أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

أو إطلاقه ، أو أنّ جميع أخبارنا هي كذلك ، الأصل فيها على ما أظنّ ما اشتمل عليه التقريرات عن الشيخ قدس‌سره في هذا المبحث ، أعني قوله : واستدلّ بعض الأفاضل على المطلب بأنّه لولاه لزم إلقاء الخبر بالمرّة ، إذ ما من خبر إلاّ وهو مخالف لعموم الكتاب ولا أقل من عموم ما دلّ على أصل البراءة. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الخبر المخالف لأصل البراءة لا يعقل أن يكون مخصّصا للعموم كما قرّر في محلّه ، وستعرفه بعد ذلك من عدم ورود الدليل والأصل في مورد واحد ، انتهى (١).

فكأنّه قدس‌سره سلّم هذه الكلّية ولكنّه ناقش في أنّ الخبر المخالف لما دلّ من الآيات على البراءة مخصّص لها ، فإنّه حاكم عليها لا مخصّص.

وأمّا ما في الحاشية الأولى ص ٥٠٥ (٢) من إنكار عمومات الكتاب في البراءة فلعلّه مناقشة في المبنى ، فإنّهم قد استدلّوا على البراءة بآيات ، فراجع.

وصاحب الكفاية قدس‌سره نحا هذا المنحى فقال : مع أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك (٣). ثمّ في مقام الجواب عن أخبار المخالفة أجاب بأنّ المراد هو المخالفة العرفية دون مثل العموم والخصوص ، ثمّ قال : كيف وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم‌السلام كثيرة جدّا ، انتهى (٤).

لكن يظهر من الحاشية الأولى على ٥٠٥ (٥) إنكار الغلبة فضلا عن الكلّية.

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ٢٢١.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ١ ) : ٣٩٠.

(٣) كفاية الأصول : ٢٣٦ ، ٢٣٧.

(٤) كفاية الأصول : ٢٣٦ ، ٢٣٧.

(٥) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٠.

٣٤١

والإنصاف أنّ إنكار الكلّية في محلّه ، لما تقدّم في باب الصحيح والأعمّ من أنّ الاطلاقات الواردة في العبادات لم تكن في مقام البيان ، فراجع ص ٣٥ (١) من هذا الكتاب وص ٣٧ ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي وذلك قوله : فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ التمسّك بالاطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين ، ووجهه أنّه لا يمكن أن تكون تلك الاطلاقات واردة في مقام البيان (٢).

والحاصل : أنّ إنكار الكلّية لا بأس [ به ] كما هو لازم ما صرّح به شيخنا قدس‌سره وغيره من أنّ اطلاقات الكتاب في العبادات لم تكن واردة في مقام البيان ، فإنّ لازمه هو كون الأخبار المثبتة للأجزاء والشرائط غير مخالفة للكتاب. أمّا إنكار الأغلبية أو إنكار الكثرة وإن لم تكن أغلبية فذلك أمر يحتاج إلى سبر الفقه وسبر الأخبار الواردة في جميع أبوابه ، وضبط الآيات الأحكامية ، وبعد ذلك يتّضح ما هو الحقّ من الأغلبية أو الكثرة أو الندرة. وعلى كلّ حال ، فلا أخال أنّ شيخنا قدس‌سره يدّعي الكلّية التامّة بل ولا الأغلبية الساحقة.

قوله : فهي لا تعدّ مخالفة ... الخ (٣).

علّق المحشّي عليه قوله في الحاشية الثانية من الصفحة المذكورة : ويدلّ على ذلك جعل موافقة الكتاب من مرجّحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة ، فإنّه يستفاد منه أنّ حجّية الخبر المخالف في نفسه كانت

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٦٧ من الطبعة الحديثة.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٧٨.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٠.

٣٤٢

مفروغا عنها الخ (١).

هذه المخالفة في الخبر المندحر في مقام المعارضة للخبر الموافق ، إن كانت هي مخالفة التباين ، خرجت المسألة عن التعارض ودخلت في مقابلة الحجّة بغير الحجّة ، لأنّ الخبر المباين للكتاب لم يقولوه.

وإن كانت هي المخالفة البدوية بين الخبر الخاصّ والآية العامّة ، احتجنا إلى دعوى أنّ المخالفة في باب التعارض مغايرة للمخالفة في باب العرض ، فالأولى بدوية والثانية تباينية ، فذلك وإن نفعنا في إثبات أنّ الخبر المخالف للكتاب بهذه المخالفة البدوية حجّة في نفسه ، وأنّه إنّما يسقط لأجل وجود المعارض بحيث إنّه لو لا المعارض لالتزمنا بحجّيته وتخصيص الكتاب به ، إلاّ أنّا نحتاج إلى دعوى أنّ المخالفة في باب التعارض مغايرة للمخالفة في باب العرض ، فالأولى بدوية والثانية تباينية ، وهذا في غاية الصعوبة ، لاتّحاد العبارة في البابين ، ولا مخلص عنه إلاّ بدعوى أنّ المراد بالمخالفة في باب التعارض هي مجرّد عدم الموافقة ، وحينئذ لا يكون في ذلك الترجيح دلالة على أنّ الخبر الأخصّ من الكتاب حجّة في نفسه ، بل إنّ الذي يكون الحجّة في نفسه هو الخبر غير الموافق للكتاب ، وأنّه عند معارضته بالخبر الموافق يكون ساقطا ، وأين هذا من دعوى كون الخبر المخالف للكتاب بالعموم والخصوص في مقابل الموافق أو في قبال غير المخالف حجّة في نفسه.

وقد تعرّض شيخنا قدس‌سره لبيان المراد من الموافقة في أخبار الترجيح في مبحث التعادل والتراجيح ، فراجعه وراجع ما حرّرناه هناك (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٠.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٧٩١. وله قدس‌سره حواش على ذلك تأتي في المجلّد الثاني عشر.

٣٤٣

ثمّ لا يخفى أنّ ما صدّر به البحث في توجيه تقديم الخبر الخاصّ مع أنّه ظنّي على العام الكتابي مع أنّه قطعي السند ، بقوله قدس‌سره : لأنّ الخبر على تقدير ثبوت صدوره بنفسه قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الكتاب ، ورافع للشكّ فيما هو المراد به ، فالتعبّد بصدوره تعبّد بما هو قرينة على الكتاب ، ورافع لموضوع التعبّد بأصالة الظهور ، أعني به الشكّ في المراد (١) ، إلى آخر العبارة ، لو تمّ لكان الخبر الواحد في قبال العام الكتابي أقوى منه في قبال العام الوارد في السنة ، لكون الخاص الخبري رافعا لموضوع أصالة الظهور في العام الكتابي ، وليس حال هذا الخاصّ المنفصل مع العام الخبري كذلك ، بل أقصى ما في البين هو الجمع العرفي لا الحكومة.

نعم ، يتمّ ذلك فيما لو جعلنا سند كلّ منهما في قبال ظهور الآخر ، فيكون دليل سند الخبر الخاصّ في قبال أصالة الظهور في العام ، فيتمّ كونه حاكما عليه ، كما أنّ سند العام في قبال ظهور الخاصّ ، فيكون محكوما به. وتحقيق هذه الجهات موكول إلى ما حرّرناه فيها في أوائل التعادل والتراجيح (٢) فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ مسألة القرينة وذي القرينة إنّما هي في العام المتّصل والخاص لا المنفصلين ، وليس التعبّد بصدور الخبر الخاصّ من قبيل الأصل الجاري في القرينة الذي هو عبارة عن أصالة الظهور فيها ، وأين أصالة الصدور من أصالة الظهور.

وكيف كان ، أنّ إنكار وجود أخبار مخصّصة أو مقيّدة لعمومات في الكتاب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٩.

(٢) في المجلّد الثاني عشر ، في حواشيه قدس‌سره على فوائد الأصول ٤ : ٧١٧ ـ ٧٢٥.

٣٤٤

كما ربما يظهر من الحاشية الأولى على ص ٥٠٥ (١) غريب ، وإن شئت فلاحظ آيات المواريث مع حرمان الزوجة ومع حرمان القاتل والعبد ومع مسألة ابن العمّ لأبوين مع العم لأب وغير ذلك ، تجد الكثير من هذا النحو ، فراجع حرمة الربا مع أنّه لا ربا بين الوالد وولده ، وهكذا.

قوله : وقد بيّنا في ذلك المبحث استحالة كون ورود العام لبيان الحكم الظاهري ضربا للقاعدة ، بل الحكم الظاهري إنّما يثبت من الدليل الدالّ على حجّية الظواهر من جهة كشفها عن المرادات الواقعية ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ الحكم الظاهري منحصر بأمرين ، أحدهما : ما يتكفّل الحكم في مورد الشكّ كأن يقول كلّ مشكوك الطهارة طاهر. ثانيهما : ما يتكفّل حجّية الأمارات والأصول العملية مثل خبر الواحد العادل حجّة والاستصحاب حجّة ونحو ذلك ، فإنّه باعتبار تكفّله للزوم الجري على طبق خبر الواحد أو الاستصحاب يكون متكفّلا لحكم ظاهري على التفصيل الذي ذكرناه في كيفية حجّية الأمارات والأصول العملية ، ومن الواضح أنّ ما يتكفّله العموم فيما نحن فيه ليس براجع إلى أحد الأمرين ، بل ليس العام فيما نحن فيه إلاّ مسوقا لبيان الحكم الواقعي لكونه ناظرا إليه وحاكيا عنه.

نعم ، أصالة العموم الحاكمة بلزوم الجري على طبق العام تكون متكفّلة للحكم الظاهري ، فيكون العام المذكور موردا للحكم الظاهري لا أنّه يكون متكفّلا للحكم الظاهري ، انتهى.

واعلم أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر في التقريرات صور دوران الأمر بين التخصيص

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٤٥

والنسخ فقال : فاعلم أنّ الصور المتصوّرة كثيرة ، بل انتهت كما عن الوافية (١) إلى ما يقرب من ألفين ، بل يمكن تصوّرها بأضعاف ما ذكره ، إلاّ أنّ الحكم لا يختلف في كثيرها ، فنحن نقتصر على ما هو المعتد بها منها ، فذكر الأولى ، ثمّ قال : الثانية أن يعلم تقدّم العام على الخاص ، فعلى تقدير ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا بدّ من حمله على النسخ إذا أحرزنا ورود العام في مقام بيان الحكم الواقعي ، وأمّا إذا شكّ فيه ففيه إشكال ستعرفه ، والوجه فيه أنّه لولاه لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة (٢).

والإشكال المشار إليه راجع إلى إجراء الاستصحاب ، وقد تعرّض له في التنبيه الثامن (٣). ولا يخفى أنّ كون العام مسوقا لبيان الحكم الظاهري لم يكن مصرّحا به في كلام الشيخ قدس‌سره. نعم هو لازم التقييد من قوله : إذا أحرزنا ورود العام في مقام بيان الحكم الواقعي الخ.

وصاحب الكفاية صرّح بالتفصيل فقال : وإن كان ( يعني الخاص ) بعد حضوره ( يعني بعد حضور وقت العمل بالعام ) كان ناسخا لا مخصّصا لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلاّ كان الخاصّ أيضا مخصّصا له كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات الخ (٤).

والظاهر منه أنّه قدس‌سره يعترف بأنّه لو كان العام في مقام بيان الحكم الواقعي كان

__________________

(١) الوافية : ٤٥.

(٢) مطارح الأنظار ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٣) مطارح الأنظار ٢ : ٢٣٦.

(٤) كفاية الأصول : ٢٣٧.

٣٤٦

الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ناسخا له ، فرارا من لزوم تأخير بيان الحكم الواقعي ، مع فرض كونه في مقام بيانه ، لكونه حينئذ نقضا لما هو بصدده من البيان.

ولا يخفى أنّ ذلك جار فيما لو تأخّر البيان عن الخطاب فقط ، فإنّه بعد فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي في مقام الخطاب لا يمكن تأخير البيان عن وقت الخطاب لكونه نقضا للغرض.

اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ قبح تأخير البيان إنّما هو من جهة قبح إلقاء المكلّف بالجهل ، لا من جهة كونه نقضا للغرض ، وحينئذ يكون مختصّا بما إذا كان بعد حضور وقت العمل دون ما يكون قبله.

وعلى كلّ أنّ ذلك القبح إنّما هو فيما إذا كان المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي ، أمّا إذا لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي بل كان بصدد بيان الحكم الظاهري ، فلا مانع حينئذ من تأخير الخاص إلى بعد وقت الحاجة ، لأنّ هذا البيان المتأخّر بالنسبة إلى الحكم الظاهري يكون بمنزلة الناسخ ، لأنّ أمد الحكم الظاهري يكون إلى أن يتصدّى المتكلّم لإظهار خلافه ، فيكون ذلك الاظهار نسخا لذلك الحكم الظاهري ، وهذا البيان المتأخّر وإن كان بالنسبة إلى الحكم الواقعي من قبيل التخصيص ، لكنّه لا يكون من قبيل تأخير البيان فيما أراد المتكلّم بيانه ، لأنّ المفروض أنّ المتكلّم لم يكن سابقا بصدد بيان الحكم الواقعي ، وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري ، هذا هو المتحصّل ممّا أفاده في الكفاية بقوله : وإلاّ لكان الخاصّ مخصّصا الخ.

وحيث إنّ أساس هذا المطلب مبني على أنّ العام يكون متعرّضا للحكم الظاهري مع فرض عدم تعرّضه للحكم الواقعي ، وذلك ممّا لا محصّل له ، لأنّ

٣٤٧

العام إنّما يتعرّض الحكم الواقعي ليس إلاّ ، وأنّ الحكم الظاهري إنّما يستفاد من دليل حجّية ذلك العام ، فيكون هذا الحكم الظاهري بمنزلة الطارئ على العام ، لا أنّ العام يكون متكفّلا له ، فقد أفاد شيخنا قدس‌سره في مقام الاعتراض على الكفاية بما عرفت ممّا حاصله : أنّه لا محصّل لكون العام متكفّلا للحكم الظاهري.

ومن ذلك يظهر التأمّل فيما تضمّنته الحاشية الأولى على ص ٥٠٧ (١) ممّا ظاهره أنّه بعد المساعدة على مسلك الكفاية في بيان كيفية استعمال العام في مورد التخصيص ، من الركون إلى الارادة الاستعمالية التي يكون مقتضاها كون العام متكفّلا بالحكم الظاهري ، لا يكون ما سلكه في المقام رافعا لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنّ العام إن كان حجّة على إرادة الحكم الواقعي كان تأخير التخصيص عن وقت الحاجة قبيحا ، وإن لم يكن حجّة على الواقع لم يمكن أن يكون مدركا للحكم الظاهري ، لأنّ هذا الإشكال راجع إلى أنّ العام لا يمكن أن يكون عبارة عن الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن حجّية أصالة العموم إلاّ بعد إثباته الواقع وهو عين الإشكال الذي وجّهه عليه شيخنا قدس‌سره من أنّ العام لا يتكفّل بالحكم الظاهري وإنّما يتكفّل الحكم الواقعي ، وهو أعني العام بمنزلة الموضوع للحكم الظاهري المتولّد من دليل حجّيته.

أمّا مع قطع النظر عن هذا الإشكال فإنّ لصاحب الكفاية قدس‌سره أن يقول إنّ العام إن كان واردا في مقام بيان الحكم الواقعي تعيّن كون الخاصّ الوارد بعد العمل بالعام ناسخا له ، إذ لا يجوز تأخير بيان المراد الواقعي عن وقت الحاجة إليه ، وإن لم يكن العام إلاّ في مقام بيان الحكم الظاهري ، كان الخاص المتأخّر مخصّصا لذلك المراد الواقعي من العام ، ولا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٤.

٣٤٨

المفروض أنّ المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي كي يكون تأخير الخاصّ تأخيرا عمّا أريد بيانه من الحكم الواقعي.

نعم ، إنّ هذا المعنى أعني كون المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري إنّما يستكشف من الحكم على ذلك المتأخّر بأنّه مخصّص لا ناسخ ، ولو من جهة كثرة التخصيص ، وكونه هو المتعارف عند أهل اللسان ، فإنّا بعد الحكم بالتخصيص نستكشف أنّ المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي ، وأنّ ما كنّا قد حكمنا به من أنّه أراد بيان الحكم الواقعي كان خطأ منّا.

لكن بناء على ذلك يكون الشقّ الأوّل الذي حكم فيه بكون الخاصّ ناسخا من قبيل الفرض المجرّد الذي لا مصداق له ، إلاّ فيما أحرزنا من الخارج لا من أصالة العموم أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي.

وحينئذ يكون حاصل التقسيم الذي أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره أنّا إذا أحرزنا من الخارج أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي ، وأنّ مراده الجدّي هو العموم والشمول لكلّ فرد ومع ذلك حضر وقت العمل ثمّ بعد حضور وقت العمل حكم على بعض أفراد العام بحكم آخر يخالف حكم العام ، فإنّا حينئذ نضطرّ إلى القول بأنّ هذا المتأخّر ناسخ للعام ، وإن لم يكن لدينا إلاّ أصالة العموم الحاكمة ظاهرا بأنّ المتكلّم قد أراد جميع الأفراد ، ثمّ بعد ذلك جاء الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام ، فهذا الخاصّ المتأخّر وإن كان بمقتضى أصالة العموم المتقدّمة أنّه ناسخ للعام ، إلاّ أنّه بعد فرض سقوط احتمال النسخ ولو من جهة قلّته أو غير ذلك من موجبات تقدّم التخصيص عليه ، نستكشف خطأنا في أصالة العموم ، وأنّه لم يكن المراد الجدّي هو تمام الأفراد ، وأنّه لم يكن المتكلّم بصدد

٣٤٩

بيان المراد الواقعي وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري والجعل القانوني ، وأنّ هذا التأخير لم يكن تأخيرا لبيان ما أراد المتكلّم بيانه ، فلا بأس به.

نعم يتوجّه عليه زيادة على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ما أشرنا إليه من أنّ قبح تأخير البيان إن كان مرجعه إلى نقض الغرض ، وأنّه لو كان بصدد بيان الحكم الواقعي لم يجز له تأخير البيان لكونه نقضا لغرضه الذي هو البيان ، فذلك مشترك بين تأخير البيان عن وقت الحاجة وتأخير البيان عن وقت الخطاب ، ويكون ورود الخاص في كلّ من الصورتين كاشفا عن خطئنا في حكمنا عليه بأنّه بصدد بيان الواقع الجدّي ، وإن كان مرجع القبح إلى قبح إلقاء المكلّف في خلاف الواقع ، فهذا القبح حاصل في صورة استكشاف أنّه لم يكن بصدد بيان المراد الجدّي ، لأنّ هذا القبح لو سلّم يكون مانعا من فرض كون المتكلّم لا يبيّن مراده الجدّي عند حضور وقت العمل به ، وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نقول بأنّ تأخير بيان المراد الجدّي عند حضور وقت العمل لا يكون قبيحا وإن كان فيه تفويت الواقع على المكلّف ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه من شيخنا قدس‌سره في الأمر الثالث (١).

وبالجملة : يرد على الكفاية أوّلا : ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه لا محصّل لكون العام متكفّلا للحكم الظاهري وأنّه غير متعرّض لبيان الحكم الواقعي.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا ذلك نقول : إنّ مدرك القبح إن كان هو عدم البيان في مورد إرادته البيان ، نظير ما حرّرناه في مقدّمات الحكمة في كون عدم البيان نقضا لغرض المتكلّم الذي هو كونه في مقام البيان ، كما هو مقتضى تفصيله بين كون العام واردا لبيان الحكم الواقعي وعدم كونه واردا لبيان الحكم الواقعي ، فذلك يقتضي اتّصال البيان بالخطاب ، ولا يجوز تأخيره عنه حتّى إلى ما قبل الحاجة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٦ ( المقدّمة الثالثة ).

٣٥٠

وتوجيهه بأنّ المراد من كونه في مقام بيان الحكم الواقعي هو الأعمّ من البيان المتّصل والبيان المنفصل ، خروج عن محلّ الفرض لأنّ العام المعتمد فيه على البيان المنفصل ولو إلى ما قبل الحاجة ، يوجب أن يكون العام من حين صدوره إلى حين ورود بيانه المنفصل حكما ظاهريا لا حكما واقعيا ، فإنّه لا ريب في شمول العام لمورد ذلك الخاص ، والمفروض أنّه لا يريده ، وأنّه قد اعتمد في بيان عدم إرادته على ما سيأتي من البيان ، وحينئذ العام من حين صدوره إلى حين صدور الخاصّ لا يكون مسوقا لبيان الحكم الواقعي ، بمعنى أنّه لا يكون المراد منه هو العموم إرادة جدّية ، بل يكون مرادا إرادة استعمالية قانونية وهي المعبّر عنها بكونه صادرا لبيان الحكم الظاهري ، فتكون هذه الصورة الأولى راجعة إلى الصورة الثانية ، هذا خلف.

وإن كان مدرك القبح هو إلقاء المكلّف بخلاف الواقع ، فذلك حاصل حتّى في صورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الظاهري ، فإنّ هذا الحكم الظاهري الذي جعل العام مسوقا لبيانه يكون موجبا لوقوع المكلّف في خلاف الواقع. وهذا الإشكال وارد على جميع الأحكام الظاهرية ، فكما يجاب هناك بأنّه لا بدّ أن يكون ذلك الحكم الظاهري لمصلحة ، فكذا الجواب هنا. وإذا انتهت المسألة إلى ذلك فلا داعي إلى هذا التطويل. وقل إنّ تأخير البيان وإن أوجب وقوع المكلّف في خلاف الواقع إلاّ أنّه لمصلحة يتدارك بها ما يفوت المكلّف.

ولا يخفى أنّ هذا الحكم الظاهري أسوأ حالا من الحكم الظاهري المتعارف ، لأنّ ذلك إنّما يكون بعد فرض إعمال الشارع وظيفته من جعل الحكم وبيانه والإعلان به ، غير أنّه لأجل بعض الطوارئ لم يصل إلى بعض المكلّفين ، فلزم أن يجعل لهم حكما ظاهريا بعد فرض عدم علمهم بالحكم الواقعي ،

٣٥١

بخلاف هذا الحكم الظاهري هنا أعني الحكم على الخاصّ بحكم العام في حين أنّه في الواقع محكوم بخلافه ولم يبين الشارع ذلك الحكم ، فيكون هو أوقع المكلّفين في خلاف الواقع ، بخلاف الحكم الظاهري المتعارف فإنّه إنّما يجعله في حقّهم بعد قيامه بوظيفته من الإعلان والإعلام ، وسيأتي (١) لذلك إن شاء الله تعالى مزيد توضيح.

وثالثا : أنّه لا مائز عند المكلّف بين الصورتين اللتين أفادهما ، أعني صورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي ، فيحكم على الخاصّ المتأخّر عن وقت الحاجة بأنّه ناسخ للعام ، وصورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الظاهري ليس إلاّ ، فيحكم على الخاصّ المتأخّر عن وقت الحاجة بأنّه مخصّص للعام لا ناسخ له ، إلاّ بما أشرنا إليه من أنّه إذا أحرزنا من الخارج أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي يكون الخاصّ المذكور ناسخا ، وإن لم يكن لدينا في إثبات العموم إلاّ أصالة العموم وحجّية الظهور الكاشفة عن أنّ المراد الواقعي هو العموم يكون الخاص المتأخّر مخصّصا لا ناسخا ، بحيث إنّا نستكشف من ذلك الخاصّ خطأ ذلك الحكم الظاهري.

لكن هذا التوجيه غير نافع ، لأنّ ذلك فرع ثبوت كون الخاصّ المتأخّر مخصّصا ، وإلاّ فلو قلنا بأنّه ناسخ لم يكن لنا طريق لاستكشاف خطأ الحكم الظاهري السابق.

ورابعا : أنّ الحكم في الصورة الأولى بكون الخاصّ المتأخّر ناسخا لا مخصّصا ، ينبغي أن لا يعلّل بالفرار عن تأخّر البيان عن وقت الحاجة ، إذ ليس في البين تأخير بيان ، بل ينبغي أن يعلّل بأنّه بعد فرض إحراز أنّ المتكلّم كان بصدد

__________________

(١) في الصفحة : ٣٥٧ وما بعدها.

٣٥٢

بيان مراده الجدّي ، وأنّ مراده الجدّي هو شمول العام لكلّ فرد من أفراده ، وأنّ هذا الشمول هو الحكم الواقعي ، كان ذلك عبارة أخرى عن أنّ الخاص يكون محكوما عليه قطعا بحكم العام ، وحينئذ لا بدّ لنا من أن نقول إنّ الخاصّ المذكور ناسخ لذلك الحكم العام حتّى لو كان صدوره قبل وقت الحاجة على وجه لو جوّزنا النسخ قبل الحاجة فهو ، وإلاّ كان ذلك الخاصّ مصادما ومعارضا للعام ، هذا إذا كان إحرازنا لكون العام قد صدر لبيان الحكم الواقعي من طريق آخر غير أصالة العموم على وجه عرفنا وعلمنا من الخارج أن المتكلّم في إصداره لذلك العموم كان قاصدا لبيان الحكم الواقعي ، وأنّ مراده الواقعي الجدّي هو الحكم على جميع أفراد ذلك العام.

وإن لم يكن الأمر كذلك ، بل كان إحرازنا لذلك من طريق أصالة العموم وحجّية أصالة الظهور ، وأنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه يريد ما هو الظاهر من كلامه ، رجعت الصورة الأولى إلى الثانية.

قوله : الثانية : أنّهم ذكروا أنّ النسخ قبل وقت الحاجة غير معقول ، وعليه بنوا تعيّن ... الخ (١).

المراد بوقت الحاجة هو حضور وقت العمل ، والمراد بحضور وقت العمل هو حصول الشرط المأخوذ في ذلك الحكم الذي يراد نسخه ، وحينئذ تكون القضية الخارجية خارجة موضوعا عن هذا النزاع ، فإنّ الأحكام في القضايا الخارجية لا يدخلها الشرط ، وأقصى ما فيه أن يكون من دواعي جعل الحكم ليكون المدار فيه على علم الآمر بوجود ذلك ، لا على وجود الشرط واقعا.

وبعبارة أخرى لا يكون الحكم في القضية الخارجية مشروطا بشيء ، وإنّما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٥٣

يكون الشرط فيها شرطا للجعل لا للمجعول ، وحينئذ لا يتصوّر في القضية الخارجية هذا التفصيل ، أعني كون النسخ قبل حصول شرط التكليف أو بعده ، فلا بدّ أن تكون خارجة عن موضوع هذا النزاع بالمرّة. وأمّا النسخ في قضية إبراهيم وإسماعيل ( عليهما الصلاة والسلام ) فالقضية وإن كانت خارجية إلاّ أنّ النسخ فيها لم يكن قبل حضور وقت العمل ، بل كان النسخ عند حضور الوقت ، إذ لا توقيت فيها. نعم إنّ النسخ فيها كان قبل إتمام العمل ، وأين هذا من كون النسخ قبل الشرط الذي هو عبارة عن كونه قبل حضور وقت العمل.

وأمّا الموقّتات من القضايا الحقيقية فلم يظهر الوجه في امتيازها عن سائر القضايا الحقيقية بعدم جواز النسخ فيها قبل حضور الشرط الذي هو الوقت ، دون سائر القضايا الحقيقية.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا فرق في القضايا الحقيقية بين كون الشرط في الحكم هو الزمان نفسه أو يكون الشرط زمانيا مثل الاستطاعة في أنّه قبل حصول الشرط يجوز النسخ فيها أو لا يجوز ، ويكون الجامع هو أنّه قبل حصول الشرط المعلّق عليه الحكم سواء كان زمانيا أو كان زمانا هل يجوز نسخ الحكم أو لا يجوز نسخه إلاّ بعد حصول ما علّق عليه الحكم من زمان أو زماني ، ويكون منشأ الإشكال هو لغوية جعل الحكم المشروط بالشرط المذكور مع علم الحاكم بأنّه يرفع ذلك الحكم قبل حصول شرطه.

وهذه المسألة تشارك مسألة أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط المأخوذ قيدا في الأمر ، فإنّها يتّجه عليها عين هذا الإشكال من اللغوية ، ولا يحتاج الجواب في كلّ من المسألتين إلى الالتزام بكون الأمر صوريا امتحانيا ، بل يمكننا الجواب عنه بأنّه أمر حقيقي مولوي ، غايته أنّه لا بدّ أن تكون هناك مصلحة مقتضية لجعله ،

٣٥٤

وتكون تلك المصلحة من قبيل المصلحة في الجعل لا في المجعول ، وحينئذ يكون الحكم حكما حقيقيا ، ويكون نسخه رفعا حقيقيا ، ولا يكون من قبيل الدفع.

نعم ، يتوجّه على هذا الأخير أنّه خلاف مسلك شيخنا قدس‌سره من أنّ المصالح إنّما تكون في المجعول والمتعلّق لا في الجعل ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

وأمّا ما في الحاشية الثانية على ص ٥٠٧ (٢) من التفصيل بين كون الموضوع أو الشرط من قبيل موارد جعل القصاص أو من غيره من الموارد ، بتأتّي اللغوية في الثاني وعدم تأتّيها في الأوّل ، فقد تقدّم الجواب عنه في مبحث جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط (٣) ، فراجع.

وحاصل الجواب : أنّ جعل الآمر الوجوب المشروط بشرط اتّفق أنّ الآمر كان عالما بعدم تحقّق ذلك الشرط ، لا يوجب كون جعل الوجوب المشروط بالشرط المذكور لغوا ، لأنّ مرجع ذلك الجعل إلى جعل الملازمة بين الوجوب وبين الشرط ، وهذه الملازمة لا تستدعي تحقّق أحد المتلازمين أو كليهما.

نعم ، لا بدّ في جعل هذه الملازمة التي هي عبارة عن جعل الوجوب معلّقا على الشرط المذكور من مصلحة تقتضي ذلك الجعل ، أو من مصلحة في ذلك المجعول ، أو من مصلحة في نفس الفعل على تقدير تحقّق شرط وجوبه ، وأين

__________________

(١) في الصفحة : ٣٩١.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٥.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٣٩ وما بعدها.

٣٥٥

هذا من أنّه لا بدّ في ذلك الجعل من تحقّق الشرط الذي قد جعل الوجوب معلّقا على تقدير وجوده.

وأمّا مسألة القصاص مثل اقتلوا القاتل أو اقتلوا المكلّف إن تحقّق منه القتل ، وأنّ غرض الآمر منه هو إعدام موضوعه لكونه موجبا لعدم تحقّق الشرط الذي هو موضوع هذا الحكم كما هو مقتضى قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) الخ (١) ، ففيه أنّ كون هذا الحكم مقتضيا لاعدام هذا الموضوع ، بمعنى تقليل موارد تعمّد القتل التي هي موضوع القصاص ، ليس إلاّ من قبيل حكمة التشريع ، وإلاّ لكان الحكم معدما لموضوع نفسه ، وأين هذا من مسألة أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط الذي هو موضوع الحكم.

واعلم أنّ هذا المعنى ، أعني كون الحكمة في جعل الحكم هي إعدام موضوعه أو تقليل وجوده ، لا يختصّ بالقصاص ، بل هو جار في جميع الحدود كحدّ السرقة على السارق وحدّ الجلد على شارب المسكر وغير ذلك من أنحاء الحدود.

قوله : ولكن التحقيق أن يقال : إنّ بناء العقلاء وإن كان على بيان كلّ ما له دخل في موضوعات أحكامهم في مقام التخاطب إذا كانوا في مقام البيان من كلّ جهة ، إلاّ أنّه إذا كان عادة المتكلّم هو إظهار تمام مراده بقرائن منفصلة لأجل مصلحة اقتضت ذلك ، فلا قبح في تأخير البيان لا عن وقت الخطاب ولا عن وقت الحاجة ... الخ (٢).

الظاهر أنّ الجملة الأولى وهي جريان عادة المتكلّم على الاعتماد على

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٧٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٥٦

القرائن المنفصلة لا دخل لها في الجواب عن الإشكال. نعم هي أمر واقعي في خصوص أخبارنا. وعمدة ما له الدخل في الجواب عن الإشكال هو الجملة الثانية ، وهي كون التأخير لمصلحة مقتضية لذلك التأخير وإن وقع المكلّف طول تلك المدّة في خلاف الواقع.

واعلم أنّ شيخنا قدس‌سره في مبحث التعادل والتراجيح (١) حسبما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي تعرّض لهذه المسألة ، أعني مسألة أخبارنا المتأخّرة عن العمومات ، وذكر فيها احتمالات ثلاثة : كون الخاصّ المتأخّر ناسخا ، وكونه كاشفا عن اتّصال كلّ عام بمخصّصه وقد اختفت علينا تلك المخصّصات المتّصلة ، وكون الخاصّ المتأخّر بنفسه مخصّصا للعام المتقدّم. وأبطل الأوّل بالاستبعاد الذي أشار إليه هنا بقوله : إذ الالتزام بكون كل ذلك من قبيل النسخ ممّا لا يمكن أصلا (٢) وبقي الترديد بين الوجهين الأخيرين ، ونقل هناك (٣) عن الشيخ قدس‌سره استبعاد الأوّل منهما لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن ، فيكون المتعيّن عند الشيخ قدس‌سره هو الوجه الأخير ، وهو أن يكون التأخير لمصلحة مقتضية له ، فتكون المسألة من باب تأخير الخاصّ عن وقت العمل لأجل مصلحة موجبة لذلك التأخير.

ثمّ إنّ شيخنا قدس‌سره هناك (٤) أفاد ما حاصله ترجيح الوجه الأوّل من الوجهين المذكورين على الثاني منهما ، نظرا إلى ما نراه من أنّ الكثير من المخصّصات

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٣٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) فوائد الأصول ٤ : ٧٣٦.

(٤) فوائد الأصول ٤ : ٧٣٧.

٣٥٧

الواردة في أخبارنا هي موجودة في أخبار العامّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إنّه قدس‌سره عيّن الوجه الأوّل ، نظرا إلى أنّ هذه المصلحة في التأخير إن لم تكن غالبة على مصلحة الواقع فلا وجه للتأخير ، وإن كانت غالبة على مصلحة الواقع حصل الكسر والانكسار وكان الواقع طول تلك المدّة خاليا عن المصلحة في الحكم عليه على خلاف الحكم العام ، بل تكون المصلحة مقتضية لأن يكون ذلك الخاص محكوما بحكم العام طول تلك المدّة ، وأنّ مصلحة الحكم عليه بخلاف حكم العام كانت مغلوبة إلى أوان البيان ، فعند ذاك تكون المصلحة في إخراجه عن حكم العام مؤثّرة وبلا مزاحم ، وحينئذ يرجع الأمر بالأخرة إلى النسخ بمعنى كون الخاصّ المتأخّر ناسخا للعام ، وهو ما قد فررنا منه.

فلا بدّ أن نقول بالوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين وهو كون الخاصّ المتأخّر كاشفا عن وجود المخصّص المتّصل بالعام ، مع غفلة الرواة في نقله إلينا.

ونحن علّقنا عليه هناك (١) أنّه لا داعي إلى الالتزام بالكشف عن خصوص المخصّص المتّصل ، بل يمكن الكشف عن المخصّص المنفصل السابق على العام أو المتأخّر عن الخطاب مع فرض تقدّمه على وقت الحاجة. ثمّ إنّا هناك (٢) تأمّلنا في هذا الوجه الذي أفاده قدس‌سره لتعيّن الوجه الأوّل.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما نقله عن شيخنا قدس‌سره بعد نقله ما عن الشيخ قدس‌سره ما هذا لفظه : هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني ، ولكن الإنصاف أنّ الاحتمال الثاني ( يعني وجود المخصّصات المتّصلة مع اختفائها علينا وعدم وصولها لعدم ضبط الرواة ) لو لم

__________________

(١) راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول ٤ : ٧٣٤.

(٢) راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول ٤ : ٧٣٧.

٣٥٨

يكن أقرب من الاحتمال الثالث ( يعني كون الخاصّ المتأخّر هو المخصّص ، وقد تأخّر بيانه لمصلحة كانت في التأخير ) فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فإنّا نرى أنّ كثيرا من المخصّصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمّة عليهم‌السلام مروية عن العامّة بطرقهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده.

بل يمكن أن يقال باستحالة الوجه الثالث ، فإنّه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصّصات المنفصلة تامّة فلا بدّ من إظهاره والتكليف به ، وإن لم تكن تامّة ولو بحسب مقتضيات الزمان ، حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم ، فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتّى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصّصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأوّل وهو النسخ ، وقد عرفت أنّه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمّل جيّدا (١).

ونحن قد علّقنا عليه هناك ما هذا لفظه : لا يخفى أنّه يمكن الالتزام بأنّ مصلحة الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاص تامّة ولكن لم يمكن إظهاره وبيانه لمفسدة في الإظهار والبيان ، وهذه المفسدة لا تكون كاسرة لمصلحة الحكم الواقعي ، غايته أنّ المولى بعد لحاظه المفسدة في الاظهار والبيان يكون سكوته عن إظهار ذلك الحكم تفويتا على المكلّفين مصلحة ذلك الحكم الواقعي ، لكنّه تفويت قهري ، فلا يكون قبيحا على المولى ، ويكون المكلّفون معذورين في ذلك لعدم علمهم بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون أخذهم بذلك

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٣٦ ـ ٧٣٧.

٣٥٩

العموم حكما ظاهريا محقّقا لعذرهم بالنسبة إلى مخالفة الحكم الواقعي في ناحية الخاص لعدم علمهم بمراد المولى ، ويكون الحاصل من مجموع ذلك من قبيل ما عن المحقّق الطوسي قدس‌سره في حقّ صاحب الأمر ( أرواحنا فداه ) من أنّ وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر ومنعه منّا (١).

وحاصل الأمر : أنّ المفسدة المانعة من إظهار الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاص لا توجب الخدشة في مصلحته الواقعية ، وأقصى ما فيها أن تكون مصحّحة لسكوت المولى عن بيانه ولمعذورية المكلّفين في مخالفته والأخذ في مورده بمقتضى عموم العام ، ولازم ذلك هو كون حكم العام في حقّهم في مورد الخاص حكما ظاهريا.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الجهة التي أفادها قدس‌سره أعني كون المفسدة في البيان كاسرة لمصلحة الواقع ، لو تمّت لكانت جهة أخرى مانعة من جعل الخاصّ المتأخّر مخصّصا للعام المتقدّم غير جهة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل إنّ هذه الجهة لو تمّت لكانت جارية في كلّ خاص متأخّر عن صدور العام حتّى لو كان ذلك الخاص صادرا قبل حضور وقت العمل بالعام ، فإنّ العام الصادر قبل حضور وقت العمل به المقرون بالمفسدة في إظهار الخاصّ معه يكون حينئذ حكما واقعيا ، ونظرا إلى أنّ المفسدة في إظهار الخاص تكون كاسرة لمصلحته ، لا بدّ أن نقول إنّ صدور الخاص بعده ولو قبل حضور وقت العمل بالعام يكون ناسخا ورافعا لحكم العام في مورد الخاصّ ، فيلزم عليه الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل ، وأن لا يكون الخاص المتأخّر عن الخطاب بالعام مخصّصا ،

__________________

(١) كشف المراد : ٣٦٢ [ لا يخفى أنّ الموجود في بعض النسخ : وعدمه منّا ، وفي بعضها الآخر : وغيبته منّا ].

٣٦٠