أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

السلطنة نافعا في موارد الشكّ في الحجر على نحو الشبهة الحكمية.

فإذا قلنا إنّ النهي عن المعاملة يكون سالبا شرعيا للسلطنة عليها كانت تلك المعاملة فاسدة ، لعدم كونه مسلّطا عليها شرعا ، وبذلك تخرج عن عموم الحديث المذكور الذي استفيد منه تقيّد المعاملة بالسلطنة وعدم الحجر ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره وإن كان ما ذكرناه من الاستناد في الفساد إلى كون النهي موجبا للردع عن المعاملة أسهل تناولا ، فتأمّل وراجع ما حرّرناه على درس المكاسب في أوائل بحث المعاطاة (١).

ولا يخفى أنّ بعض العبائر المنقولة عن شيخنا ربما تساعد على اعتماده في الفساد على كون النهي ردعا ، وذلك قوله : ودليل النهي يدلّ على عدم كونها ممضاة في نظر الشارع الخ (٢).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ بيع منذور الصدقة إذا لم يكن النذر من نذر النتيجة ليس ممّا تسالم الفقهاء على بطلانه ، بل هو محلّ الخلاف بينهم ... الخ (٣).

قال المرحوم الشيخ محمّد علي بعد أن ذكر البيع المخالف للنذر أو المخالف للشرط ، وغير ذلك من الفروع ما هذا لفظه : وبعض ما يترتّب على ذلك من الفروع كأنّه متسالم عليه عند الأصحاب ، وإن كان بعضه الآخر لا يخلو عن

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) [ هذه العبارة وردت في الطبعة القديمة غير المحشاة ، وقد أبدلت في الطبعة الحديثة بقوله : غاية الأمر أنّ النهي عنه يقتضي حجر المكلّف عنه المستلزم لعدم إمضاء الشارع له الخ ، أجود التقريرات ٢ : ٢٣١ ].

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٢٩.

٣٤١

خلاف (١).

وقال المرحوم الشيخ موسى بعد أن بيّن أنّ النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها ما هذا لفظه : ولذا اخترنا في باب النذر أنّه لا يجوز التصرّف في منذور الصدقة ، وهكذا في باب الشرط ، وسرّه خروج المنذورة عن تحت سلطنة الناذر ، وهكذا بالنسبة إلى المشروط عليه ، فتدبّر جيّدا ، انتهى.

وإن شئت فراجع ما حرّره الحقير عنه قدس‌سره في هذا المقام (٢) ، فإنّه على طوله ليس فيه نقل عن الأصحاب بعنوان التسالم ، ولا بعنوان غيره ، بل جلّه مقصور على بيان مقتضى القاعدة. وكيف يقول شيخنا إنّ المعاملة المخالفة قد تسالم الأصحاب على بطلانها ، وها هو في حواشيه على العروة خصوصا في باب الاجارة وغيرها في خلاف عظيم مع الماتن قدس‌سره ، فالسيّد قدس‌سره يذهب إلى صحّة المعاملة المخالفة وهو يعلّق عليها ببطلانها ، فراجع العروة في الاجارة ص ٢٢٤ وص ٢٢٧ (٣) وغيرهما.

نعم ، في مسألة الاجارة على الواجبات نقل الشيخ قدس‌سره في المكاسب المحرّمة في قوله : الخامس ممّا يحرم التكسّب به الخ ، نقل الإجماع على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات (٤). ومع ذلك إنّي لا أتذكّر أنّ شيخنا قدس‌سره في هذا المقام نقل الإجماع أو التسالم على عدم جواز أخذ الأجرة. ولعلّ ذلك هو مراد

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٧٢.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

(٣) ويقصد بها النسخة المحشاة بحاشية المحقّق النائيني قدس‌سره طبعة دار المسيرة ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٥ : ٧٧ ، ٨٦.

(٤) المكاسب ٢ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٤٢

المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : « وبعض ما يترتّب على ذلك من الفروع كأنّه متسالم عليه » ، لكنّه لم يذكر فرع الاجارة ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث أو توضيحه : هو أنّ شيخنا (١) استشهد لما أفاده من كون النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها فتفسد بأمور :

الأوّل : عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات. وكان الأنسب الاستشهاد بعدم جواز أخذ الأجرة على المحرّمات ، لأنّ المنع عن الفعل يوجب سلب السلطنة عليه فلا تصحّ الاجارة عليه.

الثاني : عدم نفوذ المعاملة المنذور ضدّها ، أو المنذور تركها.

الثالث : عدم نفوذ المعاملة المشروط ضدّها ، أو المشروط تركها.

أمّا الفرع الأوّل : فمحلّ الكلام فيه هو ما تعرّضوا له في المكاسب المحرّمة وفي كتاب الاجارة وملخّصه : أنّ دعوى المنع من أخذ الأجرة على الفعل الواجب على الأجير قد وجّهت بأمور :

الأوّل : أنّ الوجوب الطارئ على الفعل يوجب كونه مملوكا للشارع ، فلا يصحّ للمكلّف الذي وجب عليه ذلك الفعل أن يملكه للغير ، نظير ما لو ملك عليه العمل باجارة ، فإنّه لا يصحّ له أن يملك نفس ذلك العمل من شخص آخر غير المستأجر الأوّل.

وهذا التوجيه قابل للمناقشة بأنّ المراد من ملكية الشارع إن كان بمعنى أنّه تعالى مالك كلّ شيء ، ومالك الملك والصعلوك والمالك والمملوك ، فتلك ملكية أخرى لا تنافي التمليك من الغير ، فإنّه تعالى مالك لك ولعبدك ومع ذلك يصحّ لك أن تملّك عبدك من شخص مثلك بالبيع ونحوه من النواقل. وإن كان المراد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ وما بعدها.

٣٤٣

من مالكية الشارع للعمل الواجب أنّه يملكه على المكلّف بنحو مالكية المستأجر العمل على الأجير ، فهذا ممنوع أشدّ المنع.

التوجيه الثاني : أنّ إيجاب العمل يوجب سلب سلطنة المكلّف على ذلك العمل ، بل يوجب سلب قدرته عليه ، لأنّه لا بدّ في السلطنة والقدرة من كون طرفي الفعل وجودا وعدما بيد الفاعل ، والايجاب يوجب سلب قدرته على الترك ، كما أنّ التحريم يوجب سلب قدرته على الفعل ، ويكون الفعل بطروّ الوجوب أو التحريم عليه خارجا في عالم التشريع عن قدرة الفاعل وعن سلطنته عليه ، فلا يصحّ أخذ الأجرة عليه ، لأنّه لا بدّ في الاجارة من كون الأجير مسلّطا على الفعل مقدورا له.

وهذا التوجيه وإن نوقش فيه في محلّه ، إلاّ أنّ نظر شيخنا قدس‌سره في الاستشهاد بالفرع المذكور إلى هذا التوجيه الثاني ، وإن كانت بعض كلماته تشير إلى التوجيه الأوّل.

التوجيه الثالث لبطلان الاجارة : هو أنّه لا بدّ في صحّة الاجارة من كون العمل الذي تقع عليه الاجارة حاصلا للمستأجر ، ولو كان الفعل واجبا عليه لم يكن ذلك العمل حاصلا للمستأجر ، على تفصيل مذكور في محلّه الذي أشرنا إليه.

وهذا التوجيه لو كان هو المستند في بطلان الاجارة على الواجبات لم يكن محل للاستشهاد بها لما نحن فيه. وشيخنا قدس‌سره في ذلك المبحث جعل بطلان الاجارة مستندا إلى كلّ واحد من هذه الوجوه ، وإن كان كلّ واحد منها على انفراده كافيا في الحكم بفساد الاجارة ، فراجع ذلك المبحث بتمامه وتمام ما حرّرناه في

٣٤٤

التعليق عليه (١).

ومن ذلك يظهر لك الحال في الفعل المحرّم ، فإنّه إنّما يكون بطلان الاجارة عليه شاهدا لما نحن فيه لو وجّهنا ذلك بما تقدّم من الوجه الثاني ، أعني كون النهي سالبا للسلطنة. أمّا لو وجّهنا ذلك بأنّ النهي عن الفعل يوجب سلب ماليته ، قياسا على المنافع المحرّمة التي يكون تحريمها موجبا لسلب مالية العين ذات المنفعة المذكورة ، فلا شاهد فيه على ما نحن فيه. وكذلك لو كان المستند في بطلان الاجارة عليه النصّ الدالّ على « أنّ الله تعالى إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه » (٢) أو ما تضمّنته رواية تحف العقول (٣) من الدلالة على بطلان الاجارة على المحرّمات.

أمّا مسألة النذر والشرط فقبل بيان الوجه في الاستشهاد بها لما نحن فيه ينبغي تقديم مقدّمة ، وهي أنّه لا ريب في أنّ النذر يوجب طروّ الوجوب الشرعي المولوي على الفعل المنذور. وأمّا المشروط فقال بعضهم ـ وهو الشهيد الثاني (٤) على ما نقله الشيخ قدس‌سره في باب الشروط ـ أنّه لا يحدث وجوبا شرعيا على الشرط ، وأنّ أقصى فائدة الشرط هو أنّ المشروط له يكون مسلّطا على الخيار عند تخلّف المشروط عليه عن الشرط ، وحينئذ لا يكون موجبا لفساد المعاملة المخالفة

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) عوالي اللآلي ٢ : ١١٠ / ٣٠١ ، راجع مستدرك الوسائل ١٣ : ٧٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ٨.

(٣) تحف العقول : ٣٣٤.

(٤) بل هو الشهيد الأوّل قدس‌سره في اللمعة الدمشقية ( راجع الروضة البهية ٣ : ٥٠٦ ) راجع المكاسب ٦ : ٦٢.

٣٤٥

للشرط ، ويكون أجنبيا عمّا نحن فيه. لكن الحقّ هو كون الشرط موجبا لوجوب فعل الشرط على المشروط عليه كما في النذر.

وبعد ثبوت الوجوب الشرعي يقع الكلام في أنّ الشرط هل يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، بحيث يكون مالكا عليه ذلك الشرط على وجه يكون له اجباره على الوفاء بذلك الشرط ، أو أنّه ليس في البين إلاّ الوجوب الشرعي. والمختار لشيخنا قدس‌سره (١) هو الأوّل. ولعلّ كون الشرط ممّا يورث من أقوى ما يستفاد منه كونه من الحقوق لا مجرّد التكليف ، بل ربما قيل إنّ النذر يكون كذلك ، بحيث إنّه يحدث حقّا للشارع على الناذر ، وبناء على الحقّية المذكورة لا ينبغي الريب في بطلان المعاملة المخالفة لذلك الشرط أو النذر ، كما لو كان قد اشترط أن لا يبيعه من زيد فباعه منه. وقد تعرّض له الشيخ قدس‌سره في باب الشروط (٢) وفي مسألة اشتراط عدم الفسخ بخيار المجلس (٣).

أمّا لو قلنا بعدم الحقّية وأنّه ليس في البين إلاّ الوجوب الشرعي فالحقّ أيضا هو بطلان المعاملة المشروط أو المنذور عدمها لأنّ وجوب ترك المعاملة على المكلّف يوجب سلب سلطنته عليها فتفسد ويكون حينئذ من جملة ما نحن فيه. فتكون معاملته المذكورة باطلة محرّمة وموجبة للخيار في الشرط وللكفّارة في النذر كما حقّقناه في بعض ما حرّرناه في مجموعتنا الفقهية فراجع (٤).

أمّا المعاملة المشروط أو المنذور ضدّها ، كما لو شرط عليه التصدّق بهذه

__________________

(١) منية الطالب ٣ : ٢٤٦ وما بعدها.

(٢) المكاسب ٢ : ٧٦.

(٣) المكاسب ٥ : ٥٦.

(٤) مخطوط لم يطبع بعد.

٣٤٦

العين ، أو أنّه قد نذر ذلك ، فلا يكون بيعها نافذا ، لأنّ الأمر بالشيء وإن لم يوجب النهي عن ضدّه ، إلاّ أنّه يوجب سلب القدرة والسلطنة على ذلك الضدّ ، فتفسد من هذه الجهة ، ويكون العصيان وتخلّف الشرط وحنث النذر حاصلين بما قارن تلك المعاملة ـ أعني ترك ذلك الضدّ المشروط أو المنذور ـ لا بنفس المعاملة المذكورة. هذا فيما كان ذلك الضدّ تصرّفا في نفس العين ، مثل الصدقة ونحوها من التصرّفات في العين التي قد وقعت شرطا أو منذورة. أمّا ما لا يكون تصرّفا في نفس تلك العين ، بل كان فعلا خارجيا اتّفق أن قد صار ضدّا للمعاملة التي أوقعها ذلك المكلّف ، كما لو وجب عليه عمل خارجي بنذر أو بشرط ، ولم يكن ذلك العمل تصرّفا في تلك العين ، لكنّه اتّفق مضادّته للمعاملة التي أوقعها المكلّف من جهة أنّ الزمان لا يسعهما والمكلّف لا يقدر على الجمع بينهما في آن واحد ، فلا يكون ترك ذلك الفعل الواجب بالنذر أو الشرط والاقدام على تلك المعاملة المزاحمة له موجبا لفساد المعاملة ، وإن أوجب ذلك الترك العصيان والخيار والكفّارة بالحنث.

ونظير ذلك ما لو وجبت عليه إزالة النجاسة عن المسجد فوريا وعصى واشتغل بالبيع ، فإنّه لا يوجب بطلان البيع المزبور. ومن هذا القبيل البيع وقت النداء بناء على أنّه ليس في البين إلاّ وجوب المسارعة إلى الصلاة ، وأنّ قوله تعالى : ( وَذَرُوا الْبَيْعَ )(١) إرشاد إلى ذلك. بل قد عرفت (٢) أنّ من هذا القبيل النهي عن البيع لا بما أنّه تصرّف في المال ونقل للملكية ، بل بما أنّه فعل خارجي فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : أنّ مثل هذه التكاليف لا توجب سلب سلطنة المكلّف على

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ٩.

(٢) في الصفحة : ٣٣٥.

٣٤٧

التصرّف في ماله بما أنّه نقل في عالم الملكية ، وإنّما أقصى ما فيها هو أنّها توجب سلب قدرته عليها بما أنّها فعل خارجي ، وقد عرفت أنّ ذلك لا يوجب الفساد.

مضافا إلى أنّ سلب السلطنة لو ثبت فلا إشكال في كونه مفسدا ، وإنّما الإشكال فيما نحن فيه في أنّ النهي هل يوجب سلب السلطنة. وهذه الموارد لا تنفع فيه.

قوله في الحاشية : والوجه في ذلك : أنّ نكاح العبد بغير إذن سيّده ليس من التصرّفات المحرّمة شرعا (١).

لا يخفى أنّ تصرّف العبد في نفسه ببيع نفسه مثلا أو بتزويج نفسه من أعظم التصرّفات في أموال الناس ، فيكون محرّما كما حقّقنا ذلك في الفضولي ، لكن هذه الحرمة لمّا كان ملاكها هو عدم الرضا المرتفع بالاجازة ، كانت الاجازة نافعة في انفاذ العقد من حينها ، وإن لم يكن نافذا قبل ذلك.

والوجه في ذلك : هو ما شرحناه في مسألة الفضولي من أنّ ذلك التبديل وهاتيك العقدة النقلية قد وقعت على جهة من موقعها وهو الفضولي ، وهي بما أنّها منسوبة إليه باقية على ما هي عليه من التحريم ، الذي مقتضاه عدم النفوذ من ناحيته ، لكن الاجازة تنسب نفس تلك العقدة وذلك النقل إلى المالك ، ولا ريب أنّ فعله ونقله بما أنّه منسوب إليه لا يكون متّصفا بصفة التحريم ، فينفذ من هذه الجهة ، وآخر كلمة للشيخ في ذلك البحث ناظرة إلى ذلك (٢) ، فراجعه وراجع ما حرّرناه (٣) في توضيحه وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٢.

(٢) [ لعلّه قدس‌سره يريد بذلك ما ذكره الشيخ قدس‌سره في ذيل أدلّة صحّة بيع الفضولي من المسألة الأولى ، راجع المكاسب ٣ : ٣٦٣ ].

(٣) مخطوط لم يطبع بعد.

٣٤٨

قوله : ولذا لو عقد العبد لغير نفسه لما احتاج نفوذه إلى إجازة سيّده قطعا (١).

راجع ما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) في هذا المقام تجد أنّ عقد العبد لغيره غير نافذ لكونه عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وإنّما العمدة في أنّ الاجازة بعد ذلك هل تصلح العقد الواقع من العبد للغير. وقد تعرّض الشيخ قدس‌سره لذلك مفصّلا فراجعه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ عقد العبد لغيره وإن كان محرّما من جهة إيجاد المعاملة المعبّر عنه بالمعنى المصدري ، إلاّ أنّ هذه الحرمة لا توجب الفساد ، وإنّما توجبه فيما لو كان النهي عن الايجاد باعتبار كونه إيجادا للمعاملة ، بحيث يكون المنهي عنه في الحقيقة هو نفس المعاملة من حيث إيجادها لا الايجاد نفسه ، كما عرفت الاشارة إليه فيما تقدّم (٣) ، والاجازة ترفع هذه الجهة ، بخلاف ما لو كان النهي عن الايجاد بالنحو الأوّل ، فإنّه لو قلنا بكونه موجبا للفساد لا يرتفع أثره وهو الفساد بالاجازة اللاحقة.

قوله : كما أنّ غير العبد لو عقد للعبد لاحتاج نفوذه إلى اجازة السيد بلا إشكال (٤).

نعم ، إنّه يحتاج إلى الاجازة بلا إشكال ، لكن لم يقل أحد بأنّ الاحتياج إلى الاجازة منحصر بما لو كان العقد واقعا عصيانا ، كي يقال إنّه لا عصيان في البين.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٢.

(٢) المكاسب ٣ : ٣٣٧ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٢٨ ، وراجع ما ذكره المصنّف قدس‌سره في ص ٣٣٠ ـ ٣٣١ وص ٣٣٥ وص ٣٣٦.

(٤) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٢.

٣٤٩

نعم ، إنّ مورد الرواية (١) كان مشتملا على العصيان ، لكون العقد صادرا من العبد عصيانا ، ومعنى عصيان العبد لسيده هو وقوع العقد منه بدون إذن سيده ، فإذا لحقته الاجازة صحّ ، فيدخل فيه عقد الغير له وعقده للغير وعقده لنفسه ، ويشتمل الأخيران على عصيان الشارع لكونهما تصرّفا في مال السيد بدون إذنه ، بل يكون الغير في الأوّل عاصيا أيضا بهذا المعنى ، إلاّ أنّ هذا العصيان الشرعي يرتفع بالاجازة اللاحقة ، لا بمعنى أنّ ما وقع ينقلب من حينه ، بل بمعنى أنّ الاجازة تؤثر الصحّة في ناحية العقد بقاء.

والأولى أن يقال : إنّ هذا العصيان الشرعي لا يكون هو الملاك في البطلان في المقام ، لكونه واردا على المعاملة لا بما أنّه نقل ، بل بما أنّها مخالفة للسيد ، ويكون المؤثّر في بطلانه هو المخالفة المذكورة التي هي عبارة عن التصرّف في ملكه بدون رضاه ، ويكون هذا التحريم الشرعي الوارد على تلك المعاملة بما أنّها مخالفة للسيّد كالتحريم الوارد عليها بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية.

وفيه تأمّل ، لإمكان القول بأنّ حرمة ذلك النقل من جهة كونه تصرّفا في سلطان الغير ليس إلاّ عبارة عن كون نفس النقل والانتقال محرّما ، وحينئذ ينحصر الجواب بما أشرنا إليه ممّا حرّرناه (٢) في مسألة بيع الفضولي ، فراجع.

وكيف كان إنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله ـ في الطبعة الجديدة ـ : وأمّا إذا ارتفع ( يعني النهي ) باجازة من له الحقّ تلك المعاملة ارتفع النهي أيضا (٣) ، لا ينفع في دفع الإشكال ، لأنّ ذلك لا يوجب ارتفاع الحرمة السابقة ، ولا يغيّر الفعل عمّا وقع

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ١١٤ / أبواب نكاح الإماء والعبيد ب ٢٤ ح ١.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٣.

٣٥٠

عليه من جهة التحريم ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ عقد الغير له بإذن من العبد أو بامضاء منه يشتمل على جهة الفضولية من ذلك الغير وعلى جهة العصيان من ناحية العبد بنفسه ، ويحتاج إلى اجازة السيد من الجهتين.

قوله في الحاشية المشار إليها سابقا : ويؤيّد ما ذكرناه أنّه لو كان العقد محرّما لعارض كما إذا قصد به إضرار مسلم ونحو ذلك لما حكم بفساد العقد قطعا (١).

هذا وإن لم أتصوّر له مثالا فعلا ، لكن لو فرضنا أنّ الضرر الحرام كان مترتّبا على نفس النقل ، بحيث كان النقل مضرّا بالغير ، لكانت المعاملة فاسدة قطعا. كما أنّ تصرّفات الشخص في ملكه بالتصرّفات الخارجية لو كانت مضرّة بالغير تكون محرّمة ، وبذلك يكون مسلوب السلطنة عليها.

أمّا الروايات الواردة في الباب فمنها : ما نقله في الكفاية (٢) عن الكافي (٣) والفقيه (٤) عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام : « سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيده ، فقال عليه‌السلام : ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت : أصلحك الله تعالى ، إنّ حكيم بن عتبة (٥) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون إنّ أصل النكاح فاسد ، ولا تحلّ اجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٢.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٨.

(٣) الكافي ٥ : ٤٧٨ / ٣.

(٤) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٥٠ / ١٦٧٥.

(٥) [ هكذا في الأصل ، لكن في المصادر الحديثية المشار إليها : الحكم بن عتيبة ].

٣٥١

سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (١).

ومنها : ما في الوسائل : « عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال عليه‌السلام : ذاك لمولاه ، إن شاء فرّق بينهما ، وإن شاء أجاز نكاحهما ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلاّ أن يكون قد اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا (٢) ، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر : فإنّ أصل النكاح كان عاصيا ، فقال أبو جعفر : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، إنّما عصى سيده ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (٣).

ومنها : « في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال عليه‌السلام : عاص لمولاه ، قلت : حرام هو؟ قال عليه‌السلام : ما أزعم أنّه حرام ، وقل له أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه » (٤).

ومنها : « أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبدا بغير إذن مواليه فقد أباحت

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ١١٤ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٤ ح ١.

(٢) وذلك لأنّ العقد فاسد ، والظاهر أنّ الوطء بالقياس إليها شبهة ، فهي إنّما تستحقّ مهر أمثالها دون الزائد على ذلك ولو كان ما سمّاه أقلّ من مهر أمثالها لم يكن لها إلاّ ما سمّاه ، ولا تستحقّ الزائد ، لاقدامها على ما هو أقلّ من مهر أمثالها ، فهي حينئذ تستحقّ أقل الأمرين من المسمّى ومهر أمثالها ، ولا يبعد دلالة الرواية على ذلك. ويمكن أن يقال إنّ الاقدام منوط بصحّة العقد ، فمع بطلانه فلا إقدام منها على هدر الزائد. وتمام الكلام في محلّه في الفضولي [ منه قدس‌سره ].

(٣) وسائل الشيعة ٢١ : ١١٥ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٤ ح ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٢١ : ١١٣ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٣ ح ٢.

٣٥٢

فرجها ولا صداق لها » (١).

ومنها : « في الأمة تزوّجت بغير إذن مواليها ، فقال عليه‌السلام : يحرم ذلك عليها ، وهو زنا » (٢).

ولا يبعد أن يكون المراد من نفي الحرمة فيما عدا هذا الأخير هو نفي الحرمة بالأصالة ، كما في مثل النكاح في العدّة ، وفي هذا الأخير هو الحرمة باعتبار كون العقد بغير إذن السيّد ، فيكون حراما شرعا ولو بواسطة مخالفة السيد ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٣) من أنّ المراد بالعصيان المنفي هو العصيان التكليفي ، دون الوضعي يعني مخالفة الأحكام الوضعية في باب النكاح ، أعني مجرّد مخالفة ما يعتبر فيه من الشروط وعدم الموانع وإن لم يكن له مساس بالحرمة التكليفية. والشاهد على أنّه ليس المراد هو مجرّد الحكم الوضعي التمثيل له بالنكاح في العدّة ، الذي لا إشكال في حرمته تكليفا ، وإن كان فاسدا أيضا وضعا. والشاهد على ذلك هو أنّ العصيان لا يكون إلاّ بمعنى العصيان التكليفي ، إذ لا جهة وضعية في ناحية السيد كي يكون مخالفا له فيها.

وأخذ العصيان فيها بمعنى الاقدام مع عدم الإذن كما في الكفاية (٤) لعلّه غير ملائم لظاهر المورد بالنسبة إلى عصيان الله ، لأنّ مجرّد عدم الإذن منه تعالى وعدم الامضاء لا يوجب البطلان إلاّ استنادا إلى أصالة الفساد. وهكذا الحال لو فسّرناه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ١١٥ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٤ ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢١ : ١٢٠ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٩ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٣.

(٤) كفاية الأصول : ١٨٨.

٣٥٣

كما حرّره قدس‌سره (١) في الحاشية على الهامش بأنّه بالنسبة إليه تعالى بمعنى الاتيان بغير المشروع. إلاّ أن يرجع إلى المخالفة في الحكم الوضعي بما يرجع إلى عالم اجتماع الاجزاء والشرائط ، وحينئذ لا يحسن مقابلته بعصيان السيد ، فتأمّل.

قوله : فإنّه إذا شكّ في مشروعية عبادة وعدمها يكون الحكم الواقعي بالقبح محرزا بالوجدان ، لفرض أعمّية موضوعه ، فلا يجري أصالة عدم المشروعية ... الخ (٢).

علّق في الحاشية على ما هو في هذا المقام ما هذا لفظه : التحقيق أنّه لا مانع من جريان الأصل في كلّ مورد كان مجرى الأصل فيه قابلا للوضع والرفع ، فيحرز بجريانه وجود ذلك الأمر القابل للوضع والرفع أو عدمه ، فإذا جرت أصالة عدم مشروعية شيء أحرز بها عدم مشروعيته شرعا ، فيكون حرمة التشريع حينئذ لأجل إحراز عدم المشروعية ، لا لأجل الشكّ في المشروعية ليكون ذلك من تحصيل الحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، الخ.

قلت : لا يخفى أنّه بعد أن تمّ أنّ قبح التشريع من قبيل الأحكام العقلية ذات الملاك الواحد في مورد العلم بعدم المشروعية وفي مورد عدم العلم بها ، وأنّ ملاكه هو القول بما لم يعلم أنّه من الشريعة ، سواء علم بأنّه ليس منها أو لم يعلم ذلك. وبعد أن تبيّن أيضا أنّ حرمة التشريع شرعا تابعة للقبح العقلي المفروض كون موضوعه هو عدم العلم ، سواء كان معلوم العدم أو لم يكن معلوما ، لا يبقى موقع لهذه الحاشية ، لأنّ الذي يحرز بأصالة عدم المشروعية والذي يترتّب على

__________________

(١) المصدر المتقدّم.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٥٤

ذلك ليس هو إلاّ ما كان متحقّقا بالوجدان ، فلا فرق في ذلك القبح العقلي والحرمة الشرعية التابعة له بين ما كان مورده إحراز عدم المشروعية ، أو كان مورده هو عدم الاحراز. فتلك الحرمة وذلك القبح العقلي الذي كان محقّقا وجدانا مع قطع النظر عن جريان الأصل المحرز لعدم التعبّد ، هو بعينه يكون مترتّبا على إحراز عدم المشروعية بالأصل ، فلا يكون اجراء أصالة عدم المشروعية لأجل أن يترتّب عليه القبح والحرمة المذكوران إلاّ من قبيل التوخّي لاحراز شيء بالأصل كان هو محرزا بالوجدان.

نعم ، إحراز التشريع بالأصل أو بالتعبّد بالأمارة ، كما في موارد استصحاب الحجّية أو قيام الدليل التعبّدي عليها ، يكون له أثر مترتّب عليه ، وهو الحكم بالحجّية والمشروعية ، وبه يخرج المورد عن كونه من قبيل عدم إحراز المشروعية ، كما حقّقناه في محلّه في باب حجّية الظنّ (١) وباب الاجتهاد والتقليد (٢) ، فراجع.

وهذا هو الشأن في هذا الباب أعني الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، فإنّ ذلك التعبّد إن كان على وفق ما كان موضوعه محرزا بالوجدان لم يكن ذلك التعبّد جاريا. بخلاف ما لو كان على خلافه ، لكون التعبّد حينئذ رافعا تنزيليا لموضوع ذلك الأمر المحرز بالوجدان.

ونظير ذلك ما لو شكّ في سعة الوقت للصلاة مع الطهارة المائية ، فإذا لم يعلم مقدار ما بقي من الوقت لزمه الوضوء ، استنادا إلى استصحاب بقاء الوقت. بخلاف ما لو علم مقدار الباقي ولكن شك في كونه يسع الصلاة مع الطهارة

__________________

(١) من هذا الكتاب في الحاشية على فوائد الأصول ٣ ( الهامش ) : ١٢٩.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

٣٥٥

المائية ، فإنّه يلزمه التيمّم ، لخوف فوت الوقت مع عدم المؤمّن ، الذي هو الاستصحاب في المسألة الأولى ، فإنّ موضوع وجوب التيمم وإن كان هو الخوف ، إلاّ أنّ استصحاب بقاء الوقت رافع شرعي لذلك الخوف الوجداني ، لأنّه عبارة عن احتمال عدم بقاء الوقت إلى الحدّ الذي تكمل فيه الصلاة مع الطهارة المائية. وإلى ذلك ينظر السيد قدس‌سره في العروة (١) في التفرقة بين المسألتين ، وإن كانت عبارته لا تخلو من إجمال ، ولعلّ هذا الإجمال هو الذي أوجب توجّه الايراد عليه من جماعة من المحشّين بما حاصله أنّه لم يظهر الفرق بين الصورتين.

نعم ، هناك مطلب آخر لعلّه هو المنشأ في الحكم بعدم الفرق بين الصورتين وهو دعوى عدم جريان الاستصحاب في الصورة الأولى لكونه مثبتا ، فإنّه بناء على أنّ موضوع سقوط الوضوء هو الخوف الوجداني أعني تلك الحالة النفسانية ، وهي ليست عين احتمال عدم بقاء الوقت أو عدم العلم ببقائه ، كي يكون استصحاب بقاء الوقت حاكما تعبّدا بنفيها ، بل هي لازمة عقلا للاحتمال المذكور ، فلا يكون استصحاب بقاء الوقت حاكما تعبّدا بعدمها إلاّ على الأصل المثبت.

أمّا مسألة خوف الضرر من الصوم فهي نظير المسألة الثانية ، التي لا مجرى فيها للاستصحاب أصلا فضلا عن كونه مثبتا. واستصحاب الصحّة وعدم المرض لا أثر له ، إذ الأثر إنّما هو مترتّب على الضرر والخوف منه ، لا على الصحّة والمرض. ولو صام مقدارا من اليوم فلم يضرّه الصوم لم يمكنه استصحاب عدم مضرّيته فيما يأتي من باقي ذلك اليوم ، لأنّ كون ما مضى من الامساك غير مضرّ لا

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٣٥٦

دخل له بما سيأتي من الامساك الذي يحتمل الضرر فيه ، فتأمّل.

أمّا ما في آخر الحاشية المزبورة (١) من قياس ما نحن فيه بالبراءة العقلية والاباحة الظاهرية ، ففيه ما لا يخفى ، لأنّ الاباحة الظاهرية حكم شرعي ظاهري ، وأين هو من مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان كي يقال إنّ المحرز بالأوّل هو المحرز بالثاني ، كي يكون من قبيل اللغوية ، أو من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وكان الأولى هو النقض بحديث الرفع (٢) في موارد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بناء على أنّ المرفوع بحديث الرفع هو العقاب ، لكنّه ليس بوارد أيضا ، لأنّ الممنوع أو المحال إنّما هو الاحراز التعبّدي في مورد الاحراز الوجداني ، دون حكم الشرع بحكم واقعي مع فرض حكم العقل.

نعم ، في هذا التوجيه لحديث الرفع بأنّه لرفع العقاب إشكال آخر ، وهو أنّ رفع العقاب ليس بشرعي ، ولأجل ذلك نقول : إنّ حديث الرفع حينئذ لا يكون إلاّ اخبارا عن أمر واقعي عقلي ، وهو عدم استحقاق العقاب ، لا أنّه حكم تعبّدي. أو نقول كما حقّق في محلّه (٣) إنّه من قبيل الدفع لايجاب الاحتياط ، بمعنى أنّ الشارع لمّا كان يمكنه تحصيل مراده الواقعي في مورد الشكّ فيه بجعل وجوب الاحتياط ، كان حديث الرفع مسوقا لدفع ذلك الايجاب الاحتياطي ، بمعنى أنّ الشارع لم يجعل وجوب الاحتياط ، فراجع وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الأصل في هذه الشبهة هو ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس‌سره

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٣) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره على فوائد الأصول ٣ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ في المجلّد السابع.

٣٥٧

في حاشيته على الرسائل ، فقد قال الشيخ قدس‌سره في أوائل حجّية الظن : وقد يقرّر الأصل بوجوه أخر ، منها أنّ الأصل عدم الحجّية وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به. وفيه : أنّ الأصل وإن كان ذلك ، إلاّ أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء ، فإنّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ، من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثمّ إثبات الحرمة (١).

وقال العلاّمة الخراساني قدس‌سره في حاشيته : قلت الحجّية وعدمها وكذا إيجاب التعبّد وعدمه بنفسهما ممّا يتطرّق إليه الجعل ، وتناله يد التصرّف من الشارع ، وما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه جاريا ، كان هناك أثر شرعي يترتّب على المستصحب أو لا. وقد أشرنا إلى أنّه لا مجال للأصل في المسبّب مع جريان الأصل في السبب كما حقّق في محلّه هذا. مع أنّه لو كان الحجّية وعدمها من الموضوعات الخارجية ، التي لا يصحّ الاستصحاب فيها إلاّ بملاحظة ما يترتّب عليها من الآثار الشرعية ، فإنّما لا يكون مجال لاستصحاب عدم الحجّية فيما إذا لم يكن حرمة العمل إلاّ أثرا للشك فيها لا لعدمها واقعا ، وأمّا إذا كانت أثرا له أيضا فالمورد وإن كان في نفسه قابلا لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحكم هذا الشكّ ، إلاّ أنّه لا يجري فعلا إلاّ الاستصحاب لحكومته عليها ، إلى آخر كلامه قدس‌سره (٢).

ولكن الذي يظهر منه في الكفاية العدول عن ذلك ، فإنّه بعد بيان أنّ الأصل هو عدم الحجّية جزما ، وبعد أن شرح آثار الحجّية قال ما هذا لفظه : فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأصول : ٤٣.

٣٥٨

الموضوع معه (١).

فتراه قد عدل عمّا حرّره في الحاشية من الايراد على الشيخ ، وسلك عين المسلك الذي سلكه الشيخ قدس‌سره ، وهو عين مسلك شيخنا قدس‌سره. وأنت إذا تأمّلت ما في الحاشية (٢) ترى أنّ جلّها راجع إلى ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره في الحاشية ، الذي عدل عنه إلى ما في الكفاية ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره (٣) في هذا المقام أثبت فساد العبادة التشريعية التي صادف أنّها في الواقع مشروعة ، مع عدم علم المشرّع بذلك في حال اتيانه بها بمقدّمات :

الأولى : حكم العقل بقبح التشريع من باب الأحكام العقلية ذات الملاك الواحد ، الموجود في حال العلم بالعدم وحال عدم العلم.

الثانية : أنّ هذا الحكم العقلي ليس من قبيل الاطاعة والمعصية غير القابلة للتشريع على طبقه ، بل هو قابل لذلك ، وبقاعدة الملازمة يستكشف الحرمة الشرعية على طبق ذلك الحكم العقلي.

الثالثة : أنّ هذا الحكم العقلي وهاتيك الحرمة الشرعية ليست بمقصورة على الفعل القلبي ، بل هما ساريان إلى نفس الفعل الذي يتحقّق به التشريع.

الرابعة : أنّه بعد فرض سريان الحرمة إلى ذلك الفعل تكون الحرمة المذكورة مدافعة لوجوبه الواقعي ، وحيث إنّها مقدّمة عليه وموجبة لتقييد الأمر وتخصيص متعلّقه بما عدا موردها يكون ذلك الفعل فاسدا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٦.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٤٠.

٣٥٩

ثمّ إنّه قدس‌سره استشكل في ذلك بأنّ هذه الحرمة لمّا كان الملاك فيها هو عدم العلم بالوجوب ، كانت متأخرة رتبة عن ذلك الوجوب ، وحيث قد اختلفت الرتبة فيهما فلا مانع من الجمع بينهما. وكأنّه قدس‌سره قد سلّم هذا الإشكال لكنّه سلك للحكم بالفساد من طريق آخر غير طريقة التخصيص وتلك الطريقة هي طريقة القبح الفاعلي. فكأنّه قدس‌سره أعرض عن طريقة المنافاة بين الحكمين الموجبة للتخصيص ، وأثبت الفساد من ناحية القبح الفاعلي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة ـ أعني طريقة القبح الفاعلي ـ لا تتوقّف على تلك المقدّمات التي حرّرها ، بل يكفي فيها مجرّد قبح التشريع عقلا ، الموجب للقبح الفاعلي المانع من التقرّب ، هذا.

مضافا إلى أنّه قدس‌سره لا داعي له إلى الاعراض عن طريقة التخصيص ، بل هي جارية فيما نحن فيه ، فإنّه بعد فرض كون معروض الحرمة الشرعية التشريعية هو الفعل الخارجي ، وأنّها غير مقصورة على الفعل القلبي ، يكون مورد كلّ من الوجوب الواقعي والحرمة التشريعية هو ذلك الفعل الخارجي. ومجرّد اختلافهما في الرتبة لكون الحرمة التشريعية معلّقة على عدم العلم بالوجوب الواقعي ، الذي هو متأخر رتبة عن الوجوب الواقعي ، لا ينفع في رفع التنافي بينهما ، وإلاّ لصحّ اجتماع الوجوب مع الحرمة المعلّقة على العلم بذلك ، لأنّها حينئذ مثلها في التأخر الرتبي ، إذ كما أنّ عدم العلم بالوجوب الواقعي متأخر رتبة عن نفس الوجوب ، فكذلك العلم بذلك الوجوب يكون متأخرا عنه.

اللهمّ إلاّ أن يفرق بين الصورتين بقبح الثانية ، لكونها موجبة للتناقض في نظر المكلّف ، بخلاف الأولى. لكن هذا لا يدفع الإشكال من الناحية التي نحن فيها وهي التناقض بين الوجوب الواقعي وبين الحرمة الواقعية ، سواء كانت

٣٦٠