أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

كان الضدان لا ثالث لهما.

وأمّا ما في الحاشية من أنّ كون ما نحن فيه من الضدين اللذين لا ثالث لهما غير مطابق للواقع ، بدعوى كون المأمور به في الصلاة إنّما هو القراءة الجهرية أو الإخفاتية ، واستيضاح كونهما من الضدين اللذين لهما ثالث ... الخ (١) ، فهو غير مطابق للواقع ، لأنّ المأمور به إنّما هو نفس القراءة ، وكونها جهرية أو إخفاتية واجب آخر إمّا من قبيل الواجب في واجب ، وإمّا من قبيل الشرط للقراءة ، أو أنّه من قبيل شرط الصلاة في حال القراءة ، على تفصيل مذكور في محلّه (٢). وعلى أي حال لا يكون هذا الواجب أعني الجهر والإخفات إلاّ من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما.

نعم ، لو قلنا إنّ الواجب هو خصوص القراءة الجهرية أو خصوص القراءة الإخفاتية لكان من الضدين اللذين لهما ثالث ، وهو ترك القراءة بالمرة ، إلاّ أنّ ذلك خلاف الواقع ، لأنّ الوجوب الوارد على خصوص القراءة الجهرية مثلا ينحل إلى وجوب جزئي متعلّق بذات القراءة ووجوب شرطي يتعلّق بالإجهار فيها ، كما هو الشأن في جميع المركبات الانحلالية الارتباطية ، مثل الصلاة متطهرا أو إلى القبلة وغير ذلك من الواجبات المقيّدة ، فانّها جميعا تنحل إلى وجوب ذات الفعل ووجوب قيده. ومن الواضح أنّ القيد فيما نحن فيه من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما فراجع وتأمّل. وقد تعرضنا لهذه المسألة مفصّلا في أواخر البراءة (٣) فيلزم ملاحظته.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٩٢ ـ ٩٣ ( نقل بالمضمون ).

(٢) راجع على سبيل المثال كتاب الصلاة ( تقريرات الشيخ الآملي قدس‌سره ) ٢ : ١٦٨.

(٣) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره في المجلّد الثامن على فوائد الأصول ٤ : ٢٩٣ والحاشية التي قبلها.

٤٠١

قوله ـ في الإيراد على ما أفاده كاشف الغطاء في كون مسألة الجهر والإخفات من قبيل الترتب ـ : إلاّ أنّ الغرض من التعرض في المقام هو بيان ... الخ (١).

حاصل الإيراد الأول : أنّ الترتب فرع التزاحم المأموري ، ومع كون التضاد دائميا كما في الجهر والإخفات تكون المسألة من باب التزاحم الآمري ، والمرجع فيها هو التعارض.

وحاصل الإيراد الثاني : هو أنّ الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يعقل فيهما كون الأمر بأحدهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر ، لأنّ عدم الجهر مثلا هو عين الإخفات ، فيكون تقييد الأمر بالإخفات بعدم امتثال الأمر بالجهر من قبيل اشتراط الأمر بمتعلقه ، فالأمر بالإخفات مشروط بالإخفات الذي هو عبارة عن عدم الجهر.

وحاصل الإيراد الثالث راجع إلى جهتين : الاولى : أنّ الجهل بوجوب الجهر يوجب سقوطه عن المزاحمة للأمر بالإخفات ، فلا يجري فيه الترتب. الثانية : أنّ التكليف المتعلّق بالإخفات لمّا كان مشروطا بعصيان الأمر بالجهر لم يعقل أن يكون مؤثرا في ناحية المكلّف الجاهل بوجوب الجهر ، فهو بمنزلة « أيّها الجاهل بوجوب الجهر إن تركت الجهر وجب عليك الإخفات » ، وهذا لا يمكن أن يلتفت إليه الجاهل بوجوب الجهر ، ويكون الإشكال فيه عين الإشكال في خطاب الناسي.

قوله : لانتفاء الجهتين الأخيرتين ، أعني بهما تحقّق العصيان والعلم به ... الخ (٢).

الظاهر أنّ المانع في ذلك هو عدم تحقّق الجهة الأخيرة وهي العلم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٩٥ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٠٢

بتحقّق العصيان ، كما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي ، فانّه لا يفقد إلاّ الجهة الأخيرة. أمّا الاولى وهي التنجز والفعلية واستحقاق العقاب فهي متحقّقة فيه ، وفي صورة الشبهة قبل الفحص ، وفي صورة الخطاب المهم القاضي بالاحتياط الشرعي. كما أنّ الجهة الثانية أعني العصيان متحققة في ذلك. نعم إنّ هذه الجهة غير محرزة كما أنّ العقاب غير محرز في ذلك ، وذلك إنّما يؤثر على الجهة الثالثة وهي إحراز العصيان عند الترك. وهذه الجهة هي التي تنتهي إلى إناطة الخطاب الترتبي بالجهل بالحكم الواقعي الأولي ، أعني الجهر مثلا في أخذ عصيانه عند الجهل به موضوعا لوجوب الإخفات ، الذي قلنا إنّ عصيانه عند ذلك عبارة عن عدم الإتيان بمتعلّقه مع فرض استحقاق العقاب على ذلك ، فلاحظ وتدبر.

قوله : الثالث : أنّ الخطاب الترتبي إنّما يكون فعليا عند تنجّز الخطاب المترتب عليه ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الترتب وإن كان لا يتوقف على التقييد بعصيان الأهم ، بل إنّما هو كما عرفت فيما تقدم (٢) لا يوجب إلاّ تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم ، إلاّ أنّ الاحتياج إلى تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم إنّما هو فيما لو كان الأمر بالأهم منجزا ليكون مزاحما للأمر بالمهم ، ويكون التقييد المزبور علاجا لذلك التزاحم. أمّا إذا لم يكن الأمر بالأهم منجزا لكونه مجهولا مثلا ، فلا حاجة فيه إلى التقييد المزبور الذي هو حقيقة الترتب ، بل يكون إطلاق الخطاب بالمهم باقيا بحاله.

ولعلّ هذا هو مراد شيخنا قدس‌سره من هذا الإشكال الثالث. وحاصله أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٤٠٣

الترتب والالتزام باسقاط إطلاق الخطاب في طرف المهم إنّما هو في مورد يكون فيه الأهم منجزا ، دون ما إذا لم يكن منجزا ، فلا وجه في المقام لجعل وجوب الجهر مثلا مقيدا بعدم الإخفات أو بعصيان الأمر بالإخفات ، بل لا بدّ من تقييده بالجهل بالأمر بالإخفات ، ومن الواضح أنّ هذا التقييد طريقة اخرى لا ربط لها بعالم الترتب.

ومن ذلك يتضح لك عدم توجّه شيء ممّا في الحاشية الثالثة (١) على ما أفاده شيخنا قدس‌سره فتأمّل.

مضافا إلى أنّ عمدة هذا الإشكال الثالث هو أنّ العصيان المأخوذ شرطا في وجوب الإخفات مثلا إنّما هو عصيان وجوب الجهر في ظرف كونه مجهولا ، وهو غير محرز. وإن شئت فقل : إنّ الجاهل بوجوب الجهر لا يمكن أن يكون موضوعا لوجوب الإخفات ، بلا فرق بين أن يكون القيد هو ترك الإجهار أو يكون هو عصيان الأمر بالإجهار.

وإن شئت فقل : إنّا بعد أن التزمنا بأنّ موضوع وجوب الإخفات هو ترك الجهر في ظرف الجهل بوجوبه ، لا مطلق ترك الجهر ، وإلاّ لكانت صلاته صحيحة عند تعمده الإخفات مع فرض علمه بوجوب الجهر عليه ، وهذا ممّا لا يقوله أحد ، لم يكن بد من جعل الشرط هو ترك الإجهار في ظرف الجهل بوجوبه (٢) ، بأن يقول : أيّها التارك للجهر عن جهل بوجوبه يجب عليك الإخفات ، وبعبارة اخرى : أيّها الجاهل بوجوب الجهر يجب عليك الإخفات ، وهذا لا يمكن إحرازه للجاهل المذكور ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الناسي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٩٣.

(٢) [ في الأصل : في ظرف وجوبه ، والصحيح ما أثبتناه ].

٤٠٤

قوله : كما في الشبهة قبل الفحص أو في الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها ... الخ (١).

مثال الشبهة قبل الفحص ما لو شك في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد على نحو الشبهة الحكمية ، وقبل الفحص عن ذلك ابتلي بها في وقت الصلاة. ومثال الموارد المهمة التي يجب فيها الاحتياط ما لو ابتلي بغريق لا يعلم أنّه مؤمن أو كافر وقد حضر وقت الصلاة. ومثال الشبهة في مورد العلم الإجمالي هو ما لو عرضته هذه الشبهة الحكمية ـ أعني الشك في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ـ قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، أو كانت طرفا لما لا ينافي الصلاة كما لو علم إمّا بوجوب الإزالة أو بحرمة هذه المرأة عليه.

والذي يظهر مما أفاده شيخنا قدس‌سره هو أنّ عدم جريان الترتب في مثل ذلك إنّما هو لأجل عدم تحقق العصيان بالنسبة إلى التكليف الواقعي ، وعدم علم المكلف بانطباقه عليه.

والأولى أن يقال : إنّ عدم تأتي الترتب في مثل ذلك لعدم التزاحم بين ذلك التكليف الواقعي على تقدير وجوده وبين التكليف الفعلي ، فانّ ذلك التكليف الواقعي لو كان موجودا وإن كان فعليا وكان موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته لأجل قيام الطريق عليه من إيجاب الاحتياط ونحوه إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يكون ذلك التكليف الواقعي شاغلا بنفسه للمكلّف وإنّما الشاغل له هو طريقه. فان كان في البين ترتب وشاغلية ومزاحمة فانّما هي بين الصلاة مثلا وبين لزوم الاحتياط في الدماء. هذا فيما يكون المنجّز هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٥ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٠٥

الاحتياط الشرعي ، أمّا الاحتياط العقلي كما في الشبهة قبل الفحص فحيث إنّه ليس في البين أمر شرعي بالاحتياط فلا يكون التزاحم هنا بين تكليفين شرعيين ، بل بين حكم عقلي وآخر شرعي ، ولا محل فيه للترتب بل يمكن أن يقال : إنّ العقل لا يرجّح احتياطه العقلي على امتثال التكليف الشرعي ، وإن كان ما احتاط فيه على تقدير وجوده واقعا أهم عند الشارع من ذلك التكليف المقابل له ، فتأمل.

قوله : وإذا كان التكليف في أطراف العلم الإجمالي ، ففعلية التكليف الواقعي أو العصيان عند المصادفة وإن كانا متحققين ، إلاّ أنّ الجهة الأخيرة وهو العلم بتحقق العصيان الموجب لفعلية الخطاب المترتب مفقودة ، إذ العلم بتحقق العصيان موجب لانقلاب ما هو من أطراف العلم الإجمالي إلى كونه معلوما تفصيلا ، وهو خلف ... الخ (١).

لم يتضح المراد من تصوير المسألة في أحد أطراف العلم الإجمالي وتقدم (٢) أنّه يمكن التمثيل لذلك بالشبهة الوجوبية في إزالة النجاسة عن المسجد قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، وبما لو كانت طرفا لما لا يكون الاحتياط فيه منافيا للصلاة ، مثل ما لو علم إجمالا إمّا بتنجس هذه الأرض من المسجد أو بحرمة هذه المرأة عليه ، فلا يمكنه الاحتياط في طرف الإزالة وإن أمكنه في طرف المرأة ، وحينئذ يعلّق الأمر بالصلاة على عصيان الأمر بالإزالة على تقدير وجوده واقعا.

ولكن فيما حررته عنه قدس‌سره وقع التمثيل لذلك بما لو كان هناك غريقان أحدهما بني ، وكان هناك غريق آخر ثالث يعلم كونه مؤمنا. لكن فيه تأمل ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الحاشية السابقة ، صفحة : ٤٠٥.

٤٠٦

فانّ ذلك المكلّف لو كان قادرا على إنقاذ الاثنين اللذين هما طرف العلم الإجمالي لزمه ذلك ، ولو ترك تحقّق عنده العصيان الوجداني بترك إنقاذ النبي الذي هو أحدهما. ولو لم يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما ففي صورة كون طرف النبي مؤمنا يكون أحدهما واجب الإنقاذ قطعا ، لأنّه إمّا نبي أو مؤمن ، ويكون مقابلة أحدهما بذلك الثالث الآخر المفروض كونه مؤمنا من قبيل مقابلة ما هو محتمل الأهمية لغيره. ولا شبهة حينئذ لدى العقل بترجيحه على ذلك الثالث ، ولا يكون للعلم الإجمالي أثر لفرض عدم القدرة على الجمع بين أطرافه ، بل يكون نظير باب المتزاحمين اللذين يحتمل أهمية أحدهما المعيّن.

وعلى الظاهر أنّه يتأتى فيه الترتب ، ولازمه أنّه لو ترك الجميع يعاقب عقابين ، نظير العقاب في من تركهما مع فرض تساويهما. أمّا العقاب على ترك الأهم لو صادف فيمكن الالتزام به فيما لو كان أحد الفعلين محتمل الأهمية وصادف أنّه أهم في الواقع. أما في مثل المثال أعني محتمل النبوية ففيه إشكال ، إذ ليس ذلك المحتمل معينا ، فهو لو ترك إنقاذ الثلاثة كان تركه في مورد لم يتنجّز فيه إنقاذ النبي الموجود في أحد الطرفين. اللهم إلاّ أن يقال : بعد فرض كون أحدهما نبيا وفرض عدم القدرة على الجمع يلزمه تبعيض الاحتياط بالإقدام على إنقاذ أحدهما ، فلو ترك الثلاثة أو ترك الاثنين وأنقذ الثالث الخارج عن طرفي العلم الإجمالي كان مستحقا لعقاب ترك إنقاذ النبي ، وهو مشكل غاية الإشكال.

هذا فيما لو كان كل من طرفي العلم الإجمالي بالنبوة واجب الإنقاذ في نفسه ، لكون كل منهما مؤمنا. أمّا لو كان صورة العلم الإجمالي هي كون أحدهما نبيا والآخر كافرا ، وكان في البين ثالث خارج عنهما هو معلوم

٤٠٧

الإيمان ، ولم يقدر إلاّ على إنقاذ واحد ، كان من قبيل المزاحمة في غريقين أحدهما مؤمن والآخر مردد بين الكفر والنبوة ، فهل يقدّم إنقاذ الأول لكونه معلوم الإيمان أو الثاني لكونه محتمل النبوة وإن كان محتمل الكفر أيضا؟ فيه تأمل وإشكال. ولو قلنا بتقدم الثاني كان مرجعه إلى تقديم الاحتياط في حفظ النبي على التكليف المعلوم تفصيلا ، وهو لزوم إنقاذ المؤمن الذي هو الطرف ، وحينئذ يتأتى فيه الترتب العقلي ، وفيه تأمّل.

ونظير ذلك ما لو كان هناك غريقان لا يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما وكان يعلم إجمالا بأنّ أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فانّه في ذلك يلزمه إنقاذ أحدهما إما لأجل تبعيض الاحتياط أو لأجل أصالة الاحترام في الدماء والنفوس. لكن إذا زاحم ذلك وجوب الصلاة هل يكون المقدّم هي أو إنقاذ أحدهما؟ ولو قلنا بالتقديم فهل يتأتى الترتب؟ ولو قلنا بالتساوي فهل يستحق عقابين لو ترك الجميع؟ كل ذلك محل تأمّل.

قوله : فغير سديد ـ إلى قوله : ـ فانّ الحكم المتعلّق بعنوان الناسي يستحيل أن يكون فعليا آناً ما ، لأنّه مع الالتفات إلى نسيانه يخرج عن الموضوع ، وبدونه يستحيل فعلية الحكم المقيّد به ، فإذا امتنعت الفعلية يمتنع الجعل أيضا ، لما عرفت فيما مرّ من أنّ جعل الأحكام إنّما هو بنحو القضايا الحقيقية التي تكون الفعلية فيها منوطة بفعلية موضوعاتها ... الخ (١).

فيه تأمّل ، لأنّه لو قلنا مثلا إنّ وجوب الجهر مختص بالذاكر وأنّ تكليف الناسي إنّما هو الإخفات ، وقد نسي المكلّف الإجهار وأخفت في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٦ ـ ٩٧ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٠٨

صلاته ، كان حكمه الواقعي هو الإخفات ، وهو وإن لم يكن ملتفتا إلى كونه ناسيا إلاّ أنّه لمّا قصد الأمر الواقعي في ضمن قصده امتثال ما تخيّله من الأمر بالإجهار ، كان قاصدا في ضمن ذلك للأمر بالإخفات.

وبعبارة اخرى : هو يقصد امتثال أمره الواقعي لكنّه يتخيّل أنّه الأمر بالإجهار ، والمفروض أنّه في الواقع هو الأمر بالإخفات وقد جاء به امتثالا لأمره المذكور ، ولا يضرّه كونه غافلا عن نسيانه ، لأنّ ذلك ـ أعني الغفلة عن انطباق عنوان الموضوع عليه ـ إنّما يضر في تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته. أمّا فعليته بمعنى تحقّقه في حقّه واقعا وانطباق ذلك التكليف الواقعي عليه انطباقا قهريا لتحقّق فعلية موضوعه في حقه ، فهو لا ريب فيه ، ويكون ذلك نظير من كان قد دخل عليه الوقت وصار وجوب الصلاة فعليا في حقّه وهو غافل وغير عالم بدخول الوقت.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فانّا لو قلنا إنّ الجهر واجب في حق من كان عالما به ، وأنّ من كان جاهلا بالوجوب يكون تكليفه الواقعي هو الإخفات ، فهذا الشخص الجاهل بوجوب الجهر عليه ، القاطع بأنّ الواجب عليه هو الإخفات ، لو أخفت يكون قد امتثل الأمر بالإخفات الذي هو أمره الواقعي ، لكنّه كان يتخيّل أنّ هذا هو تكليفه الأولي ، والمفروض في الواقع أنّ تكليفه الأولي هو الإجهار ، لكنّه لأجل جهله به تبدّل تكليفه الواقعي إلى الإخفات.

لكن هذا التوجيه صحيح في الجملة ، إلاّ أنّه لا دخل له بمسألة الترتب. نعم لو كان المراد بالتقريب المذكور هو دعوى كون التكليف الواقعي هو الإجهار ، وأنّه عند عصيان ذلك التكليف الواقعي ولو باعتبار كون ترك امتثاله ناشئا عن التقصير في التعلّم ، يكون تكليفه الواقعي هو

٤٠٩

الإخفات ، ويكون الحاصل هكذا « اجهر في صلاتك ، وإن عصيت ولو لجهلك بذلك الوجوب الناشئ عن التقصير في التعلّم فأخفت » ، فيكون الأمر بالإخفات مشروطا بعصيان الأمر بالإجهار عصيانا ناشئا عن الجهل والتقصير في التعلّم ، كان ما يأتي به من الصلاة الإخفاتية صحيحا وإن لم يكن ملتفتا إلى التكليف الواقعي الإجهاري ، ولا كان قد أحرز انطباق عنوان العصيان على نفسه ، وذلك لأنّه قد أتى بما هو المأمور به الواقعي ، غاية الأمر أنّه تخيّل أنّه أمره الواقعي الأولي وهو ليس في الواقع كذلك ، بل إنّ أمره الواقعي الأولي إنّما هو الإجهار ، وإنّ هذا الأمر ثانوي في حقّه باعتبار انطباق عنوان عصيان الأمر الأولي عليه ، وكان هو جاهلا بذلك الانطباق.

نعم يرد على هذا التقريب : أنّ الترتب فرع شاغلية الأول ، والمفروض أنّه بنفسه غير شاغل. كما أنّه يرد عليه ما تقدم (١) من عدم تأتي الترتب في الضدين اللذين لا ثالث لهما. هذا لو اريد به الترتب المصطلح ، ولو اريد به الترتب الشرعي الذي مرّت (٢) الإشارة إليه توجّه عليه الإيراد الثاني ، فانّ الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يتأتى فيهما كل من الترتب الشرعي والترتب المصطلح ، فتأمل.

قوله : وما ذكره صاحب التقريرات قدس‌سره (٣) في تصحيح ذلك بتحليل الداعي ... الخ (٤).

الذي ينبغي في هذا المقام تحرير امور أربعة : الأول : في بيان المراد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٢ ، راجع أيضا الصفحة : ٤٠٠ ـ ٤٠٢ من هذا المجلّد.

(٢) في صفحة : ٣٩٨.

(٣) قال المحقّق الكاظمي قدس‌سره في فوائد الأصول ٤ : ٢١١ : حكاه شيخنا الاستاذ ( مدّ ظله ) عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس‌سره في مسائل الخلل ، وهو إلى الآن لم يطبع.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٩٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٠

من تحليل الداعي. الثاني : في جريانه في كلّ باب النسيان ، ومنه ما لو نسي الجهر فأخفت في موضع وجوب الجهر. الثالث : في تطبيق تحليل الداعي على مسألة الجهر والإخفات فيما لو أخفت في موضع الجهر جاهلا بوجوب الجهر ، والتكلّم في هذا الأمر الثالث يكون من ناحيتين : إحداهما : من ناحية تصحيح أصل المسألة بتحليل الداعي ، والاخرى : من ناحية إدخال هذه المسألة في باب الترتب بناء على تحليل الداعي. الأمر الرابع : في التعرض لما أفاده شيخنا قدس‌سره من الإشكال على تطبيق تحليل الداعي في مسألة النسيان وفيما نحن فيه ، بأنّ الحكم الواقعي في حق الناسي والجاهل لا يمكن أن يكون فعليا ، فنقول بعونه تعالى :

أمّا محصّل تحليل الداعي : فقد يقال إنّه راجع إلى الخطأ في التطبيق ، كما لو اعتقد بقاء الوقت فصلى بعنوان الأداء فتبيّن بعد الفراغ أنّ الوقت كان خارجا ، وأنّ صلاته بتمامها كانت في خارج الوقت ، فانّهم يصحّحون ذلك بطريقة الخطأ في التطبيق ، فيقولون إنّ أمره الواقعي هو القضاء ، فان كان ما أتى به بعنوان الأداء على نحو التقييد ، بحيث إنّه قيّد امتثال الأمر بكونه أدائيا على وجه لو لم يكن كذلك لم يكن يقدم على امتثاله ، كانت صلاته فاسدة. وإن كان من باب الخطأ في التطبيق بأن كان الداعي له إلى الامتثال هو الأمر الواقعي ، لكنّه لأجل تخيل بقاء الوقت وصفه بكونه أداء ، كان هذا من الخطأ في التطبيق.

وأمّا معنى تحليل الداعي فيمكن أن يقال إنّه أدق من ذلك ، بأن يقال إنّ داعيه وإن كان هو الأمر الأدائي إلاّ أنّ هذا الداعي يتحلّل إلى جهتين : الأمر الواقعي ، وكونه أدائيا. فالجهة الثانية تلغو لكونها مخالفة للواقع ، فتبقى الجهة الاولى وهي جهة كون الداعي هو الأمر الواقعي ، غايته أنّه لم

٤١١

يكن كونه قضائيا واقعا في مرحلة داعويته ، بل الذي وقع في مرحلة داعويته هو كونه أدائيا. وهذه الثانية لمّا الغيت لكونها مخالفة للواقع تكون الجهة الاولى كافية في تصحيح ذلك العمل ، فيكون ذلك من قبيل تعدد المطلوب في التقييد. فلو كان قصده امتثال الأمر المقيّد بكونه أدائيا يكون له مطلوبان : قصد الأمر الواقعي وقصد كونه أدائيا.

وأمّا الأمر الثاني : وهو إجراء تلك الطريقة أعني تحليل الداعي أو الخطأ في التطبيق في كل باب النسيان ، ومنه ما لو نسي من وجب عليه الجهر أن يجهر في صلاته وأخفت فيها ، بأن يقال إنّ التكليف بالجهر مختص بالذاكر والتكليف بالإخفات مختص بالناسي ، فهذا المكلّف الناسي للجهر قد قرأ إخفاتا امتثالا للأمر الواقعي الذي يعتقد أنّه الجهر ، لكنّه أخطأ في اعتقاده ، وإنّما كان أمره الواقعي هو الإخفات ، فهو قد أتى بما هو تكليفه الواقعي غير أنّه كان يعتقد أنّه الجهر وهو في الواقع الاخفات.

وأمّا الأمر الثالث : فمن الجهة الاولى أعني تطبيق تحليل الداعي على مسألة الجاهل بالجهر والإخفات فتقريبه أن يقال : إنّ المكلّف به أوّلا هو الجهر ، لكن هذا التكليف مختص بالعالم به ، أمّا الجاهل به فتكليفه هو الإخفات. أو نقول : إنّ الجاهل بوجوب الجهر يكون تكليفه الواقعي هو التخيير بين الجهر والإخفات ، بمعنى أنّ قراءته لم تكن مقيّدة بالجهر. ويظهر أثر هذين الوجهين فيما لو اتفق أنّه أجهر في صلاته ، فانّها تكون باطلة على الأول وصحيحة على الثاني. وعلى أيّ حال أنّ هذا الجاهل بوجوب الجهر لو أخفت في موضع الجهر كانت صلاته صحيحة ، وإن قصّر وعوقب على تقصيره ، إلاّ أنّه لأجل جهله يكون تكليفه الواقعي هو الإخفات ، وقد أتى بما هو متعلّق ذلك التكليف الواقعي ، غايته أنّه كان يعتقد أنّ هذا

٤١٢

هو تكليفه الأولي المتوجه إليه وإلى عامة المكلفين ، وهو في الواقع ليس كذلك ، بل إنّه إنّما توجّه إليه هذا التكليف باعتبار كونه جاهلا بالتكليف الأولي الذي هو الجهر ، وهذا المقدار من الخطأ لا يضر بصحة عمله ، بل يمكن أن يقال إنّه خارج عن مسألة تحليل الداعي ومسألة الخطأ في التطبيق.

الجهة الثانية : في تقريب جريان الترتب في المسألة المذكورة مبنيا على تحليل الداعي ، فنقول بعونه تعالى : إنّ هذا المكلّف يكون تكليفه الواقعي الأولي هو الجهر ، لكنّه إن خالف ذلك التكليف الأولي وعصاه عصيانا ناشئا عن جهله به يكون تكليفه هو الإخفات ، فالمولى يقول له : اجهر في صلاتك ، وإن عصيت لكونك جاهلا بذلك جهلا ناشئا عن ترك التعلّم فأخفت فيها. فهذا المكلّف قد أتى بالصلاة الإخفاتية امتثالا لأمرها المرتّب على عصيان الأمر بالصلاة الجهرية ، وأقصى ما فيه أنّه كان يعتقد أن ذلك هو أمره الأولي ، في حين أنّه ليس بأمره الأولي ، بل هو أمر ثانوي مشروط بعصيان الأمر الأولي ، وهذا المقدار من الجهل والخطأ لا بأس به ، وهو على الظاهر خارج عن باب الخطأ في التطبيق وتحليل الداعي. نعم ، يرد على هذا التقريب أنّه ليس من الترتب المصطلح ، لأنّ الترتب المصطلح متفرع على شاغلية الأمر الأولي ، والمفروض أنّ الأمر الأولي ليس له مرتبة شاغلية المكلّف ، لكونه في حدّ نفسه مجهولا لديه هذا. مضافا إلى ما تقدّم (١) من عدم تأتي الترتب في الضدين اللذين لا ثالث لهما. ولو كان المراد من الترتب هنا غير ذلك الترتب المصطلح ، بل كان المراد به هو الترتب السابق الذي كان يصطلح عليه شيخنا قدس‌سره (٢) بالترتب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٢ ، راجع أيضا الصفحة : ٤٠٠ ـ ٤٠٢ من هذا المجلّد.

(٢) كما تقدّم في صفحة : ٣٩٩.

٤١٣

الشرعي ، كان الإيراد الثاني وهو عدم إمكانه في الضدين اللذين لا ثالث لهما كافيا في إبطاله وردّه.

وعلى كل حال ، نحن بعد أنّ صحّحنا الصلاة في مورد التكليف بالإزالة بطريقة الترتب التي هي عبارة عن كون الأمر بالصلاة مقيدا بعدم الإقدام على الإزالة ، لزمنا الحكم بصحّتها في مورد الجهل بوجوب الإزالة سواء كان الجهل موجبا للمعذورية أو كان مقترنا بما يوجب التنجز واستحقاق العقاب ، كما لو كانت الشبهة في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مقرونة بالعلم الإجمالي ، بأن صارت طرفا للعلم الإجمالي بوجوب الإزالة أو حرمة هذه المرأة عليه ، أو علم بوقوع النجاسة إمّا في هذه القطعة من المسجد أو في تلك الآنية من الماء فحرم عليه الشرب منها ، أو كانت من قبيل الشبهة الحكمية قبل الفحص أو قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، إلى غير ذلك من موجبات استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو صادف ، فانّ هذه الأمور كلّها لا تنافي ما ذكرناه من صحة الأمر بالصلاة على تقدير عدم الإزالة لتكون الصلاة صحيحة بالأمر الترتبي ، فانّ المكلّف في جميع هذه الصور لم تصدر منه الصلاة إلاّ مع عدم الإزالة ، غاية الأمر أنّ الأمر بالصلاة في بعض هذه الصور يمكن الالتزام باطلاقه وشموله لما إذا فعل الإزالة ، لتكون الإزالة بالنسبة إلى الأمر بالصلاة نظير الأفعال المباحة في عدم كون عدمها شرطا في التكليف بالصلاة.

ولكن هذا إنما يكون في خصوص الجهل البسيط الموجب للمعذورية ، ويلحق به الجهل المركّب بأن قطع بعدم وجوب الإزالة ، أمّا إذا احتمله وكان العقل حاكما بالاحتياط ولو من جهة كون الشبهة قبل الفحص فلا يكون الأمر بالصلاة مطلقا في نظر العقل ، بل لا بدّ للعقل من أن يقيّده

٤١٤

بما لو عصيت الأمر الاحتياطي ولم تأت بالإزالة فصلّ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الجاهل بالجهر جهلا مركبا لا يحتاج إلى تقييد الأمر له بالإخفات بعدم الجهر ، ولو كان المكلّف غير معذور في هذا الجهل المركّب لكونه عن تقصير في التعلّم ، ولا يكون حاله بالنسبة إلى وجوب الإخفات إلاّ كحال المباح.

فالعمدة في عدم جريان الترتب في مسألة الجهر والإخفات عند القطع بعدم وجوب الإخفات هو هذه الجهة ، وهي كون الجهر في ذلك الحال بمنزلة المباح. ويضاف إلى ذلك الجهة السابقة ، وهي عدم معقولية تقييد الأمر بالإخفات بعدم الإتيان بالجهر لكونهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وإلاّ فلو فرضنا أنّ لهما ثالثا فان قلنا إنّ الواجب هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية والثالث هو عدم القراءة أصلا ، دخلهما الترتب في صورة العلم التفصيلي بوجوب القراءة الجهرية.

وأمّا الأمر الرابع : فانّ أصله هو الإشكال في باب النسيان والجهل من ناحية عدم توجّه الخطاب ، حيث إنّه إن كان مع التفات المكلّف إلى عنوان النسيان والجهل خرج عن ذلك الموضوع ، وإن لم يكن المكلّف ملتفتا إلى ذلك استحال خطابه. والحاصل : أنّ خطاب الناسي والجاهل بعنوان كونه ناسيا أو جاهلا غير ممكن.

وهذا إشكال محل الجواب عنه في بعض مباحث الأقل والأكثر ، وقد تعرض له شيخنا قدس‌سره (١) في ذلك المبحث وذكر له أجوبة ، واختار في الجواب عنه بأن يكون التكليف بما عدا المنسي شاملا لكل من الذاكر والناسي ، ويكون التكليف بالمنسي مختصا بالذاكر. ونقل هناك الجواب

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥١٨ ، فوائد الأصول ٤ : ٢١١.

٤١٥

عن هذا الإشكال بطريقة الخطأ في التطبيق عن تقريرات بعض تلامذة الشيخ قدس‌سره وأجاب عنه بما حاصله هو لزوم لغوية تكليف الناسي ، لأنّه لا يقع داعيا ومحركا للمكلّف في آن من الآنات ، فراجع ما حررناه (١) عن شيخنا قدس‌سره في ذلك المقام.

قلت : والظاهر أنّا لو أغضينا النظر عن هذه الجهة ـ أعني جهة كونه غير محرك للمكلّف في آن من الآنات ـ لم يكن أيضا وافيا بدفع إشكال الخطاب ، حيث إنّ ذلك التكليف الواقعي المختص بالناسي لا يمكن أن يتوجّه الخطاب فيه إلى خصوص الناسي بعنوان كونه ناسيا.

وأمّا ما يظهر ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) في هذا المقام من تقريب الإشكال على طريقة الخطأ في التطبيق بعدم إمكان فعلية التكليف في حق الناسي ، فيمكن الجواب عنه بأنّ فعلية التكليف في حق من انطبق [ عليه ](٣) العنوان الذي هو موضوع ذلك التكليف لا يتوقف على التفات المكلف إلى تعنونه بذلك العنوان ، نعم تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته يتوقف على التفاته إلى تعنونه بذلك العنوان ، وهذا مطلب آخر لا دخل له بتصحيح عمله الذي قد طابق تكليفه الواقعي الفعلي من حيث لا يعلم ، فتأمل.

ولعل المراد من عدم الفعلية في هذا المقام هو عدم فعلية التحريك والداعوية.

ثم لا يخفى أنّ الذي حررته عنه قدس‌سره في تقريب هذا الإشكال هو هذا الذي أنقله وهو : أنّ تحليل الداعي إنّما يتصوّر فيما لو كان هناك تكليف

__________________

(١) الظاهر أن مراده قدس‌سره بذلك تحريراته المخطوطة.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٩٦.

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٤١٦

واقعي محرز عند المكلف ، غاية الأمر أنّه كان استحبابيا وتخيّله المكلّف وجوبيا ، أو كان أدائيا وتخيّله المكلّف قضائيا ، فانّه في مثل ذلك يتأتى تحليل الداعي والخطأ في التطبيق. أمّا مثل ما نحن فيه ومثل النسيان ممّا يكون التكليف مجهولا ، وتخيل المكلّف أنّ المتوجه إليه هو تكليف آخر فلا يتأتى فيه تحليل الداعي والخطأ في التطبيق ، انتهى.

قلت : لعل الوجه هو ما أشار إليه فيما تقدم نقله عنه قدس‌سره من لزوم لغوية ذلك الحكم المجهول دائما ، لعدم كونه محركا وداعيا في آن من الآنات ، بخلاف باقي موارد الخطأ في التطبيق ، فانّ الحكم الواقعي فيها يمكن العلم به والالتفات إليه ، فيكون عند ذاك محركا وداعيا. وحاصل الفرق هو دوام المجهولية فيما نحن فيه ، بخلاف باقي الموارد.

وكيف كان ، إنك قد عرفت أنّ أصل التكليف بالنسبة إلى الناسي معلوم ، وإنّما المجهول هو الخصوصية المختصة بالناسي. مثلا التكليف بأصل الصلاة معلوم لديه ، وإنّما المجهول هو كونها إخفاتية باعتبار نسيانه للجهر وهو مع ذلك قد أتى بالإخفاتية غافلا عن كونه قد أخفت.

نعم يمكن أن يقال : إنّ المجهول هو التكليف بالإخفات وهو تكليفه الواقعي ، وقد تخيّل أنّه مكلّف بالجهر ، ولكنّه مع ذلك أخفت نسيانا ، فيكون ممّن كان في الواقع مكلفا بشيء وقد تخيل أنّه مكلّف بشيء آخر مباين للأول ، لكنّه مع ذلك جاء بما هو الواقع لا ما تخيله.

وكيف كان ، فما نحن فيه من صورة الإخفات جهلا بوجوب الجهر لا يكون من هذا القبيل ، بل قد عرفت أنّ التكليف بالإخفات معلوم لدى المكلف ، وإنّما المجهول له هو التكليف الأولي ، نعم قد عرفت أنّ ذلك لا دخل له بمسألة تحليل الداعي ولا بمسألة الخطأ في التطبيق.

٤١٧

قوله : الأمر الثالث : قد أشرنا سابقا إلى أنّ المهم إذا كان مضيّقا ولم يكن له أفراد طولية ... الخ (١).

تقدم الكلام (٢) على هذه الجهة مفصّلا عند تعرضه قدس‌سره لما عن صاحب الحاشية قدس‌سره فراجع. كما تقدم (٣) أنّه يمكن القول بعدم التزاحم بين المضيّق والموسع باعتبار كون الموسع لا تحتيم فيه ، فراجع.

قوله : الأمر الرابع : إذا كان الواجبان المتزاحمان آنيين ... الخ (٤).

يمكن تصوّر المثال لما يكون الأمر المترتب على عصيان الأهم فعلا آنيا غير محتاج إلى مقدار من الزمان ممّا يكون من قبيل الأفعال القلبية أو ما هو بمنزلتها ، مثل نية الاقامة ومثل العدول عنها ومثل الفسخ ومثل الرجوع بالمطلقة الرجعية. نعم لا يتصور ذلك في الأفعال الخارجية العلاجية مثل القيام والقعود ونحوهما.

نعم ، فيما لو كان عصيان الأهم آنيا مثل أن يكون مشغولا بالصلاة ويحرم عليه قطعها ، ولكنّه لو عصى وقطعها يجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد ، أعني النجاسة الحادثة في أثناء الصلاة ، بناء على أنّ الإتمام أهم من إزالة النجاسة الحادثة. ففي مثل هذه الصورة لا يحتاج الترتب على عصيان الأهم إلى عنوان التعقب ، بل لا يجتمع الخطابان في آن واحد فلاحظ. وليسمّ هذا العصيان بالعصيان الآني ، وهو جار في المشروط بالقدرة شرعا ، مثل ما سيأتي (٥) من وجود الماء المباح في الآنية المغصوبة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٧.

(٢ و ٣) [ الظاهر أن صاحب الحاشية قدس‌سره من سهو القلم ، والصحيح المحقق الثاني قدس‌سره فراجع الحاشية المتقدمة في الصفحة : ١٣٦ وما بعدها ].

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٩٨.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ١٠١ ، راجع أيضا الصفحة : ٤٢٣ وما بعدها من هذا المجلّد.

٤١٨

فيقال إنّه يجب عليه الوضوء إن تصرّف في تلك الآنية وأخذ منها ما يكفيه لوضوئه. نعم لا يتأتى ذلك في الاغتراف التدريجي ، لأنّه بمنزلة العصيان التدريجي الموجب لعدم جريان الترتب في المشروط بالقدرة شرعا فلاحظ.

قوله : إذا عرفت ذلك فنقول : الخطاب بالمهم إنّما التزمنا بكونه مشروطا بعصيان خطاب الأهم ... الخ (١).

تقدم الكلام (٢) على ذلك عند التعرض لما أفاده كاشف الغطاء قدس‌سره من أخذ العزم على العصيان شرطا ، وأنّ الشرط الواقعي هو خلوّ الزمان عن الأهم ، وأنّ العزم على العصيان إنّما هو طريق لإحراز الشرط ، الذي [ هو ](٣) خلو الزمان بتمامه عن الأهم ، الذي نعبّر عنه في مقام دفع إشكال الشرط المتأخر بكون الشرط هو التعقب بخلو الزمان عن الأهم ، وأنّ ذلك من باب كونه محققا للقدرة بنظر العقل وإن لم يكن موجبا للقدرة بنظر الشرع ، كما تقدّم (٤) تفصيل الكلام فيه عند التعرض لبيان عدم تأتي الترتب فيما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فراجع.

قوله : فقد يكون العلم بخطاب الأهم قبل الشروع في امتثال خطاب المهم ، واخرى يكون بعد الشروع فيه ... الخ (٥).

مثال الأول ما لو علم بالنجاسة قبل الدخول في الصلاة ، ومثال الثاني ما لو علم بها أو طرأت وهو في أثناء الصلاة. وقد تعرضنا للفرق بين

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٤) لعل المراد به ما تقدم في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب ، الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٩

المسألتين فيما حررناه عنه قدس‌سره وحاصله : أنّ حرمة الإبطال في الصورة الاولى تكون كأصل الخطاب بالصلاة مشروطة بعدم الإقدام على إزالة النجاسة ، فهو بعد الشروع في الصلاة كما يكون استمرار أمره بها مشروطا بعدم الإقدام على الإزالة ، فكذلك استمرار حرمة قطعها يكون مشروطا بالشرط المذكور ، وحينئذ فيمكنه في كل آن أن يشتغل بالإزالة فيقطع الصلاة.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فانّ أمره بالصلاة يكون مطلقا ، فيكون حرمة إبطالها أيضا كذلك ، ولا تتحقق المزاحمة إلاّ عند العلم بالنجاسة في أثناء الصلاة ، وحيث إنّ كلا منهما فوري مضيّق فلا تتقدم الإزالة على حرمة القطع ، بل يكون المقدم هو حرمة الإبطال لكونه مشغولا به فعلا اشتغالا صحيحا غير مشروط بترك الإزالة.

أمّا لو علم بها قبل الصلاة ثم غفل وصلّى ثم التفت إلى ذلك في أثناء الصلاة فهل هو ملحق بالصورة الاولى ، أو أنّه ملحق بالصورة الثانية؟ الظاهر الثاني ، لكون الغفلة عذرا كالجهل. لكنه قدس‌سره في حاشية العروة (١) على مسألة (٥) ألحقها بالصورة الاولى فحكم فيها بلزوم الإبطال. ولم يتّضح وجهه ، وبعد عرض ذلك بخدمته أمر بالضرب على قوله في الحاشية : « ثم غفل عنها » فراجع ما حررناه فيما علقناه على ما حررناه عنه قدس‌سره في هذا المقام (٢).

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ١٨١ / ضمن فصل أحكام النجاسات.

(٢) في ص ٣٤٦ فيما يتعلق بدرس ١٦ و ١٧ ذي الحجة / ١٣٤٦ [ منه قدس‌سره ].

٤٢٠