أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

بداعي الأمر ليترتب الثواب مع كونه مستحقا للعقاب ، إلاّ إذا قلنا بأنه على الجواز لا يمكن التقرب كما هو المختار.

قوله : فان بنينا على كفاية الجهة في صحة العبادة وإن لم تكن مأمورا بها بل كانت محرمة لصحت المقدمة أيضا ... إلخ (١).

لم أعرف الوجه في كفاية الجهة في صحة العبادة مع فرض كونها مجمعا للحكمين ، إلا على القول بالجواز فتكون الصحة متفرعة عليه ، لكن ظاهر العبارة بل صريحها هو الحكم بالصحة على تقدير القول بالامتناع.

اللهم إلاّ أن يقال : إن المراد مجرد الفرض ، بمعنى أنا لو اكتفينا في صحة العبادة بقصد الجهة حتى لو كان الفعل محرما لم يكن فيما نحن فيه أثر لوجوب المقدمة ولا لمسألة الاجتماع ، وكان الحال في ذلك هو بعينه فيما لو كانت المقدمة توصلية ، ويكون هذا الفرض من مجرد الجدل الذي لا واقعية لما فرض فيه.

وينبغي أن يعلم أن هذه الجملة المتضمنة لتصحيح العبادة بالملاك والجهة غير موجودة في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي قدس‌سره ، وإنما هي موجودة في هذا التحرير الذي هو تحرير عن الدورة المتأخرة عن الدورة التي كتب عنها المرحوم الشيخ محمد علي. نعم إن ما حررته عنه قدس‌سره في هذه الدورة الأخيرة مشتمل على نحو ما اشتمل عليه هذا التحرير ، ولكن لا تصريح فيه بالصحة حتى مع كونها محرمة كما اشتمل عليه هذا التحرير ، وهذا نص ما حررته عنه قدس‌سره : وإن قلنا بالامتناع فان قلنا بكفاية الجهة والملاك في صحة العبادة صحت المقدمة المذكورة ، سواء قلنا بالوجوب أو لم نقل ، انتهى.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٨١

ويمكن أن يكون الوجه فيه هو أنه بعد البناء على الامتناع ، فان كان الامتناع من الجهة الاولى دخلت المسألة في التعارض بالعموم من وجه ، وإن كان الامتناع من الجهة الثانية فقط دخلت المسألة في باب التزاحم وعند عدم الترجيح يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة غير مأمور بها ولا منهيا عنها فعلا ، فيمكن القول بتصحيحها بالجهة والملاك إن قلنا بكفايته. لكن يشكل قولنا : سواء قلنا بالوجوب أو لم نقل ، فانا إن لم نقل بالوجوب لا تدخل المسألة في التزاحم ، فانها إنما تدخل في ذلك إن كان هناك وجوب للمقدمة ليكون وجوبها مزاحما لحرمتها بناء على الجواز من الجهة الاولى والامتناع من الجهة الثانية. أما وجوب ذي المقدمة فهو لا يزاحم حرمة بعض أفراد المقدمة ، لأن هذه المزاحمة إنما تتأتى في المقدمة المحرمة المنحصرة ، دون ما إذا لم تكن منحصرة وكان للمقدمة فرد آخر غير محرم ، فلاحظ.

نعم ، إن الوجوب الشرطي الآتي من تعلق الوجوب النفسي بالمشروط بتلك المقدمة يكون في قبال حرمتها ، وكذلك الاستحباب النفسي الذي هو متعلق بالكون على الطهارة ، وحينئذ يكون ذلك التقابل من باب الاجتماع ، وحيث نقول بالامتناع وعدم فعلية كل من التحريم ومقابله يمكن القول بالتقرب بجهة ذلك الأمر وملاكه ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل بوجوبها.

قوله : نعم إذا بنينا على عدم كفاية الجهة ، فان قلنا بجواز الاجتماع لصحت المقدمة ... الخ (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٨٢

هذا خلاف مسلكه قدس‌سره (١) من الحكم بفساد العبادة حتى على القول بالجواز إلاّ في مورد الجهل والنسيان ونحوهما ، ولعل ذلك مجاراة منه قدس‌سره على مشرب القوم من أنه بناء على الجواز يكون العمل صحيحا.

قوله : فالثمرة تظهر في خصوص هذا الفرض فقط (٢).

يمكن المناقشة في ظهور الثمرة في ذلك ، لا من جهة ما يأتي من أن الفرد المحرم يكون خارجا عن حيّز الأمر ، لما سيأتي (٣) إن شاء الله من أنه لا وجه للحكم بخروجه على القول بالجواز ، بل من جهة أن عبادية المقدمة غير ناشئة عن أمرها الغيري كما تقدم منه قدس‌سره (٤) ، وحينئذ لا يكون لوجوبها الغيري أثر ، وإنما الأثر لذلك الأمر النفسي الذي أوجب كونها عبادة ، فان صححنا اجتماعه مع التحريم صحت المقدمة العبادية على ما تقدم ، وإلاّ بأن قلنا بالامتناع فسدت عبادية المقدمة ، من دون فرق في ذلك بين القول بوجوبها الغيري وعدمه. ولعل ما في الكفاية (٥) من الاشكال ثالثا ناظر إلى ذلك.

قوله : ولكن التحقيق أن المقدمة إذا كانت على قسمين محرم وغير محرم ، فلا محالة يترشح الأمر الغيري من الواجب إلى خصوص المقدمة غير المحرمة ... إلخ (٦).

وبنحو ذلك صرح في الكفاية بقوله : وثانيا ... إلخ (٧). ولم أتوفق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥٩.

(٣) في الحاشية اللاحقة.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

(٥) كفاية الأصول : ١٢٥ [ وهو الإشكال الثاني في الطبعات الجديدة ].

(٦) أجود التقريرات ١ : ٣٥٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٧) كفاية الأصول : ١٢٥ [ وقد حذف هذا الاشكال من النسخ المصححة كما أشير إليه في الهامش ].

٨٣

لمعرفة الوجه في ذلك ، فان ارتكاب التخصيص إنما يتأتى على القول بالامتناع من الجهة الاولى ، أما على القول بالجواز فلا وجه للتخصيص المزبور ، ولو تم هذا التخصيص هنا لتم في مسألة صلّ ولا تغصب عند الصلاة في الدار المغصوبة في مورد المندوحة ، فيقال إن الأمر بالصلاة يكون منحصرا بما عدا المحرم أعني ما يكون في الدار المغصوبة ، فلا يبقى لنا حينئذ مورد يكون من قبيل الاجتماع.

ولكن الفرق بين ما نحن فيه وبين مثل الصلاة والغصب واضح ، فان التركب في مسألة الصلاة والغصب يكون انضماميا وهو مورد النزاع في الجواز والامتناع ، بخلاف مسألة المقدمة لو كان بعض أنواعها محرما ، كما لو كان له إلى الحج أو إنقاذ الغريق طريقان أحدهما في أرض مغصوبة فسلك في الأرض المغصوبة ، فانه وإن كان من باب العموم من وجه بين قوله لا تغصب وقوله تجب المقدمة ، ويجتمعان في السلوك المذكور ، إلاّ أنهما من قبيل التركب الاتحادي ، نظير أكرم عالما ولا تكرم الفاسق في اجتماعهما في العالم الفاسق ، فانه لا يدخل في باب الاجتماع بل يدخل في باب التعارض ، فان قدّمنا الأمر كان السلوك واجبا وغير محرم ، وإن قدمنا النهي كان محرما ولم يكن واجبا.

وعلى أيّ حال ، لا أثر للمسألة في هذا المثال لكون الوجوب توصليا ، فلا بد من فرض المسألة في الوجوب العبادي. وأحسن مثال له هو ما لو كان الصائم مجنبا في نهار رمضان وحضرت الظهر وأراد الاغتسال ، فاغتسل مرتمسا وهو حرام لكونه مفطرا ، فهذا ومثله لا يتنزل على التركب

٨٤

الانضمامي ليدخل في مسألة الاجتماع ، بل هو من قبيل التركب الاتحادي ، ويكون اجتماع النهي عن الارتماس للصائم ووجوب الغسل عليه من قبيل العامين من وجه ، ويكون النهي مخصصا لدليل الأمر ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس‌سره : ولكن التحقيق أن المقدمة إذا كان لها فردان محرم وغير محرم فلا محالة يترشح الأمر الغيري إلى غير المحرم.

ومن ذلك كله يتضح لك توضيح ما أفاده في الجواب عن الجواب (١) ، وأن المراد به هو ما عرفت من المثال ، دون مسألة السير والحج وإن كان هو قدس‌سره قد مثّل بذلك. ومنه يتضح الجواب عمّا ذكره المحشي (٢) في المقام ، فلاحظ.

ويمكن التمثيل لكون وجوب المقدمة العبادية مع فرض حرمتها من باب الاجتماع الذي يكون التركب فيه انضماميا بالغسل أو الوضوء مقدمة للصلاة الواجبة فيما لو أوقعه في المكان المغصوب مع التمكن من إيقاعه في المكان المباح ، فانه يكون حاله حال الصلاة في المكان المغصوب في كونه من باب الاجتماع وكون التركب فيه انضماميا ، من دون الالتزام بالتخصيص وإخراج مورد النهي عن دليل الأمر ، بناء على ما عرفت من كون الامتناع في مثل ذلك من الجهة الثانية فقط ، ويكون التركيب فيه انضماميا لا اتحاديا ، ولا يتم فيه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من لزوم إخراج المحرم عن دليل الوجوب ، فتأمل.

ثم إن كون هذا المثال ـ أعني الاغتسال في المكان المغصوب ـ من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦٠.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥٩.

٨٥

باب الاجتماع لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة ، بل يكون كذلك حتى لو لم نقل بوجوبها ، لأن المفروض كونها عبادة ، وعباديتها لا بد أن تكون ناشئة عن أمر ، وذلك الأمر إما هو الأمر بوجوب المقدمة أو هو الأمر الشرطي في ضمن الأمر بالمشروط ، أو يدعى استحبابه نفسيا كما قيل به في غسل الجنابة ، بل يمكن ادعاؤه في كل ما يرفع الحدث ويحصل به الكون على الطهارة ، سواء كان وضوءا أو كان غسلا ، بناء على ما يستفاد من الأدلة من استحباب الكون على الطهارة.

قوله : نعم لو كان النهي متعلقا بذات المقدمة الخارجية ... إلخ (١).

الأولى أن يقال : نعم لو كان الأمر متعلقا بالذات الخارجية ، وذلك لأن ذلك هو مدعى صاحب الكفاية (٢) حيث إنه قد أخذ عنوان المقدمة جهة تعليلية ، ليكون الوجوب واردا على ذات المقدمة المحرمة لا على عنوان يكون مجتمعا مع العنوان المحرم ، فتأمل.

قوله : ففيه : أن الحكم مثلا إذا كان واجبا فيكون السير لا محالة أيضا واجبا بالوجوب المقدمي ، فإذا فرض أنّه سار في المكان المغصوب فينطبق عليه عنوانان ، عنوان السير الواجب مقدمة وعنوان الغصب ، فيكون من باب الاجتماع ، فليس الغرض من اجتماع العنوانين اجتماع عنوان المقدمة بالحمل الأولي مع عنوان الغصب مثلا ، بل الغرض اجتماع عنوان ما هو مقدمة بالحمل الشائع مع عنوان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦٠.

(٢) كفاية الأصول : ١١٣ ، ١٢٤.

٨٦

آخر محرم كما في كل مورد اجتمع فيه الأمر والنهي ... إلخ (١).

قلت : قد يقال إنه لا يوجد عندنا مقدمة يكون الوجوب الغيري فيها واردا على العنوان الكلي ، بدعوى أن الوجوب الغيري إنما يرد على نفس الفعل الخارجي الذي يتوقف عليه الواجب النفسي ، حيث إن ملاك هذا الوجوب إنما هو التوقف ، وهو إنما يكون في الفعل الخارجي لا العنوان الكلي المنطبق عليه ، فتأمل.

والحاصل : أن عنوان المقدمة وإن لم يكن المراد به ما هو مقدمة بالحمل الذاتي الأولي ، بل كان المراد به ما هو مقدمة بالحمل الشائع ، إلاّ أن هذا العنوان في الوجوب الغيري لم يكن مأخوذا على نحو الجهات التقييدية ، بل هو من قبيل الجهات التعليلية ، لكونه علة في ورود الأمر الغيري على ما يحمل عليه أنه مقدمة بالحمل الشائع الصناعي ، فيكون مركب ذلك الأمر هو ذات الفعل الخارجي لا عنوان المقدمية ولا عنوان التوقف ، وهذا على الظاهر واضح.

والعمدة هو ما افيد في صدر الكلام من أنّ مركب الأمر الغيري هو عنوان السير الكلي ، وقد اجتمع هذا العنوان المأمور به أعني عنوان السير مع العنوان المنهي عنه وهو عنوان الغصب ، وهذا هو الدافع لاشكال الكفاية ، لكنه مع ذلك محل التأمل حيث إنه يمكن تطرق [ الاشكال ](٢) إلى أن مركب الأمر الغيري هو عنوان السير الكلي ، لأن ذلك العنوان الكلي ليس هو بنفسه ما يتوقف عليه الواجب ، بل إن الواجب إنما توقف على الفعل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٨٧

الخارجي ، فيكون ذات الفعل مأمورا به ، فاذا كانت تلك الذات هي المأمور به كان انطباق عنوان الغصب عليها من قبيل النهي عن العبادة أو المعاملة لا من قبيل الاجتماع ، فتأمل. وبالجملة أن التركب في مثل ذلك يكون اتحاديا لا انضماميا كما شرحناه فيما تقدم.

قوله : ومنها : أن المقدمة إذا كانت محرمة فعلى القول بوجوبها يتحقق هناك أمر ونهي ... إلخ (١).

أشكل صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) على هذه الثمرة بامور ثلاثة : أوّلا : أن الواجب ليس هو عنوان المقدمة بل إنه جهة تعليلية ، وحينئذ يكون الوجوب واردا على ذات [ المقدمة ](٣) ، فلا يكون النهي عنه إلاّ من قبيل النهي عن العبادة.

وثانيا : بأن المقدمة إن كانت منحصرة في المحرم دخلت المسألة في باب التزاحم ، وإن كانت غير منحصرة خرج المحرم منها عن الوجوب.

وثالثا : بأن المقدمة إذا كانت توصلية صحت مطلقا ، وإن كانت تعبدية فان قلنا بالامتناع بطلت مطلقا ، قلنا بالوجوب أو لم نقل به ، وإن قلنا بالجواز صحت مطلقا ، قلنا بالوجوب أو لم نقل به.

والذي يظهر من شيخنا قدس‌سره أنه وافقه في هذه الايرادات إلاّ في الأول ، فانه قد دفعه بأن عنوان المقدمية وإن كان جهة تعليلية إلاّ أن ما ورد عليه الوجوب يكون عنوانا كليا مثل السير في الأرض المغصوبة.

ولا يخفى أن مركب الوجوب وإن كان ربما كان عنوانا كليا لا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) كفاية الاصول : ١٢٤ ـ ١٢٥ [ وقد ذكر الإشكالان الأول والأخير في متن نسخة الكفاية التي اعتمدنا عليها في الاستخراج ، بينما ذكر الثاني في الهامش ، فلاحظ ].

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٨٨

خصوص مصداق ما يتوقف عليه ، إلاّ أنه لو سلّمنا كونه عنوانا كليا فلا يخفى أنه لا يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان تركبه مع ما هو مركب الحرمة تركبا انضماميا ، دون ما لو كان التركب اتحاديا كما في مثل التستر والتستر بالمغصوب والوضوء والوضوء بماء مغصوب ، وقد تعرضنا لذلك في مسألة الاجتماع (١) ، وشيخنا (٢) جعل ذلك من قبيل متمم المقولة ، هذا.

مضافا إلى ما أشرنا إليه من أن الوضوء والتستر وإن كان عنوانا كليا إلاّ أن مركب الأمر الغيري ليس هو ذلك العنوان الكلي ، بل لا يكون مركبه إلاّ ذات الفعل الخارجي من حيث توقف الواجب النفسي عليه ، نعم إن قيد الصلاة هو عنوان الوضوء وعنوان التستر ، إلاّ أن الكلام في مركب الأمر الغيري.

أما الايراد الثاني فالتزم به شيخنا قدس‌سره ، وفيه تأمل لأن طريقة التخصيص إنما هي بعد فرض الامتناع من الجهة الاولى ، أو بعد فرض مطلق الامتناع ، وكأنه لأجل ذلك ضرب صاحب الكفاية على قوله : ثانيا.

وأما الايراد الثالث ، فقد التزم شيخنا قدس‌سره بصحة العبادة لو قلنا بالجواز ، وهو مناف لمسلكه (٣) من عدم إمكان التقرب الذي يصطلح بالامتناع من الجهة الثانية ، نعم لو قلنا بالجواز من الجهة الثانية أيضا كان لازمه الصحة مع الالتفات والتعمد ، لكنهم لم يلتزموا به كما هو محرر في مسألة الاجتماع فراجع. ومع ذلك فقد التزم شيخنا هنا بأمر ثالث وهو إمكان التقرب بالجهة حتى لو قلنا بالامتناع ، وسيأتي منه قدس‌سره في مبحث

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره في صفحة : ٣٩ وما بعدها من المجلّد الرابع من هذا الكتاب.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٣) راجع أجود التقريرات ٢ : ١٧٩ ـ ١٨١.

٨٩

الاجتماع أنه لا يمكن التقرب بمورد الاجتماع حتى على القول بالجواز ، وكيف يمكن التقرب بالجهة مع كون الفعل مبغوضا ، فلاحظ وتأمل.

والخلاصة : أنه قدس‌سره التزم بامور ثلاثة هنا كلها على خلاف مسلكه :

التخصيص ، وصحة العبادة على القول بالجواز ، واحتمال صحتها بالتقرب بالجهة على القول بالامتناع. إلاّ أن يقال : إن ذلك كله مجاراة مع القوم على مسلكهم. وفيه تأمل لأن الأول وكذلك الثالث لا ينطبق حتى على مسالك القوم ، بل الثاني لا يلتزمون به ، وإن كان على مقتضى مسلكهم هو الالتزام به.

قوله : فتكون الحرمة المتعلقة بالغصب متعلقة باجراء الماء على البدن ، فيدخل بذلك في باب اجتماع الأمر والنهي (١).

لا يخلو ذلك عن تأمل ، فان هذا الفعل الخارجي له عنوان أولي وهو صب الماء على اليد مثلا ، وعنوان ثانوي وهو التصرف في أرض الغير وهو بعنوانه الأولي وإن كان واجبا إلاّ أنه بعنوانه الثانوي يكون محرما ودليل ذي العنوان الثانوي يكون حاكما على دليل ذي العنوان الأولي فيكون من قبيل النهي عن العبادة لا من قبيل الاجتماع كما حقق في مسألة الاجتماع (٢) من أنّ تعدد العنوان أوليا وثانويا لا يوجب الدخول في مسألة الاجتماع ، لعدم كونه من التركب الانضمامي ، بل هو من أوضح موارد التركب الاتحادي.

وينبغي أن يعلم أن هذا المبحث ـ أعني مقدمة الحرام ـ لم يذكره المرحوم الشيخ محمد علي ، وقد ذكرته في تحريراتي عنه قدس‌سره وهذا نص ما حررته عنه : وإن كانت المقدمة المذكورة علة للحرام ، فان كانت هي ومعلولها من قبيل العناوين التوليدية كانت محرمة ، بل لا معنى لتحريم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٢) في المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٧ وما بعدها.

٩٠

معلولها إلاّ تحريمها ، لكون أحدهما عين الآخر خارجا ، انتهى. وليس فيه ما اشتمل عليه هذا التحرير من قوله : فالحكم المتعلق بالفعل التوليدي يكون بنفسه متعلقا بما يتولد منه كما عرفت سابقا ، فتكون الحرمة المتعلقة بالغصب متعلقة باجراء الماء على البدن ، فيدخل بذلك في باب اجتماع الأمر والنهي (١).

ولا يخفى أن كونه من باب الاجتماع كالمناقض لما تضمنه صدر العبارة من كون الحرمة للمسبب متعلقة بما يتولد منه ، فلاحظ.

ولا يخفى أنه سيأتي في الحاشية الآتية أن القسم الثاني ملحق بالقسم الأول ، بل يمكن القول بأن القسم الثالث ملحق بالأول ، باعتبار أن صبّ الماء على اليد مع تعمد ترك الحاجز يكون عنوانه الثانوي التصرف في ملك الغير. لكن لو سلّمنا عدم كونه منه نلتزم بحرمته باعتبار كون ترك الحرام متوقفا على تركه ، وهكذا الحال في القسم الأخير فان ترك الحرام يكون متوقفا على ترك الصب أو على إيجاد الحاجز بعد وقوع الصب ، فيكون أحدهما واجبا ، بمعنى أنه يترك الصب فان فعله يلزمه إيجاد الحاجز ، ولا يبعد القول بذلك في الصورة الاولى ، أعني ما لو علم من نفسه أنه لو ارتكب المقدمة أعني الدخول إلى الدار يقع في إرادة الحرام ، على وجه تغلبه نفسه ويحدث عنده الشوق الموجب لتعلق إرادته واختياره لذلك ، لإمكان القول بأن إطاعة النهي عن ذلك الحرام تتوقف على ترك الدخول ، فيكون ترك الدخول واجبا.

قوله : وعلى الثاني فاما أن يكون عنوان الحرام وعنوان ما هو مقدمة منطبقين على شيء واحد كما في الأفعال التوليدية ـ إلى قوله ـ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

٩١

أو يكونا عنوانين لمعنونين ... الخ (١).

تقدم نظير هذا البحث في ص ١٨٥ (٢) وحاصله : أن الأسباب والمسببات تارة تكون من قبيل العناوين التوليدية ، بحيث يكون لنا فعل خارجي واحد وهو الالقاء الذي هو عبارة عن إخلاء اليد من الشيء ، وله عنوان أوّلي وهو الالقاء وثانوي وهو الاحراق ، وفي مثله لا فرق بين كون التكليف متعلقا بذلك الفعل الخارجي أو بعنوانه الأولي أو بعنوانه الثانوي ولا يكون في البين مقدمة وذو المقدمة.

واخرى تكون من قبيل التباين بين السبب والمسبب ، وفي هذا القسم يكون السبب مقدمة للمسبب ، ويكون التكليف قابلا للتعلق بنفس المسبب لكونه مقدورا بالواسطة ، ويكون السبب مقدمة لذلك المسبب.

قلت : ولكن يمكن التأمل في هذا التقسيم ، فان الظاهر أنه ليس لنا في الأفعال القابلة للتكليف ما يكون من قبيل النحو الثاني ، بل الظاهر أن جميع ما يكون من الأفعال علة لفعل آخر لا يكون إلاّ من قبيل العناوين الأولية والثانوية ، حتى في مثل المثال الذي مثّل به في ذلك المقام أعني شرب الماء لرفع العطش ، فانه من قبيل العناوين الأولية والثانوية. نعم يمكن لحاظ رفع العطش اسم مصدر ويعبّر عنه بارتفاع العطش ، فيكون غير متعدّ فيقال إنه حينئذ مباين للشرب ، وهكذا الحال في نسبة الالقاء إلى الاحتراق.

وبالجملة : أن ذلك المسبب إن لوحظ بما أنه اسم مصدر كان مباينا لكن لم يصح تعلق التكليف به ، لا لأجل أنه غير مقدور بل لأجل أنه لا يقع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ من الطبعة الحديثة.

٩٢

موردا للارادة الفاعلية ، وإن لوحظ بما أنه مصدر بأن لوحظ فيه جهة الاصدار كان عنوانا ثانويا متحدا مع العنوان الأولي ، حتى في مثل الكون في المحل المغصوب بالنسبة إلى الحركة الأخيرة التي يعقبها الكون ، وحتى في مثل جريان الماء في الأرض المغصوبة بعد إجرائه على اليد ثم على الأرض المملوكة ثم منها إلى الأرض المغصوبة.

ثم لو سلّمنا ما أفاده قدس‌سره من المباينة فلا دليل على حرمة المقدمة وإنما الحرام هو ذو المقدمة لفرض كونه مقدورا بالواسطة ، أما حرمة نفس الواسطة فلا دليل عليها ، وما أفاده قدس‌سره من سراية الحرمة منه إليها لم أتوفق لمعرفة الوجه فيه بعد فرض أن الحرمة تعلّقت به أوّلا.

وبالجملة : بناء على المباينة فاما أن نقول بتوجه الحرمة أوّلا إلى المقدمة لأنها هي المقدورة فلا يكون لذيها حكم أصلا ، وإما أن نقول بتوجه الحرمة إلى ذي المقدمة لكونه مقدورا بالواسطة ، فذلك لا يوجب سراية تلك الحرمة النفسية إلى الواسطة ، وأما حرمتها الغيرية فلا دليل عليها إلاّ بدعوى كون ترك ذيها واجبا ، وتوقف ذلك الواجب على ترك تلك المقدمة.

وأما الكلام في القسم الأول وهو ما يتوسط فيه اختيار المكلف لكنه عند فعل المقدمة يعلم أنه لا ينزجر عن فعل ذيها أو أنه قابل لأن ينزجر فعلى الظاهر أنه لا يوجب الحرمة الشرعية النفسية لنفس المقدمة على وجه يترتب عليه العقابان لو فعل ذا المقدمة ، أما الحرمة الغيرية فقد عرفت الحال فيها. نعم في الصورة الأولى منهما يلزمه بحكم العقل ترك المقدمة بخلاف الثانية ، وليس فيها إلاّ العزم على المعصية ، فلاحظ وتأمل.

٩٣

[ مبحث الضد ]

قوله : أما المقام الأول فربما يدعى فيه أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ... إلخ (١).

الذي ينبغي في المقام أوّلا هو تذكر ما مضى (٢) من أن الوجوب هل هو مركب من طلب وجود الشيء مع المنع عن تركه ، أو أنه عبارة عن نفس الطلب البسيط.

ثم بعد هذا يتذكر النزاع الآتي (٣) في أن النهي هل هو من مقولة الطلب أو أنه عبارة عن المنع والزجر عمّا تعلق به فعلا كان أو تركا. وعلى تقدير كونه من مقولة الطلب هل الفرق بينه وبين الأمر بالمتعلق ، بأن يكون متعلق الطلب في الأمر هو إيجاد المتعلق وفي النهي هو ترك المتعلق ، أو أن الفرق بينهما في حدّ أنفسهما مع وحدة المتعلق بأن يكون المتعلق فيهما واحدا وإنما الاختلاف واقع بينهما ، فالأمر عبارة عن نفس طلب إيجاد المتعلق والنهي عبارة عن طلب ترك المتعلق؟

أقوال أو وجوه ثلاثة في الفرق بين الأمر والنهي ، فلو لاحظنا الوجهين في تفسير الأمر وأنه هل هو بسيط أو مركب يحصل لنا وجوه ستة ، بعضها صحيح يمكن القول به وبعضها باطل لا يمكن القول به ونحن إذا دخلنا في هذه المسألة أعني مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦.

(٢) في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، صفحة : ٣٤٩ وما بعدها.

(٣) راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣ ـ ٤.

٩٤

العام بمعنى الترك أو عدم اقتضائه ، وعلى تقدير الاقتضاء هل أنه على نحو العينية أو أنه على نحو التضمن أو أنه على نحو اللزوم بأحد نحويه من اللزوم البيّن وغير البيّن بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم ، فعلينا تنقيح مسلكنا في المسألة أعني مسألة بساطة الوجوب وتركبه ، ومسألة الفرق بينه وبين النهي.

فلو كان مختارنا هو بساطة الوجوب وكون النهي من مقولة الردع والزجر الناشئ من المفسدة في الفعل ، يتعين علينا إنكار الاقتضاء بقول مطلق ، وليس لمن اختار التركب في الوجوب الايراد علينا بأنه يدل على المنع من الترك بالتضمن. وكذلك الحال لو قلنا بأن مفاد الأمر هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، وقلنا إن النهي من مقولة المنع والردع ، كان لازمه كون الأمر بالشيء دالا على النهي عن تركه بالدلالة التضمنية ، وهكذا الحال في باقي الأقوال في المسألتين السابقتين إذا التزم بمسلكه فيهما بما يقتضيه هنا ، ليس لنا الرد عليه بمقتضى مسلكنا ، نعم يمكننا المناقشة معه في أصل مبناه في المسألتين السابقتين ، ومحل تلك المناقشة هو المسألتان لا هاهنا فلاحظ وتأمل.

قوله : فطلب ترك الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما إنما هو بحسب المفهوم فقط ... الخ (١).

هذا هو الحجر الأساسي في هذا القول ، ومبناه على بساطة الوجوب وعلى أن النهي عبارة عن طلب الترك ، فلا يكون طلب وجود الشيء إلاّ عين طلب ترك ترك ذلك الشيء ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦.

٩٥

طلب الفعل ، يعبّر عنه تارة بوجوب الفعل واخرى بحرمة ترك (١) ذلك الفعل ، والمستفاد من الثانية عين المستفاد من الاولى وبالعكس ، وهذا بخلاف دعوى الملازمة فان البناء عليها يوجب التعدد ، غايته أن أحد الحكمين يلزمه الحكم الآخر ، فتكون هناك إطاعتان وعصيانان. ولا يخفى ما فيه من كونه مما يقطع بخلافه.

وأما ما افيد من قياس الارادة التشريعية بالارادة التكوينية فعلى الظاهر أنه أجنبي عن دعوى الاتحاد والعينية ، وعلى كل حال لو كانت مناقشة فانما هي في أن النهي ليس من سنخ الطلب المتعلق [ بالترك ](٢) ليكون محصل تعلقه بالترك هو طلب ترك الترك ليكون عين الأمر بذلك الشيء ، أما بعد تسليم ذلك فلا مجال للمناقشة معه بما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنه ربما يغفل الآمر بالشيء عن تركه فضلا عن ترك تركه (٣) ، كما لا مجال للمناقشة معه بما في الحاشية (٤) من أنه قول لا محصّل له ، لأن القائل بذلك يعترف به وأنه عنده من قبيل أنت وابن اخت خالتك ، فلاحظ.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أنه يمكن أن يقال : إنا وإن قلنا بأن النهي من مقولة الردع والزجر فلا يكون بين الأمر بالشيء وبين النهي عن تركه اتحاد ولا تلازم ، إلاّ أنا نقول إن الأمر بالشيء هو عين طلب ترك تركه. وإن شئت فقل : إن الأمر بالشيء هو عين الأمر بترك تركه ، ولا يكون ذلك إلاّ من قبيل أنت وابن اخت خالتك ، إلاّ أنه لا يترتب عليه أثر عملي حتى في

__________________

(١) [ في الأصل : بحرمة ترك ترك ذلك ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) [ لاحظ أجود التقريرات ٢ : ٦ ، فان المذكور فيها : ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به وكذا في الطبعة القديمة. ولعل ما ذكره قدس‌سره هنا منقول من تقريراته المخطوطة ].

(٤) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٦.

٩٦

الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان الأمر بأحدهما كالحركة وإن كان هو عين الأمر بترك ترك الحركة ، إلاّ أن ترك الحركة ليس هو نفس السكون كي يكون ذلك موجبا لكون السكون مطلوب الترك فيفسد لو كان عبادة. نعم إن ترك الحركة ملازم للسكون فلا يكون ترك ترك الحركة عين ترك السكون كي يكون طلب ترك ترك الحركة عين طلب ترك السكون ، وقد تقرر في محله (١) أن حكم الشيء لا يسري إلى ملازمه.

ومنه يظهر لك الحال في الضدين اللذين لهما ثالث لو اريد أحد الأضداد الوجودية ، فان كلي أحد الأضداد ليس هو عين ترك الضد المأمور به بل هو ملازم له ، وقد عرفت أن الحكم لا يسري من الشيء إلى ملازمه ، هذا. مضافا إلى أن مفهوم أحد الأضداد ليس هو عين كل واحد منها كي يقال إنه لو كان مطلوب الترك لكان كل واحد مطلوب الترك.

قوله : بتقريب أن عدم العدم وإن كان مغايرا للوجود مفهوما إلا أنه عينه خارجا ، لما عرفت سابقا ... إلخ (٢).

قبل الشروع في هذه المسألة أعني كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الترك ينبغي تقديم مقدمتين : الأولى راجعة إلى شرح حقيقة الوجوب ، وقد تقدم في أول الأوامر (٣) أنه بسيط لا تركيب فيه ، وإنما التركيب في ناحية الاستحباب وأنه طلب الفعل مع تجويز الترك ، أما الوجوب فيكفي فيه صرف الطلب عاريا من انضمام تجويز الترك ، لا أنه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦.

(٣) في صفحة : ٣٤٩ وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

٩٧

المقدمة الثانية راجعة إلى شرح حقيقة التحريم ، وسيأتي في محله (١) إن شاء الله تعالى أنه عبارة عن المنع عن الشيء والزجر والردع عنه الناشئ عن مفسدة في ذلك الشيء ، سواء كان ذلك الشيء المشتمل على المفسدة هو الفعل أو كان هو الترك ، بخلاف الوجوب فانه طلب الشيء الناشئ عن صلاح فيه ، سواء كان ذلك الشيء فعلا أو كان تركا.

وقيل : إن النهي والتحريم من مقولة الطلب كالوجوب ، غير أن الطلب في باب الوجوب متعلق بالفعل وفي باب النهي متعلق بالترك. نعم على هذا القول يمكن أن يقال : إن الطلب المتعلق بالترك إن كان ناشئا عن صلاح في الترك كان من قبيل إيجاب الترك ، وإن كان ناشئا عن مفسدة في الفعل كان من قبيل التحريم.

وبعد هاتين المقدمتين نقول : إنه لو قلنا بأن الأمر الوجوبي مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، كان الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الردع عن الترك على نحو التضمن ، لكن قد عرفت بساطة الأمر الوجوبي وأنه غير مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، أما لو أخذنا النهي بمعنى طلب الترك فلا وجه لكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن تركه أعني طلب تركه بالتضمن حتى لو قلنا بأنّ الأمر الوجوبي مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، اذ لا دخل للمنع من الترك بطلب الترك.

وكيف كان ، فنحن بعد أن قلنا ببساطة الأمر الوجوبي لا يبقى وجه لدعوى كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الترك بالتضمن.

__________________

(١) لاحظ المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣ ـ ٤.

٩٨

وأما دعوى العينية فلا وجه لها أيضا بناء على كون النهي من مقولة الردع والزجر ، وأما بناء على كونه من قبيل طلب الترك فقد يقال بالعينية نظرا إلى أن طلب ترك الترك عين طلب الفعل خارجا وإن اختلفا مفهوما أعني أن الحكم في مقام الثبوت واحد ، تارة يعبّر عنه بعبارة واضحة وهي وجوب الفعل أو طلبه أو الأمر به ونحو ذلك ، واخرى يعبّر عنه بعبارة بعيدة المسافة وهي طلب ترك تركه أو النهي عن (١) تركه بمعنى طلب ترك تركه ، وهذا مطلب لا نزاع فيه.

وحينئذ فما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : وفيه أن محل الكلام هو أنه إذا تعلق الأمر بشيء فهل هو بعينه نهي عن الترك أم لا ، لا أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهي عن الترك فهل هما متحدان أم لا ، والدليل إنما يكفي للاتحاد في المقام الثاني لا الأول ... إلخ (٢) لا يخلو عن تأمل ، فانه بعد تسليم الوحدة في مقام الثبوت يكون ذلك الحكم الواقعي المحقق في مقام الثبوت قابلا لأن يعبّر عنه بكل من العبارتين ، ولا يضر في ذلك غفلة الآمر عن الترك ، فان كل أمر واقعي صالح لأن يعبّر عنه بعبارتين ـ مثل الشخص الذي هو عالم وهاشمي ـ لا يضر في دعوى وحدته وصلاحية التعبير عنه بكل من العبارتين غفلة المعبّر عن إحدى العبارتين ، فان زيدا بعد أن كان هو عين ابن [ اخت ](٣) خالته لا يضر بهذا الاتحاد والعينية الغفلة عن خالته حينما نخبر عنه فنقول زيد قائم.

وأما دعوى الاقتضاء بمعنى الالتزام ، فان كانت بالاضافة إلى النهي

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة : « ترك » حذفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٩٩

بمعنى طلب ترك الترك فقد عرفت الاتحاد بينهما والعينية ، فلا وجه لدعوى الملازمة لأنها تستدعي الاثنينية ، وإن كانت بالاضافة إلى النهي عن الترك بمعنى الردع والزجر عنه الناشئ عن مفسدة فيه ، ففيه المنع من اللزوم بكل معانيه ، وإلاّ لكان الأمر بالشيء عبارة عن تكليفين وجوب الفعل وحرمة الترك ، وكان الاستحباب بمعنى طلب الفعل وكراهة الترك ، وهكذا ، بحيث يكون تارك الواجب عاصيا لتكليفين.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما افيد من الدلالة الالتزامية سواء كانت بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو البيّن بالمعنى الأعم ، فانه بعد فرض عدم الملازمة بين الحكمين واقعا وفي مقام الثبوت كيف يمكن القول بها في مقام الدلالة والاثبات ، فتأمّل.

ثم لا يخفى أن هذه العينية المدعاة بين الأمر بالشيء وبين طلب ترك تركه لا تكون ناشئة إلاّ عن ملاك واحد وهو الصلاح في الفعل ، لا أنه يكون الأمر بالشيء الناشئ عن الصلاح فيه عين طلب ترك تركه الناشئ عن مفسدة في تركه ، وإلاّ لكان لنا في مقام الثبوت حكمان أحدهما الوجوب وطلب الفعل الناشئ عن صلاح في ذلك الفعل ، والثاني النهي والتحريم المعبّر عنه بطلب ترك ترك ذلك الشيء الناشئ عن مفسدة في ترك ذلك الشيء ، وحينئذ لا يعقل الاتحاد بينهما في مقام الثبوت ، ولا يكونان من باب الاختلاف في مجرد التعبير ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إن وجوب الصلاة مثلا لا يتضمن إلاّ طلب وجودها ، وهو لا تعرض فيه لعدمها وتركها ، وكذلك لا تعرض فيه لترك تركها ، فلو ورد النهي عن تركها الذي هو عبارة عن طلب ترك تركها كان ذلك طلبا آخر مفاده طلب ترك تركها ، نعم إن ترك تركها ينطبق على فعلها

١٠٠