أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

المضادة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي مع كونهما في رتبة واحدة ، فانّه لو قال : إن أمرتك بالشيء أو إن علمت به فافعل ضده أو اتركه ، كان الأمر الشرعي الثاني متأخرا عن الأوّل رتبة ، إلاّ أنّه مضاد أو مناقض لما يحكم به العقل من وجوب الإطاعة ، فانّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالمأمور به ، فكيف يحكم الشرع في هذه المرتبة بلزوم ضده أو لزوم تركه.

والحاصل : أنّ حكم العقل بالإطاعة متأخر عن رتبة الحكم الشرعي الأوّل ، ويكون الحكم الشرعي الثاني مناقضا أو مضادا لذلك الحكم العقلي ، مع كونهما في رتبة واحدة ، فتأمل.

هذا ما كنت حررته سابقا ، والإنصاف أنّه لغير أوانه ، فانّه سيأتي في المقدمة الخامسة تعرضه قدس‌سره لهذا الإشكال والجواب عنه مفصلا (١) ، بل إنّ المقدمة الخامسة إنّما هي مسوقة للجواب عن هذه الجهة من الإشكال. نعم إنّي كنت أكتب الدرس والحقه بما اعلّقه عليه ثم بعد ذلك يتعرض قدس‌سره فيما يأتي من الدروس للجهة التي تعرض بالبال حينما حررت ما سبق من الدرس ، وقد نقلته هنا على علاته حرصا على ما أتخيّله فيه من بعض الإيضاحات ، والكمال له تعالى وحده فكيف بهذا الأحقر الذي هو أنقص من كل ناقص.

ثم إنّه سيأتي إن شاء الله تعالى في بعض الحواشي التي علقتها على ص ٢٥٥ (٢) بيان الإشكال في هذه الطولية التي حررناها هنا بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وأنّ تلك الطولية لو سلّمناها بينهما لأشكل الأمر في الترتب من الطرفين ، فانّ لازم ذلك هو كون كل من الأمرين مقدما على نفسه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨٣ ـ ٨٤ ، راجع الصفحة : ٣٨٢ وما بعدها من هذا المجلّد.

(٢) حسب الطبعة القديمة من الأجود. راجع الصفحة : ٣٨٧ وما بعدها من هذا المجلّد.

٣٦١

وحينئذ فلا محيص من إنكار كون الشرط في الأمر بالمهم هو عدم الإتيان بالأهم بما أنّه عصيان للأمر بالأهم ، ولا بما أنّه نقيض لوجود الأهم المعلول للأمر بالأهم ، بل بما أنّه عدم محض وبما أنّه مجرد خلو الزمان عن فعل الأهم ، وإن كان اعتبار ذلك العدم وخلو الزمان منه منحصرا بما إذا توجه الأمر بالأهم وكان الأمر به منجزا ، لكن ذلك لا يوجب كون الشرط هو العدم الخاص ، أعني به العدم العصياني أو العدم الواقع في رتبة وجود الأهم بما أنّه معلول للأمر بالاهم. وحينئذ لا يكون الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم فضلا عن كون هذه الطولية بمجرّدها هي المصحّحة للجمع بين الأمرين ، بل إنّ عمدة المصحّح لذلك هو كون الأمر بالأهم هادما بامتثاله لما هو موضوع الأمر بالمهم ، وأنّ الأمر بالمهم لا تعرض له لإثبات ذلك الموضوع فتأمل.

ولا يخفى أنّ مجرد كون امتثال الأمر بالأهم هادما لموضوع الأمر بالمهم لا يوجب تقدمه عليه رتبة ليعود محذور الدور في الترتب من الطرفين ، فتأمل.

ولو قلنا بأنّ الشرط في الأمر بالمهم ليس هو مجرد ترك الأهم معرّى عن لحاظ كونه تركا لما هو المأمور به ، وإلاّ لكان الأمر بالشيء مشروطا بترك كل مباح مضاد له ، بل الشرط إنّما هو ترك الفعل المأمور به بما أنّه مأمور به ، فحينئذ لا مناص لنا عن الالتزام بالطولية ، وحيث إنّها موجبة للدور في المتساويين في الأهمية ، لم يكن لنا بدّ من الالتزام فيهما بالسقوط في كل منهما واستكشاف تخيير عقلي أو شرعي بينهما ، فراجع ما سيأتي في حواشي ص ٢٥٥ (١) وما حررناه في باقي مباحث المسألة وتأمل.

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة من الأجود ، راجع الصفحة ٣٩٠ من هذا المجلّد.

٣٦٢

قول المحشي في الحاشية : وقد مرّ في البحث المزبور ... إلخ (١).

تقدم (٢) البحث في ذلك ، وإن كان الأولى هو نقل ما ذكره في الحاشية على ذلك المبحث ، وبيان عدم توجه تلك الإشكالات التي وجهها هناك ، فنقول بعونه تعالى : إنّه قد قال في تعليقته على هذه الجهة من مبحث التعبدي والتوصلي : ضرورة أنّ متعلق الشوق لا بدّ وأن يكون متعينا في ظرف تعلقه به ولو بعنوانه الإجمالي ، ويستحيل فرض الإهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعيّن له في مرحلة تعلّقه به ... إلخ (٣).

ليت شعري ما هذا الشوق ، هل هو صفة زائدة على أصل الإرادة أو العلم بالصلاح الذي هو عين الذات المقدسة ، أو هو عين هاتيك الإرادة وذلك العلم؟ فإن كان هو الثاني فما معنى هذا التقييد والإطلاق؟ وإن كان الأوّل أعني كون الشوق صفة زائدة فهل هي قائمة بنفس الذات المقدسة طارئة عليها ، أو غير ذلك؟ كل ذلك لا أتعقله.

إنّما أعرف أنّ الملاك المعبّر عنه بالصلاح والعلم به والإرادة الواقعية التي هي عين العلم بالصلاح كل ذلك تابع للواقع على واقعه ، إن واسعا فواسع وإن ضيقا فضيق ، وليس هذا محل كلامنا من الإطلاق والتقييد ، وإنّما محل كلامنا بعد بنائنا على أنّ في البين شريعة وتشريعا وجعل أحكام ذات موضوع وذات متعلق ، لا أنّ جميع ما جاءت به الرسل من الشرائع كلّها من باب الإخبار عن الصلاح أو عن الإرادة أو عن العلم بالصلاح الذي هو عين الذات ، أو عن الشوق الذي هو حالة نفسانية من مقولة الانفعال ، أو هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٦٧.

(٢) في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٠٩ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٦.

٣٦٣

شيء آخر لم أتعقله ، كل ذلك لا يمكننا القول به.

وإنّما الذي نعرفه ونتعقله هو ما عرفت من أنّ في البين أحكاما شرعية جعلها الشارع على موضوعاتها ، وأنّ كل حاكم في مقام جعله الحكم على موضوعه لا بدّ له أن يلاحظ ما هو موضوع حكمه وما هو متعلق تكليفه ، الذي يجعل ذلك الحكم أو ذلك التكليف واردا عليه ، وحينئذ إن أمكن أن يلاحظه مقيدا أو مطلقا فهو ، وإن لم يمكن ذلك كما إذا كانت القيود متأخرة في الرتبة عن جعل الحكم ، مثل العلم والجهل المتعلقين بنفس ذلك الحكم ، ومثل كون الفعل مقيدا بداعي ذلك الحكم الذي هو الوجوب ، ينحصر طريقه بأن يجعل الحكم على نفس الذات معراة عن لحاظ تلك الطوارئ ، وذلك أمر ممكن معقول ، كما هو متحقق في نفس ذلك الحكم الذي يجعله ، فانّه لا يمكن أن يكون منظوره في حال جعله إلاّ ما هو ذات الحكم مجردا عن لحاظ كونه مقيدا بوجود نفسه أو بعدم نفسه ، وكما في مقام الحكم على الطبيعة بالوجود ، فانّ الحاكم عليها بالوجود لا ينظر إلاّ إلى نفس الطبيعة معراة عن كونها مقيدة بالوجود أو بالعدم أو مطلقة من هذه الناحية. وهكذا الحال فيما يجعله من طلب الوجود المتعلق بها ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ الأمر هو طلب الوجود ، أو إنّه عبارة عن نفس الطلب وأنّ المطلوب هو وجود الطبيعة ، أو أنّ المطلوب هو نفس الطبيعة من حيث الإيجاد ، فانّ الطبيعة في جميع هذه الصور لا تكون ملحوظة إلاّ بذاتها ، معرّاة في حال طرو ذلك الطلب عليها عن لحاظها موجودة أو معدومة أو مطلقة.

ثم إن كان المانع من لحاظ التقييد أو الإطلاق هو محض كون الانقسام متأخرا في الرتبة عن نفس ذلك الحكم ، كما في داعي التقرب أو الجهل

٣٦٤

والعلم بذلك الحكم ، كان من الممكن للشارع أن يكمل ذلك الجعل الذي أورده على نفس الطبيعة بجعل آخر متمم للجعل الأوّل ، ليكون مقتضاه هو التوسعة أو التضييق ، ويكون مجموع الجعلين منطبقا على ما علمه من المصلحة والملاك.

وإن كان المانع هو استلزام التكليف بتحصيل الحاصل أو التكليف بما هو محال ، كما في التقييد أو الإطلاق من ناحية وجود المأمور به أو عدم وجوده ، مضافا إلى ما في ذلك من لزوم كون ما هو معلول الطلب واقعا في مرتبة علته ، استحال فيه كل من التوسعة والتقييد ولو بواسطة متمم الجعل ، وبقي الحال على ما هو المجعول الأوّل من تعلّق الطلب بصرف الطبيعة وذاتها ، معرّاة عن كونها مقيدة بوجودها أو عدمها أو إطلاقها من هذه الناحية ، وليس ذلك من الإهمال الصالح لطرو التقييد أو الإطلاق ، بمعنى كونه المقابل لكل من الإطلاق والتقييد ، بل هو كما عرفت من كمال الوضوح والإيضاح ، وهو تعلّق الطلب بنفس الذات معرّاة عن كل من لحاظ الوجود والعدم ، إذ معنى الإهمال هو ما يحسن السؤال من الشارع بأنّك هل أردت المقيد أو المطلق ، ومن الواضح أنّه في هذه الموارد لا يحسن أن يتوجه السؤال من جانب المكلّف إلى الشارع ، وأنّك هل أردت الطبيعة الموجودة أو المقيدة بالعدم أو المطلقة الشاملة لكلا القسمين ، أو أنّك هل كان طلبك لهذه الطبيعة مشروطا بوجودها أو كان مشروطا بعدمها ، أو كان طلبك مطلقا شاملا لكل من الطرفين بحيث إنّه كان واردا على الطبيعة في كل من حالتي وجودها وعدمها ، كل ذلك غير معقول ، إذ لا يعقل الشك والترديد من المكلف في مثل ذلك ، وهو ممّا يكشف أنّ ذلك الحكم لا غموض فيه من هذه الناحية ولا إجمال ولا إهمال ، بل إنّه من أوضح

٣٦٥

الواضحات ، وما ذلك إلاّ عبارة عن كون ذلك الطلب واردا على نفس الطبيعة معرّاة من هذه الناحية عن كل من الاعتبارين ، أعني اعتبار وجودها أو اعتبار عدمها أو اعتبار إطلاقها.

وحاصل الفرق بين النحوين : أنّ الطبيعة في النحو الأوّل ـ وهو ما يكون من الانقسامات اللاحقة لها باعتبار تعلّق الحكم بها ـ قابلة في الواقع ولو في مقام الملاك للسعة والتضيق من تلك الناحية ، غايته أنّها في مقام جعل ذلك الحكم عليها لا يمكن لحاظها واسعة أو ضيّقة من تلك الناحية ، فلا بدّ للشارع من جعل الحكم على صرف الطبيعة ونفس ذاتها معرّاة عن لحاظ التوسعة والتضيق ، ثم بعد ذلك يجعل جعلا ثانيا يوجب توسعة ما قد جعل ذلك الحكم عليه أو تضييقه ، ويكون الجعلان منطبقين على ما هو واقع الملاك.

أمّا النحو الثاني فانّ الطبيعة في حد نفسها في مقام إيجادها أو في مقام الإخبار عن وجودها يستحيل فيها التوسعة والتضييق من ناحية ذلك القيد ، أعني به نفس وجودها أو عدمها ، وهكذا الحال في مقام طلب إيجادها. وبالجملة : أنّ الطلب كما أنّه في مقام إيجاده وجعله وإنشائه يستحيل أن يكون واسعا أو ضيّقا من حيث نفس وجوده أو عدمه ، فكذلك حال الطبيعة في مقام طلب إيجادها ، فإنّه يستحيل فيه أن يكون واسعا أو مضيقا من حيث نفس وجوده أو عدمه ، بحيث يكون نفس ذلك الشيء من حيث تعلق الطلب به مقيدا أو مطلقا من ناحية وجوده أو عدمه ، ليكون وجوبه مطلقا أو مشروطا بشيء من ذلك على ما حقّق في محلّه (١) من كون

__________________

(١) في المجلّد الثاني من هذا الكتاب : ١٢ وما بعدها.

٣٦٦

الشرط راجعا إلى المادة في مقام تعلق الطلب بها.

ولا محيص في مثل هذا النحو من الانقسام من تعلّق الطلب بصرف الطبيعة ، ولا يمكن فيه التضييق أو التوسعة حتى بالجعل الثاني ، ويكون حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الطبيعة التي تعلّق بها الطلب كحال الوجود والعدم بالنسبة إلى نفس الطلب ، فكما أنّ الطلب في حد نفسه في مقام جعله وإنشائه يستحيل أن يكون مضيقا أو موسعا من هذه الناحية ـ أعني ناحية وجود نفسه وعدمه على وجه لا يمكن فيه ذلك ولا يعقل حتى بمتمم الجعل ـ فكذلك نفس الطبيعة في مقام طلب إيجادها ، لا يعقل فيها التوسعة والتضييق من ناحية وجودها أو عدمها حتى بواسطة متمم الجعل ، بل إنّ وفاء تلك الطبيعة بالملاك الذي دعا إلى إيجابها شرعا لا يعقل فيه التوسعة والتضييق من تلك الناحية ، بمعنى أنّ ترتب ذلك الملاك على وجود الطبيعة لا يعقل أن يكون ترتبه على وجودها مقيدا بوجودها أو بعدمها ، أو كونه ـ أعني ترتب الملاك على وجود تلك الطبيعة ـ مطلقا وشاملا لما إذا كانت موجودة أو كانت معدومة.

وهذا بخلاف النحو الأوّل ، فانّ الطبيعة فيه في مقام الملاك يمكن أن تكون مقيدة أو موسعة من ناحية التقسيم الآتي من ناحية تعلق الحكم بها ، ولأجل ذلك قلنا فيه بالإطلاق والتقييد الذاتيين ، بخلاف نفس الوجود والعدم.

ثم لا يخفى أنّ هذه الجهة المانعة من التقييد اللحاظي أو التقييد الذاتي هي بعينها مانعة من الإطلاق ، لا أنّ المانع مختص بخصوص التقييد وأنّ إسقاطنا الإطلاق لمحض عدم إمكان التقييد ، ببرهان أنّ الإطلاق هو عدم التقييد فيما يكون المقام قابلا في حد نفسه للتقييد ، وأنّه إذا كان التقييد

٣٦٧

ممتنعا كان الإطلاق ممتنعا ، وإن كان ذلك هو المتوهم من بعض عبائر شيخنا قدس‌سره ، بل المراد هو ما عرفت من أنّ نفس تلك الجهة التي منعت التقييد اللحاظي أو التقييد الذاتي هي بعينها مانعة من الإطلاق اللحاظي والإطلاق الذاتي.

وبناء على ذلك لا يتوجّه شيء من الإشكالات التي ذكرها المحشي (١) من النقض بجهل الإنسان بحقيقة ذات الواجب المقدس مع استحالة مقابله الذي هو العلم بتلك الذات ، ونحو ذلك من الإشكالات ، فانّ الجهل بمعنى عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون عالما يستحيل في حق الإنسان بالنسبة إليه تعالى ، نعم لو اخذ الجهل بمعنى عدم العلم لكان ممكنا واقعا. كما أنّه لا يتوجه شيء من الإشكالات التي ذكرها المحشي هنا في الحاشية الاولى والثانية (٢) فراجع الحواشي وتأمل.

قول المحشي في الحاشية الثانية : لا من جهة اعتبار كل منهما فيها ... إلخ (٣).

نعم إنّه لم يعتبر كلاّ منهما في فعلية الحكم ، إلاّ أنّه قد جعل الحكم على كل واحد من التقديرين ، ولازمه أن يكون لحاظه لكل واحد منهما سابقا على نفس لحاظه الحكم. فكل منهما وإن لم يكن شرطا في ذلك الحكم ، إلاّ أنّ موضوع ذلك الحكم هو كل منهما ، على ما عرفت من كونه قد لاحظ كلاّ منهما وأورد الحكم على القدر المشترك بينهما ، فلا يكون سمة كل منهما بالنسبة إلى ذلك الحكم إلاّ سمة التقدم الرتبي ، أعني سمة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٦٧ ، ٦٨.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٦٨.

٣٦٨

العلّة بالنسبة إلى المعلول كما عرفت تفصيله فيما شرحناه فيما تقدم ، ومن ذلك يتضح لك اندفاع جميع ما رتبه على هذه الجهة من الاشكالات.

قوله في هذه الحاشية : ثم لا يخفى أنّه لا دخل لهذه المقدمة في إثبات صحة الترتب ... إلخ.

كيف لا يكون لها دخل في ذلك وهي المتكفّلة لاستحالة كون الأهم مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّقه ، وأنّه لا تعرض فيه لذلك العدم بأزيد من الهدم والرفع ، إذ لو كان الأمر بالأهم مشروطا ومقيدا بعدم متعلّقه كما قد يقال إنّ الأمر بالشيء إنّما يتوجه في ظرف عدمه ، لكان الأمر بالأهم واقعا في رتبة الأمر بالمهم ، وكان كل منهما مشروطا بذلك العدم ، فيلزم الإتيان بهما في ذلك الحال.

ولا ريب أنّ دفع هذا التوهم من أهم مقدمات صحّة الترتب ، كما أنّ الجزء الثاني من هذه المقدمة وهو استحالة كون الأمر بالمهم حافظا لذلك العدم أيضا من أهم ما يثبت به الترتب.

نعم ، بعد ثبوت أنّ الأهم غير مشروط بعدم متعلقه وأنّ المهم غير مقتض لذلك العدم ، ننقل الكلام إلى المقدمة الخامسة ، وهي أنّ المتحصّل من هذين الطلبين هو كون المطلوب واحدا من الفعلين (١) على نحو الطولية لا الجمع بينهما. وحاصل المقدمة الخامسة أنّ اجتماع الطلبين في زمان واحد بهذا النحو من الاجتماع الذي هو على نحو الطولية ، على وجه كان الأوّل هادما للعدم الذي هو موضوع الثاني وكان الثاني غير متعرض لوضع ذلك العدم ، لا يكون موجبا ومنتجا لكون المطلوب هو الجمع بينهما.

__________________

(١) [ في الأصل : الفعل ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٦٩

نعم إنّ في المقام شيئا ، وهو أنّ عمدة الإشكال إنّما هو الفرق بين قولنا : أزل النجاسة وإن لم تزل النجاسة فصلّ ، وبين كل واحدة من هذه الجمل الثلاث ، أعني قولنا : إن أمرتك بالإزالة فصلّ ، وقولنا : إن علمت بالأمر بالإزالة فصلّ ، وقولنا : إن امتثلت الأمر بالإزالة فصلّ ، فإنّ الأمر بالصلاة في هذه الجمل الثلاث يكون متأخرا في الرتبة عن الأمر بالإزالة ، كما هو كذلك في الجملة الاولى أعني قولنا : أزل النجاسة وإن لم تفعل فصلّ.

وهذه المقدمة الرابعة مسوقة لبيان أنّه لا عبرة بالتأخر الرتبي ، بل العبرة إنّما هي يكون امتثال الأمر الأوّل هادما لموضوع الأمر الثاني ، وهذا مختصّ بالجملة الاولى دون الجمل الثلاث الأخر ، بل قد عرفت فيما تقدم (١) وسيأتي إن شاء الله تعالى (٢) أنّ الجملة الاولى التي [ هي ](٣) محل الكلام خالية من التأخر الرتبي ، وإلاّ كان كل منهما متقدما رتبة على الآخر فيما لو كان كل منهما مقيدا بعدم الآخر.

فالعمدة هو تحقيق الهادمية ، والمقدمة الخامسة مسوقة لذلك. أمّا ما اشتملت عليه الخامسة من كون الشرط لأحد الخطابين تارة يكون غير داخل تحت القدرة والرفع الشرعي ، واخرى يكون داخلا في ذلك ، لكن التكليف الآخر لا يكون متعرضا له برفع ولا بوضع ، وثالثة يكون التكليف الآخر متعرضا له بالرفع أو الدفع ، فهو وإن كان في الجملة صحيحا ، إلاّ أنّ إدخال كون أحدهما أو كل منهما مقيدا بعدم الآخر في القسم الأوّل وفي القسم

__________________

(١) لاحظ ما تقدم في صفحة : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٢) لاحظ ما سيأتي في صفحة : ٣٨٨ ـ ٣٩٠.

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٧٠

الثاني لعلّه لا يخلو عن تهافت ، لأنّ فرض كون أحدهما أو كل منهما مشروطا بعدم الآخر يوجب كون أحدهما أو كل منهما هادما لموضوع الآخر أعني اشتراطه بعدم الآخر. والأمر سهل ، فلاحظ وتأمل.

قوله : المقدمة الخامسة : في بيان محل الكلام في بحث الترتب وبيان أنّ طلب الجمع بين الضدين ... إلخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : المقدمة الخامسة : في تنقيح ما أشرنا إليه أوّلا من أنّ الأمر بالجمع بين الضدين إنّما ينشأ عن إطلاق الخطابين ، وأنّه بتقييد أحدهما أو كليهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر يرتفع المحذور المذكور. ولا يخفى أنّ أساس الترتب إنّما يبتني على هذه المقدمة والمقدمتين اللتين قبلها.

أمّا المقدمة الاولى وهي ما تعرضنا فيها لبيان أنّ المحذور هل كان ناشئا عن إطلاق الخطابين أو أنّه ناش عن فعلية كل منهما ، فهي متضمنة لتحرير النزاع في صحة الترتب وعدم صحته ( يعني أنّها متعرضة لإثبات صغرى ذلك النزاع ، فإنّه بعد إثبات أنّ المحذور الذي هو الجمع ناش عن الإطلاقين لا عن فعلية كل منهما ، يقع النزاع في أنّ تقييد الإطلاق من الطرفين أو من طرف واحد هل يرفع ذلك المحذور أو لا ).

وأمّا المقدمة الثانية وهي ما تعرضنا فيها لبيان الواجب المضيق ، وأنّ شرط الوجوب ونفس الوجوب وامتثاله كلّها متحدة الزمان في الواجب المضيق ، من دون حاجة إلى ما تقدم ذكره من التقدير ، فانّما هي بيان أمر واقعي ، وليس لها الدخل فيما يتوقف عليه صحة الترتب ، وإنّما ذكرناها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٧١

لبيان أنّ وجوب الأهم من هذا القبيل من الواجبات المضيقة ، وأنّه لا يحتاج فيه إلى الالتزام بالتقدير المذكور.

وإنّما عمدة ما يتوقف عليه صحة الترتب هو المقدمات الثلاث الأخيرة وهي : الاولى : ما تعرضنا فيها لبيان أنّ الواجب المشروط لا يخرج بحصول شرطه عن كونه واجبا مشروطا ، ولا ينقلب بذلك إلى كونه واجبا مطلقا. المقدمة الثانية : هي ما تعرضنا فيها لتقسيم التقادير التي ينحفظ معها التكليف إلى ما يكون انحفاظه معها من جهة كونه مقيدا بها أو مطلقا بالقياس إليها ، وما يكون انحفاظه معها من جهة أنّ نفس التكليف يقتضيها ، وبيان الفرق بين هذين القسمين. المقدمة الثالثة : هي هذه المقدمة التي نحن الآن بصددها.

قوله : ولو فرضنا إتيان المكلّف بهما بداعي المطلوبية لكان مشرّعا لا محالة ... إلخ (١).

لو كان أحدهما بعينه مشروطا بعدم الآخر دون العكس لكان الإتيان بما هو المشروط لغوا صرفا ، ولو كان كل منهما مشروطا بعدم الآخر لكان كل منهما لغوا ، لكن ذلك إنّما هو فيما لو أتى بهما دفعة واحدة ، أمّا لو كان تدريجا كان المتعيّن للغوية هو المتأخر.

قوله : وتوهم أنّه لا مانع من طلب الجمع ولو لم يكن مقدورا في هذا الفرض ، لتمكن المكلّف من إعدام موضوعه ، فلا يقع في محذور المخالفة ... إلخ (٢).

كما لو تزاحم الإنفاق على المملوك مع الإنفاق على أحد الأقارب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٧٤ ـ ٧٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٧٢

الواجب النفقة ، فإنّه قد يتوهم أنّه لمّا كان المكلّف يمكنه إعدام موضوع الإنفاق على المملوك ببيعه أو عتقه مثلا ، كان وقوعه في التكليف بالجمع الذي هو غير مقدور بسوء اختياره ، فلا يحكم العقل بقبحه. والجواب عنه واضح كما افيد في الأصل.

قوله : فتحصّل أنّ حال هذا القسم هي حال القسم الأوّل بعينها وأنّ طلب الجمع إنّما هو من لوازم إطلاق الخطابين ... إلخ (١).

لعل الأولى نقل ما حررته عنه قدس‌سره في هذه الأقسام وبيان أحكامها ، لأنّ الظاهر أنّه أوضح في الجملة. قال قدس‌سره فيما حررته عنه بعد التعرض الإجمالي للأقسام المذكورة ما هذا لفظه : قد عرفت أنّ شرط التكليف إمّا أن لا يكون قابلا لكل من الرفع أو الدفع الاختياري والشرعي كما في جميع الشروط الخارجة عن الاختيار ، وإمّا أن يكون قابلا لذلك كما في الشروط الاختيارية في الجملة ولو بمقدمات عديدة ، كما في الاستطاعة ومالكية النصاب وفاضل المئونة بالنسبة إلى الحج والزكاة والخمس.

ثم إنّ التكليف المشروط بالشرط القابل للتصرف الشرعي أو الاختياري بالرفع أو الدفع ، تارة يكون الشرط فيه معتبرا بجهة حدوثه واخرى بجهة بقائه. وما كان معتبرا فيه جهة البقاء إمّا أن يكون المعتبر هو البقاء في تمام الوقت ، أو البقاء في بعضه ، وقد عرفت أمثلة هذه الأقسام كلّها فيما تقدم.

وعرفت أيضا أنّ التكليف المذكور تارة يكون مجامعا لتكليف يكون بنفس توجهه هادما لشرط التكليف المذكور ، واخرى يكون هادما له

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٦.

٣٧٣

بامتثاله لا بمجرد توجهه ، وثالثة لا يكون هادما له أصلا ، لعدم تعرضه لهدمه لا بتوجهه ولا بامتثاله. وعرفت أيضا أنّ هذا القسم الثالث ملحق بالقسم الأوّل ، أعني ما يكون الشرط فيه غير قابل للتصرف الشرعي أو الاختياري بشيء من الرفع والدفع ، وأنّ القسم الأوّل منها يكون فيه ذلك التكليف واردا على التكليف المشروط بالشرط المذكور ، ولا يكون التكليفان منتهيين إلى إيجاب الجمع بين متعلقيهما ، سواء كان الجمع بينهما في حدّ نفسه ممكنا أو ممتنعا ، من دون حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر. وعرفت أيضا أنّ الترتب المبحوث عنه هو من القسم الثاني من هذه الأقسام.

ولا بأس بذكر بعض الفروع الفقهية التي هي من القسم الأوّل أو القسم الثاني من هذه الأقسام ، فنقول : قد عرفت أنّ وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، ووجوب الخمس مشروط بفاضل المئونة ، ووجوب الزكاة مشروط بمالكية النصاب. وعرفت أيضا أنّ الشروط المذكورة قابلة لكل من الرفع أو الدفع الاختياريين والشرعيين ، فنقول :

أمّا الرفع الاختياري في هذه الأمثلة فهو بأن يخرج الإنسان نفسه عن كونه مستطيعا أو مالكا لفاضل المئونة والنصاب ، بهبته لما في يده من المال أو بيعه محاباة أو نحو ذلك ممّا يوجب خروجه عن ملكه. ولكن هذه الأمثلة يختلف الحكم فيها بالنسبة إلى مثل هذه التصرفات ، أمّا في الحج فتكون التصرفات المذكورة نافذة ، إلاّ أنّها لا تكون مسقطة لوجوب الحج عليه ، بل يلزمه الحج متسكعا. وأما في الخمس فلا تكون نافذة إلاّ إذا كانت لائقة بحاله مناسبة لشأنه ، على وجه لا تعد تبذيرا بل تعد مئونة. وأمّا في الزكاة فتكون نافذة ورافعة لموضوع وجوبها عليه.

٣٧٤

وأمّا التصرف الشرعي فهو بأن يتوجه إليه تكليف مالي في أثناء السنة ، ويكون ذلك التكليف هادما لموضوع تلك التكاليف المشروطة بما ذكر ، على اختلاف بينها في كونه هادما له بنفس توجهه أو هادما له بامتثاله ، فإنّ ذلك التكليف المالي إمّا أن يكون متعلقا بالعين ، وإمّا أن يكون متعلقا بالذمة. فإنّ كان متعلقا بالعين كان هادما لموضوع التكليف في كل من هذه الأمثلة الثلاثة ، وإن كان متعلقا بالذمة ، فان كان في مقابل الحج ، فان كان حالا بأن كان وقت أدائه قبل الحج ، فلا إشكال في كونه بمجرد توجهه هادما لموضوع الحج ، سواء أدّاه أو عصى ولم يؤدّه. وإن كان مؤجلا إلى ما بعد الفراغ من الحج ، فان لم نعتبر الرجوع إلى الكفاية في وجوب الحج لم يكن لذلك التكليف المالي أثر بالكلية ، وإن اعتبرنا فيه الرجوع إلى الكفاية كان ذلك التكليف المالي أيضا هادما لموضوع وجوب الحج بنفس توجهه.

وأمّا بالنسبة إلى الزكاة فلا أثر فيه للمؤجل إلى ما بعد الحول ، وفيما يكون حالا قبل الحول لا يكون لمجرد توجهه أثر ، نعم لو أدّاه من عين النصاب كان موجبا لانهدام موضوع وجوب الزكاة ، فان كان ماله منحصرا في النصاب كان من قبيل ما يكون بامتثاله رافعا ويكون من الرفع الشرعي ، وإن لم يكن ماله منحصرا فيه كان أداؤه من مال النصاب من قبيل الدفع الاختياري.

وأمّا بالنسبة إلى الخمس ففيه تفصيل ، فإنّ التكليف المالي المتعلّق بالذمة إن كان من قبيل أداء الدين الذي استدانه لنفقته في سنة الربح ، لم يفرق فيه بين الحال والمؤجل في كونه بتوجهه هادما لموضوع وجوب الخمس فيما قابله ، أدّاه أو لم يؤده. وإن لم يكن من هذا القبيل بل كان من ديون السنة السابقة ، فان كان حالا وأداه في سنة الربح كان موجبا لدفع

٣٧٥

موضوع وجوب الخمس فيه ، وإلاّ فلا أثر لمجرد اشتغال ذمته به ، سواء كان مؤجلا أو كان حالا ولم يؤده ، وحينئذ يكون هذا النحو من الدين هادما لموضوع وجوب الخمس بامتثاله لا بمجرد توجهه. وهكذا الحال في الغرامات والضمانات المتوجهة إليه في عرض السنة ، فإنّه لا يبعد أن يكون الهادم لوجوب الخمس فيما قابلها من الربح هو أداءها لا مجرد توجهها.

واعلم أنّ كل ما يكون هادما بامتثاله لا بتوجهه يكون بالنسبة إلى آخر السنة الذي هو وقت وجوب إخراج الخمس من قبيل الترتب ، لأنّه في ذلك الآن مأمور بأداء ذلك المال ، فان لم يؤده وجب عليه إخراج خمسه. هذا كلّه في نسبة هذه التكاليف الثلاثة ـ أعني وجوب الحج والزكاة والخمس ـ إلى غيرها من التكاليف المالية الواردة عليها.

وأمّا نسبة بعضها إلى بعض ، فان كان بعضها في أثناء سنة الآخر كان مقدما عليه ، كما إذا تمت سنته الزكوية قبل تمام سنة الربح ، فانّ المقدم حينئذ هو الزكاة ، ويكون مجرد توجه الزكاة هادما لموضوع وجوب الخمس. ولو كان الأمر بالعكس كان الحكم على العكس ، فيقدم الخمس على الزكاة لو تمت سنته في أثناء سنة الزكاة ، ويكون توجه الخمس إليه هادما بنفسه لوجوب الزكاة. ولو اقترنا كانت الزكاة مقدمة لكون الخمس مشروطا بمالكية فاضل المئونة ، والتكليف بالزكاة لا يدعه مالكا لذلك.

قلت : هذا كلّه في نسبة كل واحد من هذين إلى الآخر ، وأمّا نسبة كل واحد منهما إلى وجوب الحج فالظاهر أنّ كلاّ منهما إذا تمت سنته في أثناء سنة الاستطاعة كان بنفس توجهه هادما لموضوع وجوب الحج ، وإن كان بالعكس كان الحج هادما لموضوع كل منهما بامتثاله ، ولو اقترن أحدهما أو كلاهما معه كانا مقدّمين عليه بنفس التوجه لا بالامتثال.

٣٧٦

ثم لا يخفى أنّ ما ذكرنا من تقدم حول الزكاة على حول الخمس الظاهر أنّه يمكن جريانه فيما يعتبر فيه الحول من الزكويات كالأنعام والنقدين ، فانّه إذا فرض أنّ رأس سنة الخمس هو أوّل محرم ، وكان قد ملك النصاب المذكور أوّل ذي الحجة ، واتفق أنّه عند الحساب في أول محرم هذه السنة تبين أنّ عنده خسارات كثيرة ولم يكن عنده فاضل مئونة ، وبقي عنده النصاب إلى أن كمل حوله في ذي الحجة ، فكان عليه أن يزكيه لكنّه لم يفعل ، ولمّا جاء محرم كانت عنده أرباح كثيرة ، فيلزمه تخميس ما عنده إلاّ الناقة التي كانت زكاة. وقد يتصور ذلك في زكاة الغلات بأن يكون له زراعة يتم حاصلها في أثناء سنة الربح فيلزمه أداء الزكاة ، وبعد تمامية سنة الربح يلزمه إخراج خمس باقي ذلك الحاصل إن كان فاضلا عن مئونته. وقد ذكر في العروة (١) في أوائل الزكاة وكذلك في الجواهر (٢) فروعا متعلقة باجتماع النذر والزكاة واجتماع الزكاة مع الحج ، ونحن أفردناها مشروحة في أوراق مستقلة (٣) ، فراجعها إن شاء الله تعالى.

ثم اعلم أنّ ما يكون من التكاليف هادما بامتثاله لشرط التكليف له أمثلة في الفقه كثيرة ، منها ما عرفت من بعض صور الأمثلة السابقة ، ومنها أمثلة في باب السفر والحضر ، كمن كان مسافرا وحرمت عليه الإقامة لجهة من الجهات ، فانّه إن عصى وأقام وجب عليه الصوم ، فهو من أول الفجر إلى الزوال مخاطب بحرمة الإقامة ولزوم تركها ، كما أنّه مأمور في ذلك الوقت بالصوم المشروط بالإقامة التي هي عصيان التحريم المذكور. فان قلنا

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ١٩ ـ ٢٥ / مسألة ( ١٢ و ١٣ ).

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٤٣ ـ ٤٨.

(٣) مخطوطة ، لم تطبع بعد.

٣٧٧

إنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر مع بقاء موضوعه كان حرمة الإقامة من قبيل الأمر بالأهم ، والأمر بالصوم على تقدير الإقامة وعصيان ذلك التحريم من قبيل الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم ، من دون أدنى فرق بين المسألتين ، فانّه بناء على أنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر يكون امتثال النهي عنها بنفسه هدما لموضوع وجوب الصوم ، كما أنّ امتثال الأهم يكون بنفسه هدما لموضوع الأمر بالمهم.

وبناء على أنّ الإقامة قاطعة لموضوع السفر لم يكن امتثال النهي المذكور بنفسه هدما لموضوع وجوب الصوم ، بل إنّما يكون هدما له بلازمه ، لأنّ امتثال النهي المذكور يلزمه أن يكون داخلا في موضوع المسافر ، وذلك اللازم أعني المسافر هو الهادم لموضوع وجوب الصوم ، إذ ليس الهادم لموضوع وجوب الصوم هو مجرد [ ترك ](١) الإقامة.

والحاصل : أنّه إذا قلنا إنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر كان عصيان النهي عنها بنفسه شرطا في وجوب الصوم ، فيكون من قبيل الأهم والمهم تحقيقا. وإن قلنا إنّها قاطعة لموضوع السفر كان عصيان النهي عنها محققا لموضوع وجوب الصوم ، أعني عنوان الحاضر ، أو من لم يكن مسافرا. وعلى الأوّل يكون بين وجوب الصوم وحرمة الإقامة واسطة واحدة وهي عصيان حرمة الإقامة ، وعلى الثاني يكون بينهما واسطتان : عصيان الإقامة وتحقق موضوع وجوب الصوم ، أعني الحضر أو عدم السفر (٢) ، فتأمل.

فقد تلخّص لك : أنّ كل تكليف يكون بامتثاله هادما لموضوع

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) [ في الأصل : الصوم ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٧٨

التكليف الآخر يكون تحقق ذلك التكليف الآخر متوقفا على عدم امتثال ذلك التكليف الذي يكون امتثاله هادما لموضوعه ، سواء كان متعلّق كل من التكليفين في نفسه صالحا للاجتماع مع متعلق الآخر أم لم يكن صالحا ، ومنه ما نحن فيه من الأمر بالأهم والأمر بالمهم المعلّق على عصيان الأمر بالأهم. وعمدة الكلام في أمثال ذلك هو أن كون أحد التكليفين بامتثاله هادما لموضوع التكليف الآخر ، وكون التكليف الآخر مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الأوّل ، هل يكون مخرجا للتكليفين عن كونهما إيجابا للجمع بين المتعلقين ليصح الأمران فيما كان المتعلقان في أنفسهما غير ممكني الجمع ، أو أن ذلك لا يكون مخرجا للأمرين المذكورين عن كونهما مستلزمين لإيجاب الجمع ، ليصح في خصوص ما أمكن فيه الجمع دون ما لم يمكن.

فخلاصة الكلام في المسألة هو : أنّ الأمرين المذكورين اجتمعت فيهما جهتان متلازمتان : الاولى كون أحد التكليفين هادما لموضوع التكليف الآخر ، والاخرى كون ذلك التكليف الآخر مشروطا بعدم امتثال التكليف الأوّل. فهل يكون كل من هاتين الجهتين أو إحداهما نافعا في إخراجهما عن إيجاب الجمع ، أو أنّه لا يكون شيء منهما نافعا في ذلك؟

قوله : وبالجملة فرض اشتراط طلب المهم بترك الأهم وفرض كونه مطلوبا معه ممّا لا يجتمعان ، ولازم الفرضين هو استلزام الشيء لنقيضه واجتماعه مع علّة عدمه ، وكلاهما مستحيلان ... إلخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه بعد كلام مفصّل في ذلك ما هذا لفظه : والحاصل : أنّك قد عرفت أنّ مناط الأمر بالجمع هو أن يكون الأمر بالقراءة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٧٩

مقتضيا لها في حال الاشتغال بالقيام ، إمّا من جهة أخذ القيام قيدا للوجوب أو أخذه قيدا في الواجب ، وإمّا من جهة إطلاق وجوبها بالنسبة إلى امتثال الأمر بالقيام وعدم امتثاله ، فانّه أيضا يكون موجبا لأن يكون الأمر بالقراءة مقتضيا لها في حال القيام. فإذا قيد الأمر بها بعدم القيام ، وكان التقييد المذكور موجبا لانحصار القراءة المأمور بها بحال عدم القيام ، فقد انحصر كل من الوجوب المذكور ومتعلّقه بنقيض ما هو مناط الجمع ، فلا يعقل أن يكون حينئذ موجبا للأمر بالجمع بينها وبين القيام إلاّ بأحد وجهين :

أحدهما : تبديل القيد المذكور بنقيضه بأن يقال : إنّ وجوب القراءة مع فرض كونه مقيدا بعدم القيام يكون عند فعليته مقيدا بالقيام.

ثانيهما : أن يقال : إنّ وجوب القراءة مع فرض كونه مشروطا بعدم امتثال الأمر بالقيام ، يكون عند فعليته مطلقا شاملا لصورة امتثال الأمر بالقيام.

وكل من هذين الوجهين خلف لما فرض من كون الأمر بالقراءة مقيدا بعدم امتثال الأمر بالقيام ، فالقائل بأنّ الأمر الترتبي مستلزم لإيجاب الجمع إمّا أن يلتزم بأحد هذين الوجهين ، وهو ما ذكرناه من الخلف ، وإمّا أن يلتزم بأنّ القيد المذكور وهو عدم القيام لا يتبدل عند فعلية الوجوب المذكور ، ولا يكون الوجوب المذكور عند فعليته منقلبا عن التقييد إلى الإطلاق. فان قال مع ذلك الالتزام إنّ الأمر المذكور مستلزم للأمر بالجمع ، فقد عرفت أنّ تقييد الوجوب موجب لتقيد الواجب ، فيكون تقييد الأمر بالقراءة بعدم القيام موجبا لتقيد القراءة بذلك ، ولا ريب أنّ تقيد القراءة المطلوبة بعدم القيام نقيض لما هو مناط الجمع أعني كونها متقيدة بالقيام ،

٣٨٠