بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

الارض ، حتى يدينوا طوعا وكرها : يملا الارض عدلا وقسطا ونورا وبرهانا يدين له عرض البلاد وطولها ، حتى لا يبقى كافر إلا آمن ، ولا طالح إلا صلح ، وتصطلح في ملكه السباع ، وتخرج الارض نبتها ، وتنزل السماء بركتها ، وتظهر له الكنوز يملك ما بين الخافقين أربعين عاما فطوبى لمن أدرك أيامه وسمع كلامه (١).

ايضاح : يقال : صار هذا الامر سبة عليه ، بضم السين ، وتشديد الباء أي عارا يسب به ، قوله « عن ثقاته » لعل الضمير راجع إلى الامر أو إلى الله ، وكل منهما لا يخلو من تكلف وقال الجوهري : الرحب بالضم السعة ، تقول منه : فلان رحب الصدر ، والرحب بالفتح الواسع والبلعوم بالضم مجرى الطعام في الحلق وهو المرئ والاعفاج من الناس ومن الحافر والسباع كلها ما يصير الطعام إليه بعد المعدة ، وهو مثل المصارين لذوات الخف والظلف.

ودانه أي أذله واستعبده ، ودان له أي أطاعه ، ودينت الرجل وكلته إلى دينه ، والكلب بالتحريك الشدة ، والطالح خلاف الصالح والخافقان افقا المشرق والمغرب.

٥ ـ اعلام الدين للديلمى : قال : خطب الحسن بن علي عليهما‌السلام : بعد وفاة أبيه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر ، فشيب السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم وكنا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا.

ثم أصبحتم تصدون قتيلين : قتيلا بصفين تبكون عليهم ، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأرهم ، فأما الباكي فخاذل ، وأما الطالب فثائر.

وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة ، فان أردتم الحياة قبلناه منه ، وأغضضنا على القذى ، وإن أردتم الموت ، بذلناه في ذات الله ، وحاكمناه إلى الله.

____________________

(١) الاحتجاج ص ١٤٨ و ١٤٩.

٢١

فنادى القوم بأجمعهم بل البقية والحياة (١).

٦ ـ ج ، د : عن سليم بن قيس قال : قام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام على المنبر حين اجتمع مع معاوية ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إن معوية زعم أني رأيته للخلافة أهلا ، ولم أرنفسي لها أهلا ، وكذب معاوية أنا أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبي الله ، فاقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لاعطتهم السماء قطرها ، والارض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، وقد قال رسول الله (ص) : ما ولت امة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا ، حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل.

وقد ترك بنو إسرائيل هارون ، واعتكفوا على العجل ، وهم يعلمون أن هارون خليفة موسى ، وقد تركت الامة عليا عليه‌السلام وقد سمعوا رسول الله (ص) يقول

____________________

(١) روى هذه الخطبة ابن الاثير الجزري ج ٢ ص ١٣ من اسد الغابة باسناده إلى ابى بكر بن دريد قال قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين فقال بعد حمد الله عزوجل : انا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فسلبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في منتدبكم إلى صفين : دينكم أمام دنياكم ، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وانا لكم كما كنا ، ولستم لنا كما كنتم.

ألا وقد أصبحتم بين قتيلين : قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره فأما الباقى فخاذل ، وأما الباكى فثائر ، الا وان معاوية دعانا إلى امر ليس فيه عز ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عزوجل بظبا السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه ، وأخذنا لكم الرضا ، فناداه القوم من كل جانب : البقية! البقية! فلما أفردوه أمضى الصلح.

وروى مثله في تذكرة خواص الامة ص ١١٤ قال : وفى رواية أنه قال عليه‌السلام : نحن حزب الله المفلحون ، وعترة رسوله المطهرون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، و أحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكم ، فطاعتنا مقرونة بطاعة الله فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول.

وان معاوية دعانا الحديث.

٢٢

لعلي عليه‌السلام : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي بعدي » وقد هرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه ، وهو يدعوهم إلى الله ، حتى فر إلى الغار ، ولو وجد عليهم أعوانا ما هرب منهم ، ولو وجدت أنا أعوانا ما بايعتك يا معاوية.

وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه ، ولم يجد عليهم أعوانا ، وقد جعل الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سعة حين فر من قومه ، لما لم يجد أعوانا عليهم ، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله ، حين تركتنا الامة وبايعت غيرنا ولم نجد أعوانا.

وإنما هي السنن والامثال يتبع بعضها بعضا ، أيها الناس إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلا من ولد نبي غيري وغير أخي.

٧ ـ كش : روي عن علي بن الحسن الطويل ، عن علي بن النعمان ، عن عبدالله بن مسكان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : جاء رجل من أصحاب الحسن عليه‌السلام يقال له : سفيان بن ليلى (١) وهو على راحلة له ، فدخل على الحسن وهو

____________________

(١) اختلف في اسمه بين سفيان بن ليلى ، وسفيان بن ابى ليلى ، وسفيان بن ياليل وعلى اى عده بعض الرجاليين في حوارى الامام الحسن السبط ، وبعضهم نظر في ذلك كابن داود قال : سفيان بن [ ابي ] ليلى الهمدانى من أصحاب الحسن عليه‌السلام عنونه الكشى وقال : ممدوح من أصحابه عليه‌السلام ، عاتب الحسن بقوله « يا مذل المؤمنين » واعتذر له بأنه قال ذلك محبة ، وفيه نظر.

أقول : روى المفيد في الاختصاص ص ٦١ والكشى ص ٧٣ ، في حديث ضعيف عن ابى الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام انه قال : ثم ينادى المنادى اين حوارى الحسن بن على؟ فيقوم سفيان بن أبى ليلى الهمدانى وحذيفة بن اسيد الغفارى.

ولكن قال في تذكرة الخواص : وفي رواية ابن عبدالبر المالكى في كتاب الاستيعاب ان سفيان بن ياليل وقيل ابن ليلى وكنيته أبوعامر ، ناداه يا مذل المؤمنين ، وفى رواية هشام ، ومسود وجوه المؤمنين ، فقال له : ويحك ايها الخارجى لا تعنفى ، فان الذى أحوجنى إلى ما فعلت : قتلكم أبي ، وطعنكم اياي ، وانتهابكم متاعي : وانكم لما سرتم إلى صفين كان دينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم اليوم وديناكم أمام دينكم.

٢٣

محتب (١) في فناء داره فقال له : السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال له الحسن : انزل ولا تعجل ، فنزل فعقل راحلته في الدار ، وأقبل يمشي حتى انتهى إليه قال فقال له الحسن : ما قلت؟ قال : قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين ، قال وما علمك بذلك؟ قال : عمدت إلى أمر الامة ، فخلعته من عنقك ، وقلدته هذا الطاغية ، يحكم بغير ما أنزل الله ، قال : فقال له الحسن عليه‌السلام : سأخبرك لم فعلت ذلك.

قال : سمعت أبي عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لن تذهب الايام والليالي حتى يلي أمر هذه الامة رجل واسع البلعوم ، رحب الصدر (٢) يأكل ولا يشبع وهو معاوية ، فلذلك فعلت.

ما جاء بك؟ قال : حبك ، قال : الله؟ قال : الله ، فقال الحسن عليه‌السلام : والله لا يحبنا عبد أبدا ولو كان أسيرا في الديلم إلا نفعه حبنا ، وإن حبنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر.

ختص : جعفر بن الحسين المؤمن وجماعة مشايخنا عن محمد بن الحسين بن

____________________

ويحك أيها الخارجى! انى رأيت أهل الكوفة قوما لا يوثق بهم ، وما اغتربهم الا من ذل ، ليس [ راى ] أحد منهم يوافق رأى الاخر ، ولقد لقى أبي منهم امورا صبعة وشدائد مرة ، وهى أسرع البلاد خرابا ، وأهلها هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.

وفى رواية : ان الخارجي لما قال له : يا مذل المؤمنين! قال : ما اذللتهم ، ولكن كرهت أن أفنيهم واستأصل شافتهم لاجل الدنيا.

والظاهر أن الرجل كان مع محبته لاهل البيت خصوصا الحسن السبط ، على رأى الخوارج ، ولذلك عنفه وعابه بمصالحته مع معاوية ، فتحرر.

(١) أى كان محتبيا : جمع بين ظهره وساقيه بيديه أو بازاره.

(٢) رحب الصدر : اي واسع الصدر ، وانما يريد به معناه اللغوي ، لا الكنائي الذي هو مدح ، وسيجئ القصة عن ابن ابي الحديد نقلا عن مقاتل أبى الفرج ، وفيه بدل « رحب الصدر » : « واسع السرم » والسرم : هو مخرج الثقل وهو طرف المعى المستقيم وهو المناسب المقابل لقوله « واسع البلعوم ».

٢٤

أحمد ، عن الصفار ، عن ابن عيسى ، عن علي بن النعمان مثله (!).

٨ ـ كشف : روى الدولابي مرفوعا إلى جبير بن نفير ، عن أبيه قال : قدمت المدينة (٢) فقال الحسن بن علي عليهما‌السلام : كانت جماجم العرب بيدي ، يسالمون من سالمت ، ويحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، وحقن دماء المسلمين. وروي أن رسول الله (ص) أبصر الحسن بن علي عليهما‌السلام مقبلا فقال : اللهم سلمه وسلم منه.

٩ ـ كا : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الصباح ابن عبدالحميد ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : والله الذي صنعه الحسن ابن علي عليهما‌السلام كان خيرا لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس ، ووالله لقد نزلت هذه الآية « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » : إنما هي طاعة الامام ، و [ لكنهم ] طلبوا القتال « فلما كتب عليهم القتال » مع الحسين عليه‌السلام « قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب » « نجب دعوتك ، ونتبع الرسل » (٣) أرادوا تأخير ذلك إلى القائم عليه‌السلام.

توضيح : قوله عليه‌السلام : « إنما هي طاعة الامام » أي المقصود في الآية طاعة الامام الذي ينهى عن القتال ، لعدم كونه مأمورا به ، ويأمر بالصلاة والزكاة ، وسائر

____________________

(١) راجع الاختصاص ص ٨٢ ، الكشى ص ٧٣.

(٢) كذا في الاصل وكذا المصدر ج ٢ ص ٩٩ ، لكنه روى في الكشف ج ٢ ص ١٤١ عن حلية الاولياء للحافظ أبى نعيم قال : وعن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : قلت للحسن بن على عليهما‌السلام : ان الناس يقولون انك تريد الخلافة؟ فقال : قد كانت جماجم العرب الحديث.

وهذا هو الصحيح الظاهر متنا وسندا ، وقد مر مع اضافة قوله عليه‌السلام بعد ذلك « ثم أثيرها يا تياس أهل الحجاز؟ » راجع ص ١٥ من هذا المجلد.

(٣) ملفق من آيتين : النساء : ٧٧ ، وابراهيم : ٤٤. والحديث في روضة الكافى ص ٣٣٠.

٢٥

أبواب البر ، والحاصل أن أصحاب الحسن عليه‌السلام كانوا بهذه الآية مأمورين بطاعة إمامهم في ترك القتال ، فلم يرضوا به ، وطلبوا القتال ، فلما كتب عليهم القتال مع الحسين عليه‌السلام قالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي قيام القائم عليه‌السلام.

ثم اعلم أن هذه الآية كما ورد في الخبر ، ليست في القرآن ففي سورة النساء « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل » ، وفي سورة إبراهيم « فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل » فلعله عليه‌السلام وصل آخر الآية بالآية السابقة لكونهما لبيان حال هذه الطائفة ، أو أضاف قوله؟ « نجب دعوتك » بتلك الآية على وجه التفسير والبيان ، أي كان غرضهم أنه إن أخرتنا إلى ذلك نجب دعوتك [ ونتبع ] ويحتمل أن يكون في مصحفهم عليهم‌السلام هكذا.

أقول : سيأتي بعض الاخبار المناسبة لهذا الباب في باب شهادته عليه‌السلام.

* ( تذييل ) *

قال السيد المرتضى في كتاب تنزيه الانبياء :

فان قال قائل : ما العذر له عليه‌السلام في خلع نفسه من الامامة ، وتسليمها

إلى معاوية ، مع ظهور فجوره ، وبعده عن أسباب الامامة ، وتعريه من صفات مستحقها ، ثم في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بامامته ، هذا مع توفر أنصاره واجتماع أصحابه ومبايعة من كان يبذل عنه دمه وماله ، حتى سموه مذل المؤمنين وعابوه في وجهه عليه‌السلام.

الجواب : قلنا : قد ثبت أنه عليه‌السلام الامام المعصوم المؤيد الموفق بالحجج الظاهرة ، والادلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله ، وحملها على الصحة

٢٦

وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل ، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفس عنه وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا.

وبعد فان الذي جرى منه عليه‌السلام كان السبب فيه ظاهرا ، والحامل عليه بينا جليا ، لان المجتمعين له من الاصحاب وإن كانوا كثيري العدد ، فقد كانت قلوب أكثرهم نغلة غير صافية ، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية ، من غير مراقبة ولا مساترة ، فأظهروا له عليه‌السلام النصرة ، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يور طوه ويسلموه ، فأحس بهذا منهم قبل التولج والتلبس ، فتخلى من الامر ، وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت.

وقد صرح بهذه الجملة ، وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة ، وبألفاظ مختلفة ، وقال عليه‌السلام : إنما هادنت حقنا للدماء ، وضنا بها ، وإشفاقا على نفسي وأهلي ، والمخلصين من أصحابي ، فكيف لا يخاف أصحابه ويتهمهم على نفسه وأهله.

وهو عليه‌السلام لما كتب إلى معاوية ، يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه عليه‌السلام ويدعوه إلى طاعته فأجابه معاوية بالجواب المعروف المتضمن للمغالطة منه والموارية وقال له فيه : لو كنت أعلم أنك أقوم بالامر ، وأضبط للناس ، وأكيد للعدو وأقوى على جميع الامور مني ، لبايعتك ، لانني أراك لكل خير أهلا ، وقال في كتابه : إن أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فدعاه ذلك إلى أن خطب أصحابه بالكوفة يحضهم على الجهاد ويعرفهم فضله وما في الصبر عليه من الاجر ، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكرهم ، فما أجابه أحد ، فقال لهم عدي بن حاتم : سبحان الله ألا تجيبون إمامكم أين خطباء المصر فقام قيس بن سعد وفلان وفلان فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول ونحن نعلم أن من يضن بكلامه أولى أن يضن بفعاله.

أو ليس أحدهم جلس له في مظلم ساباط ، وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه وشقه حتى وصل إلى العظم ، وانتزع من يده ، وحمل عليه‌السلام إلى المدائن ، وعليها سعد بن مسعود عم المختار ، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولاه إياها فادخل

٢٧

منزله فأشار المختار على عمه أن يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوحى سنة فأبى عليه ، وقال للمختار : قبح الله رأيك ، أنا عامل أبيه ، وقد ائتمنني وشرفنني ، وهبني بلاء أبيه (١) ءأنسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أحفظه في ابن ابنته وحبيبته.

ثم إن سعد بن مسعود أتاه عليه‌السلام بطبيب وقام عليه حتى برأ وحوله إلى بيض المدائن (٢) فمن الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم ، فضلا على النصرة والمعونة ، وقد أجاب عليه‌السلام حجر بن عدي الكندي لما قال له : سودت

____________________

(١) البلاء : الاختبار ، ويكون بالخير والشر ، يقال : أبلاه الله بلاء حسنا ، وابتليته معروفا ، قال زهير :

جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الذى يبلو

اى خير الصنيع الذى يختبر به عباده.

ومراده هبنى أن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يسد إلى نعمة حيث ولانى على المدائنءأنسى رسول الله الخ.

أقول سعد بن مسعود الثقفى : كان عاملا على المدائن من قبل أمير المؤمنين وقد كتب اليه علي عليه‌السلام أما بعد فانك قد اديت خراجك ، وأطعت ربك ، وأرضيت امامك : فعل البر التقى النجيب ، فغفر الله ذنبك ، وتقبل سعيك ، وحسن مآبك. ( راجع تاريخ اليعقوبي ).

(٢) قال ابن الجوزى في التذكرة ص ١١٢ : قال الشعبى : فبينا الحسن في سرادقه بالمدائن وقد تقدم قيس بن سعد ، اذ نادى مناد في العسكر : الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا فنفروا إلى سرادق الحسن فنازعوه حتى أخذوا بساطا كان تحته ، وطعنه رجل بمشقص فأدماه ، فازدادت رغبته في الدخول في الجماعة ، وذعر منهم فدخل المقصورة التى في المدائن بالبيضاء ، وكان الامير على المدائن سعد بن مسعود الثقفى عم المختار ولاه عليها على عليه‌السلام.

فقال له المختار ، وكان شابا : هل لك في الغناء والشرف؟ قال : وما ذلك؟ قال : تستوثق من الحسن وتسلمه إلى معاوية ، فقال له سعد : قاتلك الله ، أثب على ابن رسول الله وأوثقه واسلمه إلى ابن هند؟ بئس الرجل أنا ان فعلته.

٢٨

وجوه المؤمنين فقال عليه‌السلام : ما كل أحد يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك ، وإنما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم.

وروى عباس بن هشام ، عن أبيه ، عن أبي مخنف ، عن أبي الكنود عبد الرحمان ابن عبيد قال : لما بايع الحسن عليه‌السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى باظهار الاسف والحسرة على ترك القتال ، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له سليمان بن صرد الخزاعي : ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، كلهم يأخذ العطاء ، وهم على أبواب منازلهم ، ومعهم مثلهم من أبنائهم ، وأتباعهم ، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز.

ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ، ولا حظا من العطية ، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب ، وكتبت عليه كتابا بأن الامر لك بعده ، كان الامر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك شيئا بينك وبينه ، لم يف به ، ثم لم يلبث أن قال على رؤس الاشهاد : « إني كنت شرطت شروطا ووعدت عداة إرادة لاطفاء نار الحرب ، ومداراة لقطع الفتنة ، فلما أن جمع الله لنا الكلم والالفة فان ذلك تحت قدمي » والله ما عنى بذلك غيرك ، وما أراد إلا ما كان بينك وبينه ، وقد نقض.

فإذا شئت فأعد الحرب خدعة ، وائذن لي في تقدمك إلى الكوفة ، فاخرج عنها عامله وأظهر خلعه ، وتنبذ إليه على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ، وتكلم الباقون بمثل كلام سليمان.

فقال الحسن عليه‌السلام : أنتم شيعتنا وأهل مودتنا فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ، ولسلطانها أركض وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا ، ولا أشد شكيمة

____________________

وذكر ابن سعد في الطبقات : ان المختار قال لعمه سعد : هل لك في أمر تسود به العرب؟ قال : وما هو؟ قال : دعنى أضرب عنق هذا يعنى الحسن وأذهب به إلى معاوية. فقال له : قبحك الله ما هذا بلاؤهم عندنا أهل البيت.

٢٩

ولا أمضى عزيمة (١) ولكني أرى غير ما رأيتم ، وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء فارضوا بقضاء الله ، وسلموا لامره ، والزموا بيوتكم وأمسكوا.

أو قال : كفوا أيديكم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ، وهذا كلام منه عليه‌السلام يشفي الصدور ، ويذهب بكل شبهة في هذا الباب.

وقد روي أنه عليه‌السلام لما طالبه معاوية بأن يتكلم على الناس ، ويعلمهم ما عنده في هذا الباب ، قام فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : إن أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، أيها الناس إنكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلا جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري ، وغير أخي الحسين ، وإن الله قد هداكم بأولياء محمد (ص) (٢) وإن معاوية نازعني حقا هو لي ، فتركته لصلاح الامة وحقن دمائها ، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت ، فقد رأيت أن اسالمه ورأيت أن ما حقن الدماء خير مما سفكها ، وأردت صلاحكم ، وأن يكون ما صنعت حجة على من كان يتمنى هذا الامر ، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.

وكلامه عليه‌السلام في هذا الباب الذي يصرح في جميعه بأنه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم ، ودافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين ، أشهر من الشمس وأجلى من الصبح ، فأما قول السائل « إنه خلع نفسه من الامامة » فمعاذ الله لان الامامة بعد حصولها للامام لا يخرج عنه بقوله ، وعند أكثر مخالفينا أيضا في الامامة أن خلع الامام نفسه لا يؤثر في خروجه من الامامة ، وإنما ينخلع من الامامة عندهم بالاحداث والكبائر ، ولو كان خلعه في نفسه مؤثرا لكان إنما يؤثر إذا وقع اختيارا فأما مع الالجاء والاكراه فلا تأثير له ، ولو كان مؤثرا في موضع

____________________

(١) الشكيمة : الانفة والانتصار من الظلم يقال : فلان شديد الشكيمة : أى أنوف أبى لا ينقاد.

(٢) كذا في النسخ ، والمروى من الخطبة أنه قال : فان الله هداكم باولنا [ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ] وحقن دماءكم بآخرنا. سيجيئ الخطبة بألفاظها المروية في الباب الاتى.

٣٠

من المواضع.

ولم يسلم أيضا الامر إلى معاوية ، بل كف عن المحاربة والمغالبة ، لفقد الاعوان وعوز الانصار ، وتلاقي الفتنة على ما ذكرناه ، فيغلب عليه معاوية بالقهر والسلطان ، مع ما أنه كان متغلبا على أكثره ، ولو أظهر عليه‌السلام له التسليم قولا لما كان فيه شئ إذا كان عن إكراه واضطهاد.

فأما البيعة فان اريد بها الصفقة وإظهار الرضا والكف عن المنازعة ، فقد كان ذلك ، لكنا قد بينا جهة وقوعه ، والاسباب المحوجة إليه ، ولا حجة في ذلك عليه صلوات الله عليه كما لم يكن في مثله حجة على أبيه صلوات الله عليهما لما بايع المتقدمين عليه ، وكف عن نزاعهم ، وأمسك عن غلابهم.

وإن اريد بالبيعة الرضا وطيب النفس ، فالحال شاهد بخلاف ذلك ، وكلامه المشهور كله يدل على أنه أحوج وأحرج ، وأن الامر له وهو أحق الناس به وإنما كف عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين.

فأما أخذ العطاء فقد بينا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين صلوات الله عليه من ذلك أن أخذه من يد الجابر الظالم المتغلب جائز ، وأنه لا لوم فيه على الاخذ ولا حرج ، وأما أخذ الصلات فسائغ بل واجب ، لان كل مال في يد الغالب الجابر المتغلب على أمر الامة ، يجب على الامام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن ، بالطوع أو الاكراه ، ووضعه في مواضعه. فاذا لم يتمكن عليه‌السلام من انتزاع جميع ما في يد معاوية من أموال الله تعالى وأخرج هو شيئا منها إليه على سبيل الصلة ، فواجب عليه أن يتناوله من يده ، ويأخذ منه حقه ويقسمه على مستحقه ، لان التصرف في ذلك المال بحق الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلا له عليه‌السلام.

وليس لاحد أن يقول : إن الصلاة التي كان يقبلها من معاوية أنه كان ينفقها على نفسه وعياله ، ولا يخرجها إلى غيره ، وذلك أن هذا مما لا يمكن أن يدعى العلم به والقطع عليه ، ولا شك أنه عليه‌السلام كان ينفق منها لان فيها حقه وحق

٣١

عياله وأهله ، ولابد من أن يكون قد أخرج منها إلى المستحقين حقوقهم ، وكيف يظهر ذلك وهو عليه‌السلام كان قاصدا إلى إخفائه وستره لمكان التقية ، والمحوج له عليه‌السلام إلى قبول تلك الاموال على سبيل الصلة ، هو المحوج له إلى ستر إخراجها أو إخراج بعضها إلى مستحقيها من المسلمين ، وقد كان عليه وآله السلام يتصدق بكثير من أمواله ، ويواسي الفقراء ، ويصل المحتاجين ، ولعل في جملة ذلك هذه الحقوق.

فأما إظهار موالاته فما أظهر عليه‌السلام من ذلك شيئا كما لم يبطنه ، وكلامه عليه‌السلام فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر ، ولو فعل ذلك خوفا واستصلاحا وتلافيا للشر العظيم ، لكان واجبا ، فقد فعل أبوه صلوات الله عليه وآله مثله ، مع المتقدمين عليه.

وأعجب من هذا كله دعوى القول بامامته ، ومعلوم ضرورة منه عليه‌السلام خلاف ذلك ، فانه كان يعتقد ويصرح بأن معاوية لا يصلح أن يكون بعض ولاة الامام وأتباعه ، فضلا عن الامامة نفسها.

وليس يظن مثل هذه الامور إلا عامي حشوي قد قعد به التقليد ، وما سبق إلى اعتقاده من تصويب القوم كلهم عن التأمل وسماع الاخبار المأثورة في هذا الباب ، فهو لا يسمع إلا ما يوافقه ، وإذا سمع لم يصدق إلا بما أعجبه والله المستعان ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وأقول : بعد ما أسسناه في كتاب الامامة بالدلائل العقلية والنقلية أنهم عليهم‌السلام لا يفعلون شيئا إلا بما وصل إليهم من الله تعالى ، وبعد ما قرع سمعك في تلك الابواب من الاخبار الدالة على وجه الحكمة في خصوص ما فعله عليه‌السلام ، لا أظنك تحتاج إلى بسط القول في ذلك ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

٣٢

١٩

( باب )

« ( كيفية مصالحة الحسن بن على صلوات الله عليهما ) »

« ( معاوية عليه اللعنة وما جرى بينهما قبل ذلك ) »

١ ـ ع : دس معاوية إلى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وإلى حجر بن الحارث (١) وشبث بن ربعي دسيسا أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه ، أنك إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم ، وجند من أجناد الشام ، وبنت من بناتي ، فبلغ الحسن عليه‌السلام فاستلام ولبس درعا وكفرها ، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك.

فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه ، لما عليه من اللامة فلما صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمل فيه الخنجر فأمر عليه‌السلام أن يعدل به إلى بطن جريحى (٢) وعليها عم المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن قيلة فقال المختار لعمه : تعالى حتى نأخذ الحسن ونسلمه إلى معاوية ، فيجعل لنا العراق فنذر بذلك الشيعة من قول المختار لعمه فهموا بقتل المختار فتلطف عمه لمسألة الشيعة بالعفو عن المختار ، ففعلوا.

فقال الحسن عليه‌السلام : ويلكم والله إن معاوية لا يفي لاحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي في يده فاسالمه يتركني أدين لدين جدي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإني أقدر أن أعبدالله عزوجل وحدي ، ولكني كأني أنظر إلى أبناءكم واقفين على أبواب أبنائهم ، يستسقونهم ويستطعمونهم ، بما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

____________________

(١) هذا هو الظاهر لبعض نسخ الكتاب وفى بعضها « حجر بن الحجر » وفى بعضها « حجرين الحر » وفى بعضها « حجر بن الجر ».

(٢) فليتحرر

٣٣

فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه ، فكتب الحسن من فوره ذلك إلى معاوية : أما بعد فان خطبي انتهى إلى اليأس من حق احييه وباطل اميته ، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده ، وإنني أعتزل هذا الامر ، واخليه لك ، وإن كان تخليتي إياه شرا لك في معادك ، ولي شروط أشترطها ، لا تبهظنك إن وفيت لي بها بعهد ولا تخف إن غدرت وكتب الشروط في كتاب آخر فيه يمنيه بالوفاء ، وترك الغدر وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممن نهض في الباطل ، أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم ، والسلام.

فان قال قائل : من هو النادم الناهض؟ والنادم القاعد؟ قلنا : هذا الزبير ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ما أيقن بخطاء ما أتاه ، وباطل ما قضاه. وبتأويل ما عزاه ، فرجع عنه القهقرى ، ولو وفا بما كان في بيعته لمحانكثه ، ولكنه أبان ظاهرا الندم والسريرة إلى عالمها.

وهذا عبدالله بن عمر بن الخطاب ، روى أصحاب الاثر في فضائله أنه قال : مهما آسا عليه من شئ فاني لا آسا على شئ أسفي على أني لم اقاتل الفئة الباغية مع علي. (١) فهذا ندم القاعد.

وهذه عائشة روى الرواة أنها لما أنبها مؤنب فيما أتته ، قالت : قضي القضاء وجفت الاقلام ، والله لو كان لي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرون ذكرا كلهم مثل عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فثكلتهم بموت وقتل ، كان أيسر علي من خروجي على علي ، ومسعاي التي سعيت ، فالى الله شكواي لا إلى غيره (٢).

وهذا سعد بن أبي وقاص لما انهى إليه أن عليا صلوات الله عليه قتل ذا الثدية أخذه ما قدم وما أخر ، وقلق ونزق ، وقال : والله لو علمت أن ذلك كذلك

____________________

(١) تراه في الاستيعاب لابن عبدالبر المالكى بذيل الاصابة ج ٢ ص ٣٣٧ ، بألفاظ مختلفة وفى بعضها أنه قال ذلك حين حضرته الوفاة.

(٢) روى مثله ابوالفرج الاصبهانى في كتاب مرج البحرين على ما نقله في تذكرة الخواص ص ٦١.

٣٤

لمشيت إليه ولوحبوا.

ولما قدم معاوية دخل إليه سعد فقال له : يا أبا إسحاق ما الذي منعك أن تعينني على الطلب بدم الامام المظلوم؟ فقال : كنت اقاتل معك عليا؟ وقد سمعت رسول الله (ص) يقول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟ قال : أنت سمعت هذا من رسول الله (ص)؟ قال : نعم ، وإلا صمتا ، قال : أنت الآن أقل عذرا في القعود عن النصرة ، فو الله لو سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قاتلته (١).

وقد أحال ، فقد سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعلي عليه‌السلام أكثر من ذلك فقاتله وهو بعد مفارقته للدنيا يلعنه ويشتمه ، ويرى أن ملكه وثبات قدرته بذلك إلا أنه أراد أن يقطع عذر سعد في القعود عن نصره والله المستعان.

فان قال قائل لحمقه وخرقه : فان عليا ندم مما مما كان منه من النهوض في تلك الامور ، وإراقة تلك الدماء كما ندموا هم في النهوض والقعود.

قيل : كذبت وأحلت لانه في غير مقام قال : إني قلبت أمري وأمرهم ظهرا لبطن ، فما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما جاء محمد (ص) وقد روي عنه : امرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وروي هذا الحديث من ثمانية عشر وجها عن النبي (ص) أنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ولو أظهر ندما بحضرة من سمعوا منه هذا وهو يرويه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان مكذبا فيه نفسه ، وكان فيهم المهاجرون كعمار والانصار كأبي الهيثم وأبي أيوب ودونهما فان لم يتحرج ولم يتورع عن الكذب على من كذب عليه تبوأ مقعده من النار ، استحيى من هؤلاء الاعيان من المهاجرين والانصار.

وعمار الذي يقول فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور معه حيث دار ، يحلف جهد أيمانه : والله لو بلغوا بنا قصبات هجر لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل (٢) ويحلف أنه قاتل رايته التي أحضرها صفين وهي التي أحضرها

____________________

(١) ترى مثله في صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٠ و ١٢١.

(٢) راجع اسد الغابة ج ٤ ص ٤٦ ترجمة عمار.

٣٥

يوم احد والاحزاب ، والله لقد قاتلت هذه الراية آخر أربع مرات ، والله ما هي عندي بأهدى من الاولى (١) وكان يقول : إنهم أظهروا الاسلام وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا.

ولو ندم علي عليه‌السلام عند قوله امرت أن اقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين لكان من مع علي يقول له : كذبت على رسول الله (ص) ، وإقراره بذلك على نفسه وكانت الامة : الزبير وعائشة وحزبهما ، وعلي وأبوأيوب وخزيمة بن ثابت وعمار وأصحابه وسعد [ وا ] بن عمر وأصحابه (٢) فإذا اجتمعوا جميعا على الندم فلا بد من أن يكون اجتمعوا على ندم من شئ فعلوه ودوا أنهم لم يفعلوه ، وأن الفعل الذي فعلوه باطل فقد اجتمعوا على الباطل ، وهم الامة التي لا تجتمع على الباطل

أو اجتمعوا على الندم من ترك شئ لم يفعلوه ودوا أنهم فعلوه ، فقد اجتمعوا على الباطل بتركهم جميعا الحق ، ولا بد من أن يكون النبي (ص) حين قال لعلي عليه‌السلام إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، كان ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خبرا ، ولا يجوز أن لا يكون ما أخبر إلا بأن يكذب المخبر أو يكون أمره بقتالهم (٣) وتركه

____________________

(١) وقال ابن سعد : نظر عمار إلى عمرو بن العاص وبيده راية فناداه : ويحك يا ابن العاص هذه راية قد قاتلت بها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرات وهذه الرابعة.

(٢) يريد ان الامة بين ثلاث طوائف : طائفة : الزبير وعائشة وحزبهما الناكثون في الجمل ، وطائفة على عليه‌السلام والمهاجرون والانصار يقاتلونهم ، وطائفة قاعدون عن الحرب وهم عبدالله بن عمرو بن سعد بن ابى وقاص ، فاذا كان هؤلاء الطوائف وهم امة محمد كلهم ندموا على ما تدعون ، فقد اجتمعوا على الخطأ ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا تجتمع امتى على الخطأ.

(٣) اى يكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عليا بقتالهم وتركه كذلك ولم يخبر الاخرين بالامر لانه عليه‌السلام يأتمر بما أمر به عنده ، ولذلك قال فوالله ما وجدت الا السيف أو الكفر بما انزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما ذكره ابن الاثير ج ٤ ص ٣١ من اسد الغابة.

٣٦

للائتمار بما أمر به عنده ، كما قال علي عليه‌السلام : إنه كفر.

فان قال [ قائل ] : فإن الحسن أخبر بأنه حقن دماء أنت تدعي أن عليا عليه‌السلام كان مأمورا باراقتها ، والحقن لما أمر الله ورسوله باراقته من الحاقن عصيان ، قلنا : إن الامة التي ذكر الحسن عليه‌السلام امتان وفرقتان وطائفتان : هالكة وناجية ، وباغية ومبغي عليها ، فاذا لم يكن حقن دماء المبغي عليها إلا بحقن دماء الباغية ، لانهما إلا اقتتلا وليس للمبغي عليها قوام بازالة الباغية حقن دم المبغي عليها ، وإراقة دم الباغية مع العجز عن ذلك إراقة لدم المبغي عليها لا يغر فهذا هذا.

فان قال : فما الباغي عندك؟ أمؤمن أو كافر أولا مؤمن ولا كافر ، قلنا : إن الباغي هو الباغي باجماع أهل الصلاة ، وسماهم أهل الارجاء مؤمنين مع تسميتهم إياهم بالباغين ، وسماهم أهل الوعيد كفارا مشركين وكفارا غير مشركين كالاباضية والزيدية وفساقا خالدين في النار كواصل وعمر ، ومنافقين خالدين في الدرك الاسفل من النار كالحسن وأصحابه ، فكلهم قد أزال الباغي عما كان [ فيه ] قبل البغي فأخرجه قوم إلى الكفر والشرك كجميع الخوارج غير الاباضية (١) وإلى الكفر غير الشرك كالاباضية والزيدية ، وإلى الفسق والنفاق [ كواصل ] وأقل ما حكم عليهم أهل الارجاء إسقاطهم من السنن والعدالة والقبول.

فان قال : فان الله عزوجل سمى الباغي مؤمنا فقال عزوجل : « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا » (٢) فجعلهم مؤمنين ، قلنا : لابد من أن المأمور بالاصلاح بين الطائفتين المقتتلين ، كان قبل اقتتالهما عالما بالباغية منهما أو لم يكن عالما بالباغية منهما؟ فان كان عالما بالباغية منهما ، كان مأمورا بقتالها مع المبغي عليها حتى تفيئ إلا أمر الله وهو الرجوع إلى ما خرج منه بالبغي ، وإن كان المأمور بالاصلاح جاهلا بالباغية والمبغي عليها ، فانه كان جاهلا بالمؤمن غير الباغي والمؤمن الباغي وكان المؤمن غير الباغي عرف بعد التبيين ، والفرق بينه وبين الباغي [ كان ] ظ مجمعا من

____________________

(١) فرقة من الخوارج انتسبوا إلى عبدالله بن أباض التميمى.

(٢) الحجرات : ٩.

٣٧

أهل الصلاة على إيمانه ، لاختلاف بينهم في اسمه والمؤمن الباغي بزعمك مختلف فيه ، فلا يسمى مؤمنا حتى يجمع على أنه مؤمن ، كما أجمع على أنه باغ ، فلا يسمى الباغي مؤمنا إلا باجماع أهل الصلاة على تسميته مؤمنا كما أجمعوا عليه وعلى تسميته باغيا.

فإن قال : فإن الله عزوجل سمى الباغي للمؤمنين أخا ولا يكون أخ المؤمنين إلا مؤمنا ، قيل : أحلت وباعدت ، فان الله عزوجل سمى هودا وهو نبي أخا عاد وهم كفار فقال : « وإلى عاد أخاهم هودا » (١) وقد يقال للشامي يا أخا الشام ولليماني يا أخا اليمن ، ويقال للمسايف اللازم له المقاتل به فلان أخ السيف ، فليس في يد المتأول « أخ المؤمن لا يكون إلا مؤمنا » مع شهادة القرآن بخلافه ، وشهادة اللغة بأنه يكون المؤمن أخا الجماد الذي هو الشام واليمن والسيف والرمح ، وبالله أستعين على امورنا في أدياننا ، ودنيانا وآخرتنا ، وإياه نسأل التوفيق لما قرب منه وأزلف لديه مبنه وكرمه.

بيان : استلام الرجل إذا لبس اللامة وهي الدرع ، وكفرت الشئ أكفره بالكسر كفرا أي سترته ، ونذر القوم بالعدو بكسر الذال أي علموا ، والخطب : الامر والشأن ، وبهظه الامر كمنع غلبه وثقل عليه.

قوله عليه‌السلام : « ولا تخف إن غدرت » أي لا يرتفع عنك ثقل إن لم تف بالعهد كما أنه لا يثقل عليك إن وفيت ، قوله « ما عزاه » أي نسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من العذر في هذا الخروج ، ويقال أسي على مصيبة بالكسر يأسى أسى أي حزن ، قوله « أخذه ما قدم وما أخر » أي أخذه هم ما قدم من سوء معاملته مع علي عليه‌السلام وما أخر من نصرته ، أو من عذاب الآخرة أو كناية عن هموم شتى لامور كثيرة مختلفة.

والقلق محركة الانزعاج ، ونزق كفرح وضرب : طاش وخف عند الغضب قوله « عن النصرة » أي عن نصرة علي عليه‌السلام قوله « وأحال » هذا كلام الصدوق أي

____________________

(١) هود : ٥٠.

٣٨

كذب معاوية وأتى بالمحال حتى ادعى عدم سماع ذلك ، قوله « أنه قاتل رايته » أي راية معاوية ، قوله « بأهدى من الاولى » أي هي مثل الاولى راية شرك في أنها راية شرك وكفر ، قوله « أو يكون أمره » حاصله أن هذا الكلام من النبي (ص) إما إخبار أو أمر في صورة الخبر ، وعلى ما ذكرت من كونهم على الحق يلزم على الاول كذب الرسول (ص) وعلى الثاني مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام لما أمره به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : قال أبوالفرج الاصفهاني كتب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية مع جندب (١) بن عبدالله الازدي : من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليكم فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فان الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين توفاه الله غير مقصر ولاوان ، بعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشر ، وخص قريشا خاصة فقال له « وإنه لذكر لك ولقومك » (٢) فلما توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش ، : نحن قبيلته واسرته وأولياؤه ، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنعمت لهم وسلمت إليهم.

ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاجت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت ممد وأولياؤه إلى محاجتهم ، وطلب النصف منهم ، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو المولي النصير.

ولقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من

____________________

(١) في الاصل : حرب بن عبدالله ، وهو تصحيف.

(٢) الزخرف : ٤٤.

٣٩

أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الاسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الاحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن الله حسيبك ، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار : وبالله لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد.

إن عليا لما مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم من الله عليه بالاسلام ويوم يبعث حيا ولاني المسلمون الامر بعده ، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عزوجل في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين ، فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند الله ، وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب.

واتق الله! ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله مالك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لا قيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به ، منك ليطفئ الله النائرة بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك ، سرت إليك بالمسلمين ، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

أقول : ثم ذكر جواب معاوية ، وما أظهر فيه من الكفر والالحاد إلى قوله : وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية وأحوط على هذه الامة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الاموال ، وأكيد للعدو ، لاجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت أني أطول منك ولاية ، وأقدم منك لهذه الامة تجربة ، وأكبر منك سنا فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ولك الامر من بعدي ولك ما في بيت مال العراق بالغا ما بلغ ، تحمله إلى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت ، معونة لك على نفقتك ، يجبيها أمينك ، ويحملها إليك في

٤٠