أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

على الحكيم إيجاب المقدمة قبل الوقت ، وفائدة ذلك أنه لو ورد إيجاب للمقدمة قبل الوقت قلنا بامكانه وحملناه على هذا التوجيه ، فيكون من قبيل الوجوب الغيري ، لكنهم سمّوه بالوجوب النفسي بالغير في قبال ما يكون واجبا نفسيا بالذات.

وعلى كل حال ، أن هذا النحو من وجوب المقدمة لا يتبع وجوب ذيها بالاطلاق والتقييد ، بل يكون وجوبها مطلقا فعليا مع أن وجوب ذيها مشروط بشرط لم يأت بعد ، فتأمل.

قوله : وإن كان نظره قدس‌سره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة كما تساعد عليه جملة من عبارات التقرير ... الخ (١).

وتقريب ذلك بأن يقال : إن المزاحم لوجوب إنقاذ الغريق هو حرمة السلوك في الأرض لانقاذه لا حرمة السلوك للتنزه مثلا ، فان حرمته لا تزاحم وجوب الانقاذ ، فلو قدّمنا جانب الايجاب كان المرتفع هو حرمة السلوك بقصد إنقاذ الغريق ، فما لم يكن بقصد إنقاذه لا يكون مرتفع الحرمة ، فإن نتيجة التزاحم والتقديم لأحد المتزاحمين هي تقييد الآخر بما يرتفع به المزاحمة ، فيكون ارتفاع الحرمة مقصورا على ذلك المقدار مما يوجب التزاحم ، وتكون أدلة الحرمة مقيدة بما لا يزاحم وجوب الانقاذ من دون فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها ، إذ على القول بوجوب المقدمة يكون الواجب من ذلك السلوك المحرم هو ما قصد به التوصل إلى الانقاذ.

وهذه الطريقة تتضح بلحاظ باب الترتب في مزاحمة وجوب الصلاة مع وجوب الازالة ، فإن محصّل وجوب الصلاة هو كون تركها حراما ، وهذه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٢ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١

الحرمة للترك وقعت مزاحمة لوجوب إزالة النجاسة ، وليس المزاحم لوجوب إزالة النجاسة هو حرمة مطلق ترك الصلاة ولو لم يتوصل به إلى إزالة النجاسة ، بل المزاحم هو حرمة الترك الذي يتوصل به إلى إزالة النجاسة ، فتكون حرمة الترك المتوصل به إلى إزالة النجاسة مرتفعة ، ويكون الحاصل هو أن ترك الصلاة الذي يتوصل به إلى إزالة النجاسة ليس بحرام وهو عبارة اخرى عن بقاء الترك الذي لا يتوصل به إلى إزالة النجاسة على حرمته ، فيكون ترك الصلاة عند عدم التوصل به إلى إزالة النجاسة حراما ويكون فعلها واجبا ، وهو محصل قولنا إن لم تأت بالازالة ولم يكن تركك للصلاة موصلا للازالة كان (١) ذلك الترك محرّما وكانت الصلاة واجبة ، وهو عين قول القائلين بالترتب إنه يجب الصلاة عند ترك الازالة ، أعني إن لم تزل النجاسة فصلّ.

ولكن هذه الطريقة تجري في صورة كون السلوك في حدّ نفسه مباحا ، بمعنى الاباحة الاقتضائية التي هي عبارة عن تساوي الطرفين ، فإن الذي ينافي وجوب الانقاذ هو إباحة السلوك الذي يتوصل به إلى الانقاذ فتكون إباحته ساقطة ، ويكون الواجب من السلوك هو ما يقصد به التوصل دون ما لم يقصد به التوصل ، بل ذلك يبقى على إباحته.

بل قد يقال : إن ذلك يجري حتى على الاباحة بمعنى عدم الاقتضاء فإنه بناء على الملازمة يكون الواجب هو خصوص ذلك الذي يقصد به التوصل.

نعم ، بناء على عدم وجوب المقدمة وإنكار الملازمة لا مانع من بقاء ذلك السلوك الخاص على ما هو عليه من تساوي الطرفين فضلا عن عدم

__________________

(١) [ في الأصل : لم يكن ، والصحيح ما أثبتناه ].

٤٢

الاقتضاء. ولعل ذلك هو مراد صاحب المعالم حيث يقول : إن وجوب المقدمة منحصر عند إرادة ذيها (١) ، فلاحظ وتأمل.

قوله : نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة ... الخ (٢).

لو تم هذا الترتب كما لعله سيأتي في بابه (٣) إن شاء الله تعالى لكان من الممكن جعله مدركا لاعتبار قصد التوصل في خصوص المقدمة المحرمة في مورد الانحصار ، لأن المفروض حينئذ هو حرمة السلوك في الأرض المغصوبة على تقدير عدم إنقاذ الغريق ، فلو كان بانيا على إنقاذه كان ذلك كاشفا عن عدم حصول شرط التحريم الذي هو عدم الانقاذ ، فلا تكون المقدمة محرمة بل تكون واجبة غيريا ، ولو لم يكن بانيا على ذلك لم يحصل عنده ما يكشف عن عدم حصول ذلك الشرط ، فلا يسوغ له الاقدام على سلوك تلك الأرض ، ويكون الحاصل هو انحصار وجوبها الفعلي في مورد يكون بانيا على الانقاذ ، وذلك عبارة اخرى عن كون المقدمة المذكورة مقيدة بقصد التوصل ، فتأمل.

وجه التأمل : هو أن قصد التوصل لا يكون معتبرا إلاّ من جهة الطريقية على وجه لو قصد بها التوصل ثم بعد الفراغ منها بدا له فلم ينقذ الغريق انكشف بذلك حرمة السلوك واقعا ، لكنه لا يوجب عقابا عليه وإنما يوجب العقاب على ترك إنقاذ الغريق ، أما السلوك فقد وقع في حال كونه قاطعا باباحته بل بوجوبه ، وهذا التوجيه لا ينطبق على ما أفاده الشيخ قدس‌سره (٤)

__________________

(١) معالم الدين : ٧١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) في صفحة : ٤٣٤ وما بعدها.

(٤) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٧.

٤٣

لأنّ ظاهر كلامه هو كون القيد المذكور أعني قصد التوصل معتبرا على نحو الموضوعية لا الطريقية.

قوله : كي يقال إن الايصال إنما هو في مرتبة الاتيان بالواجب فكيف يعقل أن يتصف المقدمة بالوجوب بعده (١).

وهذا المحذور لا يصلحه أخذ الشرط هو العنوان المنتزع من حصول الواجب بعدها ، لأن محصّله هو أنك إذا كنت ممن يأتي بالمقدمة ويأتي بالواجب بعدها وجبت عليك تلك المقدمة ، فكان وجوب المقدمة مشروطا بالعنوان المنتزع من أنه يأتي بالمقدمة بعد ذلك ، ومن الواضح أن المكلف إذا كان واجدا في حدّ نفسه لذلك العنوان أعني أنه يأتي بالمقدمة بعد هذا الآن ، لا يعقل أن يكون موردا وموضوعا لوجوبها ، والمحذور فيه عين المحذور فيما لو كان الشرط في وجوبها هو نفس الاتيان بها أو كان الشرط هو إرادة الاتيان بها ، فلاحظ (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ ألحق المصنف قدس‌سره هذه العبارات بما سبق ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش وهي كالتالي ] : أما ما عن الفصول [ الفصول الغروية : ٨١ ، ٨٦ ] من اعتبار قيد الايصال فملخص ما أورده عليه شيخنا قدس‌سره [ لاحظ أجود التقريرات ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٩٠ ]

أوّلا بالدور ، فان وجوبها آت من وجوب ذيها ، فلو كان ذوها قيدا فيها لكان واجبا مقدمة لها ، فيكون وجوبها متوقفا على وجوبه ووجوبه متوقفا على وجوبها.

ولكن يمكن الجواب عنه : بأن وجوبها متوقف على وجوبه النفسي ، وهو ـ أعني وجوبه النفسي ـ غير متوقف على وجوبها. نعم إن وجوبه الغيري باعتبار كونه قيدا فيها يكون متوقفا على وجوبها.

وثانيا : أن لازم ذلك هو كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها ، وهي مقدمة له لتوقفه عليها ، فتكون المقدمة مقدمة لنفسها ، لأنّها مقدمة لذي المقدمة

٤٤

__________________

وذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، وبقياس المساواة أن مقدمة مقدمة الشيء مقدمة لذلك الشيء ، فتكون المقدمة مقدمة لنفسها.

ولا يخفى أن محصل كونها مقدمة لذيها هو توقف وجوده الخارجي على ذاتها ، ومحصل كون ذيها مقدمة لها ليس هو كون ذيها مقدمة لذاتها ، بل هو كون ذيها مقدمة لما يتصف بالوجوب منها وهو المقدمة الموصلة ، فذاتها مقدمة لذاته وذاته مقدمة لاتصافها بصفة الوجوب لا لذاتها ، فكانت النتيجة أن ذاتها مقدمة لاتصافها بصفة الوجوب لا أن ذاتها مقدمة لذاتها. وهذا المقدار أعني كون ذاتها مقدمة لاتصافها بالوجوب لا ضير فيه ، بل هو جار في كل واجب مقيد بقيد.

نعم إن العمدة هو كذب القضية الثانية أعني قولنا كون ذيها مقدمة لما يتصف بالوجوب منها ، بمعنى أنّه يعتبر في المقدمة الواجبة الايصال ، لما حقق من أنه لا يعتبر في الواجب إلاّ ما له الدخل في وجوبه ، ومن الواضح أن الايصال لا دخل له في الجهة الموجبة لايجاب المقدمة وهي توقف الواجب النفسي عليها.

إلاّ أن يقال : إن الشارع لا غرض له في نفس السير إلى مسجد الكوفة ، ولو كان الأمر منّا لعرفنا أنّا لا حب لنا ولا عشق يتعلق بالسير ، وما هو إلاّ من جهة كونه موصلا إلى المحبوب بالذات الذي هو الكون في مسجد الكوفة ، فلو كان في البين وجوب للمقدمة فلا يكون مورده إلاّ المقدمة الموصلة ، أما السير الذي لا يوصل إلى الكون في مسجد الكوفة بمعنى أنه لا يتعقبه الكون في المسجد فليس هو بمراد لنا ولا بمحبوب. نعم يمكن القول بانكار الوجوب الشرعي للمقدمة كما مر وجهه فيما تقدم [ في الصفحة : ٨ ـ ٩ وكذا ٣٧ وما بعدها ]. وذلك كله لا يخلو عن تأمل ، لإمكان كون الغرض من إيجاب المقدمة هو مجرد فتح باب إمكان ذيها ، فلا يكون في البين ما يوجب تقيدها بالايصال ، فلاحظ وتأمّل.

وثالثا : لزوم التسلسل ، فان الواجب من المقدمة لو كان هو الذات المقيدة بالايصال كان الواجب مركبا ، وكانت ذات المقدمة مقدمة لذلك المركب ، وحينئذ لا بد من اعتبار الايصال فيها إلى ذلك المركب ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ويمكن الجواب عنه : بأن قيد الايصال إنما يعتبر في المقدمة المباينة لذيها ، وكان وجود ذيها يتوقف على وجودها قبله ، دون ما يكون من قبيل الجزء في المركب من نفس الفعل وقيده الذي هو الايصال

٤٥

قوله : فيرد عليه أن جواز المنع عن بعض المقدمات لا يوجب اختصاص ملاك الوجوب الغيري في نفسه بغيرها من المقدمات (١).

هذا تغيير عمّا في الطبعة الاولى (٢) ولا يخلو من خلل ، لأن الغرض

__________________

هذا كله لو كان مراد الفصول هو كون الايصال قيدا في الواجب لا قيدا في الوجوب ، وإلاّ كان وجوبها متوقفا على وجود ذيها وبعد وجوده لا يعقل وجوبها.

ويمكن الجواب عنه : بأن الشرط في وجوبها ليس هو وجوده الخارجي ، بل إن الشرط هو العنوان المنتزع وهو تعقب الواجب النفسي بها ، ومن تعقبه بها نستكشف أنها كانت واجبة. بل نقول إن المكلف إذا حصل له العلم بأنه يأتي بذي المقدمة لكونه بانيا على ذلك ، كان عالما من أول الأمر بحصول شرطها الذي هو العنوان المنتزع ، لكن في كون وجوبها مشروطا بالعنوان المنتزع من وجود ذيها مع كون وجوب ذيها غير مشروط بذلك العنوان ، تفكيك في الملازمة بين وجوبها ووجوب ذيها على ما تقدمت الاشارة إليه [ الظاهر أن مقصوده قدس‌سره ما تقدم في أجود التقريرات ١ : ٣٣٨ ] في تفسير كلام صاحب المعالم من كون إرادة ذيها شرطا في وجوبها لا في وجوبه ، فلاحظ.

نعم ، إن أخذ العنوان من تعقب الواجب يوقعنا في إشكال آخر ، وهو كون وجوب المقدمة مشروطا بوجودها فيما سيأتي ، لأن محصل كون وجوبها مشروطا بالعنوان المنتزع من تعقبها بذيها هو كون تحققها فيما يأتي المتعقب بذيها شرطا في وجوبها ، فيؤول ذلك إلى اشتراط وجوبها بوجودها فيما يأتي ، وهو محال كما شرحناه فيما تقدم [ في صفحة : ٤٤ فراجع ].

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦.

(٢) [ ويقصد بها الطبعة غير المحشاة وقد ذكر فيها : فيرد عليه أن الأمر بالمقدمة الموصلة فقط إن كان أمرا نفسيا غير مترشح من أمر آخر فمرجعه إلى اشتراط الوجوب النفسي بأمر متأخر وهو الإيصال ، وقد سبق الكلام في إمكانه وامتناعه مفصلا. وإن كان أمرا غيريا مترشحا من الأمر النفسي فيسأل عن أن الملاك في الوجوب الغيري ما هو ، فان التزم بكونه مطلق التوقف وامتناع ذي المقدمة بدون ما فرض كونه مقدمة ، فلا بدّ له من الالتزام بوجوب جميع المقدمات من دون أخذ قيد آخر فيه ، وإن التزم بعدم كفاية ذلك في الوجوب الغيري فلا بدّ له إما من انكار وجوب المقدمة رأسا أو الالتزام بوجوب خصوص المقدمة السببية التي يترتب عليها الواجب قهرا ، وكلاهما مما لا يلتزم به قدس‌سره فالتفكيك وتخصيص الوجوب الغيري بخصوص الموصلة منها غير معقول ].

٤٦

هو منع جواز المنع ، لا أنه جائز لكنه لا يوجب الاختصاص ، فلاحظ.

قوله : وأما دعوى ... الخ (١).

كانت هذه الجملة مقدمة في الطبعة الاولى (٢) ، والمراد هو أن وجوب المقدمة لو كان نفسيا وكان مشروطا بالاتيان بذيها رجع ذلك إلى الشرط المتأخر ، ولا يصلحه العنوان المنتزع كما عرفت ، لكنّه في هذه الطبعة الثانية أخّر هذه الجملة فأوجب التأخير الغلق في العبارة.

ولا يخفى أن عدم معقولية اشتراط وجوب المقدمة بالاتيان بذيها لا يفرق فيه بين كون وجوبها نفسيا وكونه غيريا.

أما الأول فللشرط المتأخر ، وأمّا الثاني فلذلك ولما تقدم (٣) من أنه مع الاتيان بذيها لا يعقل تعلق الأمر الغيري بها ، فلاحظ.

ولعل ما حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام أوضح وأبعد من التعقيد ، وهذا نصه :

وقد استدل صاحب الفصول (٤) على ما صار إليه بجواز أمر المولى بالحج مع الأمر بقطع المسافة التي يترتب عليها الحج ، بأن يقول اريد منك الحج واريد قطع المسافة التي يترتب عليها الحج ولا اريد قطع المسافة التي لا يترتب عليها الواجب المذكور.

وفيه : أن هذا الفرض خارج عن محل الكلام من المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري المترشح عن إيجاب ذيها ، فان قطع المسافة في المثال المذكور يكون واجبا بوجوب نفسي مستقل ، كما أن الحج واجب بوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٧.

(٢) [ كما يتضح ذلك من ملاحظة الهامش (٢) من الصفحة السابقة ].

(٣) في الحاشية السابقة في صفحة : ٤٤ وفي الهامش في صفحة : ٤٦.

(٤) الفصول الغروية : ٨٦.

٤٧

نفسي ، لأن كلا منهما حسب الفرض مراد بارادة نفسية مستقلة غير أن التوصل إلى الحج وترتبه على قطع المسافة يكون قيدا فيها ، وليس الكلام في الارادة النفسية ، وإنما الكلام في الارادة الغيرية المتولدة عن الارادة النفسية المتعلقة بذي المقدمة ، وقد تقدم أنه لا يمكن أن تكون تلك الارادة بنفسها مقيدة بالتوصل إلى ذي المقدمة ، كما أنه لا يمكن أن يكون متعلقها مقيدا بذلك. أمّا الأول فلما تقدم من استحالة كون ذي المقدمة شرطا في وجوبها المترشح عن وجوبه ، وأما الثاني فلما تقدم من أن اللازم عليه أن يكون وجود ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها ، مضافا إلى أن الملاك في وجوب المقدمة ليس هو التلازم بين وجودها ووجود ذيها بحيث يكون وجوده عند وجودها وإلاّ لانحصرت بالعلة التامة ، بل الملاك إنما هو التلازم بين عدمها وعدم ذيها ، بمعنى أن ذا المقدمة يكون منعدما عند انعدام المقدمة ، وهذا الملاك لا يفرق فيه بين المقدمة الموصلة وبين غيرها ، حيث إن كلا منهما يكون انعدامه موجبا لانعدام ذي المقدمة ، انتهى.

فانت تراه إنما أدخل الوجوب النفسي بناء على ما فرضه صاحب الفصول من تعلق الارادة بقطع المسافة ، فله أن يقيد هذا المأمور به المراد بارادة مستقلة بترتب الحج عليها ، كما أنك تراه لم يجعل الدور في ناحية كون وجوب ذي المقدمة متوقفا على وجوب المقدمة ووجوب المقدمة متوقفا على وجوب ذي المقدمة ، ليندفع بأن غايته اجتماع المثلين في وجوب ذي المقدمة ( الوجوب النفسي والوجوب الغيري ) ، وأن الذي يتوقف على وجوب المقدمة هو وجوبه الغيري ، وأن الذي يتوقف عليه وجوب المقدمة هو وجوبه النفسي ، بل جعل الدور في ناحية نفس المقدمة

٤٨

لصيرورة الواجب النفسي الذي هو ذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، والمقدمة مقدمة للواجب النفسي. نعم يمكن الجواب عنه بأن ذات المقدمة وإن كانت مقدمة لذي المقدمة ، إلاّ أن ذا المقدمة ليس مقدمة لذات المقدمة وإنما هو مقدمة لوقوعها على صفة الوجوب ، فلاحظ وتأمل.

قوله : وهذا مستلزم للدور ، فان وجوب المقدمة إنما نشأ من وجوب ذي المقدمة ، فلو ترشح وجوب ذي المقدمة من وجوبها لزم الدور (١).

فيه تأمل ، فان وجوب المقدمة وإن كان متوقفا على وجوب ذيها نفسيا إلاّ أن وجوبه النفسي لم يكن متوقفا على وجوب مقدمته ، وإنما الذي لزم هو توقف وجوبه الغيري على وجوبها ، ومن الواضح أن وجوب المقدمة لا يتوقف على وجوبه الغيري وإنما يتوقف على وجوبه النفسي.

وبالجملة : يكون لذي المقدمة وجوب نفسي وهو الذي يتوقف عليه وجوب المقدمة ، ووجوب غيري وهو الذي يتوقف على وجوب المقدمة فلا دور من هذه الجهة.

نعم ، إن نفس كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة مستلزم للدور ، لأن وجوده متوقف على وجودها ، وحيث كان هو مقدمة لها يكون وجودها متوقفا على وجوده ، فتكون النتيجة أن وجوده متوقف على وجوده.

وإن شئت قلت : لمّا كان مقدمة لمقدمته ومقدمة المقدمة مقدمة يكون هو مقدمة لنفسه ، وذلك باطل من جهتين : الاولى أن لازمه هو كون وجوبه الغيري ناشئا عن وجوبه النفسي فيكون واجبا غيريا مقدمة لنفسه. والثانية : ما عرفت من كونه راجعا إلى الدور لتوقفه على مقدمته وتوقف مقدمته عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٩

لكونه مقدمة لها ، فيكون هو متوقفا على نفسه ، وقد عرفت (١) أن هذا الاشكال إنما يتجه لو قلنا بالتقييد بالايصال ، أما لو قلنا بأن المقدمة هي الذات التي توجد توأما مع ذيها فلا ورود له كما عرفت فيما تقدم ، ومع قطع النظر عن ذلك نقول :

أما الجهة الأولى من الاشكال فالظاهر أنه لا مانع من كون الوجوب الغيري المتعلق بالفعل ناشئا عن الوجوب النفسي المتعلق بنفس ذلك الفعل سوى الجهة الثانية من الاشكال ، وهي استحالة كون الشيء مقدمة لنفسه لكونه موجبا للدور. ولكن يمكن الجواب عن الدور بأن الكون في مسجد الكوفة مثلا وإن توقف على نفس قطع المسافة ، إلاّ أن نفس قطع المسافة لا يكون متوقفا على الكون المذكور ، بل إن الذي يتوقف على الكون في مسجد الكوفة إنما [ هو ](٢) صحة تلك المقدمة أعني قطع المسافة ، بمعنى أن وقوع قطع المسافة على صفة الوجوب الغيري ومسقطا لأمره الغيري يكون متوقفا على تحقق الكون في مسجد الكوفة ، فيكون الدور المذكور مندفعا.

ولعل اندفاع الدور فيما نحن فيه أوضح منه في الأجزاء الارتباطية حيث إن تكبيرة الاحرام مثلا تكون صحتها متوقفة على صحة الركوع وصحة الركوع متوقفة على صحة تكبيرة الاحرام ، لأن كل واحد من تلك الأجزاء يكون شرطا في صحة الجزء الآخر ، فتكون النتيجة أن صحة تكبيرة الاحرام متوقفة على صحة نفسها.

ولا بدّ من الجواب حينئذ بأن صحة تكبيرة الاحرام من ناحية الركوع

__________________

(١) سيأتي في صفحة : ٥٩.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

٥٠

وإن كانت متوقفة على صحة الركوع ، إلا أن صحة الركوع في حد نفسه لا تتوقف على صحة تكبيرة الاحرام من ناحية الركوع ، وإنما تتوقف على صحة تكبيرة الاحرام من ناحية نفسها.

وبتقرير آخر نقول : إن هذا الاشكال متأت بعينه في الأجزاء التدريجية الارتباطية كأجزاء الصلاة ، فان كل جزء يكون شرطا في صحة الآخر ، فيكون الأول مشروطا بالآخر كما أن الآخر مشروط بالأول ، وحيث إن شرط الشرط شرط يكون كل واحد شرطا لنفسه ، وهو عبارة اخرى عن كونه مقدمة لنفسه ، لأن الشرط من المقدمات ، وكما يجاب عن الاشكال هناك بأن الشرط ليس هو وجود الجزء المتأخر بل هو العنوان المنتزع فكذلك نجيب هنا بأن الايصال المعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ليس هو عبارة عن نفس وجود ذيها ، بل هو العنوان المنتزع من ذلك أعني تعقبها بذيها ، ويكون هذا العنوان هو الشرط فيها فيكون هو المقدمة لها ، لا أن نفس وجود ذيها يكون هو الشرط ليكون بنفسه هو المقدمة لها.

وحينئذ نقول : إن وجود ذي المقدمة يتوقف عليها ، وهي إنّما تتوقف على حصول العنوان المذكور ، وهذا العنوان وإن كان منتزعا عن وجود ذيها إلاّ أنه لا يكون تحقق هذا العنوان متوقفا على وجوده كما مرّ في التخلص عن مشكلة الشرط المتأخر بالالتجاء إلى جعل الشرط هو العنوان المنتزع فلم يلزم من ذلك كون ذي المقدمة مقدمة لمقدمته ليكون مقدمة لنفسه ويكون متوقفا على نفسه ، فتأمل وراجع (١) ما حررناه في كيفية الارتباطية وفي كون الشرط هو العنوان المنتزع. وبالجملة : أن ما يصحح به ارتباطية

__________________

(١) الصفحة : ١٢ وما بعدها.

٥١

الأجزاء يكون هو المصحح لارتباطية المقدمة بوجود ذيها ، فراجع وتأمل.

قوله : مضافا إلى أن ذات المقدمة تكون مقدمة للمقدمة أيضا بداهة أن ما هو الواجب عنده ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : وأما ما في الفصول (٢) من اعتبار نفس التوصل ، فان كان المراد به أن ذلك يكون من قبيل شرط الوجوب لها فقد تقدم أنه لا يعقل أن يكون نفس الاتيان بذي المقدمة شرطا في وجوبها وصاحب الفصول لا يقول بذلك بل يصرح بأن التوصل شرط في وجودها لا في وجوبها ، وحينئذ يرد عليه أن اللازم عليه حينئذ أن يكون نفس ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها. مع أن اللازم عليه أن تكون المقدمة هو المجموع المركب من القيد والمقيد أعني ذات المقدمة المقيدة بالايصال ، فتكون الذات المذكورة مقدمة للمقدمة ، فإن كانت بنفسها مقدمة لزم عليه أن لا تكون المقدمة مقيدة بالايصال وهو كرّ على ما فرّ منه ، وإن كانت مقيدة بالايصال نجرّ الكلام حينئذ إلى أجزاء ذلك المركب وهلم جرا ، فيلزم التسلسل أو الوقوف على كون المقدمة هي نفس الذات مجردة من قيد الايصال ، وإذا صح ذلك قلنا به من أول الأمر.

والحاصل : أن هذا القيد على تقدير اعتباره ليس هو كسائر القيود المنوّعة بحيث تكون المقدمة على نوعين : أحدهما واجد في نفسه لصفة الايصال والآخر غير واجد له ، نظير الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة ، كي يقال إن الواجب بالوجوب الغيري هو القسم الأول دون القسم الثاني ، ويكون لازمه انحصار المقدمة الواجبة بالعلة التامة ، بل المقدمة في الخارج ليس إلاّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) الفصول الغروية : ٨١ ، ٨٦.

٥٢

نفس تلك الذات التي يتوقف عليها الواجب النفسي ، غاية الأمر إن لحقها الواجب النفسي كانت متصفة بالايصال وإلا فلا ، فيكون اتصافها بالايصال إنما جاء من قبل الاتيان بعدها بذيها الذي هو فعل اختياري للمكلف فعلى تقدير كون المقدمة الواجبة مقيدة بالايصال يكون الاتيان بذيها بعدها واجبا غيريا لها لكونه محققا للقيد المعتبر فيها أعني الايصال ، كما تكون ذات المقدمة واجبة بالوجوب الغيري لما قيّد بالايصال منها ، حيث إن كل واحد من ذات المقيد وقيده يكون مقدمة للمقيد ، وحينئذ يرد عليه مع عدم معقولية كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة أن كل واحد من ذات المقدمة وذات ذيها بعد أن صار مقدمة للمقدمة وكان واجبا غيريا لها إن لم يكن مقيدا بالايصال إليها فهو كرّ على ما فرّ منه ، وإن كان مقيدا بذلك نقلنا الكلام إلى أجزاء ذلك المقيد ، فان وقفت المسألة في سلسلة ذلك على مقدمة هي بنفسها وذاتها واجبة بلا تقييد لها بالايصال انقطع التسلسل ولكنه كرّ على ما فرّ منه ، وإلاّ ذهب التسلسل إلى ما لا نهاية له وهو واضح البطلان ، انتهى.

قلت : يمكن الجواب عن ذلك أوّلا : بأن هذا التسلسل ليس من التسلسل المصطلح الذي هو واضح الفساد ، أعني عدم التناهي في سلسلة العلل ، بل إنّما هو من مجرّد عدم التناهي في العناوين مع فرض تحققها بوجود واحد ، وهذا مما لم يقم البرهان على محاليته ، فانه أسهل مما التزموا به من تركب الجسم الطبيعي من أجزاء غير متناهية بناء على كون كل جزء منها قابلا للقسمة ، ومحالية تركبه من أجزاء لا تتجزأ كما حقق في محله (١) من استحالة الجزء الذي لا يتجزأ ، فتأمل.

__________________

(١) كشف المراد : ١٤٣ وما بعدها.

٥٣

وثانيا : أنّ أخذ الايصال قيدا في المقدمة وإن كان ملازما لكون الواجب الغيري هو الذات المقيدة بالايصال ، إلا أن نفس الذات لا تكون مقدمة لهذا المقيد ، كما أن الواجب النفسي لو كان مشروطا بشرط كالصلاة المشروطة بالطهارة لا تكون ذات الصلاة فيه مقدمة لهذا الواجب بل هي عينه ، نعم يكون القيد الزائد على الذات المذكورة مقدمة لهذا الواجب فنفس الذات وإن كانت جزءا تحليليا عقليا من ذلك الواجب ، إلاّ أنها لا يعقل أن تكون بنفسها مقدمة لذلك الفعل الواجب أعني الفعل المقيد ، سيما إذا كان من قبيل كون التقيد داخلا والقيد خارجا ، بل تقدم الاشكال في كون الجزء الخارجي مقدمة للمجموع ، فكيف يمكن أن يدعى أن نفس الذات المقيدة التي هي في الحقيقة تكون مقدمة لذلك الواجب بمجرد كونه مركبا عقليا تحليليا (١) فتأمل.

ولو سلّمنا كون ذات المقيد مقدمة للمجموع المركب من الذات والقيد ، أمكن القول بأن صاحب الفصول إنما يعتبر الايصال في المقدمة المباينة مثل قطع المسافة والكون في المسجد ، دون ما لو كانت المقدمة متحدة بالذات خارجا مع ذي المقدمة.

ولعل المنشأ في دعوى كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من ذات المقدمة وقيدها الذي هو التوصل هو الارتباطية الموجبة لكون كل جزء شرطا في الآخر ، وكون الشرط مشروطا بوجود المشروط ، كما أن ذات المشروط مشروطة بوجود الشرط.

لكنه قدس‌سره فيما تقدم (٢) في عبادية الطهارات الثلاث فيما لو توضأ بداعي

__________________

(١) [ لعل في العبارة سقطا فلاحظها ].

(٢) في الصفحة : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

٥٤

الصلاة ثم بدا له استشكل في صحة ذلك الوضوء الذي هو شرط في الصلاة ، نظرا إلى الارتباطية الموجبة لبطلان الشرط عند عدم إلحاق المشروط به ، كما يحكم ببطلان الجزء الأول عند عدم إلحاق الجزء الآخر به.

ثم دفع الاشكال حسبما حررته عنه قدس‌سره بأنه لا دليل على هذه الارتباطية بالشروط ، ومحصّله أن الشرط للمأمور به لا يكون مشروطا بوجود ذات المأمور به. وحينئذ نقول فيما نحن فيه : لو قلنا إن المقدمة الواجبة هي ذات الفعل بشرط ذات ذيها ، بحيث تكون المقدمة المأمور بها غيريا مشروطة بذي المقدمة ، لا يلزم منه أن تكون ذات المقدمة شرطا في المجموع المركب من ذاتها والقيد المذكور ـ أعني نفس ذي المقدمة ـ كي تكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب المذكور ، فراجع ما حررناه هناك وتأمل.

وثالثا وهو العمدة : أن هذا الاشكال مبني على أخذ الايصال قيدا وشرطا في المقدمة ، وقد عرفت فيما تقدم (١) وسيأتي (٢) إن شاء الله توضيحه فيما أفاده صاحب الحاشية قدس‌سره أنه يمكن أن يكون الواجب بالوجوب الغيري هو ذات المقدمة التي هي توأم مع ذيها لا المقيدة بذيها ، فلا يلزم منه كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من الذات والقيد ، ولا كون ذيها مقدمة لها ، فيندفع الاشكال بكلا جهتيه ، فتأمل.

لكن اندفاع كون ذيها مقدمة لها في غاية الاشكال ، لتوقف ذات المقدمة التي هي توأم مع الايصال على وجود ذي المقدمة ، وإلاّ لم تكن

__________________

(١) سيأتي في صفحة : ٥٩.

(٢) في أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥١ ، وينبغي مراجعة حواشي المصنف قدس‌سره في الصفحة : ٧١ ـ ٧٩ من هذا المجلّد.

٥٥

توأما مع الايصال.

قوله في الكفاية : فإنّه لا يعتبر في الواجب إلاّ ما له دخل في غرضه الباعث على إيجابه والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة الخ (١).

ملخص ما يريده قدس‌سره هو أن الفعل لا يجب إلاّ إذا كانت له فائدة مترتبة عليه تكون تلك الفائدة هي الغرض الباعث على إيجابه ، سواء كانت تلك الفائدة هي المصلحة المترتبة على ذلك الفعل أو كانت شيئا آخر.

ثمّ إن كل ما يتوقف عليه حصول تلك الفائدة من ذلك الفعل لا بد من أخذه قيدا في ذلك الفعل فنقول : إن مقدمة الواجب فعل من الأفعال والفائدة المترتبة على ذلك الفعل هي عبارة عن كون ذلك الفعل فاتحا باب القدرة على ذي المقدمة من ناحيته ، بمعنى أن الواجب قبل فعل هذه المقدمة المفروض توقفه عليها غير مقدور للمكلف ، لكن مع فعل تلك المقدمة يكون ذلك الواجب مقدورا له من ناحية تلك المقدمة ، ومن الواضح أن نفس ترتب ذلك الواجب على فعل تلك المقدمة لا يكون له مدخلية في تلك الفائدة الباعثة على إيجابها ، فلا وجه لأخذه قيدا فيها.

نعم ، لو قلنا إن الغرض والفائدة المترتبة على المقدمة ليس هو مجرد فتح باب القدرة على الواجب ، بل إن الغرض والفائدة المترتبة عليها هو ترتب ذلك الواجب عليها وحصوله بعدها ، ونعبّر عن ذلك بكونها موصلة إلى الواجب ، لكانت المقدمة الواجبة منحصرة بالتي يترتب عليها الواجب دون غيرها من المقدمات ، لكن ذلك عبارة اخرى عن انحصار الوجوب المقدمي بما يكون سببا توليديا للواجب النفسي ، فإنّها هي التي يكون

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٥ ـ ١١٦ ( مع اختلاف يسير عمّا في المصدر ).

٥٦

حصول الواجب النفسي بعدها من فوائدها المترتبة عليها ، دون غيرها من المقدمات التي يكون فعل الواجب بعدها بارادة المكلف واختياره ، فلو كان القول بالمقدمة الموصلة مبنيا على أنّ الغرض والفائدة المترتبة على المقدمة هو ترتب الواجب النفسي عليها لا مجرد فتح باب القدرة عليه ، لكان ذلك عبارة اخرى عن انحصار الوجوب المقدمي بما يكون سببا توليديا أو ما يكون علة تامة للواجب النفسي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنه لصاحب الفصول أن يقول إن المقدمة وإن لم تكن فيها فائدة مترتبة عليها إلاّ مجرد فتح باب القدرة من ناحيتها ، إلاّ أنّها لمّا كان النظر إليها في عالم الايجاب وتشريع الطلب نظرا آليا ، وكان المقصود بالذات والمنظور إليه بالاستقلال هو ذاها ، كان دخولها في هذه السلسلة أعني سلسلة الطلب المذكور منوطا بوقوع الواجب النفسي بعدها ، فما لم يقع الواجب النفسي بعدها تكون أجنبية عن سلسلة ذلك الايجاب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله تعالى (١).

قوله : وهي لا تكاد تتصف بالوجوب لعدم كونها بالاختيار وإلاّ لتسلسل ... الخ (٢).

لا يخفى أنا لو قلنا باتصافها بالوجوب لا يندفع الاشكال على صاحب الفصول ، أعني لزوم انحصار الوجوب المقدمي بما يكون من قبيل العلة التامة أو السبب التوليدي ، فان فعل الواجب النفسي وإن كان معلولا للارادة المتعلقة به ، وكانت تلك الارادة واجبة من باب المقدمة له لكونها

__________________

(١) عند التعرض لكلام صاحب الحاشية قدس‌سره في أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥١. وقد علّق المصنّف قدس‌سره على ذلك فراجع الصفحة : ٧١ ـ ٧٩ من هذا الكتاب ، خصوصا ما أورده في الصفحة : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) كفاية الاصول : ١١٦ ـ ١١٧.

٥٧

علة تامة بالقياس إليه ، إلاّ أن الوجوب المقدمي يكون أيضا منحصرا بها دون باقي المقدمات الخارجة عن الارادة. اللهم إلاّ أن يقال : إن العلة التامة هو مجموع تلك المقدمات والارادة ، فيكون المجموع المذكور واجبا بالوجوب الغيري ، فتأمل.

قوله : ولأنّه لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها من دون انتظار لترتب الواجب عليها ... الخ (١).

كأن سقوط وجوبها عند الفراغ منها وقبل الاتيان بذيها مسلّم ، وبعد الفراغ عن كونه مسلّما يستدل قدس‌سره بذلك السقوط على أنه من قبيل الموافقة للأمر ، فلا يكون الواجب المذكور مقيدا بالايصال وإلاّ لما حصل ذلك السقوط.

ولكن لا يخفى أن السقوط بذلك هو أول الكلام ، وأن مطلب صاحب الفصول (٢) ليس هو إلاّ عبارة عن دعوى عدم سقوط الأمر المتعلق بالمقدمة بمجرّد الاتيان بها ، بل إن سقوطه يتوقف على اتصافها بالايصال وهو لا يكون إلاّ بعد الاتيان بذيها.

نعم قد يقال : إنه لا بد من الالتزام بالسقوط وإلاّ لزم التكرار. لكن هذا الاشكال وارد في كل ما هو مقيد بقيد متأخر ، وقد تقدّم (٣) الجواب عنه في كيفية الامتثال بالنسبة إلى الواجبات الارتباطية ، وكأنه لأجل هذه الجهات عدل شيخنا قدس‌سره عن الايراد على صاحب الفصول بهذه الايرادات ، وأورد (٤)

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٧.

(٢) الفصول الغروية : ٨١ ، ٨٦.

(٣) في صفحة : ١٥ وما بعدها.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٣٤٤.

٥٨

على صاحب الفصول إيرادات أخر ، حاصلها أنه لو كان مراد صاحب الفصول من حصر الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة هو أن بعض المقدمات يترتب عليها الواجب بذاتها ونفسها وبعضها ليست كذلك ، والاولى هي العلة التامة والاخرى هي المقدمات الأخر ، والوجوب منحصر بالقسم الأول ، كان مرجعه إلى حصر الواجب من المقدمات بما يكون من قبيل العلة التامة ، لكنه لا يقول بذلك ، فلا بد أن يكون مراده أن المقدمة الواجبة هي المقيدة بما يختار المكلف بعدها فعل ذيها ، فيكون ذلك عبارة اخرى عن أنّ الواجب المقدمي مقيد بقيد اختياري وهو الاتيان بذيه بعده ، فيكون نفس ذي المقدمة قيدا فيها ، فيكون مقدمة لمقدمته ، وتكون ذات الفعل الذي هو قطع المسافة مثلا مقدمة للمقدمة التي هي المجموع المركب من قطع المسافة المقيدة بوقوع ذي المقدمة بعدها ، ولازم الأول الدور ولازم الثاني التسلسل.

لكن توجه هذا الايراد مبني على أن ذات الواجب النفسي يكون قيدا في المقدمة. ويمكن المنع من ذلك بأن نقول إن الواجب الغيري هو ذات المقدمة التي هي توأم مع وجود الواجب لا الذات المقيدة بوجوده كما مرّت (١) الاشارة إليه ، ويأتي (٢) شرحه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما أفاده صاحب الحاشية ، فلا يلزم منه أن تكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من المقدمة وقيدها ، ولا يلزم منه أيضا أن يكون الواجب النفسي مقدمة لمقدمته لعدم أخذه حينئذ قيدا فيها. على أنّ هذا الأخير ممنوع من ناحية اخرى ، وهي أنا لو سلّمنا كون الواجب الغيري هو الذات المقيدة فلا

__________________

(١) لعل المقصود ما تقدم في صفحة : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) راجع أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥١ ، وراجع صفحة : ٧٦ ـ ٧٧ من هذا المجلّد.

٥٩

نسلّم أن القيد هو نفس وجود الواجب النفسي ، بل لنا أن نقول إن القيد هو العنوان المنتزع من وجوده ، كما هو الشأن في الأجزاء الارتباطية كما نحرره إن شاء الله تعالى فيما يأتي (١) ، فلا يلزم منه كون الواجب النفسي مقدمة لمقدمته.

لكن يبقى الاشكال الأول وهو كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب ، وينحصر دفعه بما سيأتي (٢) إن شاء الله تعالى من أن المقيد (٣) المذكور وإن كان مقدمة للمجموع المركب ، إلاّ أن ذات المقيد لا يكون مقدمة لذلك المجموع ، لأنّ ذات المشروط لا يكون مقدمة للمشروط وإن كان الشرط من مقدمات المشروط.

قول صاحب الكفاية قدس‌سره : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإن الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد اخرى ، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عمّا يقارنه أحيانا ... إلخ (٤).

يمكن أن يقال : إنه بعد البناء على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده المأخوذ من كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، يكون ترك الصلاة واجبا لكونه مقدمة للازالة ، ونحن وإن قلنا إن الواجب هو الترك الخاص أعني الترك الموصل إلى فعل الازالة كما يدعيه صاحب الفصول (٥) إلاّ أن هذا الترك الخاص قد وجب مقدمة لفعل الازالة.

__________________

(١) في صفحة : ٤٩ ـ ٥٢.

(٢) في صفحة : ٥٣ ( قوله : وثانيا ... ).

(٣) [ هكذا في الأصل ، ولعل المراد : المقيّد ـ بالكسر ـ أي القيد ].

(٤) كفاية الاصول : ١٢١.

(٥) الفصول الغروية : ٨١ ، ٨٦.

٦٠