أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

للتالي ذات مفهوم بعد قيام الدليل على انحصار العلّة ، جار في القضية التي يكون المقدم فيها مع التالي معلولين لعلّة ثالثة بعد قيام الدليل على حصر مورد المعلول الثاني الذي هو التالي بمورد المعلول الأوّل الذي هو المقدّم. ودليل الحصر فيهما واحد ، وهو أنّ مقتضى إطلاق الشرطية هو حصر موارد الجزاء بموارد الشرط الذي هو العلّة أو أحد المعلولين ، هذا.

مضافا إلى أنّ انكارهم المفهوم للقضية الشرطية التي يكون المقدم فيها معلولا للتالي أو يكونان متضايفين لم يتّضح وجهه ، مع أنّهما أولى بالمفهوم من القضية الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي ، لأنّ المفهوم في هذه يتوقّف على دعوى الانحصار بخلافهما ، فإنّ انتفاء العلّة عند انتفاء المعلول وكذلك انتفاء أحد المتضايفين عند انتفاء الآخر لا يتوقّف على انحصار العلّة ، ولا يتصوّر في ذلك كون الجزاء الذي هو العلّة أعمّ من المقدم الذي هو المعلول ، أو الجزاء الذي هو أحد المتضايفين أعمّ من الآخر الذي هو المقدّم.

وما أفاده شيخنا قدس‌سره من البرهان على عدم صحّة المفهوم للقضية التي يكون المقدّم فيها معلولا قد عرفت (١) التأمّل فيه ، هذا. ولكن لا يخفى أنّ القضية التي يكون مقدّمها معلولا للتالي ، مثل إن وجب الوضوء فقد وجبت الصلاة ، لا يكون منطوقها صحيحا إذا كان للوجوب الطارئ على الوضوء علّة أخرى غير وجوب الصلاة ، إذ لا يكون وجوب الوضوء حينئذ كاشفا عن وجوب الصلاة ، فلا بدّ من إصلاحه بأنّ المراد منه الوجوب الغيري للصلاة. وحينئذ يتمّ المنطوق ويكون حاصل المفهوم أنّه إن لم يكن الوضوء واجبا بذلك الوجوب الخاصّ لم تكن الصلاة واجبة.

__________________

(١) في الصفحة : ٣٩٥.

٤٠١

ولو جيء بمثال آخر يكون المقدم فيه معلولا للتالي لم يصحّ المنطوق إلاّ فيما كانت العلّة منحصرة بذلك التالي ، وحينئذ يتشارك مع القضية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي في التوقّف على الانحصار ، غايته أنّ التوقّف هناك للمفهوم بعد صحّة المنطوق في نفسه وفي هذا يكون التوقّف للمنطوق. وعلى أي حال لا يكون أخذ المفهوم من القضية الشرطية متوقّفا على كون المقدّم هو العلّة ، بل يأتي فيما لو كان المقدم معلولا ، غايته بعد الانحصار كما لو كان المقدم علّة.

وبالجملة : فيما لو كان المقدم هو المعلول لا بدّ من اصلاح المنطوق فيه بدعوى انحصار العلّة أو بدعوى كون المراد من المقدّم ـ أعني وجوب الوضوء ـ هو الوجوب الآتي من ناحية وجوب الصلاة ، أو التعبير بقولك قد يكون إذا وجب الوضوء وجبت الصلاة. وعلى أي واحد من هذه الاصلاحات يكون انتفاء ذلك المقدم كاشفا عن انتفاء ذلك التالي.

نعم ، إنّ في المقام مطلبا آخر ، وهو أنّه ربما يشكل على ما تقدّمت (١) الاشارة إليه في الأمر الثاني من حصر التلازم في الأقسام المذكورة ، فيقال إنّ العارض الذي هو من لوازم الماهية مثل زوجية الأربعة ، والعارض الذي هو من لوازم الوجود الخارجي مثل حرارة النار ، والعارض الذي هو من لوازم الوجود الذهني مثل الكلّية للإنسان ، ليست من قبيل العلّة والمعلول ، ولا من قبيل المعلولين لعلّة ثالثة ، ولا من قبيل المتضايفين ، فإنّ هذا النحو من التلازم قسم مستقلّ آخر وهو ملازمة العارض لذات المعروض ، بمعنى أنّ الزوجية لازمة لذات الأربعة ، لأنّها بالذات زوج لا أنّ ذاتها أوجدت الزوجية فكانت هي العلّة في

__________________

(١) في الصفحة : ٣٩١.

٤٠٢

الزوجية ، ولا أنّهما معلولان لعلّة ثالثة.

والجواب عنه بأن يقال : إنّ الزوجية لمّا كانت باقتضاء الذات كانت معلولة للذات ، فكانت داخلة في القسم الأوّل.

إذا عرفت الجواب عن هذا الإشكال فاعلم أنّ قضايا الأحكام يكون التالي فيها هو الحكم ، والمقدم فيها هو شرطه أو موضوعه ، والشارع بعد أن جعل الحكم مترتّبا على ذلك الموضوع ، كان نسبة ذلك الموضوع إلى ذلك الحكم كنسبة العلّة إلى معلولها في كونه سابقا في الرتبة على ذلك الحكم ، على وجه أنّ ذلك الحكم بعد جعل الشارع له مترتّبا على ذلك الموضوع يكون من قبيل لوازم الوجود الخارجي بالنسبة إلى ذلك الموضوع ، وبعد أن دخلت القضية الشرطية المؤلّفة من الشرط والحكم ساحة اللازم والملزوم والعارض والمعروض ، وقد فهمنا من الاطلاق ونحوه انحصار الشرط والعلّة على وجه لا يعقل ولا يمكن الحكم ببقائه بعد انتفاء الشرط ، كان ذلك ملازما لانتفائه عند انتفائه.

والحاصل : أنّا إنّما حصرنا المفهوم في الشرطية الدالّة على كون المقدم علّة للتالي من جهة أنّ قضايانا الأحكامية منحصرة فيما يكون من قبيل علّة الحكم ، لا من جهة أنّ القضية الشرطية لا تكون ذات مفهوم إلاّ إذا كان الشرط علّة للجزاء.

وحاصل الأمر أنّ محطّ كلمات المنطقيين هو الاستدلال والبرهان اللمي أو الإنّي ومحلّ كلامنا هو القضايا الأحكامية التي جعلت الأحكام فيها على موضوعاتها وأبرزت بقالب القضية الشرطية ، على وجه صار الموضوع في مقام الشرط والحكم في مقام الجزاء ، فكان هذا الوضع ظاهرا في ترتّب الجزاء على الشرط على نحو ترتّب المعلول على العلّة ، فهل يكون هذا الترتّب موجبا ودالا على الانتفاء عند الانتفاء.

٤٠٣

فليس محلّ كلامنا إلاّ في مرحلة الدلالة اللفظية ، وهي أجنبية عن تلك المباحث البرهانية المنطقية ، ولأجل ذلك تكون القضية الشرطية التي يكون مقدمها معلولا للتالي خارجة عمّا نحن فيه من دلالة الشرط على تقييد الحكم ، وتكون داخلة في الاستدلالات البرهانية وإن كانت في حدّ نفسها موجبة للانتفاء عند الانتفاء ، حيث إنّ انتفاء المعلول يكشف عن انتفاء علّته ، إلاّ أنّ هذه القضية بالخصوص لا تكون مسوقة إلاّ لاستكشاف تمامية العلّة من وجود المعلول ، على وجه يجعل انتفاء العلّة التي هي الجزاء كاشفا عن عدم المعلول الذي هو الشرط ، لما ذكروه من أنّ القياس الاستثنائي يكون وضع المقدّم فيه منتجا لوضع التالي ، ورفع التالي منتجا لرفع المقدم.

هذا هو الذي يتوخّاه المنطقيون من القضايا الشرطية ، وأين هذا ممّا نتوخّاه نحن من القضايا الشرطية ، أعني ادّعاء ظهورها في كون الشرط قيدا للحكم في ناحية الجزاء ، وأنّ مقتضى كونه قيدا فيه هو انتفاؤه عند انتفائه بعد إثبات كونه من القيود المنحصرة ، وقد شرحنا هذه القيدية في محلّه من بحث الواجب المشروط (١) ، وقلنا إنّ المراد بها هو الاناطة ، أعني إناطة الحكم في ناحية الجزاء بتقدير وجود الشرط ، فليس ذلك من قبيل القيود الاصطلاحية النحوية. هذا هو الذي يريده شيخنا قدس‌سره ، وليس غرضه من اخراجها ممّا نحن فيه هو أنّ نفي المعلول الواقع في ناحية الشرط لا يدلّ على نفي العلّة الواقعة في ناحية الجزاء.

وإن شئت فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي. وأوضح منه ما

__________________

(١) في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٣ وما بعدها ، وراجع أيضا الصفحة : ٢٧ ـ ٢٨.

٤٠٤

حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى (١) ، فإنّه صريح فيما ذكرناه من كون نفي المعلول

__________________

(١) قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس‌سره في هذا المقام : وبالجملة لو ثبت ظهور القضية الشرطية وضعا أو اطلاقا لترتّب الجزاء على الشرط وجودا وعدما ، فكون الشرط معلولا لا علّة للجزاء أو كونهما متلازمين في الوجود لا يضرّ الظهور ، لأنّه على فرض الظهور كان الشرط معلولا أو ملازما ينتفي بانتفائه الجزاء. أمّا لو كان معلولا فواضح ، لأنّ مع عدمه لا يمكن وجود العلّة ولو كان المعلول أعمّ. نعم لا يستند انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، ولكن الاستناد ليس مدّعى القائل بالمفهوم. وأمّا لو كان ملازما فمع الظهور يدّعى التلازم وجودا وعدما ، كما أنّ قول المنطقيين إنّ رفع المقدم لا ينتج رفع التالي لا يصادم الظهور اللفظي ، لأنّ كلامهم ناظر إلى مقام البرهان ، والبرهان العقلي يصادمه الاحتمال ، وهو كون اللازم لازما أعمّ لا ينتفي بانتفاء أحد ملزوماته.

ولو لم يثبت الظهور فإثبات العلّة في مقام الثبوت وكذلك الانحصار لا يفيد للمفهوم ، لأنّ أغلب القضايا المتعارفة واردة في مقام الاثبات والبرهان ، وغير ناظرة إلى مقام الثبوت المقتضي لتقدّم ما هو المقدّم طبعا وتأخر ما هو المؤخّر.

فالأولى أن يكون النزاع ناظرا إلى ظهور القضية في التقييد وعدمه ، أي مفهوم الوصف والشرط والغاية كمفهوم اللقب ، أي ليس في القضية خصوصية مفيدة لتقييد الحكم بقيد ، بل ليس فيه إلاّ الحكم على موضوعه من دون تعرّض لنفيه عمّا عداه ، أو ليس كمفهوم اللقب بل ظاهر في التقييد والاناطة ، فينتفي المقيّد بانتفاء قيده بعد إثبات الانحصار بالاطلاق.

وبالجملة : هل ظاهر التعليق في القضية الشرطية لبيان فرض وجود الموضوع أو لتقييد الحكم ، والظاهر في القضايا المتعارفة كونه لتقييد الحكم وتنقيحه يتوقّف على تمهيد مقدّمة الخ.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٨٠ ـ ٤٨١ ] فيما حرّره في

٤٠٥

الواقع في ناحية الشرط يستلزم نفي العلّة الواقعة في ناحية الجزاء ، لكن القضية المتضمّنة لذلك لا توجب رفع اليد عمّا ادّعيناه من ظهور الجملة الشرطية في حدّ نفسها في كون الشرط قيدا في الحكم الواقع في ناحية الجزاء ، كما هو الشأن في قضايانا الأحكامية. بل إنّه قدس‌سره صرّح بأنّه لو كان الشرط علّة للجزاء علّة تكوينية تكون تلك القضية خارجة عمّا هو محلّ كلامنا من القضايا الأحكامية ، التي يكون مفادها تقييد الحكم بالشرط ، كما صرّح بذلك فيما نقله عنه في هذا الكتاب ، فلاحظ عبارته هناك في مقام دفع توهّم أنّه لا بدّ من كون الشرط علّة للجزاء بقوله : فمدفوع بأنّ الموضوع بالاضافة إلى حكمه وإن لم يكن علّة له ، إلاّ أنّه مترتّب عليه نحو ترتّب المعلول على علّته ، ولا تدلّ القضية الشرطية إلاّ على ترتّب التالي على المقدم. وأمّا كون الترتّب بنحو العلّية فهو ليس مفاد القضية الشرطية ، وإنّما هو من باب انحصار الترتّب في غير الأحكام في الترتّب بنحو المعلولية الخ (١).

ولاحظ أيضا عبارته في مقام الردّ على دعوى الكفاية (٢) أنّ ترتّب المعلول

__________________

دلالة الجملة على كون الشرط علّة : إلاّ أنّه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إنّ سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا هو أن يكون الكلام على وفق ما هو الواقع ، بمقتضى تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ، فإنّه لو كان الجزاء علّة للشرط أو كانا معا معلولين لعلّة ثالثة لكان الكلام مسوقا لبيان البرهان الإنّي ، ويتوقّف ذلك على كون المتكلّم في مقام الاستدلال على انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء حسبما يقتضيه الاستدلال الإنّي ، وهذا يحتاج إلى مئونة خارجية ، وإلاّ فإنّ طبع الكلام يقتضي كون المقدم هو المقدم والتالي هو التالي في الواقع وعالم الثبوت ، فيكون الكلام قد سيق على طبق الواقع انتهى [ منه قدس‌سره ].

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الأصول : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤٠٦

على علّته المنحصرة ليس مغايرا في السنخ مع ترتّبه على غير المنحصر ، وبذلك منع التمسّك بالاطلاق على الانحصار ، فقال شيخنا في ردّه حسبما نقله في هذا الكتاب بقوله : وجه الفساد هو أنّ التمسّك بالاطلاق ليس من جهة إثبات انحصار العلّة حتّى يرد عليه ما ذكره ، لما عرفت من أنّه ليس كون الترتّب بنحو المعلولية مفادا للقضية الشرطية ، بل مفاده إنّما هو ترتّب التالي على المقدم ليس إلاّ الخ (١). وإن شئت فلاحظ هذه المقامات في الطبعة الجديدة لهذا الكتاب ، فإنّها فيه أوضح وأبسط ممّا في هذه الطبعة.

وأوضح من ذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي في مقام الرد على الاستدلال على الانحصار باطلاق العلّية بقوله : وثانيا أنّ القضية الشرطية لا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط وكون وجوده معلولا لوجوده ، بل غاية ما تدلّ عليه القضية الشرطية هو الترتّب بين الجزاء والشرط ، ووجود الجزاء عند وجود الشرط ، إلى قوله : ولكن لا يخفى عليك أنّ هذه الكلمات كلّها أجنبية عن مسألة استظهار المفهوم للقضية الشرطية ، بل استظهار المفهوم لها يحتاج إلى بيان آخر ، وحاصله الخ (٢).

والخلاصة : هي أنّ قضايانا الأحكامية مسوقة لجعل الحكم على موضوعه ، فإن قلنا بأنّ المجعول هو السببية كان الموضوع علّة للحكم ، لكن علّيته له شرعية لا تكوينية. وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا إنّ المجعول هو الحكم على تقدير الشرط ، كان الشرط بمنزلة العلّة ، وكانت القضية في دلالتها على المفهوم متوقّفة على الدلالة على الانحصار.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٨١ ـ ٤٨٢.

٤٠٧

هذا حاصل قضايانا الشرعية ، وليس فيها ما يكون الشرط معلولا ، نعم في باب الملازمات كما في وجوب المقدمة المعلول لوجوب ذيها يتأتّى ما ذكره المنطقيون من البرهان اللمي والإنّي ، فتارة يكون المقدم هو وجوب ذي المقدمة فيكون الانتقال لمّيا ، وأخرى يكون المقدم هو وجوب المقدمة فيكون الانتقال إنّيا ، ويكون انتفاء المقدم كاشفا عن انتفاء التالي في كلا الصورتين ، كما أنّ تحقّقه يكون كاشفا عن تحقّق التالي في كلّ منهما.

ولا يخفى أنّه بعد أن كان كلّ ما في المطلب هو كون الشرط موضوعا وكون الجزاء حكما لذلك الموضوع ، وأن ليس في البين إلاّ مجرّد التسمية ، فيسمّى الشرط علّة باعتبار ترتّب الحكم عليه ، ويسمّى الجزاء معلولا باعتبار كونه متأخرا رتبة عن الشرط وأنّه يتحقّق عند تحقّق الشرط ، نكون في غنى عن إثبات الأمر الأوّل ، أعني كون القضية لزومية في قبال الاتّفاقية ، بل نكون في غنى أيضا عن إثبات الأمر الثاني وهو كون الشرط علّة ، لما عرفت من أنّ المدار على كون الشرط موضوعا للجزاء ، وهذا أعني تشخيص كون المقدم موضوعا وشرطا أمر جلي واضح ، لا يحتاج إلى إقامة البرهان ولا إلى استظهار من لفظ القضية.

نعم ، يبقى الكلام في الأمر الثالث وهو الانحصار ، ونعني به انحصار موضوع ذلك الحكم بالشرط المذكور ، كما نراه في الاستطاعة ووجوب الحجّ أعني حجّة الإسلام ، فإنّه لا موضوع لوجوبها إلاّ الاستطاعة ولا يقوم مقامها شيء آخر ، بخلاف وجوب الكفّارة في مثل إن ظاهرت فكفّر ، فإنّ انتفاء الظهار لا يكشف عن انتفاء وجوب الكفّارة ، لجواز وجوبها بالافطار مثلا. فعلى القائل بالمفهوم إثبات الانحصار وأنّ هذا الموضوع لا يقوم مقامه موضوع آخر.

فائدة : قال في المستند فيما لو نوى الاقامة وصلّى رباعية بتمام ما هذا

٤٠٨

لفظه : ثمّ إنّه بعد إيقاع الصلاة الواحدة تامّة لو رجع كما يصلّي باقي الصلوات تامّة يصوم أيضا ، لمفهوم « إذا قصرت أفطرت » ويجبر عدم دلالته على الوجوب بالإجماع المركّب (١).

قلت : لا يخفى أنّ الرواية المشار إليها هي ما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن وهب ، التي يقول في آخرها : « قال قلت : إن دخلت بلدا أوّل يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشرا ، قال عليه‌السلام : قصّر وافطر ، قلت : فإن مكثت كذلك أقول غدا وبعد غد ، فأفطر الشهر كلّه وأقصّر؟ قال عليه‌السلام : نعم ، هذا واحد ، إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » (٢).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية الشريفة مشتملة على جملتين إحداهما عكس الأخرى ، وهما قوله عليه‌السلام : « إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » ودلالة الجملة الأولى على وجوب الصوم في المسألة المذكورة ـ أعني ما لو عدل عن نيّة الاقامة بعد الصلاة الرباعية بتمام ـ بطريق المفهوم باصطلاح الأصوليين ، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، فيحتاج دلالته على وجوب الصوم إلى الاعتضاد بالإجماع المركّب ، لأنّ المنطوق هو أنّك إذا قصرت وجب الافطار ، فمفهومه أنّك إذا لم تقصر لم يجب الافطار. ومجرّد نفي وجوب الافطار لا يدلّ على وجوب الصوم وحرمة الافطار إلاّ بالإجماع المركّب ، وهو أنّه لا قائل بجواز الصوم ، لأنّ المسألة ذات قولين : قول بوجوب الصوم وقول بحرمته ، فإذا دلّ المفهوم على عدم وجوبه فقد دلّ على حرمته ووجوب الافطار ، وهكذا الحال في

__________________

(١) مستند الشيعة ٨ : ٢٦١.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧ ، الفقيه ١ : ٢٨٠ / ١٢٧٠.

٤٠٩

الافطار. لكن يمكن أن يقال إنّ المفهوم هو أنّك إذا لم تقصر لم تفطر ، وهو دالّ بنفسه على عدم جواز الافطار.

ثمّ لا يخفى أنّ الجملة الثانية ـ وهي إذا أفطرت قصّرت ـ تدلّ على الحكم في المسألة المزبورة بطريق المفهوم في اصطلاح المنطقيين ، وهو أنّ نفي الجزاء يوجب نفي الشرط ، وذلك بطريق القياس الاستثنائي بأن يقال إنّ هذا الراجع عن نية الاقامة بعد أن صلّى الرباعية بتمام لا يجوز له الافطار ، لأنّه لو أفطر لقصر الصلاة ، لكن قصرها غير جائز ، فتكون النتيجة أنّ افطاره غير جائز.

وملخّصه : أنه لو أفطر لقصر الصلاة لكنّه لا يقصرها فهو محكوم بأنّه لا يفطر ومن الواضح أنّ ذلك لا يحتاج إلى الاعتضاد بالإجماع المركّب ، وهكذا الحال في مسألة التردّد ثلاثين يوما ، فتأمّل.

هذا ما حرّرته في سالف الزمان ، ولكن الظاهر أنّ كلا من الجملتين خارج عن اصطلاح الأصوليين وأنّهما على اصطلاح المنطقيين ، فإنّ كلا من تقصير الصلاة والافطار حكم معلول لتحقّق السفر ، فالسفر علّة لكلّ منهما ، وانتفاء كلّ منهما يكون برهانا على انتفاء الآخر ، لأنّ انتفاء أحدهما يكشف عن عدم العلّة ، وهو أعني عدم العلّة يوجب عدم المعلول الآخر.

قوله : وحيث إنّ حال التقييد مع الانحصار وعدمه تختلف لا محالة ، فيكون اطلاق القيد وعدم ذكر عدم له مفيدا لانحصاره لا محالة (١).

الإنصاف : أنّه لم يتّضح تمام الاتّضاح اختلاف التقييد مع الانحصار وعدمه على وجه يكون التقييد مع الانحصار غير محتاج إلى مئونة زائدة والتقييد مع عدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٠

الانحصار محتاجا إلى ذلك ، ليكون ما نحن فيه من قبيل الاستدلال بالاطلاق على إرادة أحد نوعي المطلق الذي لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، ليكون نظير الواجب التعييني في قبال الواجب التخييري. فالأولى تقريب التمسّك بالاطلاق على الانحصار بنحو آخر يكون من باب التمسّك بالمطلق على إرادة المطلق ، أعني بذلك اطلاق نفس التقييد وشموله لما إذا وجد الطرف الآخر الذي يحتمل قيامه مقام القيد المذكور في الشرط ، فإنّ مقتضى اطلاق كون الشرط قيدا هو كونه قيدا بقول مطلق حتّى عند وجود ذلك الطرف الآخر ، فإذا فرضنا أنّ ذلك الشرط يكون قيدا في ذلك الحكم حتّى في حال وجود طرفه المذكور ، كان محصّل ذلك هو أنّ ذلك الطرف لا يقوم مقامه ، وذلك هو عين الانتفاء عند انتفاء القيد المذكور ، الذي هو عبارة عن الانحصار.

والحاصل : أنّ طبع التقييد يقتضي تضييق الدائرة الذي هو عبارة عن الانتفاء عند الانتفاء ، ولكن نشكّ أنّه عند انتفاء ذلك القيد ووجود الطرف الآخر المحتمل القيدية والقيام مقام ذلك القيد المذكور في ناحية الشرط ، هل يكون الحكم المذكور في ناحية الجزاء باقيا على ما هو عليه من كونه مقيّدا بذلك القيد المذكور في ناحية الشرط ، أو أنّ تقيّده به مختصّ بما إذا لم يوجد ذلك الطرف الآخر ، فإذا أثبتنا بمقتضى إطلاق التقييد أنّ ذلك الشرط قيد في ذلك الحكم حتّى في حالة وجود ذلك الطرف الآخر ، كان محصّله أنّه في ذلك الحال أيضا يكون الحكم المذكور مضيّق الدائرة بوجود الشرط ، وأنّه ينعدم عند انعدامه ، ويكون محصّله أنّ الحكم في ذلك الحال ـ أعني حال وجود الطرف الآخر ـ يكون منعدما عند انعدام الشرط ، وهو معنى المفهوم ، وهو معنى كون الشرط قيدا منحصرا.

وإن شئت فقايس ما نحن فيه من قيود الحكم الذي هو الوجوب مثلا بقيود

٤١١

الفعل الواجب كالصلاة مثلا ، فإنّها قد قيّدت بقيود كثيرة منها التسبيحات في الركعتين الأخيرتين ، ولا ريب أنّ تقيّدها بالتسبيحات يكون مقيّدا بأن لا تخلفها الفاتحة ، فلا يكون انتفاء التسبيحات عند وجود الفاتحة في مقامها موجبا لانتفاء الصلاة أعني صحّتها ، وحينئذ تكون الفاتحة بدلا من التسبيحات بدلا عرضيا. وربما كان لبعض قيودها بدل طولي ، كما في الطهارة المائية التي لها بدل طولي الذي هو الطهارة الترابية ، ولازم ذلك انحصار قيدية الطهارة المائية للصلاة بما إذا كان متمكّنا منها ، كما هو الحال في القيود التي تسقط بالاضطرار أو النسيان بلا أن يكون لها بدل.

وهناك قيد آخر تكون قيديته مطلقة ، على وجه يكون انتفاؤه موجبا لانتفاء صحّة الصلاة بقول مطلق ، ولازمه سقوط الصلاة عند عدم التمكّن من ذلك القيد ، وذلك مثل مطلق الطهور ، بناء على أنّه يستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) تقيّد الصلاة به تقيّدا مطلقا.

وربما يقال : إنّ طبع التقييد يقتضي القيدية والانتفاء عند الانتفاء ، ولا يحكم بسقوط القيدية في حال من الأحوال إلاّ بدليل خاصّ. لكن الظاهر أن طبع التقييد لا يكفي في ذلك أعني الحكم بالانتفاء عند الانتفاء ، بل لا بدّ من إثبات اطلاق التقييد وسرايته إلى ذلك الحال ، وحينئذ لو لم يكن في البين ذلك الاطلاق وبقينا نحن ومجرّد ثبوت التقييد على نحو الاهمال ، لم يمكن أن نحكم بالانتفاء عند انتفائه ، بل لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية في ذلك. وتمام الكلام موكول إلى محلّه.

والغرض أنّه لو كان لدليل تقييد الصلاة بمثل الطهور مثلا اطلاق يشمل ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

٤١٢

إذا لم يوجد الطهور ووجد غيره ممّا يحتمل كونه قائما مقامه كالاستغفار مثلا على نحو الطولية أو على نحو العرضية ، وكان اطلاق دليل تقييد الصلاة بالطهور شاملا لما إذا فعل المكلّف الاستغفار ، سواء كان مع تمكّنه من الطهور بأن يكون الاستغفار بدلا عرضيا أو مع عدم تمكّنه منه بحيث يكون بدلا طوليا ، لم يكن لنا بدّ من الحكم في ذلك الحال بعدم تحقّق المقيّد الذي هو صحّة الصلاة ، وبأنّ انتفاء ذلك القيد الذي هو الطهور يوجب انتفاء المقيّد الذي هو صحّة الصلاة.

وبعين هذا الاطلاق نتمسّك فيما نحن فيه فنقول : إنّه قد ثبت بقوله مثلا إذا خسف القمر فصلّ صلاة الآيات أنّ وجوب صلاة الآيات مقيّد بما إذا انخسف القمر ، ومقتضى ذلك تضييق دائرة ذلك الوجوب ، ولكن نشكّ بأنّ ذلك التقييد وتضييق الدائرة هل هو شامل لما إذا بلغ القمر الليلة الرابعة ، بحيث إنّه في الليلة الرابعة من الشهر يكون تقيّد وجوب صلاة الآية بالانخساف باقيا على حاله ، ومقتضاه أنّه في هذا الحال أعني الليلة الرابعة لا تجب صلاة الآية ، لانتفاء قيدها المفروض كونه قيدا فيه حتّى في هذه الليلة ، أو أنّ تقيّده بالانخساف لا يشمل هذه الليلة ، فيمكن أن يتحقّق الوجوب المذكور في هذه الليلة ، لاحتمال كونها قائمة مقام الانخساف في ترتّب الوجوب المذكور عليها ، فلا يكون للقضية الشرطية مفهوم. وحيث إنّا تمكّنا باطلاق دليل التقييد في القضية الشرطية من إثبات القيدية المطلقة كان لازمه الانتفاء عند الانتفاء. وهو عبارة أخرى عن الانحصار وأنّ الليلة الرابعة لا تقوم مقام الانخساف في القيدية المزبورة ، فتأمّل جيدا.

لا يقال : ليس في المقام لفظ يدلّ على التقييد كي يكون اطلاقه حجّة على كون ذلك التقييد مطلقا ، إذ ليس في البين إلاّ جعل الحكم على تقدير الشرط.

٤١٣

لأنّا نقول : إنّ ذلك الجعل هو تكوّن للتقييد ، حيث إنّا لا نقول بجعل التقييد ولا بجعل السببية ، وأنّ المجعول هو الحكم على ذلك التقدير ، وعن ذلك الجعل ينشأ التقييد والسببية ، فهما منتزعان من ذلك الجعل ، فيكونان في هذه الجهة تابعين لما هو منشأ انتزاعهما وهو ذلك الجعل ، وعدم العطف بلفظ « أو » في كيفية الجعل هو المنشأ في انتزاع القيدية المطلقة. على أنّك قد عرفت أنّ طبع التقييد المنتزع من ذلك الجعل كاف في التوقّف والانتفاء عند الانتفاء ، من دون حاجة إلى إثبات الاطلاق ، فتأمّل (١).

ثمّ إنّه ربما يتمسّك لدلالة القضية الشرطية على الانحصار الذي لازمه المفهوم الذي هو الانتفاء عند انتفاء الشرط ، بأنّ الظاهر من التعليق على هذا الشرط الخاصّ هو أنّ لخصوصيته دخلا في الحكم المذكور في ناحية الجزاء ، فلو كان في البين شرط آخر يقوم مقام الشرط المذكور في القضية لكان الشرط هو القدر الجامع بينهما ، فيكون حينئذ ذكر الخصوصية لغوا ، وهو خلاف الظاهر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذه الطريقة لا تفيدنا إلاّ أنّ هذه الخصوصية لها دخل في الحكم ، في قبال احتمال كون المدخلية للقدر الجامع ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب انتفاء كلّي الحكم عند انتفاء الشرط المذكور الذي هو المطلوب في المفهوم ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب انتفاء الحكم الموجود في هذه القضية المعلّق على خصوصية ذلك الشرط ، وهذا المقدار لا يكفينا في الحكم بالمفهوم ، فإنّ هذا المقدار من نفي الحكم يشترك فيه جميع القضايا ، حتّى القضايا الحملية التي نعبّر عنها باللقب ، فإنّ من الضرورة هو انتفاء شخص الحكم عند انتفاء موضوعه ، وإنّما عمدة الكلام في المفهوم هو كون انتفاء الشرط موجبا لانتفاء

__________________

(١) لاحظ ما تقدّم في الصفحة : ٤١٢ ـ ٤١٣.

٤١٤

كلّي الحكم.

وحينئذ فعلينا أن نقول : إنّه بعد أن ثبت أنّ للخصوصية دخلا في شخص ذلك الحكم الموجود في الجزاء ، أن نتكلّم في أنّها هل هي منحصرة على وجه يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء كلّي الحكم ، أو أنّه يمكن أن يخلفها شرط آخر مباين لهذا الشرط ، ويكون ذلك الشرط موجبا لحدوث فرد آخر من الحكم. وحينئذ لو ادّعينا المفهوم بالمعنى المذكور ـ أعني انتفاء سنخ الحكم وكلّي الوجوب مثلا عند انتفاء الشرط المذكور في القضية ـ فعلينا أوّلا أن نثبت أنّ المعلّق على ذلك الشرط هو كلّي الوجوب ، وبعد إثبات أنّ كلّي الوجوب معلّق على ذلك الشرط ومقيّد به ، هل ذلك على نحو الانحصار فيكون لازمه هو انتفاء الحكم الكلّي عند انتفاء ذلك الشرط ، أو أنّه ليس على نحو الانحصار ولازمه امكان ثبوت فرد من ذلك الحكم الكلّي على تقدير شرط آخر غير الشرط المذكور.

ومن ذلك يعلم أنّ الانحصار وحده لا ينفع في إثبات ذلك المفهوم ، إذ لو كان المعلّق على الشرط المنحصر هو شخص الحكم لا كلّيه فأقصى ما يفيده الانحصار هو انتفاء ذلك الحكم الشخصي عند انتفاء ذلك الشرط الخاصّ ، في قبال احتمال كون الشرط في ذلك الحكم الخاص هو القدر الجامع بين هذا الشرط وبين ما يخلفه ، أو في قبال احتمال قيام شخص آخر مباين له. والأوّل مبني على أنّ الشرط علّة ولا يسوغ اجتماع علّتين متباينتين على معلول واحد ، والثاني مبني على إنكار علّية الشرط أو إنكار امتناع تباين العلل مع وحدة المعلول.

والذي يتلخّص من مجموع ما حرّرناه : أنّ المفهوم للقضية الشرطية يتوقّف على ثبوت الانحصار في الشرط ، وعلى كون الحكم المعلّق هو سنخ

٤١٥

الحكم لا شخصه ، إذ لو كان الشرط منحصرا ولكن لم يكن المشروط هو طبيعة الحكم بل كان شخصه ، لم يكن انتفاء الشرط المنحصر موجبا لانتفاء كلّي الحكم ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب انتفاء الشخص ، وليس ذلك من المفهوم في شيء. ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المعلّق هو السنخ ، ولكن كان الشرط غير منحصر ، لم يكن انتفاؤه موجبا لانتفاء السنخ.

ولشيخنا الأستاذ المحقّق الآغا ضياء الدين العراقي قدس‌سره في هذا المقام تحقيق مفصّل كما حرّرته عنه في الدرس ، وحرّره هو قدس‌سره في مقالته المطبوعة (١) يتلخّص في أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ انحصار الشرط أمر مفروغ منه حتّى عند القائلين بعدم المفهوم ولأجل ذلك نراهم يحكمون بالتعارض بين مثل أكرم زيدا إن جاءك وأكرم زيدا بقول مطلق ، ويحملون الثاني على الأوّل بشرط استفادة وحدة الحكم ، فإنّ قولهم إنّه لو استفيد منه وحدة الحكم يحصل التعارض مع أنّهم لا يقولون بالمفهوم كاشف عن أنّهم لا يفهمون من مثل ذلك كون المعلّق السنخ ، فقالوا بعدم المفهوم أعني انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط ، وحينئذ يكون التعارض مستندا إلى أنّ الشرط منحصر ، وأن شخص ذلك الحكم الواحد ينتفي عند انتفاء الشرط ، كما هو مفاد القضية الأولى ، فيكون مفاده منافيا لثبوته مع عدم الشرط ، كما هو مقتضى اطلاق القضية الثانية (٢) ، فيقع التعارض بينهما ، وعلاج هذا التعارض الجمع الدلالي بحمل المطلق على المقيّد.

الثاني : أنّ إثبات الانحصار في الشرط يحصل بظهور الجملة في أنّ

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٣٩٦ وما بعدها.

(٢) [ في الأصل : الأولى ، والصحيح ما أثبتناه ].

٤١٦

لخصوصية ذلك الشرط مدخلية في الحكم ، في قبال احتمال كون الشرط والمؤثّر هو القدر الجامع ، أمّا احتمال كون قيام غيره مقامه ممّا هو مباين له ، فذلك ممّا يقطع بعدمه ، لامتناع تعدّد العلّة مع وحدة المعلول.

الثالث : أنّ المراد من السنخ الذي هو العمدة والأساس في ثبوت مفهوم القضية الشرطية ، هو كون المعلّق على الشرط هو طبيعة الحكم بتمام وجوده ، فإن انتفاء الشرط حينئذ يكون موجبا لانتفاء طبيعة ذلك الحكم ، بخلاف ما لو كان المشروط هو الطبيعة المهملة الصالحة للانطباق على خصوص المعلّق على ذلك الشرط ، فإنّ انتفاء الشرط لا يدلّ إلاّ على انتفائه ، لا على انتفاء الطبيعة الكلّية. وأفاد أنّ ذلك ـ أعني إثبات أنّ المعلّق هو السنخ ـ يحتاج إلى عناية زائدة على أصل إفادة التعليق على الشرط. وفي تحريراتي عنه أنّه ربما كان لنبرة الصوت مدخلية في ذلك.

وفيه تأمّل ، أمّا الأوّل : فلامكان أن يكون حكمهم بالتعارض في ذلك من جهة كون سعة الحكم الواحد منافية لضيقه ، كما أفاده في الكفاية (١) في مبحث مفهوم الوصف من التنافي بين مثل ائتني بإنسان وائتني بحيوان مع وحدة التكليف ، إذ من الواضح أنّه ليس في البين شرط أو علّة كي يدّعى أنّ منشأ التنافي هو الانحصار وانتفاء شخص الحكم عند الانتفاء.

وأمّا الثاني : فلأنّا لو سلّمنا كون الشرط علّة في الحكم ، ولو باعتبار كونه علّة في حدوث المصلحة الموجبة لجعل الحكم على طبقها ، وأنّ العلّة لا يجوز تعدّدها ، وأنّه في صورة تعدّد العلل لا بدّ من ارجاعها إلى قدر جامع ، إلاّ أنّه ربما كان ذلك القدر الجامع بعيدا عن الأذهان العرفية على وجه لا يطّلع عليه العرف ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠٦.

٤١٧

ففي مثل ذلك لا يمكن طرد احتمال عدم الانحصار بظهور الجملة في مدخلية الخصوصية ، لأنّ ذلك إنّما يمكن فيما لو كان التعليق على القدر الجامع ممكنا ، فإنّه حينئذ يقال لو كان الشرط هو القدر الجامع لكان على المتكلّم أن يذكره ويجعل الجزاء معلّقا عليه لا على فرده الخاصّ ، أمّا في صورة عدم إمكان ذكر القدر الجامع لفرض قصور الأذهان العرفية عن فهمه ، فاحتمال التعدّد في مثل ذلك لا يمكن طرده باستظهار مدخلية الخصوصية في قبال القدر الجامع ، بل لا بدّ في الاستناد في طرد ذلك الاحتمال من الاستناد إلى الاطلاق وعدم العطف على الشرط بأو ونحو ذلك ممّا تقدّم ، ولا ينفع فيه ظهور الشرط في مدخلية الخصوصية.

ومن ذلك يظهر لك أنّه في صورة كون الجامع قريبا نحتاج في إثبات الانحصار إلى الاستناد إلى عدم العطف بلفظ أو ، فإنّ أقصى ما في البين هو أنّا قد طردنا احتمال كون الشرط هو ذلك القدر الجامع العرفي القريب بأنّ الظاهر أنّ للخصوصية الشخصية مدخلية ، ولكن إثبات الخصوصية لزيد مثلا إنّما تنفي أن يكون الأثر مترتّبا على كلّي الإنسان الذي هو قدر جامع بين زيد وعمرو ، وهذا لا ينفي أن يكون لخصوصية عمرو مدخلية كما لخصوصية زيد مدخلية على البدل ، وحينئذ نكون محتاجين إلى طرد ذلك الاحتمال بعدم ذكر العطف بأو ، إذ لا جامع عرفي بين الخصوصيتين ، وإن كان هناك جامع عرفي بين الفردين.

وأمّا الثالث : ففيه أنّ تعليق نفس الحكم الذي يوجد على ذلك التقدير لا معنى له ، لاستحالة أخذ الموضوع في نفس الحكم عند جعل الحكم على موضوعه ، إذ لا بدّ في مقام الجعل من لحاظ الحكم منحازا عن موضوعه ، ولحاظ موضوعه منحازا عنه ، وفي هذه المرتبة من اللحاظ يجعل الحكم على ذلك

٤١٨

الموضوع أو على ذلك الشرط ، وحينئذ يكون الحكم المجعول هو طبيعة الوجوب بما له من الحقيقة ، وهذا المقدار كاف في حكمنا بأنّ الحكم المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب بما له من الحقيقة ، فيكون ذلك الشرط دخيلا في طبيعة الوجوب المذكور ، فإذا أثبتنا انحصار الشرط كان لازمه انتفاء طبيعة الوجوب عند انتفاء ذلك الشرط ، من دون توقّف على ثبوت اطلاق في ناحية الحكم المجعول ، بحيث يكون الجاعل في حال جعله الحكم قد نظر إلى طبيعة الوجوب وعلّقها بتمام ما لها من الوجود على الشرط المزبور ، بل قد يقال باستحالة ذلك الاطلاق في مرحلة الجعل كما يستحيل التقييد.

وكأنّه قدس‌سره قد قصد التصدّي لدفع هذا الإشكال في مقالته المطبوعة فقال : وحينئذ لا محيص في مقام تعليق شخص الوجوب مثلا أن يراد من الشخص ما هو المحدود بحدود خاصّة ملازم مع ما علّق عليه الحدّ لا الناشئ من قبله ، في قبال سنخه الملازم لتجريده عن هذه الخصوصية الملازم لأخذ اطلاق في الحكم من هذه الجهة زائدا عمّا هو مدلول خطابه من الطبيعة المهملة الخ (١).

ولا يخفى أنّ هذا تكلّف في تسجيل الإشكال ، الموجب للتوقّف في أخذ المفهوم بلا داع. وأي داع يدعو الآمر أن ينظر إلى الحكم مقيّدا بجهة ملازمة مع تحديده بحدوده الخاصّة كي يكون الاطلاق المدّعى بازاء هذا التقييد.

وبالجملة : أنّ المتحصّل من مجموع ما أفاده قدس‌سره فيما حرّرته عنه وفيما حرّره هو في مقالته هو أنّ انحصار الشرط أمر مفروغ عنه حتّى عند المنكرين للمفهوم ، وأنّ منشأ النزاع في المفهوم هو كون المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم ، بحيث يكون المتكلّم ناظرا إلى طبيعة الوجوب وأنّه بتمامه معلّق على

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٣٩٨.

٤١٩

الشرط ، وهذه جهة زائدة على ما تفيده الدلالة اللفظية من جعل طبيعة الوجوب المهملة معلّقة على الشرط ، فكأنّه قدس‌سره يرى أنّه لا بدّ في المفهوم من كون المتكلّم بصدد حصر الوجوب وقصره على الشرط ، ولأجل ذلك قال فيما حرّرته عنه : ولعلّ لنبرة الصوت مدخلية في ذلك.

ولا يخفى أنّ كون المتكلّم بصدد حصر الوجوب الكلّي وأنّه مقصور على مورد الشرط أمر آخر ، غير ما هو محطّ البحث في استفادة المفهوم ، فإنّه لو ثبت كون المتكلّم بصدد حصر طبيعة الوجوب وأنّه بتمام طبيعته معلّق على الشرط ، يكون دلالة ذلك على المفهوم من قبيل دلالة الحصر ، فكأنّه يقول لا وجوب إلاّ في مورد الشرط ، وحينئذ يخرج عن الكلام في مفهوم الشرط ويدخل في الكلام في مفهوم الحصر ، بحيث يكون الكلام صادرا في مقام الردّ على من تخيّل الوجوب في غير مورد الحصر أو في مقام دفع توهّمه ، ليكون من قبيل قصر الافراد ، وهو خارج عن عالم مفهوم الشرط ، بل يكون راجعا إلى مفهوم الحصر ، فكأنّ المتكلّم بواسطة تلك القرينة المقامية يقول إنّه لا وجوب إلاّ في مورد الشرط. كما أنّ جهة الانحصار بالشرط لو كان محصّلها هو كون الكلام صادرا في مقام الردّ على من تخيّل أنّ الشرط الفلاني أيضا يترتّب عليه الحكم ، أو في مقام توهّم ذلك لكان خارجا عن مفهوم الشرط بل كان راجعا إلى مفهوم الحصر ، فكأنّ المتكلّم بواسطة تلك القرينة المقامية يقول إنّه لا شرط ولا قيد لذلك الوجوب إلاّ هذا الشرط ، وليس ذلك من مفهوم الشرط في شيء ، بل هو حينئذ من قبيل قصر الافراد.

وبالجملة : أنّه قدس‌سره يقول : إنّ الحكم بوجوب الكفّارة الوارد على تقدير تعمّد الافطار لا يمكن أخذه مقيّدا بذلك تقييدا لحاظيا ، كما أنّه لا يمكن أن يكون

٤٢٠