يكفي في صحّة التنزيل الأوّل ترتّب الأثر على التنزيل الثاني الذي هو لازمه ، فتأمّل.

وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الايراد المذكور بعنوان ثالثاً في التحريرات المشار إليها هو عين الايراد المذكور في هذا الكتاب بعنوان ثانياً ، وحاصله : أنّ الموضوع المركّب من الإحراز ومتعلّقه يكون فيه إحراز المتعلّق عين تحقّق الجزء الثاني الذي هو الاحراز ، ويستحيل أن يتأخّر تحقّق هذا الجزء الذي هو الإحراز عن إحراز الجزء الأوّل الذي هو المتعلّق ، فلو قلنا بأنّ مفاد الحجّية هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فعند قيامها يتحقّق لدينا واقع تعبّدي ، وهو الجزء الأوّل من الموضوع ، ويبقى الجزء الثاني منه وهو الإحراز ، وهذا التنزيل الذي يدعى أنّه لازم للتنزيل الأوّل لا يحقّقه ، لأنّ أقصى ما في هذا التنزيل الثاني هو أنّ العلم بهذا الواقع التعبّدي يكون بمنزلة العلم بالواقع الحقيقي ، وهذا المقدار لا يوجب لنا التئام موضوعنا الذي هو الواقع المحرز ، أعني ما هو مركّب من الواقع وإحرازه هذا.

١١١

ولكن لا يخفى أنّ التنزيل الثاني وإن لم يحقّق لنا إحرازاً للواقع ، إلاّ أنّه يكفي لترتيب الأثر المرتّب على الواقع والإحراز ، وذلك من جهة تكفّل التنزيل فيه بذلك من دون حاجة إلى جعل الإحراز ، وهذا هو الذي أشار إليه المرحوم الشيخ محمّد علي في حاشية منه في الهامش (١) ، فراجع وتأمّل.

وأمّا ما ذكره في التحرير المشار إليه بقوله : رابعاً (٢) ، فهو ما عرفت من إنكار الملازمة المبنية على اللغوية ، وقد عرفت إمكان بنائها على دعوى الملازمة العرفية. وأمّا ما اشتمل عليه خامساً فهو راجع إلى إبطال ما أفاده في الكفاية ، من أنّه لو تمّت هذه الطريقة لعمّت القطع الصفتي (٣) ، وقد عرفت أنّ الإنصاف هو ذلك.

فقد تلخّص لك من جميع ما حرّرناه : أنّ الإيراد الوحيد هو فساد أصل المبنى ، وهو كون مفاد دليل الاعتبار هو جعل المؤدّى وأنّه منزّل منزلة الواقع ويتلو هذا الإيراد إنكار الملازمة بكلا طريقتيها العرفية ولزوم اللغوية. أمّا ما أُفيد في التحرير المشار إليه ثالثاً وفي هذا التحرير ثانياً فقد عرفت الجواب عنه ، أمّا ما أُفيد في التحريرات المشار إليها بقوله رابعاً ، فقد عرفت أنّه إنّما يرد لو كانت الملازمة المدعاة هي المبنية على أساس دعوى اللغوية ، دون الملازمة العرفية.

والإنصاف : أنّ كلامه قدس‌سره في الحاشية لا يخلو عن اضطراب ، على وجه لم يتحصّل المراد منه ، وأنّه هل أساس الملازمة المدعاة هو العرف ، أو أنّ أساسها هو لزوم اللغوية. نعم لمّا كان صريح عبارته في الكفاية في المنزّل في التنزيل الثاني أنّه هو العلم بالواقع التعبّدي ، كان لازم ذلك هو كون أساس هذه الملازمة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٠ / الهامش (١).

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٣.

(٣) كفاية الأُصول : ٢٦٦.

١١٢

عنده هو لزوم اللغوية ، لأنّ [ الملازمة ] العرفية إنّما تدعى بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بذلك المؤدّى منزلة العلم بالواقع ، لا العلم بالواقع التعبّدي ، إذ لا ملازمة بحسب النظر العرفي بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع التعبّدي الذي أوجدته الأمارة منزلة العلم بالواقع الحقيقي.

لكن عبارته في الحاشية ليست صريحة بذلك ، بل قد يقال إنّها صريحة في أنّ المنزّل في التنزيل الثاني هو العلم بمؤدّى الأمارة لا العلم بالواقع الجعلي ، فإنّه قال في جواب « إن قلت » الثالثة ما هذا لفظه : قلت : نعم ، ولكن لا يبعد دلالة دليل الأمارة على هذا التنزيل بدعوى الملازمة العرفية بينه وبين تنزيل المؤدّى ولو فيما كان القطع به معتبراً في الحكم عليه الذي دلّ عليه الدليل بعمومه ، حيث إنّ العرف لا يرى التفكيك بين تنزيل ما قامت البيّنة على خمريته منزلة الخمر مثلاً ، وتنزيل القطع به كذلك منزلة القطع بها واقعاً ، وإن لم يكن بينهما ملازمة عقلاً (١).

فإنّ الضمير في قوله : وتنزيل القطع به الخ ، راجع إلى ما قامت البيّنة على خمريته ، يعني مؤدّى الأمارة ، لا الخمر الجعلي التعبّدي.

ثمّ قال في جواب « إن قلت » الرابعة ما هذا لفظه : وقد عرفت أنّ دليل تنزيل مؤدّى الأمارة الشامل بعمومه المقام يدلّ على تنزيل القطع به ( يعني مؤدّى الأمارة ) منزلة القطع بالواقع التزاماً ، كما أنّه إذا كان هناك دليل على تنزيل المؤدّى في خصوص المقام يدلّ عليه مطلقاً ولو لم يكن الملازمة في البين ، إمّا بالالتزام أو بدلالة الاقتضاء حفظاً للكلام عن اللغو (٢).

وصدر هذه العبارة يدلّ على أنّ المنزّل في التنزيل الثاني هو العلم بمؤدّى

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٩.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٩.

١١٣

الأمارة ، وقد عرفت أنّ لازم ذلك هو كون أساس الملازمة هو التلازم العرفي الادّعائي ، لا التلازم الحقيقي ولا لزوم اللغوية. أمّا ما اشتمل عليه الذيل من الترديد بين الطريقتين ، فلعلّه ناظر إلى خصوص ما فرضه من وجود دليل خاصّ وارد في مورد العلم الموضوعي ، يدلّ على تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع في ذلك المورد.

ثمّ إنّه صرّح في آخر كلامه بقوله : ثمّ لا يخفى أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك بين ما إذا أُخذ القطع على الصفتية قيداً ، وما أُخذ قيداً على نحو الكشفية ، فتأمّل (١) إلاّ أنّه عقّبه بقوله : هذا كلّه فيما أُخذ القطع على نحو الكشف في الموضوع ، وأمّا إذا أُخذ فيه على نحو الصفتية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم قيام الأمارة مقامه بمجرّد دليل اعتبارها الخ.

ولعلّ إحدى العبارتين زائدة ، ويشهد بذلك أنّ في العبارة تقديماً وتأخيراً ، كما في نسخة مصحّحة عندي ، لكن لم يكن في هذه النسخة ما يؤشّر إلى زيادة إحدى العبارتين ، فلاحظ وتأمّل.

لكن في الكفاية صرّح بمقتضى العبارة الأُولى ، فأورد شيخنا قدس‌سره عليه بما تضمّنه قوله في التحرير المشار إليه خامساً (٢) ، وقد عرفت أنّه لا يتوجّه هذا الإشكال عليه لو كان مدرك الملازمة هو اللغوية ، نعم يتوجّه لو كان مدركها هو التلازم العرفي ، وإن أمكن القول بأنّه لا يتوجّه حتّى لو كان ذلك هو المدرك للملازمة المذكورة ، فتأمّل.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٤.

١١٤

قوله : وأمّا الظنّ فمجمل الكلام فيه ... الخ (١).

ملخّص الكلام : أنّه قدس‌سره قسّم الظنّ الموضوعي إلى أربعة أقسام ، وهي : ما يكون موضوعاً لحكم يخالف متعلّقه أو حكم متعلّقه ، أو يكون موضوعاً لحكم مضاد لذلك ، أو لحكم مماثل له ، أو يكون موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به ، فهذه أقسام أربعة. وكلّ منها إمّا أن يكون الظنّ حجّة أو غير حجّة ، فتكون الأقسام ثمانية. وكلّ منها إمّا أن يكون على نحو الصفتية أو على نحو الكاشفية ، فتكون الأقسام ستة عشر. وكلّ منها إمّا أن يكون على نحو تمام الموضوع أو على نحو يكون جزأه ، فتكون الأقسام العقلية اثنين وثلاثين (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣١.

(٢) بعد إسقاط ما يكون من الظنّ موضوعاً للحكم المضادّ وما يكون موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به ، يبقى ما يكون موضوعاً للحكم المخالف ، وما يكون موضوعاً للحكم المماثل ، وذلك ١٦ صورة ، ٨ منها لذي الحكم المخالف ، ومثلها لذي الحكم المماثل.

أمّا صور ذي الحكم المخالف فهي :

الظنّ الطريقي الحجّة ( تمام الموضوع ).

الظنّ الطريقي الحجّة ( جزء الموضوع ).

الظنّ الصفتي الحجّة ( تمام الموضوع ).

الظنّ الصفتي الحجّة ( جزء الموضوع ).

الظنّ الطريقي غير الحجّة ( تمام الموضوع ).

الظنّ الطريقي غير الحجّة ( جزء الموضوع ).

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ).

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ).

١١٥

وأفاد قدس‌سره أنّ هذه الأقسام مجرّد تصوّرات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلاّاعتبار الظنّ على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلّقه الذي هو مفاد أدلّة حجّية الطرق والأمارات ، من دون أن يؤخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر الخ (١)

__________________

وهذه الثمانية بعينها لذي الحكم المماثل. وقد أسقط شيخنا قدس‌سره من ذي الحكم المماثل الأربعة الأُولى ، وهي ما يكون الظنّ حجّة ، فيبقى لنا ١٢ صورة ، ٤ لذي الحكم المماثل ، و ٨ لذي الحكم المخالف.

ثمّ إنّه قدس‌سره أسقط من الأربعة الباقية لذي المماثل اثنين ، وهما أخذه من حيث الطريقية مع كونه غير حجّة ، تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، فيبقى له اثنان : الصفتي غير الحجّة تمام الموضوع أو جزء الموضوع. وأيضاً أسقط من ذي المخالف نفس هاتين الصورتين ، وهما أخذه من حيث الطريقية مع كونه غير حجّة تمام الموضوع أم جزأه ، فيبقى له ستّة أقسام ، أسقط منها واحدة وهي الظنّ الطريقي الحجّة تمام الموضوع ، فبقي له خمسة ، أضف إليها صورتي ذي المماثل ، فتكون الصور الممكنة سبعة ، أضف إليها صورة الطريقي الصرف فتكون الصور ثمانية : وهي صورة واحدة للظنّ الطريقي الصرف الذي لا يكون موضوعاً ، والسبعة هي ما بقي من الصور الممكنة للظنّ الموضوعي ، وهي هذه الصور :

الظنّ الطريقي الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف.

الظنّ الصفتي الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المخالف.

الظنّ الصفتي الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف.

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المخالف.

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف.

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المماثل.

الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المماثل. [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٢.

١١٦

قد يقال : إنّ الظنّ ربما كان موضوعاً لحكم ، مثل الظنّ بالضرر في موضوعيته لوجوب الافطار ولوجوب التيمّم مثلاً ، اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ الموضوع في ذلك هو مجرّد الاحتمال ، ويكون الحكم وهو عدم وجوب الصوم أو حرمته مترتّباً على الظنّ بالضرر من جهة كونه أحد مصاديق الاحتمال. لكن الظاهر أنّ ما مرّ من قيام الطرق والأمارات مقام العلم الموضوعي مثل اليد وغيرها من هذا القبيل ، أعني ما أُخذ فيه الظنّ موضوعاً لذلك الحكم الذي أُخذ فيه العلم موضوعاً. اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ أمثال ذلك من قبيل التصرّف في الموضوع ، وأنّ الشارع بعد أن جعل اليد حجّة مثلاً فقد صيّرها علماً ، فيكون ترتّب الحكم عليها وهو جواز أداء الشهادة استناداً إليها من باب ترتّبه على العلم ، غايته أنّه علم جعلي ، فيخرج بذلك عمّا أنكره الأُستاذ قدس‌سره من كون الظنّ بما أنّه ظنّ موضوعاً للحكم الشرعي المذكور ، فتأمّل.

وكيف كان ، فإنّ الممكن من هذه الأقسام المذكورة للظنّ الموضوعي هو أخذه موضوعاً للحكم المخالف بأقسامه الثمانية ، يعني سواء كان حجّة أو لا ، وكلّ منهما إمّا صفة أو طريق ، فهذه أربعة ، وكلّ منها إمّا على نحو الجزء أو على نحو التمام ، فهذه أقسام ثمانية ، كلّها ممكنة ، لكن شيخنا قدس‌سره أسقط منها ما أُخذ على نحو الطريقية تمام الموضوع ، سواء كان الظنّ حجّة أو لا ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في المباحث السابقة (١). وحينئذ تكون الأقسام الممكنة عنده قدس‌سره ستّة ، وغير الممكن ثمانية أيضاً ، وهي أقسام ما أُخذ موضوعاً للحكم المضادّ بأقسامه

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٠ ـ ٢٢.

١١٧

الثمانية. وقد علّل شيخنا قدس‌سره عدم الامكان في ذلك بقوله : لأنّه يلزم اجتماع الضدّين ولو في الجملة وفي بعض الموارد (١) ، يعني في صورة مطابقة الظنّ للواقع ، بل في صورة كون الظنّ جزء الموضوع يلزم اجتماع الضدّين دائماً.

ولا يخفى أنّه يبقى الإشكال في صورة أخذه تمام الموضوع عند عدم الاصابة ، إذ لا يتأتّى فيها المانع المذكور. فالأولى التعليل لعدم الصحّة بأنّه موجب للظنّ باجتماع الضدّين في جميع هذه الأقسام الثمانية.

ثمّ إنّه قدس‌سره جعل أقسام ما أُخذ موضوعاً للمماثل ، أربعة منها صحيحة توجب التأكّد ، وهي صور ما كان الظنّ غير حجّة ، فجعل ذلك من باب التأكيد. وأربعة أبطلها قدس‌سره ، وهي صور كون ذلك الظنّ حجّة ، فقال في وجه بطلانها : فإنّ الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك (٢).

وقد تقدّم البحث في ذلك أيضاً في مبحث أخذ العلم موضوعاً (٣) ، وأنّ هذا المعنى لو تمّ لانسدّ باب أخذ العلم موضوعاً ، هذا. مضافاً إلى [ أنّ ] التفرقة بين ما يكون حجّة وما لا يكون ، في صحّة كون الثاني مؤثّراً في الملاك بخلاف الأوّل ، لا يخلو عن تأمّل. وكيف كان ، فقد عرفت فيما تقدّم أنّ ذلك ـ أعني أخذ العلم موضوعاً للحكم المماثل ـ لا يصحّ (٤) ، وأنّه لا يتأتّى التأكّد لاختلاف الرتبة ، وحينئذ تكون أقسام المماثل ملحقة بالمضاد في عدم الصحّة والبطلان.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٤.

(٣ و ٤) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

١١٨

قوله : هو أنّ الظنّ الغير المعتبر لا يصحّ أخذه موضوعاً على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلّقه ولا لمخالفه ، فإنّ أخذه على وجه الطريقية يستدعي اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظنّ إلاّلحاظه طريقاً ... الخ (١).

لا يخلو من تأمّل ، لأنّ لحاظ الحاكم الظنّ من حيث كونه كاشفاً لا يستلزم كونه حجّة عنده ولا جعل حجّيته ، فإنّ هذه الجهة للظنّ ـ أعني جهة كونه كاشفاً ـ ذاتية للظنّ ، غايته أنّه كشف ناقص ، ومحصّل حجّيته هو تكميل ذلك النقص فيه ، ومن الواضح أنّ أخذه موضوعاً من هذه الجهة الناقصة من الكشف في قبال أخذه صفة قائمة بنفس الظانّ ، وذلك لا دخل له بتكميل ذلك النقص ، فلا يكون أخذه من هذه الناحية موجباً لحجّيته ، كما أنّه يصحّ أخذه بما هو عليه من الكشف الناقص.

وبعبارة أُخرى : أنّ الظنّ الذي هو غير حجّة يمكن أن يؤخذ في الموضوع على ما هو عليه من الكشف الناقص ، فلا يكون أخذه فيه من هذه الجهة موجباً لتكميل نقصه ، ولا أنّه يكشف عن أنّه قد جعله حجّة ثمّ أخذه في الموضوع.

وبعبارة أُخرى : أنّ أخذه في الموضوع من هذه الناحية لا يوجب جعل حجّيته ولا يكشف عن جعلها ، لإمكان أخذه كذلك مع فرض كونه ليس بحجّة ، كما ربما يقال في مسألة الظنّ في الركعتين الأُوليين بأن يقال : إنّ الحكم بصحّة الصلاة متوقّف على إحرازهما ، فيكون هذا الحكم وهو صحّة الصلاة موضوعه هو العلم بهما ، ثمّ إنّه جعل ذلك الحكم للظنّ بهما من دون أن يجعل ذلك الظنّ حجّة ، وإن أمكن القول بأنّ ذلك من قبيل التصرّف بالموضوع ، وأنّ الظنّ إنّما أقامه مقام العلم لأنّه جعله علماً ، وإن كان جعله علماً من هذه الناحية فقط أعني ناحية إحراز الأوّلين وغيرهما من الأخيرتين ، فتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٥.

١١٩

[ الكلام في التجرّي ]

قوله : وحاصل هذه الدعوى تتركّب من مقدّمتين ... الخ (١).

ملخّص هاتين المقدّمتين : هو أنّ إرادة المكلّف للفعل الخارجي المتعلّق بموضوع خارجي مثل شرب الخمر إنّما تتعلّق به بعد علمه بكونه شرب خمر ، على وجه يكون تمام المؤثّر في حركته نحوه هو علمه بأنّه شرب خمر ، على وجه لا يكون لكونه خمراً واقعياً تأثير في إرادته ، ويستحيل أن تكون إرادته منبعثة عن الوجود الواقعي ، وإنّما هي منبعثة عن الوجود العلمي ، وحينئذ نقول : إنّه يريد ما علم أنّه شرب خمر ، فتكون إرادته متعلّقة بشرب معلوم الخمرية على نحو يكون العلم تمام الموضوع في عالم تلك الإرادة ، هذا حاصل إحدى المقدّمتين.

وحاصل المقدّمة الأُخرى : هو أنّ التكاليف إيجاباً أو منعاً إنّما تتعلّق بإرادة المكلّف ، فهو في مثل النهي عن شرب الخمر يمنعه من إرادة شرب ما هو معلوم الخمرية ، ويكون ذلك قدراً مشتركاً بين العلم المصيب والعلم المخطئ.

ومن ذلك تعرف أنّ أخذ النتيجة المذكورة من هاتين المقدّمتين لا تتوقّف على أخذ العلم صفتياً في المقدّمة الأُولى ، بل يكفي فيها أخذه على نحو تمام الموضوع ولو بنحو الكشف والطريقية. كما أنّها لا تتوقّف على أخذ الإرادة في متعلّق التكليف معنى اسمياً ، بل بعد تمامية المقدّمة الأُولى يكفي كون متعلّق

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٩.

١٢٠