أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

الشهيد من وجوب الغسل بمسّه فلا يثبت إلاّ بالأصل المثبت. وبالجملة هما أمران وجوديان حاصلان عند الموت ، فلا يكون نفي أحدهما بالأصل مثبتا للآخر ، سواء كان النفي بمفاد ليس الناقصة أو كان بمفاد ليس التامّة.

قوله في الحاشية : لا يخفى ما في التعبير عن الوجود النعتي وما هو مفاد كان الناقصة بالمعنى الاشتقاقي المعبّر عنه بالعرضي المحمول من المسامحة الواضحة ، وذلك لأنّ الوجود النعتي إنّما هو وجود العرض لموضوعه أعني به وجود العرض بما هو عرض ... الخ (١).

لا يخفى أنّ لحاظ العرض بما هو عرض لموضوعه عبارة أخرى عن لحاظ انتسابه إليه واتّصافه به ، وذلك هو المعنى الذي تفيده هيئة المشتقّ مثل ضارب وعالم ، فليس المعنى الاشتقاقي إلاّ وجود العرض النعتي ، وليس وجوده النعتي إلاّ وجوده لموضوعه الذي لا يعقل إلاّ بعد فرض تحقّق موضوعه ، وهذا هو مفاد كان الناقصة ، ولو كان في البين اصطلاح على خلاف ذلك لم يكن مضرّا بهذه الجملة التي لو فرضنا صدورها من شيخنا قدس‌سره بهذه الألفاظ لم يكن فيه إلاّ الجري على طبق أمر واقعي ، وإن كان فيه مقدار من المسامحة بالنظر إلى الاصطلاح لو فرضنا أنّ في البين اصطلاحا خاصّا.

قوله في الحاشية المزبور : إلاّ أنّ الشأن إنّما هو في إثبات أنّ العدم المأخوذ في موضوع الحكم الثابت للعام بعد ورود التخصيص عليه ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه بعد فرض كون الخارج هو العالم الفاسق بمفاد كان الناقصة ، لا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٣٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٣٦.

٢٠١

يكون الباقي إلاّ ما يقابله وهو العالم الذي لم يكن فاسقا ، ومن الواضح أنّ هذا لم يكن عدما محموليا وإنّما هو عدم نعتي أعني به المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة ، وإن لم يكن نعتيا بمعنى الموجبة المعدولة ، لكن المحشّي يصطلح على هذا العدم المعبّر عنه بالعالم الذي لم يتّصف بالفسق بالعدم المحمولي ، وعلى مفاد ليس الناقصة بالموجبة المعدولة المحمول ، وما أدري أنّ العدم إذا لوحظ طارئا على نفس العرض في حدّ نفسه ما ذا يسمّيه ، وقد عرفت أنّ هذا هو العدم المحمولي وذاك أعني العدم الملحوظ طارئا على وجود العرض لمعروضه المفروض أنّه لا يعقل إلاّ بعد فرض وجود معروضه هو المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة ، ثمّ بعد هذا لو لوحظ الموضوع متّصفا بالعدم بحيث كان الملحوظ هو اتّصاف الموضوع بعدم العارض ، كان ذلك من قبيل الموجبة المعدولة المحمول ، والأخيران يشتركان في عدم جدوى أصالة عدم العرض المحمولي في إثباتهما.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك ما في الحاشية ١ ص ٤٧١ (١) فراجعها وتأمّل.

قوله في الحاشية : لامكان أن يتمسّك في مورده باستصحاب العدم النعتي بأن يقال : إنّ ما يشكّ في كونه ... الخ (٢).

هذا الاستصحاب غريب ، لأنّ الذي كان متّصفا بأنّه ليس جزءا من الحيوان غير المأكول ، وبعبارة أخرى على نظر المحشي من الإرجاع إلى الموجبة المعدولة المحمول ، أنّ الذي كان قد حمل عليه أنّه ليس بجزء من الأرنب مثلا قبل أن يتحوّل إلى الأرنبية ، إن كان هي الصور النوعية المقابلة للأرنب من ماء

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٣٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٣٨.

٢٠٢

وهواء ونبات ولحوم وغير ذلك ، فذلك غريب ، لأنّ تلك الصور النوعية قد تبدّلت إلى صورة أخرى ، فلا يمكن أن يقال إنّ هذا الشعر مثلا كان قبل هذا نباتا ولم نعلم أنّها تحوّلت إلى شعرة الأسد أو إلى شعرة الغزال. والحاصل أنّ تلك الصور السابقة بعد تبدّلها لا يمكن الاشارة إليها بأن يقال هذه كانت كذا.

مضافا إلى أنّه ما يدريك أنّها كانت نباتا قطعا فلعلّها كانت لحم أرنب فأكله الأسد فتحوّلت فيه إلى شعرة منه ، وهنا يتّحد الآكل والمأكول في الحكم فلو دار الأمر في هذا الجلد بين كونه جلد غنم مثلا أو جلد أسد مع احتمال أنّه متحوّل إلى الأسد من غير مأكول إلى غير مأكول ، وإن كان على تقدير كونه جلد غنم متحوّلا إليه من النبات مثلا ، وحينئذ يحتاج إلى أخذ المستصحب الصور قبل خلق الحيوان المحرّم الأكل ، هذه أشبه بالمساخر ، لا بالاستصحاب الذي هو مبني على الطريقية العرفية العقلائية لا الأمور الفلسفية.

وهكذا الحال فيما لو كان الذي نريد استصحاب عدم كونه شعر أرنب هو نفس المادّة الهيولائية التي كانت قبل هذا متصوّرة بصورة نوعية كالماء والهواء ونحوهما ، فإنّ تلك المادّة لا يمكن الاشارة [ إليها ] في ضمن هذا الجلد ليقال هذه المادّة الموجودة في هذا الجلد كانت غير متحوّلة إلى حيوان محرّم.

وأمّا تحويل الخل وانقلابه خمرا أو مائعا آخر فليس من هذا القبيل ، لكونه من الانقلاب الذي تنحفظ فيه الصورة النوعية وإن تبدّلت خواصه ، مضافا إلى منع هذا الاستصحاب فيه أيضا ، لأنّ المستصحب الذي كان متّصفا بأنّه ليس بخمر إن كان هو الخل فقد تبدّل ، وإن كان هو نفس القدر المشترك بأن يقال إنّ هذا المائع كان متّصفا بعدم الخمرية والآن كما كان ، فهو وإن كان له صورة اتّحاد في الجملة إلاّ أنّه ممنوع ، لأنّه بالنظر العرفي مختلف متباين ، ولأجل ذلك يقولون إنّ أمثال

٢٠٣

هذه الأحكام تابعة للتسمية العرفية ، وإنّما المرجع في مثل ذلك إلى قاعدة الحل والطهارة لا استصحاب عدم الانقلاب إلى الخمرية.

قوله في الحاشية : قد عرفت أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما أخذ وجود العرض قيدا ... الخ (١).

وقد عرفت أنّ أخذ عدم العرض في الموضوع هو عبارة أخرى عن أخذه بمفاد ليس الناقصة ، وقد عرفت (٢) الوجه في تسميته عدما نعتيا.

قوله في الحاشية : غرض المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره بما ذكره هو أنّ العام بعد ... الخ (٣).

قد عرفت أنّ كلام صاحب الكفاية قدس‌سره يمكن أن يكون ناظرا إلى أنّ وظيفة الاستثناء هو الاخراج فقط من دون أن يكتسب العام من ذلك عنوانا حتّى العنوان العدمي ، كما أنّه يمكن أن يكون نظره إلى أنّ العام يكون مقيّدا بعدم الخاص على نحو مفاد ليس التامة ، كما أنّه من الممكن أن يكون نظره إلى أنّ العام وإن تقيّد بعدم الخاص بمفاد ليس الناقصة إلاّ أنّ أصالة العدم تكون محرزة لكون هذا المشكوك ليس بمتّصف بعنوان الخاصّ الذي هو مفاد ليس الناقصة ، ولو من جهة تلك التوجيهات ، أعني السالبة بانتفاء الموضوع ، ونحوها من كون السالبة لا تستدعي وجود الموضوع ، ونحو ذلك ممّا تعرّض شيخنا قدس‌سره للجواب عنه ، وقد نقلنا بعض ذلك فيما تقدّم (٤).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ١ ) : ٣٣٩.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٩٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ٢ ) : ٣٣٩.

(٤) في الصفحة : ١٨٥ و ١٩٨.

٢٠٤

وأمّا ما بنى عليه المحشي من كون العام مقيّدا بعدم اتّصافه بعنوان الخاص أو بعدم كونه متّصفا بعنوان الخاص ، وأنّ هذا القيد ليس إلاّ من قبيل العدم المحمولي ، وأنّه ليس من قبيل مفاد ليس الناقصة ، وأنّ مفاد ليس الناقصة عبارة عن الموجبة المعدولة المحمول ، مع الاعتراف بأنّه لو كان العدم المذكور من قبيل مفاد ليس الناقصة لم يكن استصحاب العدم نافعا في إثباته ، فلا أظنّ أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره موافق عليه.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما ذكره المحشي في الحاشية من قوله : وبالجملة أنّ ما أفاده المحقّق المزبور قدس‌سره في المقام هو بعينه ما اخترناه وشيّدنا أساسه وبنيانه (١) قابل للمنع والانكار ، فراجع كلمات المصنّف في الكفاية (٢) ، وفي حاشيته على المكاسب في الشرط المخالف للكتاب ، وفي كتاب الحيض في مسألة الشكّ في كون المرأة قرشية (٣) ، فلعلّها أصرح ممّا في الكفاية من كون مبناه على أنّ الباقي لم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ١ ) : ٣٤٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٣.

(٣) قال صاحب الكفاية قدس‌سره في حاشيته على المكاسب قوله قدس‌سره فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة الخ [ المكاسب ٦ : ٣١ ] ، فإنّ المخالفة مسبوقة بالعدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامة حين عدم ثبوت طرفها ، وإن لم تكن مسبوقة بالعدم الربطي الذي هو مفاد ليس الناقصة حيث إنّ الشرط وجد إمّا مخالفا أو غير مخالف.

فإن قلت : أصالة عدم المخالفة بهذا المعنى لا يثبت كون الشرط غير مخالف إلاّ على الأصل المثبت كما لا يخفى.

قلت : نعم ولكنّه لا حاجة إلى إثباته ، ويكفي ما يثبت به وهو عدم ثبوت وصف

٢٠٥

يكن معنونا بعنوان خاص سوى عدم عنوان الخاص.

وهذا المبنى أعني كون التخصيص غير موجب لتقيّد الباقي تحت العام بقيد أصلا هو الذي بنى [ عليه ] أستاذنا المرحوم العراقي في مقالته المطبوعة ، فإنّه قبل الدخول في مسألة التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ذكر مقدّمة بيّن فيها هذا المعنى فقال :

وتنقيح المبحث فيه يقتضي رسم مقدّمة موضّحة لمقدار من المرام ، وهو أنّ باب التخصيص عبارة عن إخراج فرد من العام بنحو لا يحدث في العام خصوصية زائدة عمّا فيه بالاضافة إلى بقية أفراده الخ (١). ثمّ إنّه أوضح ذلك بعدم الارتباط بين الأفراد في الدخول تحت العام ، فإذا خرج البعض منها يكون الباقي باقيا على ما كان عليه من الدخول تحت العام بلا أن يحدث ما يوجب تقيّده بقيد ،

__________________

المخالفة له ، وبه ينقّح ما هو موضوع « المؤمنون عند شروطهم » [ وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ / أبواب المهور ب ٢٠ ح ٤ ] فإنّ الخارج عنه بالاستثناء ليس إلاّ عنوان خاصّ ، والباقي تحته كلّ شرط كان غيره ، بلا اعتبار خصوص عنوان ، بل بأي عنوان لم يكن بذاك العنوان ، ومن الواضح أنّ الشرط الذي لم يثبت له المخالفة من ذلك ، فتأمّل فإنّه لا يخلو عن دقّة ، انتهى ما في الحاشية على مبحث الشروط [ حاشية كتاب المكاسب : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ].

وقال في كتاب الحيض ، في مقام الجواب عن إشكال أنّ استصحاب العدم لا ينفع ، لأنّها وجدت إمّا قرشية أو غيرها ما هذا لفظه : إنّها وإن لم تكن مسبوقة بانتساب إلاّ أنّ عدم الانتساب بقريش أزلي ـ إلى أن قال ـ بل ذات الأثر إنّما هي المرأة بلا عنوان آخر ومنها من لا يكون بينها وبينه انتساب بلا ارتياب ، وإلى هذا ترجع أصالة عدم الانتساب المتداولة في ألسنة الأصحاب في غير باب [ كتاب الدماء ( ضمن الرسائل الفقهية ) : ١٨٦ منه قدس‌سره ].

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٤٠.

٢٠٦

ولا يكون خروج من خرج إلاّ بمنزلة موته ، ثمّ ذكر القول بأنّ التخصيص يوجب التقييد وتحديد العام بحدّ فقدان الخارج ، ومرجعه إلى وجوب إكرام كلّ عالم لم يكن فيه زيد مثلا ، ولا نعني من التقييد إلاّ هذا ، وحينئذ لازمه رجوع التخصيص أيضا إلى التقييد.

ثمّ إنّه دفع ذلك القول الذي سمّاه توهّما بقوله : مضافا إلى النقض بموت بعض الأفراد الغير الموجب لاحداث عنوان آخر للعام زائد عمّا له قبل موت هذا الفرد جزما ، إنّ طروّ الضيق من التخصيص إنّما جاء من قبل قصور الحكم للشمول لهذا الفرد ، ومثل هذا القصور وإن أوجب ضيقا في العام وتحديدا له بغير هذا الفرد الخارج ، إلاّ أنّ هذا الضيق الناشئ من قبل ضيق الحكم يستحيل أن يكون موجبا لتغيير العام في عالم موضوعيته للحكم المزبور ، لاستحالة أخذ الضيق الناشئ عن الحكم في موضوعه ، بل غاية الأمر أنّه مانع من شمول العام له مع بقائه على ما هو عليه من العنوان قبل التخصيص ، وبعد هذا البيان نقول إنّ مركز بحثهم في المقام ( يعني التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ) إنّما هو في فرض التخصيص ، وإلاّ ففي باب تقييد المطلقات لم يتوهّم أحد جواز التمسّك بالاطلاق عند الشكّ في القيد ، إلى آخر ما ذكره فراجعه ص ١٥٠ من المقالة المطبوعة (١).

ولا يخفى الفرق الواضح بين الموت والتخصيص ، فإنّ التخصيص لمّا كان موجبا لاخراج صنف خاصّ كان منوّعا للعام بخروج صنف وبقاء الصنف المقابل ، بحيث إنّ ذلك التخصيص يكشف عن أنّ المراد الواقعي هو ما عدا ذلك

__________________

(١) قديما ، راجع الطبعة الحديثة من مقالات الأصول ١ : ٤٤٠ ـ ٤٤٢.

٢٠٧

الصنف. ومن ذلك تعرف الجواب عن الإشكال الثاني فإنّ هذا التقييد الطارئ لم يكن منشؤه انحصار الحكم بالمقيّد ، بل إنّ الانحصار يكون ناشئا عنه.

والحاصل : أنّ العام في حدّ نفسه منقسم إلى هذين الصنفين المتقابلين ، ولمّا كان الاستثناء موجبا لخروج الصنف الفلاني ، فقد أوجب بعين ذلك تقيّد العام ولا أقل من كونه موجبا لتقيّده بعدم ذلك الصنف الخارج إن لم يكون موجبا لتقييده بضدّه ، وحاله في هذه الجهة من استلزام التقييد في ناحية المراد الواقعي حال المخصّص المتّصل ، ومن الواضح أنّ هذا التقييد لم يكن ناشئا عن قصور الحكم وإنّما كان قصور الحكم ناشئا عنه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الذي يظهر منه قدس‌سره أنّه بناء على التقييد لا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام في مورد الشكّ ، وأنّ محلّ النزاع في ذلك إنّما هو بناء على أنّ التخصيص بمنزلة الموت لا يوجب التقييد أصلا ، ولكن يمكن البناء على التقييد مع دعوى إمكان التمسّك بالعموم بالتقريب الذي ذكره في الكفاية (١) لصحّة التمسّك بالعموم من كونه حجّة بلا مانع ، لأنّ الخاصّ لا يكون حجّة فعلية في هذا المشكوك ، فلا يكون مزاحما لحجّية العام فيه لعدم كونه حجّة فعلية ، وذلك بأن يقال إنّ الخاصّ المنفصل إنّما يوجب تقيّد العام بالمقدار الذي يكون حجّة فيه على حذو ما تقدّم في الشبهة المفهومية المردّدة بين الأقل والأكثر ، ومن الواضح أنّ الخاصّ إنّما يكون حجّة في خصوص من علم فسقه ، أمّا من لا يكون معلوم الفسق فليس الخاصّ حجّة فيه ، وحينئذ لا مانع فيه من حجّية العام ، إلى آخر ما يذكر في تقريبات القول بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢١.

٢٠٨

قوله في الحاشية ـ في بيان مراد صاحب الكفاية قدس‌سره ـ : لأنّ غاية ما يترتّب على الاستثناء إنّما هو اعتبار عدم اتّصاف العام بالوصف الوجودي المأخوذ في ناحية ... الخ (١).

لا يخفى أنّ اعتبار هذا المعنى في العام وهو عدم اتّصافه بوصف الخاص هو عبارة أخرى عن مفاد ليس الناقصة الذي نعبّر عنه بالعدم النعتي الذي لا تحرزه أصالة العدم المحمولي.

نعم إنّ المحشّي لمّا تخيّل إرجاع مفاد ليس الناقصة إلى الموجبة المعدولة المحمول ، أفاد أنّ هذا المعنى وهو عدم اتّصاف العام بوصف الخاصّ يمكن إحرازه بالعدم المحمولي ، تخيّلا منه أنّ هذا المعنى هو عبارة عن العدم المحمولي ، ومن المحقّق أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره لا يريد هذا المعنى ، بل إنّما يريد ـ كما شرحه المرحوم الشيخ محمّد علي فراجعه ص ٣٣٦ (٢) ـ أنّ العام لا يكون معنونا بعنوان أصلا لا وجودي ولا عدمي ، وأنّ أصالة العدم إنّما نحتاج إليها لطرد احتمال عنوان الخاص ، فيرد عليه حينئذ أنّ العدم المحمولي لا يطرد الوجود النعتي الذي هو مفاد كان الناقصة في ناحية الخاص.

نعم ، يرد على شيخنا قدس‌سره أنّ هذا الايراد الأوّل (٣) الذي أورده على صاحب الكفاية في الاستثناء المتّصل لا يرد على صاحب الكفاية ، لأنّ صاحب الكفاية يعترف أنّ الاستثناء المتّصل يوجب قلب ظهور العام ، لكن لا بمعنى أنّه يوجب تعنونه بعنوان خاص وجودي أو عدمي ، بل بمعنى أنّه يوجب قلب ظهوره من

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٤٠.

(٢) حسب الطبعة القديمة من فوائد الأصول ، راجع الطبعة الحديثة ١ ـ ٢ : ٥٣٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٣٩.

٢٠٩

كونه شاملا للخاص إلى عدم كونه شاملا له.

قوله في الحاشية : فالقيد المأخوذ في طرف العام منحصر بعدم كونه متّصفا بعنوان الخاص ... الخ (١).

قد عرفت كفاية اعتبار هذا العدم ، وأنّه عين مفاد ليس الناقصة. ولا يخفى أنّ إيراد شيخنا قدس‌سره (٢) عليه إنّما هو من هذه الناحية ، أعني قوله : بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص الخ (٣) ، وذلك لأنّ مفاد هذه الجملة هو كون العام مقيّدا بالعنوان الذي لم يكن هو عنوان الخاص كما شرحه المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : إنّ قوله « لم يكن ذلك بعنوان الخاص » هو عين التوصيف (٤).

نعم إنّ شيخنا أورد على قوله « بل بكلّ عنوان » أنّه لا يخلو من مسامحة ، فراجع ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (٥).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ مفهوم القرشية ... الخ (٦).

الظاهر أنّ الياء في قرشية المرأة كالياء في قرشية الرجل ليست للنسبة ، وإنّما هي ياء المصدر الانتزاعي مثل القائمية والضاربية والزيدية ونحوها ، ومنشأ الانتزاع إنّما هو الانتساب إلى قريش ، فليس الانتساب إلى قريش متّحدا مفهوما مع قرشية المرأة أو قرشية الرجل كما تضمّنته الحاشية المذكورة ، كما أنّه ليس بمنتزع من قرشية المرأة أو قرشية الرجل كما أفاده شيخنا قدس‌سره.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ١ ) : ٣٤٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٠.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٣ / إيقاظ.

(٤ و ٥) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٣٥.

(٦) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ٢ ) : ٣٤٠.

٢١٠

بل إنّ الأمر بالعكس ، بمعنى أنّ قرشية المرأة أو قرشية الرجل الذي هو عبارة عن المصدر الانتزاعي المشتقّ من مفاد ياء النسبة في قولنا هذه المرأة قرشية وهذا الرجل قرشي ، منتزعة من الانتساب إلى قريش الذي هو عرض من الأعراض الاضافية الراجعة إلى التولّد والبنوّة ، وصاحب الكفاية قدس‌سره لم يجر أصالة العدم المحمولي في مفاد ياء النسبة في قولنا هذه المرأة قرشية أو هذا الرجل قرشي ، لأنّ ذلك لا أصل له لكونه مفاد كان الناقصة ، فتمحل وأرجع مفاد ياء النسبة إلى أصله المنتزع منه ، وهو نفس الانتساب ، فذلك عنده نظير ما لو ترتّب الأثر على زيد العادل بمفاد كان الناقصة ، واستصحاب عدم العدالة بتخيّل أنّ استصحاب عدم عدالة زيد بمفاد ليس التامّة يجدي في طرد الحكم المترتّب على كون زيد عادلا ، وحينئذ يكون قد وقع فيما فرّ منه.

قوله : إذ اللازم في جريان الاستصحاب في العدم النعتي هو اتّصاف الموضوع به خارجا ولو آنا حكميا ، وسبق رتبة الموضوع على عرضه مع عدم انفكاكهما في آن خارجي لا يصحّح جريان الاستصحاب ... الخ (١).

فإنّ الاستصحاب هو الجر بحسب الزمان ، فلا بدّ فيه من تحقّق المستصحب في زمان ولو آنا لنسحبه إلى ما بعده من أزمنة الشكّ ، ومجرّد كون العرض معدوما عن معروضه في رتبته لا يكون محقّقا لذلك. مع أنّا لو سلّمنا الاكتفاء بالانتفاء في الرتبة لم يكن ذلك نافعا في إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى العدم النعتي ، لأنّ المعروض في رتبته كما لا يكون متّصفا بوجود العرض لا يكون أيضا متّصفا بعدمه ، لما عرفت من كون تقابلهما من قبيل تقابل العدم والملكة ، وهو إنّما يكون في المورد الصالح لذلك ، والمفروض أنّ المعروض في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢١١

رتبته نفسه لا يعقل اتّصافه بكلّ من وجود العرض له وانعدامه عنه ، فحاله في هذه الرتبة كحاله قبل وجوده في عدم صلاحيته لكلّ من الأمرين ، أعني وجود العرض له وعدمه منه ، أعني بذلك الوجود والعدم النعتيين.

قوله : فالتحقيق أن يقال : إنّ ما يسمّى بالمخصّص العقلي إن كان بمعنى تقييد موضوع الحكم وتضييقه ... وأمّا إذا كان بمعنى إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا من دون تقييد موضوع الحكم به ، لعدم صلاحية تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فلا إشكال في جواز التمسّك بالعموم حينئذ وكشفه عن وجود الملاك ... الخ (١).

لمّا كان الأصل في هذه المسألة هو الشيخ قدس‌سره في التقريرات ، فالذي ينبغي أوّلا هو التأمّل في كلامه قدس‌سره لعلّنا نطّلع على مراده في هذه المسألة وأنّه كيف يمكن التمسّك بالعموم فيها مع كون الشبهة موضوعية مصداقية.

فنقول : إنّه قدس‌سره قال : هداية ، إذا علم تخصيص العام بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما ، ويمكن استيناسه من مذاق العلماء في جملة من الموارد أيضا ، ومثال ذلك ما إذا قال المولى أكرم العلماء وعلمنا من نفسه من تعبيره وتخصيصه (٢) أنّه لا يريد إكرام الفاسق ، فإنّه إذا شكّ في زيد هل هو فاسق أو لا ، يجب تحكيم العام فيه والقول

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ هكذا وردت العبارة في الطبعة الحجرية ، وفي الطبعة الحديثة ( تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ) ورد : « ومن تعبيره وتخصيصه للعام » ، ولعلّ الصحيح : « لا من تعبيره وتخصيصه ... » فلاحظ ].

٢١٢

بوجوب إكرامه ، وتحقيق القول الخ (١).

والظاهر ممّا أفاده في هذا التحقيق هو أنّ التخصيص تارة يكون على نحو التنويع وأخرى يكون على نحو القضية التعليقية بأن نكون قد علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه ، وأنّه لو كانت المسألة من النحو الأوّل سقط العموم في الشبهة المصداقية ، وعلى الثاني لا يسقط العموم ، والغالب في الأوّل هو التخصيصات اللفظية كما أنّ الغالب في الثاني هو التخصيصات اللبّية ، ثمّ إنّه أفاد أنّ المسوّغ للتمسّك بالعموم في الثاني أمران :

الأوّل : الركون إلى أصالة عدم الفسق. وأورد عليه بعدم كونه مجديا لكونه بمفاد ليس التامة.

الثاني : أنّ الرجوع إلى العام في المقام يوجب رفع الشكّ الموضوعي المفروض في المشكوك ، من جهة أنّ التعبير بالعموم من دون تقييده بعنوان آخر يكشف عن أنّ المتكلّم لا يرى في أفراد ذلك العام ما يصلح لمعارضة العام ، ومثّل لذلك بالتمسّك بعموم ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )(٢) على عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وبمثل « اللهمّ العن بني أميّة قاطبة » (٣) على عدم وجاهة أحد منهم. ومثّل أيضا بقول القائل « أكرم جيراني » مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه يستفاد منه أنّه لا يرى فيهم عدوا ، من دون أن يكون في البين تقييد للجيران بعدم العداوة ، غايته أنّا نعلم بالملازمة بين العداوة وعدم الاكرام ، وذلك لا يضرّ التمسّك بالعموم بل يؤكّده ، حيث إنّا نستكشف من ثبوت الاكرام الملازم لعدم

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ١٤٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٢٤.

(٣) الوارد في ضمن زيارة عاشوراء ، راجع بحار الأنوار ١٠١ : ٢٩٣.

٢١٣

العداوة عدم كونه عدوا كما هو الشأن في جميع ضروب الاستدلال.

ثمّ إنّه أفاد أنّ هذا النحو على نحوين : أوّلهما ما يمكن اعتباره قيدا في الموضوع كالجار الصديق والعالم العادل ونحو ذلك. وثانيهما : ما لا يمكن ذلك فيه ولا يعقل اعتباره فيه كما في الوصف المنتزع من تعلّق الأمر أو النفوذ كالصحّة والفساد سواء كان في العبادات أو كان في المعاملات ، وأنّ الأوّل قد عرفت الكلام فيه. وأمّا الثاني فالتمسّك بالعموم فيه كاد أن يكون من الضروريات ، فإذا شككنا في أنّ عتق الكافرة هل هو صحيح أو لا ، يجب الأخذ بالعموم أو الاطلاق ، ولا سبيل فيه للقول بأنّا نعلم بأنّ غير الصحيح من العتق غير مراد للمولى ، وحينئذ لا بدّ من إحراز الصحّة ، فإنّ ذلك باطل جدّا ، لأنّ الصحّة ليست إلاّ ما ينتزع من المأمور به ، والعموم يفيد كونه مأمورا به ـ إلى أن قال ـ وكيف كان لا وجه للتردّد في أمثال هذه المطالب الواضحة وإن صعب مأخذه بواسطة عدم التدرّب في كيفية المأخذ ، ولقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الصحيح والأعمّ فراجعه (١) ، انتهى ما اختصرناه من كلامه قدس‌سره.

وأنت بعد اطّلاعك على هذا تعرف أنّه ليس المراد من عدم أخذ القيد هو كونه دخيلا في الملاك ، بل إنّ عدم إمكان أخذه الذي عناه الشيخ قدس‌سره إنّما هو من جهة كونه منتزعا عن الحكم ، فلا يعقل أن يكون مأخوذا في متعلّقه كما في الصحّة التي هي بمعنى الموافقة للأمر.

وكيف كان ، فاللازم هو الانتقال إلى ما أفاده الشيخ قدس‌سره في القسم الثاني ، وكيفية تطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول بعونه تعالى : إنّ كيفية تطبيقه على ما نحن

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ١٤٣ ـ ١٤٨.

٢١٤

فيه هو أن يقال : إنّ مثل قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) نعلم أنّه قد خرج منه الفاسد ، لأنّه تعالى لا يأمر بالفاسد ، فما علمناه فاسدا حكمنا بخروجه ، وما شككنا في فساده كان الاطلاق والعموم محكما فيه ، لأنّ العلم بأنّه تعالى لا يريد الفاسد لا يوجب تقييدا في العام الذي هو الصلاة المأمور بها ، هذا هو حاصل تطبيق ذلك على ما نحن فيه.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال قد تعرّضوا له في باب الصحيح والأعمّ ، وأنّ ثمرة النزاع هي أنّه على الأعمّ يمكن التمسّك بالاطلاق والعموم بخلافه على الصحيح ، فأشكلوا على هذه الثمرة بأنّه لا يمكن التمسّك بالاطلاق حتّى على الأعمّ ، أمّا على الصحيح فواضح ، لكون الموضوع له هو خصوص الصحيح ، ومع فرض الشكّ في صحّته كيف يمكن التمسّك بالاطلاق. وأمّا على الأعمّ فلأنّ اللفظ وإن لم يكن موضوعا لخصوص الصحيح ، إلاّ أنّه عند وقوعه محلا للتكليف لا بدّ من أخذه مقيّدا ، لأنّ الأمر لا يتعلّق بالفاسد.

وأجيب هناك بأنّه على الأعمّ لا يكون المتعلّق مقيّدا بالصحيح ، بل إنّ وصف الصحّة يكون مأخوذا من الاطلاق ، وبرهانه أنّ تعلّق الأمر به من دون قيد يكشف عن أنّه لا يعتبر فيه القيد ، فيكون الفاقد لذلك القيد صحيحا ، لأنّه قد وقع تحت الأمر بمقتضى الاطلاق ، وما يكون متعلّقا للأمر لا يكون إلاّ صحيحا.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه بناء على الصحيح يكون الشكّ في الصحّة تارة على نحو الشبهة الحكمية وأخرى على نحو الشبهة الموضوعية. فالأولى مثل أن يشكّ في كون الاستعاذة شرطا أو جزءا من الصلاة على وجه تكون الصلاة الفاقدة لها فاسدة. والثاني أنّه بعد أن ثبت أنّ الصلاة مقيّدة بالفاتحة مثلا وأنّ الفاقدة

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

٢١٥

للفاتحة فاسدة ، نشكّ في أنّ هذه الصلاة الخاصّة فاقدة للفاتحة أو أنّها واجدة لها. ولا ريب في أنّه على القول بالصحيح لا يكون المرجع في كلا الشبهتين إلاّ الأصل العملي دون الاطلاق اللفظي. أمّا على القول بالأعمّ فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الاطلاق أو العموم غير نافع في الجهة الثانية من الشكّ وهي التي تقع في محلّ كلامنا. أمّا الجهة الأولى فهي راجعة إلى أنّ الاطلاق وعدم التقييد أو عدم التخصيص كاشف عن أنّ المتعلّق باق على إطلاقه لم يقيّد بمثل الاستعاذة ، نظير تمسّكنا باطلاق الرقبة على عدم لزوم تقييدها بالإيمان ، وليس ذلك من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل لو كان في البين عموم كان من قبيل الشكّ في أصل التخصيص على نحو الشبهة البدوية ، وكون الشارع لا يأمر بالفاسد ليس من باب التقييد بعدم الفاسد كي يكون التمسّك به فيما لو شكّ في اعتبار الاستعاذة من قبيل التمسّك بالعموم أو الاطلاق في مورد الشبهة المصداقية ، بل من باب استكشاف الصحّة من الاطلاق وعدم التقييد على ما عرفت تفصيله في مبحث الصحيح والأعمّ (١).

ولا يخفى أنّ هذا المورد هو العمدة فيما يدعى على المشهور التسالم فيه على التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصّص أو المقيّد لبّيا ، وقد عرفت أنّ هذا ليس من ذلك الوادي في مراح ولا مغدى.

ثمّ لا يخفى أنّه لا ريب في أنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، لكن ذلك لا يوجب تقيّد المأمور به بما عدا الفاسد أو بالصحيح ، فإنّ ذلك إنّما يمكن في القيود القابلة لأن تكون سابقة على الأمر ، أمّا ما يكون منتزعا عن تعلّق الأمر فلا يعقل كونه قيدا

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المتقدّمة في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٨٤ وما بعدها.

٢١٦

في متعلّقه ، بل إنّ الصحّة عبارة أخرى عن كون الشيء مطابقا للأمر الذي تعلّق به ، فيكون ذلك عبارة أخرى عن كونه مأمورا به ، فليس قولنا إنّ الشارع لا يأمر إلاّ بالصحيح إلاّ عبارة أخرى عن أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو المأمور به ، وليس قولنا إنّا نعلم أنّ غير الصحيح خارج عن المأمور به إلاّ بمنزلة قولنا إنّ ما هو غير مأمور به لا بدّ أن يكون غير مأمور به ، وحينئذ فلا محصّل للقول بأنّ ما نعلم كونه غير صحيح يكون خارجا عن عموم قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) مثلا ، وما يكون مشكوك الصحّة والفساد يكون أصالة العموم جارية فيه ، لأنّ ذلك بمنزلة قولنا إنّ ما علمنا من أفراد الصلاة أنّه غير مأمور به يكون بحكم العقل خارجا عن عموم المأمور به في قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) وما شككنا في أنّه مأمور به يكون أصالة العموم محكّمة فيه.

نعم ، بعد العلم بأنّ الصلاة مقيّدة بالركوع مثلا يكون الفاقد له منها خارجا عن العموم المذكور ، لأنّ ذلك هو مقتضى ما دلّ على تقيّدها بالركوع ، أمّا الفاقدة للاستعاذة المشكوك اعتبارها فيها فإنّ الشكّ في اعتبارها فيها وإن أوجب الشكّ في صحّة الفاقد لها إلاّ أنّ مقتضى عموم الصلاة في قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) قاض بكونها صحيحة ، وليس ذلك من باب التمسّك بالعموم في مورد الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل هو من باب التمسّك باطلاق المطلق أو عموم العام على عدم اعتبار ما شكّ في اعتباره فيه ، وهو من قبيل الشبهة الحكمية لا المصداقية ، ولأجل ذلك لو علمنا أنّ الشارع أو العقل حكم بأنّه لا بدّ في العقد من أن لا يكون بين الايجاب والقبول مثلا فاصل يعتدّ به وأوقعنا عقدا وشككنا في صحّته بعد وقوعه من جهة الشكّ في أنّه هل كان فيه ذلك الفاصل ، فإنّا لا

٢١٧

نتمسّك على صحّة ذلك العقد بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) وما ذلك إلاّ لكونه شبهة مصداقية ، سواء كان الحاكم باعتبار عدم الفاصل وبخروجه من ذلك العموم هو الشرع أو كان هو العقل ، وبعبارة [ أخرى ] سواء كان التخصيص بدليل لفظي أو كان بدليل لبّي ، بخلاف ما لو أوقعناه بالفارسية مثلا وشككنا في صحّته من جهة الشكّ في اعتبار العربية ، فإنّ العقل وإن حكم بأنّ الفاسد خارج عن ذلك العموم إلاّ أنّا نتمسّك بذلك العموم على صحّته ، وليس ذلك من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل هو كما عرفت من باب التمسّك باطلاق المطلق على عدم اعتبار ما شكّ في اعتباره على نحو الشبهة الحكمية.

ولو سلّمنا أنّه يصدق عليه أنّه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص العقلي اللبّي ، بدعوى أنّ العقل حاكم بخروج الفاسد ، وهذا العقد المشكوك الفساد يكون حاله كحال من شكّ في فسقه بعد قيام الدليل اللفظي على خروج الفاسق ، وحينئذ بهذا الاعتبار يكون ما نحن فيه من قبيل الشبهة المصداقية مع كون المخصّص لبّيا عقليا ، لم يكن ذلك إلاّ من قبيل النزاع في التسمية ، وأنّ هذا التمسّك هل يسمّى تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقية أو أنّه تمسّك بالعام في الشبهة الحكمية ، فلا يكون للنزاع المذكور أثر مهم بعد فرض أنّ هذا النحو من التمسّك صحيح لا ريب فيه ، إذ لو سلّمنا ذلك كلّه لم يلزم أن نقول بصحّة جميع موارد التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل يكون الأمر مقصورا على هذه الصورة ، وهي ما كان القيد وهو الصحّة منتزعا من الأمر وكان متأخرا عنه رتبة ، وكان ذلك القيد عبارة أخرى عن كونه متعلّقا

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٢١٨

للأمر ، فإنّ ذلك يصحّ التمسّك فيه بالعموم عند الشكّ في الصحّة من ناحية الشكّ في اعتبار شيء فيه ، فإن شئت فسمّه تمسّكا بالاطلاق في موارد الشبهة الحكمية ، وإن شئت فسمّه تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية.

ولا يخفى أنّه بعد فرض امتناع التقييد أو التخصيص في هذا النحو من القيود كيف يمكن أن يتصور العلم بخروج البعض الذي هو ملازم لتقيّد الباقي بما عداه ، بل كيف يمكن أن يتصوّر فيه الشكّ في المخصّص في الشبهة المصداقية من ناحية الخاص ، لأنّ المفروض هو امتناع التخصيص فكيف يتصوّر الشبهة من ناحية الخاص ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا القسم الأوّل أعني ما يمكن فيه التخصيص ولكن الخاص قد أخذ على نحو التعليق في قبال ما يكون مقسّما للعام تقسيما فعليا ، ففيه أنّ الكلام إنّما هو في القضايا الحقيقية ، ولا يكون الحكم فيها إلاّ بنحو القضية الشرطية ، فقوله : أكرم العلماء بمنزلة قوله أكرم الشخص لو كان عالما أو بمنزلة قوله كلّما وجد وكان عالما وجب إكرامه ، وقوله لا تكرم فسّاق العلماء هو بمنزلة أنّ كلّ ما وجد من العلماء وكان فاسقا لم يجب إكرامه ، وحينئذ فكلّ خاص لفظي يكون من هذا القبيل أعني القضية الشرطية ، ولازمه جواز التمسّك بالعام في جميع الموارد ، ولا يخفى ما فيه.

أمّا ما ذكره من أمثلة هذا القسم أعني القسم الأوّل الذي أفاد أنّه يجوز التمسّك فيه بالعموم في الشبهة المصداقية ، لكون حكم الخاصّ من قبيل التعليق ، وأنّه من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فالظاهر أنّه أيضا ليس من هذا القبيل ، بل الظاهر أنّه من قبيل أنّ العمل بخلاف الحكم العام في جماعة كاشف عن أنّهم ليسوا من ذلك العام ، كما في عموم قوله تعالى ( لا يَنالُ

٢١٩

عَهْدِي الظَّالِمِينَ )(١) فيما لو فوّض الله سبحانه وتعالى منصب النبوّة أو الإمامة إلى شخص ، فإن جعل ذلك المنصب له كاشف عن أنّ ذلك الشخص لم يكن قد تلبّس بالظلم وإلاّ لما صحّ نصبه ، ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يتصوّر فيه التخصيص ولا الشكّ في التخصيص.

ومنه يظهر لك الحال في صدور لعن بني أميّة قاطبة من الإمام عليه‌السلام فإنّ هذا ليس من قبيل حكم شرعي عام بل هو عمل بحكم شرعي ، وهو وجوب أو استحباب لعن عدو أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّ اللعن منه تعالى هو الطرد من رحمته ، ومنّا هو الدعاء والطلب من الله تعالى أن يطرد الشخص من رحمته ، وذلك ضدّ الصلاة ، فإنّها منه تعالى هي العطف والرحمة ، ومنّا عبارة عن الدعاء والطلب منه تعالى أن يصلّي على الذي نصلّي عليه وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالإمام عليه‌السلام يكون بلعنه لبني أميّة يكون عاملا بذلك العموم. وهناك عموم آخر وهو أنّه لا يجوز لعن المؤمن (٢) ، وهذان العمومان لا تعارض بينهما ولا تخصيص ، أمّا هذا العمل وهو صدور اللعن لهم من الإمام عليه‌السلام فهو كاشف عن أنّهم جميعا من مصاديق العام الأوّل ، وأنّه ليس فيهم من هو من قبيل مصاديق الثاني ، فلو فرضنا ولو بعيدا أنّ فلانا الأموي ليس بعدو لأهل البيت بل هو موال لهم ، فلا يمكن القول بأنّه خارج عن عموم هذا اللعن بالتخصيص ، لكونه عليه‌السلام قد لعنهم بالفعل ، ولعنه لهم جميعا بمنزلة إقدامه على قتلهم ليس ممّا يدخله التخصيص ، لما عرفت من أنّه عمل خارجي.

وحينئذ نقول في هذا الفرض البعيد أنّ هذا العمل منه عليه‌السلام يكون مخصّصا

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) راجع وسائل الشيعة ١٢ : ٣٠١ / أبواب أحكام العشرة ب ١٦٠ ح ١.

٢٢٠