أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

وحينئذ نقول : إن نفس الصلاة وإن لم تكن هي عين نقيض ذلك الترك الخاص لأنها ليست بنفسها رفعا لذلك الترك الخاص ، إلاّ أنا يمكننا أن نقول إنها ضد لذلك الترك الخاص ، لعدم إمكان اجتماعهما وإن أمكن ارتفاعهما بأن يتحقق الترك المجرد ، وحينئذ يكون تركها مقدمة لذلك الترك الخاص فيكون واجبا فيكون فعلها محرما ، غايته أن تركها الواجب هو خصوص ما يتوصل به إلى تركها الخاص ، وهذا لا يضر في وجوب تركها الذي يتولد منه حرمتها.

نعم ، بناء على مسلكه قدس‌سره من انحصار الواجب بالمقدمة الموصلة يكون ما هو الواجب مقدمة لذلك الترك الخاص ليس هو مطلق ترك الصلاة ، بل تركها الخاص الذي يترتب [ عليه ](١) ذلك الترك الخاص وهلمّ جرّا ، وهو راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره من لزوم التسلسل ، فراجع وتأمل.

وحاصل الجواب عن هذه الثمرة : هو أن الواجب مقدمة للازالة وإن كان هو ترك الصلاة المتوصل به إلى فعل الازالة ، إلاّ أن هذا القيد أعني التوصل إلى فعل الازالة لا يكون شرطا في الوجوب لأن يكون مقتضاه عدم وجوب الترك عند عدم التوصل ، بل هو قيد في الواجب ، فهو في حالة عدم التوصل يجب عليه أن يترك الصلاة ويتوصل بتركها إلى فعل الازالة فتكون الصلاة في ذلك الحال واجبة الترك فيكون فعلها محرما.

ولعل هذا هو المراد لصاحب الحاشية قدس‌سره حيث إنه قال في مقام الايراد على هذه الثمرة ما نصه : ويشكل بأنه لا إشكال في حرمة ترك المقدمة الموصلة ، وكذا في وجوب ترك المانع الموصل إلى فعل الواجب ،

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

٦١

فالمكلف مع وجود الصارف عن الواجب إذا ترك الواجب وترك مقدمته يكون تاركا لواجب نفسي ولمقدمته الموصلة إليه ، فكيف يصح القول بكون ما يقدم عليه من ترك المقدمة جائزا ، ومجرد مقارنته لوجود الصارف مع حرمته أيضا لا يقضي بجواز الترك الحاصل منه ، وإذا ترك الواجب وأتى بضده فقد ترك نفس الواجب ومقدمته الواجبة التي هي ترك ضده الموصل إليه ، ومن البيّن أن ما أتى به من فعل الضد ترك لترك الضد الموصل إلى الواجب أيضا ، فيلزم أن يكون حراما من تلك الجهة ، وإن لم يكن ترك الضد في المقام موصلا إلى الواجب بسوء اختيار المكلف ، ولا مانع من اجتماع حصول التركين في المقام بفعل الضد كما لا يخفى ، فلا يتم الحكم بصحة ما أتى به من الضد أيضا وسيجيء الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

قوله : وأما ما استدل به على ما ذكره من أن للمولى المنع عن المقدمات غير الموصلة ، وليس له المنع عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها ، وذلك آية عدم اتصاف المقدمة من غير قيد الايصال بالوجوب ... إلخ (٢).

لا يخفى أن صاحب الفصول قدس‌سره قد تعرض لهذه المسألة ، وهي كون المقدمة مقيدة بالايصال في مقامين ، أحدهما في التنبيه الأول من تنبيهات مقدمة الواجب (٣) ، ولم يذكر فيه هذا الاستدلال وإنما ذكر فيه ما نقله عنه في

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) الفصول الغروية : ٨٦.

٦٢

الكفاية المشتمل على قوله : وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم اريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصل به إليه ... إلخ (١) ، ولم يذكر في هذا المقام تصريح المولى بالمنع عما لا يتوصل بها من المقدمات.

نعم في المقام الآخر وهو ما تعرض له قبل البحث عن مقدمة الواجب من تقسيم الوجوب إلى المطلق والمشروط والمنجّز والمعلّق ، فإنه قال في ذيل ذلك البحث : ثم هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك ، أو يعتبر قصد التوصل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتب عليه ، أو يعتبر الأمران ، أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه ، والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأول ـ ثم بعد بيان الوجه في ذلك قال : ـ وتظهر الثمرة فيما لو وجب عليه الدخول في ملك الغير بغير إذنه لانقاذ غريق يتوقف عليه ، فدخله لغير ذلك فبدا له فأنقذه ـ ثم بعد أن أطال الكلام في بيان ذلك قال : ـ فقد اتضح مما قررنا أن الواجب الغيري إذا لم يترتب عليه فعل الغير جاز أن يتصف بغير الوجوب من سائر الأحكام حتى الحرمة لانتفاء الوجوب المضاد لها حينئذ ، واحفظ هذا فإنه ينفعك في بعض المباحث الآتية (٢).

والظاهر أن مراده من المباحث الآتية هو ما تعرض له في التنبيه الأول الذي تقدم نقله ، فيكون ذلك بمنزلة استدلال منه قدس‌سره على اعتبار الايصال

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) الفصول الغروية : ٨١.

٦٣

بما لو كانت المقدمة المنحصرة محرمة وكان الواجب النفسي أهم ، فانه حينئذ تكون المقدمة غير الموصلة محرمة ، ويكون الوجوب الغيري منحصرا بما يترتب عليه الواجب النفسي.

والخلاصة : هي أن صاحب الفصول في مقدمة الواجب استدل على الانحصار بقوله : وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم ... الخ ، وقبلها استدل عليه بجواز النهي عما لا يوصل. وصاحب الكفاية ذكر دليله الأول وأجاب عنه بقوله : وقد انقدح بذلك ... إلخ (١) ، ثم إنه ذكر دليله الثاني وأجاب عنه بقوله : ثم إنّه لا شهادة ... إلخ (٢).

قوله : ومع الغض عمّا ذكرناه فلا يرد عليه ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنه حينئذ يلزم أن لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا ... إلخ (٣).

لا يخفى أن مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٤) لمّا كان هو بطلان الترتب كانت المسألة المذكورة أعني انحصار المقدمة بالمحرم واضحة عنده ، فانه يلتزم بسقوط التحريم ، ويكون الدخول في الأرض المغصوبة واجبا ، سواء ترتب عليه إنقاذ الغريق أو لم يترتب ، بأن دخلها لا لأجل ذلك ولم يكن دخوله إلاّ لمحض الغصب ، ولم يترتب على ذلك اشتغاله بانقاذ الغريق ولأجل ذلك جعل الكلام مع صاحب الفصول في صورة خاصة وهي ما لو صرّح الآمر بحرمة المقدمة التي لا يترتب عليها الواجب ، وأخيرا التجأ إلى

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٨ ، وفيها : وقد انقدح منه ...

(٢) كفاية الاصول : ١٢٠.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٤) كفاية الاصول : ١٣٤ ـ ١٣٦.

٦٤

محالية المنع المذكور.

وهو قدس‌سره وإن صدّر الوجه للمحالية بأنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا لعدم التمكن منه شرعا إلخ (١) ، إلاّ أنه أخيرا صرّح وأوضحه بحاشية منه بأن المحالية فيه من جهة كونه من طلب الحاصل ، حيث إن الوجوب النفسي موقوف على كون الواجب مقدورا ، وكونه كذلك متوقف على عدم حرمة مقدمته ، وعدم حرمتها متوقف على وجوده بعدها.

وإن شئت قلت : إن القدرة على الواجب موقوفة على فعله لكونها موقوفة على عدم حرمة مقدمته ، وعدم حرمتها متوقف على وجوده فتكون القدرة عليه فعلا متوقفة على وجوده بعد مقدمته وهو محال ، وحينئذ يكون حاصل ما في الكفاية أنه بالنظر إلى ترك الواجب تكون مقدمته محرمة فيكون غير مقدور ، وبالنظر إلى فعله يكون طلبه طلبا للحاصل.

والأولى أن يقال : إنه إشكال واحد ذو جهتين ، لأن أصل الاشكال هو لزوم كون وجوب الواجب مشروطا بالاتيان به ، وهذا اللازم يتوجه عليه إشكال لزوم تحصيل الحاصل وإشكال أن تركه لا يكون محققا للعصيان ولأجل ذلك صدّر في الكفاية بالثاني ثم أعقبه بالأول.

وشيخنا قدس‌سره أورد على الشق الأول من كلامه بأنه لا يكون غير مقدور لكونه بالوجدان مقدورا بالقدرة على مقدمته وارتفاع تحريمها بالاقدام عليها وعليه.

وفيه تأمل ، لأن أقصى ما في ذلك أنه يقدر أن يطيع ، لكنه لا يدفع الاشكال بأنه لو لم يطع لم يكن عاصيا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٠.

٦٥

فالعمدة في المسألة هو الشق الثاني من إشكال الكفاية ، ولم يتعرض له شيخنا قدس‌سره هنا ولكن تعرض (١) له في توجيه الترتب في المسألة المشار إليها ، أعني انحصار مقدمة إنقاذ الغريق بسلوك الأرض المغصوبة ، فإنه قدس‌سره التزم بترتب الحرمة على تقدير عدم الانقاذ ، ولازمه هو كون الوجوب الغيري وارتفاع الحرمة منحصرا بما لو ترتب عليها الانقاذ ، وحينئذ يتجه إشكال الكفاية من أن لازمه طلب الحاصل ، لأن وجوب الانقاذ موقوف على القدرة عليه ، وهي على عدم تحريم مقدمته ، وهو أعني عدم التحريم متوقف على تحقق الانقاذ ، فيكون وجوب الانقاذ موقوفا على تحققه.

وقد أفاد قدس‌سره هناك بما حاصله : أن وجوب تلك المقدمة الذي هو عين ارتفاع حرمتها لا يعقل أن يكون مقيدا بعدم الاتيان بذيها ولا بالاتيان بل إن الأمر بها لمّا كان واقعا في تحصيل ذيها كان حاله حال الأمر بذيها في عدم إمكان تقييده أو إطلاقه من ناحية وجود متعلقه وعدم وجوده ، فلمّا لم يعقل أن يكون وجوبها مقيدا بوجود ذيها ، لم يكن انحصار التحريم بما لم يترتب عليه الواجب موجبا لتقيد الأمر بالمقدمة بما إذا حصل ذلك الواجب ، ليكون وجوب الانقاذ المتوقف على ارتفاع حرمة السلوك متوقفا على تحقق الانقاذ ، فتأمل.

لكن هذا لا يدفع إشكال تحصيل الحاصل عن صاحب الفصول لأنه قدس‌سره التزم بتقييد الواجب بالتوصل ، ولازمه تحصيل الحاصل عند المنع عن بعض المقدمات.

وحاصل الجواب عن إشكال لزوم طلب الحاصل في خصوص مسألة

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ٢ : ١٠٦ وما بعدها ، وفوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٣٨٣ وما بعدها ، ولاحظ أيضا حاشية المصنف قدس‌سره الآتية في الصفحة : ٤٤١ من هذا المجلّد.

٦٦

السلوك بعد الالتزام بالترتب وعدم الالتزام بتقيد الواجب بالايصال ، هو أن وجوب الانقاذ وإن توقف على القدرة وهي على عدم حرمة السلوك ، لكن ارتفاع حرمة السلوك لا يتوقف على وجود الانقاذ فيما بعد ، بل إن الارتفاع المذكور لا يتوقف إلاّ على أهمية الانقاذ من ترك السلوك.

فان قلت : إن حرمة السلوك لمّا كانت متوقفة على عدم الانقاذ كما هو مقتضى الترتب ، كان ارتفاعها متوقفا على ارتفاع موضوعها الذي هو عدم الانقاذ ، فيكون ارتفاعها موقوفا على تحقق الانقاذ لأنه عبارة اخرى عن ارتفاع عدم الانقاذ.

قلت : إن هذه الحرمة الترتبية المشروطة بعدم الانقاذ لا يكون وجوب الانقاذ متوقفا على ارتفاعها ، لعدم المزاحمة بينها وبين وجوب الانقاذ لعدم التدافع بينهما ، لكون وجوب الانقاذ هادما لموضوعها فلا يكون مزاحما لها ، كما أنها لا تزاحمه وتدافعه لأنها في مرتبة عدم تأثيره ، كما هو الأساس في دفع التدافع بين التكليفين المتزاحمين بطريقة الترتب كما حقق في محله فراجع (١).

وخلاصة البحث أو توضيحه : هي أن صاحب الفصول (٢) استدل على مسلكه بامكان منع المولى عن المقدمة غير الموصلة.

وشيخنا قدس‌سره (٣) أجاب عنه بجواب وجداني وهو أنّه بعد كون الموصلة وغيرها مشتركتين في ملاك الوجوب الغيري ، فليس للمولى تخصيص

__________________

(١) لا بد من مراجعة ما حررناه في هذه المسألة في مبحث الترتب [ في صفحة : ٤٣٤ وما بعدها ] ، وقد تعرضنا هناك لبعض الاشكالات التي أوردها المحرر في الحاشية. [ منه قدس‌سره ].

(٢) الفصول الغروية : ٨٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦.

٦٧

إحداهما بالوجوب والاخرى بالمنع عنها.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) أوّلا : بأن المنع لا يدل على اختصاص الوجوب بالموصلة ، بل لا يكون خروج غير الموصلة إلاّ بواسطة النهي عنها.

وثانيا : بأن النهي عن غير الموصلة يوجب توقف وجوب الواجب النفسي على وجوده من جهة توقف وجوبه على القدرة عليه ، وهي على جواز مقدمته ، وهو على وجود الواجب بعدها.

وهذا الاشكال ـ أعني توقف وجوب الشيء على وجوده ـ ينشأ منه إشكال لزوم تحصيل الحاصل وإشكال عدم كون ترك الواجب عصيانا ، لأنه عند تركه لا يكون واجبا. وأصل هذا الاشكال إنما نشأ من كون جواز المقدمة متوقفا على وجود الواجب الذي هو التوصل بها إليه.

ولأجل ذلك أجاب عنه شيخنا قدس‌سره كما في الطبعة الجديدة من التحرير بالمنع من هذا التوقف ، فقال : ويدفعه أن جواز المقدمة غير مشروط بالايصال ليتوقف تحققه على تحقق الايصال خارجا ، بل المتوقف عليه إنما هو تحقق ما هو جائز شرعا ، إذ المفروض أن الايصال قيد للواجب لا للوجوب ، فجواز المقدمة ثابت قبل تحقق الايصال في الخارج ... إلخ (٢) فقاس الجواز على الوجوب ، فكما كان الوجوب المتعلق بالمقيد مطلقا من ناحية وجود القيد وإن كان نفس الواجب مقيدا به ، ويكون إطلاق الوجوب وشموله لحالة فقد القيد ، ويترتب على ذلك لزوم تحصيله ، فكذلك الحال في الجواز المتعلق بالمقيد ، فانه موجود في حالة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨.

٦٨

عدم وجود القيد وإن كان متعلقه هو ذلك الفعل الواجد للقيد ، وحينئذ فيما نحن فيه يكون جواز المقدمة الموصلة مطلقا موجودا حتى في حالة عدم الايصال ، إلاّ أن متعلقه هو المقدمة المقيدة بالايصال ، هذا غاية توضيح ما افيد في هذا التحرير.

ولكنه لا يخلو عن تأمل ، لإمكان الفرق بين الوجوب والجواز ، بقابلية التفكيك في الأول وأثره لزوم تحصيل القيد ، بخلاف الثاني. ومع قطع النظر عن ذلك بأن سلّمنا كون الجواز مطلقا وإن كان متعلقه هو المقيدة بالتوصل ، وحينئذ تكون المقدمة المتصفة بالجواز متوقفة على وجود القيد الذي هو الايصال ووجود الواجب ، فكان الحاصل هو توقف وجوب الواجب النفسي على اتصاف مقدمته بالجواز وهو متوقف على وجوده ، فان نفس الجواز وإن لم يكن متوقفا على وجود الواجب لاطلاقه وعدم كونه مشروطا به ، إلا أن اتصاف المقدمة بالجواز متوقف عليه لفرض كون القيد قيدا للجائز لا للجواز ، وحينئذ نقول إن وجوب الواجب النفسي كما يتوقف على جواز مقدمته فكذلك يتوقف على اتصاف مقدمته بالجواز ، وهو متوقف على وجود الواجب ، فاشكال الكفاية على الفصول بحاله فلاحظ. هذا ما حررناه سابقا.

ولكن لا يخفى أن صاحب الفصول استدل بجواز تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة ، ثم زاد عليه فيما سبق بأنه يجوز أن ينهى الآمر عن غير الموصلة ، وصاحب الكفاية منع جواز تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة ، وذلك قوله : وقد انقدح منه ... إلخ (١) ، كما أنه منع من تصريح

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٨.

٦٩

الآمر بالنهي عن غير الموصلة ، وذلك قوله : ثم إنه لا شهادة ... إلخ (١).

أما موقف شيخنا قدس‌سره فالذي ينبغي هو ملاحظة ما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي (٢) والذي يظهر منه أنه وافق الكفاية على الجواب الأول وأن تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة إنما يتم لو كان وجوب المقدمة نفسيا ، فيجوز أن يكون الايصال دخيلا في ملاك وجوبها النفسي ، فيصرح بأنه لا يريد غير الموصل منها ، أما الوجوب الغيري فليس ملاكه إلاّ التوقف والتلازم بين العدمين ، فلا يصح اعتبار الايصال كي يتسنى للآمر الحكيم بأن يقول لا اريد غير الموصل.

أما الجواب الثاني ، فالظاهر أن شيخنا قدس‌سره قد التزم بأن الشرط في جواز المقدمة هو التوصل ، لكن لا بوجوده الخارجي بل بالعنوان المنتزع منه ، وطريق إحراز ذلك العنوان المنتزع هو المكلف نفسه لو كان عازما على الاتيان بذي المقدمة ، ويكون الحاصل أنك إن كنت عازما على الاتيان بذي المقدمة جاز لك فعل تلك المقدمة ، هذا.

ولكن تقدم منه قدس‌سره (٣) الاشكال على أخذ التوصل شرطا في وجوب المقدمة ، لأن وجوبها حينئذ يكون بعد وجود ذيها ، وقد تقدم التأمل فيه بما أفاده هنا في جواز المقدمة من إمكان كون الشرط في جوازها هو العنوان المنتزع من وجود ذي المقدمة ، وتقدم (٤) أيضا أن هذا الاشكال لا يدفعه العنوان المنتزع ، لأن محصل ذلك هو أن الشرط في وجوب المقدمة أو في

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٠.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٤ ، فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٢٩٠.

(٤) في الحاشية المتقدمة في صفحة : ٤٤ وفي الهامش في صفحة : ٤٦.

٧٠

جوازها هو وجودها وتعقب ذي المقدمة ، ومن الواضح فساده. وأما القياس على شرطية الغسل للصوم فيمكن التأمل فيه ، حيث إن شرطية الغسل في الصوم من قبيل شرط الواجب ، فلا تصرف فيه بالنسبة إلى الحكم الذي هو الوجوب أو الجواز ، فلاحظ.

وأما ما أفاده هنا في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي من قوله : فلا يجوز له الدخول إلاّ إذا كان من عزمه إنقاذ الغريق ... الخ (١) فكأنه إنما يلائم مسلك الشيخ (٢) من كون الشرط هو قصد التوصل لا التوصل ، فلاحظ وتأمل.

قوله : بقي الكلام فيما أفاده المحقق صاحب الحاشية في المقام من أن المقدمة إنّما وجبت من حيث الايصال ، لا مقيدة بكونها موصلة ، وقد أصرّ على ذلك في مواضع من كلامه وأنكر وجوب المقدمة الموصلة ... إلخ (٣).

قال في الحاشية : رابعها أنّه قد يتخيل أنّ الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره. ثم ذكر أن ذلك قد يستفاد من عبارة المعالم (٤) ثم قال : والأظهر كما هو ظاهر الجمهور وجوب المقدمة من حيث إيصالها إلى أداء الواجب ، فالمقدمة التي لا يتحقق بها الايصال إلى الواجب واجب الحصول من حيث التوصل بها إلى الواجب ، فيجب

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٢٩٢.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٤) أي من قوله في معالم الدين : ٧١ فحجة القول بوجوب المقدمة ... حق النظر ، كما صرّح به في هداية المسترشدين.

٧١

الاتيان بها والتوصل إلى الواجب من حينها ، فإذا لم يتوصل المكلف بها إلى الواجب لم تخرج المقدمة عن الوجوب ، فإذا وجب علينا شيء وجب الاتيان بما يتوقف عليه ، لا من جهة ذاته بل من حيث أدائه إلى الواجب ويجب علينا الاقدام على فعل الواجب بعد الاتيان بمقدمته ، فعدم الاقدام على الواجب بعد الاتيان بالمقدمة لا يخرج ما أتى به من المقدمة عن الوجوب ، فانها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه لاهمال المكلف ، فإن عدم حصول الأداء بها لا ينافي اعتبارها من حيث كونها مؤديا ليحكم بوجوبها من تلك الجهة.

وبالجملة : أنّه لا تتنوع المقدمة من جهة إيصالها إلى ذي المقدمة وعدمه إلى نوعين ليقال بوجوب أحدهما دون الآخر ، بل ليس هناك إلاّ فعل واحد يتصف بالوجوب من حيث كونها موصلة إلى الواجب ، سواء أتى بها على تلك الجهة أو لا ، وتلك الجهة حاصلة فيها سواء تحقق بها الايصال إليه أو لا. نعم لو فرض انتفاء الجهة المذكورة عن المقدمة لم تكن واجبة وحينئذ يخرج عن عنوان المقدمة كما لا يخفى. فلا فرق في وجوبها بين وجود الصارف الاختياري عن أداء الواجب وعدمه ، ولو كان هناك صارف عن الواجب خارج عن اختيار المكلف خرجت به المقدمة عن الوجوب لانتفاء الحيثية المذكورة ، وحينئذ يسقط التكليف بالواجب أيضا ، والتأمل في الأدلة المتقدمة لوجوب المقدمة قاض بما قلناه كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وقد نص على ما ذكرنا غير واحد من أفاضل المتأخرين مصرّحا بأن ما دل على وجوب المقدمة إنّما ينهض دليلا على الوجوب

٧٢

المطلق إذا أمكن صدور الواجب عن المكلف (١). انتهى كلامه قدس‌سره.

وقد نقلناه بطوله ليتضح أن مراده بكون المقدمة واجبة من حيث الايصال إنما هو في مقابل احتمال كونها واجبة بالذات على وجه لو تعذر ذو المقدمة تكون المقدمة باقية على وجوبها ، وأنّ المقدمة تكون واجبة ومتصفة بالوجوب ، سواء لحقها الواجب النفسي أو لم يلحقها كما صرّح به في قوله « فانها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه لاهمال المكلف » ويظهر ذلك أيضا من الثمرات التي رتّبها على القولين. وبالجملة : أن ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تفسير كلامه قوي متين دقيق ، لكنه أجبني عمّا أراده صاحب الحاشية.

ثم قال في الحاشية ـ بعد الفراغ عمّا تقدم نقله عنه ـ : ويتفرع على الوجهين المذكورين امور ، منها : أنه إذا كان للمكلف صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدم عليه من ترك مقدماته ممنوعا عنه على الأول ، إذ المقدمات المتروكة غير موصلة إلى الواجب مع وجود الصارف عنه ، وإنما الممنوع عنه هو ترك المقدمة الموصلة وليس ذلك بشيء من تلك التروك وتتفرع عليه صحة أداء الواجب الموسع عند مزاحمته للمضيق ، إذ لا يتحقق فعل الموسع إلاّ مع وجود الصارف عن المضيق ، وحينئذ فلا يكون ما يأتي به من الموسع منهيا عنه ليقضي النهي بفساده ، بخلاف ما لو قيل بالثاني لتعلق النهي به حينئذ لكون تركه مقدمة لأداء الواجب ، فيكون واجبا من حيث كونه موصلا إلى الواجب (٢).

ثم إنه أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : أنه ينبغي الحكم بفساد الموسع وإن قلنا باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، إذ لا ريب عنده

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٨.

(٢) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٨.

٧٣

في وجوب ترك الصلاة الموصل إلى فعل الازالة ، فيكون ترك ذلك الترك حراما وهو عين فعل الموسع.

ومن الثمرات التي ذكرها : عدم جواز أخذ الاجرة على فعل المقدمة وإن لم يترتب عليها الواجب بناء على الثاني دون الأول.

ومنها : مسألة برّ النذر المتعلق بأداء واجب بفعل المقدمة وإن لم يترتب عليها الواجب بناء على الثاني دون الأول.

ومنها : مسألة جواز الاتيان بالوضوء عند دخول وقت الصلاة بعنوان الوجوب ، وإن لم يكن من نيته الصلاة ولم يترتب عليه فعلها (١).

ومن هذه الثمرات يظهر لك أنه يقول بأن الواجب هو مطلق المقدمة وإن لم يترتب عليها ، لا خصوص الذات التي يترتب عليها الواجب.

وقد يقال : إن ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أن صاحب الحاشية يلتزم على مسلكه بصحة الواجب الموسع لجريان الترتب فيه ، محتاج إلى التأمل في كلام صاحب الحاشية ، فانه صريح بأنه على القول الثاني الذي هو مختاره يكون الواجب الموسع فاسدا ، وأنه إنما يحكم بصحته على القول الأول أعني التقييد بالايصال ، ثم مع ذلك أشكل على الحكم بصحته حتى بناء على القول المزبور أعني القول الأول.

ولكن كلام صاحب الحاشية في مسألة الضد (٣) صريح في جريان الترتب في المقدمة المحرمة ، سواء كانت متقدمة مثل سلوك الأرض المغصوبة أو كانت مقارنة مثل ترك الأهم وفعل المهم.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥٢.

(٣) هداية المسترشدين ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٤

ولا يخفى أن صاحب الفصول (١) أيضا ذكر ثمرات أخر ، وقد جمع الجميع في البدائع (٢) فراجعها.

قوله : لكنه لا يلزم من امتناع التقييد بالايصال لما ذكرناه من المحاذير اللازمة من التقييد ، سواء كان القيد للوجوب أو الواجب ، أن تكون المقدمة متصفة بالوجوب على نحو الاطلاق كما ذهب إليه المحقق العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣).

فانه قدس‌سره (٤) قد تمسك بالاطلاق على نفي قيد التوصل وإن التزم هو (٥) بالتقييد بقصد التوصل.

ثم لا يخفى أن المحاذير اللازمة من تقييد نفس الوجوب بالتوصل وإن كانت موجبة لامتناع إطلاقه من هذه الجهة أعني جهة الايصال ، إلاّ أن المحاذير اللازمة من تقييد الواجب به أعني ما تقدم (٦) من لزوم كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة ، وكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب منها ومن قيد الايصال ، لا توجب امتناع الاطلاق من هذه الجهة ، إذ لا تتجه هذه المحالية في كون الفعل الواجب مقدمة مطلقا من حيث كونه موصلا وعدم كونه موصلا.

نعم يمكن أن يقال : إنه إذا كان تقيد الواجب ممتنعا لم يمكن التمسك باطلاقه على إرادة المطلق ، لإمكان أن يكون ترك تقييده لأجل

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨١.

(٢) بدائع الأفكار : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، ٣٤٠.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٥٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٤) لم نعثر عليه في مظانه.

(٥) مطارح الانظار ١ : ٣٥٣.

(٦) تقدمت محاذير ثلاثة في هامش الصفحة : ٤٤ ـ ٤٦. راجع أيضا الصفحة : ٤٩ ـ ٥٦.

٧٥

المحذور في ذلك التقييد.

لكنه واضح الاندفاع ، لأنه إذا فرض عدم إمكان صدور التقييد يتعين كون الواجب شاملا لواجد القيد وفاقده. اللهم إلاّ أن نقول كما تقدم (١) بأن الواجب هو الذات التي هي توأم مع القيد لا الذات المقيدة ، فتأمل.

نعم ، لو كان التقييد اللحاظي ممتنعا نظير التقييد بداعي الأمر لكان الاطلاق ممتنعا أيضا ، وتقريبه في المقام بأن يقال : إن الأمر بالمقدمة لمّا لم يكن أمرا مستقلا وإنما هو ناش عن نفس الأمر بذيها ، بمعنى كون الأمر بها حاصلا بالأمر بذيها ، كان حاله حال الأمر بذيها في عدم إمكان تقييده بنفس ذيها ، فكان ذلك موجبا لعدم إمكان إطلاقها بالنسبة إلى وجود ذيها ، كما لا يمكن إطلاق متعلق الأمر بذيها بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه ، فلاحظ.

قوله : وأما بناء على ما ذهب إليه المحقق المذكور فلمّا كان التقييد الموجب لانقسام المقدمة إلى قسمين محالا ، فلا محالة يكون الحكم بالحرمة على نحو الترتب ... إلخ (٢).

الظاهر أنه لا فرق بين ما أفاده صاحب الفصول (٣) من التقييد بالايصال وما نقله قدس‌سره (٤) عن صاحب الحاشية من كون الواجب (٥) هو الذات التي هي توأم مع الايصال ، إلاّ أن التقييد في الأول يكون لحاظيا وفي الثاني يكون ذاتيا ، وعلى أيّ حال لا تكون الذات التي هي لا يترتب عليها الايصال واجبة ، فلا مانع من بقاء حرمتها من دون حاجة إلى الالتزام

__________________

(١) في صفحة : ٥٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) الفصول الغروية : ٨١ ، ٨٦.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٣٤٩.

(٥) [ في الأصل هنا زيادة : « هو الواجب » حذفناه للمناسبة ].

٧٦

بالترتب. نعم بناء على ما نقلناه (١) عن الحاشية من أن الواجب هو مطلق المقدمة تكون الحرمة عند عدم التوصل محتاجة إلى الترتب ، فتأمل.

قوله : وأما إذا كانت منفكة عن ذلك ووقعت مجردة عن بقية أجزاء العلة ، فحيث إنه لم يترتب عليها الغرض الداعي إلى إيجابها فلا محالة لا يقع في الخارج على صفة الوجوب ، نظير الأجزاء فان كل واحد منها إنما يقع على صفة الوجوب النفسي المنبسط عليه إذا وقع في الخارج منضما إلى بقية الأجزاء ، لا إذا وقع مجردا عن ذلك ... إلخ (٢).

يمكن أن يقال بالتفرقة بين المقدمة والأجزاء ، فان الأجزاء ثبتت فيها الارتباطية من ناحية تعلق الأمر بالمجموع ، فكان تقييد بعضها ببعض ناشئا عن تعلق الأمر بالمجموع ، فيكون التقييد فيها لحاظيا ، بخلاف ما نحن فيه لأن المفروض هو عدم كون التقييد بالايصال لحاظيا ، بل إن جل المدعى هو التقيد الذاتي الناشئ عن كون أجزاء العلة واقعا في طريق الوصول إلى المعلول ، وهذا بمجرده لا يوجب انحصار الواجب الغيري بخصوص ما كان واقعا في طريق الوصول إلى المعلول ، نعم إن ذلك ـ أعني كونه واقعا في طريق الوصول إلى الواجب النفسي ـ كان هو الغرض الداعي إلى إيجابه ، فلو تخلف لم يكن إلاّ من قبيل تخلف الداعي كما افيد بقوله : فحيث إنه لم يترتب عليها الغرض الداعي إلى إيجابها فلا محالة لا يقع في الخارج على صفة الوجوب ... الخ.

ومن الواضح أن حقيقة الداعي هو الوصول إلى ذي المقدمة ، فإذا لم يحصل ذلك الداعي لم يكن ذلك إلاّ من قبيل تخلف الداعي ، وذلك لا

__________________

(١) في صفحة : ٧١ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٧٧

يوجب كون ذلك الفعل المجرد عن ذي المقدمة غير واقع على صفة الوجوب.

بل يمكن أن يقال كما أفاده في الكفاية (١) : إن الداعي ليس إلاّ فتح باب التمكن من ذي المقدمة وهو لم يتخلف. نعم لو لم يكن في البين إلاّ أمر واحد تعلق بالعلة ومعلولها كان ذلك موجبا لكون ما وقع من أجزاء العلة مجردا عن الباقي غير متصف بالوجوب ، لكن ما نحن فيه لم يكن كذلك ، بل الأمر النفسي تعلق بذي المقدمة ، ولمّا كان فعله متوقفا على فعل المقدمة ترشح من الأمر به أمر غيري متعلق بتلك المقدمة ، وذلك لا يوجب انحصار ما تعلق به ذلك الأمر الثاني بما يكون الواجب واقعا عقيبه ، هذا.

مضافا إلى أن هذه الجهة ـ أعني كون المقدمة من أجزاء علة ذي المقدمة ـ لا تكون ملحوظة إلاّ على نحو الجهات التعليلية فلا تكون موجبة للانحصار.

نعم يمكن دعوى انحصار المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل كما نقل عن الشيخ قدس‌سره (٢) وذلك بنحو ما حررناه في مبحث التعبدي (٣) من أن طبع الأمر يقتضي الاتيان بمتعلقه بداعيه ، بحيث يكون الباعث على الاتيان به هو ذلك الأمر على وجه يكون الاتيان به لا بذلك الداعي بل بداع آخر خارجا عن تحت ذلك الأمر ، فلا يكون مأمورا به وإن أجزأ عن المأمور به بدليل خاص ، لكنه يكون من قبيل الاكتفاء بغير المأمور به ، نظير الاكتفاء بفعل شخص آخر أو بفعل الريح والمطر مثلا.

وحينئذ نقول فيما نحن فيه : لا بد في وقوع المقدمة تحت الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٦ ـ ١١٩.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣.

(٣) عند التعرض لكلام المحقّق الكلباسي قدس‌سره ، فراجع المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٦٦ وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس‌سره قد أبطل هذا القول فيما بعد. فراجع الصفحة : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ من المجلّد الأول.

٧٨

الغيري من الاتيان بها بداعي ذلك الأمر الغيري بحيث يكون الانبعاث إليه ببعثه ، ويكون ما يؤتى به لا بباعثية ذلك الأمر خارجا عن حيّز ذلك الأمر ويكون السلوك في الأرض المغصوبة محرّما لو فعله بغير داعي التوصل إلى إنقاذ الغريق وإن اتفق أن أقدم على إنقاذه بعد ذلك ، كما أنه يكون متصفا بالوجوب لو فعله بذلك الداعي لكنه بعد أن فعله بدا له فلم يقدم على إنقاذ الغريق ، وحينئذ يكون ما افيد نقلا عن الشيخ قدس‌سره من انحصار المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل متجها غاية الاتجاه ، فتأمل.

هذا ما حررناه سابقا ، لكنه لا يخلو عن تأمل ، فان أقصى ما في البين هو أنه لا بد للمكلف من فعل المقدمة بداعي أمرها ، فلا بد أن يقصد بالاتيان بها امتثال ذلك الأمر المتعلق [ بها ] ، أما أنه لا بد أن يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة فذلك أمر آخر يتوقف على أن متعلق الأمر الغيري هو ذات المقدمة أو أن متعلقه هو ذات المقدمة المقيدة بقصد التوصل أو المقيدة بنفس التوصل ، فعلى الأول لا يحتاج في الامتثال إلى أزيد من الاتيان بذات المقدمة بداعي أمرها المفروض أنه متعلق بذاتها ، وعلى الثاني يحتاج إلى قصد ما تعلق به الأمر الغيري وهو المقيدة بالقيد المذكور ، فلاحظ وتأمل.

قوله : فاعلم أن المقدمة المحرمة إذا لم تقع في الخارج على صفة الايصال فهي تقع على صفة الحرمة بناء على ما ذهب إليه صاحب الفصول (١) ـ إلى قوله ـ بلا احتياج إلى الالتزام بالترتب ... إلخ (٢).

لو كان التزاحم واقعا بين وجوب المقدمة وحرمتها لم يمكن اتصافها

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٧٩

بالحرمة المعلّقة على عصيان الأهم الذي هو نفس وجوبها ، من دون فرق بين قول صاحب الفصول وقول غيره ، نعم على قول صاحب الفصول لا يقع تزاحم بين وجوب المقدمة وحرمتها ، إذ لا يكون مركبهما واحدا وهكذا الحال لو كان التزاحم واقعا بين حرمتها ووجوب ذيها بناء على كون الايصال دخيلا في كونها مقدمة ، إذ لا تزاحم بين الحكمين حينئذ ، نعم لو كان دخيلا في اتصافها بالوجوب دون اتصافها بالمقدمية وقع التزاحم بينهما.

بل يمكن أن يقال : إن ما التزم به صاحب الفصول (١) من أن المقدمة إذا لم يؤت بالواجب بعدها تبقى على حالها من الاباحة أو الحرمة ، هو عين الالتزام بترتب حكمها الذي هو الاباحة أو الحرمة على عصيان الأمر بذيها ، فلاحظ.

قوله : فان كانت المقدمات محرمة بأجمعها فلا محالة يقع التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة ، فلا بد من رفع اليد عن أحدهما ... إلخ (٢).

فان كان ذلك التزاحم دائميا كان آمريا ، وإن كان اتفاقيا كان مأموريا ولكل حكمه.

قوله : وإن كان بعضها محرمة دون الاخرى ، فان كانت المقدمة توصلية فلا محالة يسقط الغرض باتيانها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لا ... إلخ (٣).

يمكن أن يقال : إن الغرض هو أنها على القول بالوجوب تكون من باب الاجتماع بخلاف القول بعدم الوجوب ، وكون المقدمة توصلية تسقط بالمحرم لا ينافي هذه الثمرة. نعم لا أثر عملي إلاّ على تقدير الاتيان بها

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨١.

(٢ و ٣) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٨٠