أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

على امتثاله زمانا كي يكون ذلك موجبا لتقدمه زمانا على عصيانه ، بل إنّ التكليف السابق يبقى إلى تمام إطاعته أو عصيانه ، لا أنّه ينعدم في أوّل زمان إطاعته أو عصيانه ، إذ لا معنى لإطاعة الأمر المنعدم أو عصيانه.

والحاصل : أنّ التكليف بالأهم وإن كان سابقا على زمان إطاعته أو عصيانه ، إلاّ أنّه لا ينعدم بأوّل زمان إطاعته أو عصيانه ، بل يبقى مستمرا إلى أن تكمل إطاعته أو عصيانه ، ولا يسقط إلاّ بانتهاء زمان إطاعته أو زمان عصيانه ، وحينئذ ففي أثناء الزمان الذي يستمر فيه العصيان يكون الأمر بالأهم باقيا موجودا ، وقد تحقّق أيضا الأمر بالمهم ، فاجتمع الأمران.

قوله : ثم إنّ ما ذكرناه من أنّ خطاب المهم وامتثاله متحدان زمانا مع عصيان خطاب الأهم إنّما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : فان كان الأمران مضيقين كما في الغريقين اللذين يكون أحدهما أهم من الآخر ، كان كل من حصول شرط الأمر بالأهم ونفس الأمر بالأهم وعصيان ذلك الأمر وتحقّق الأمر بالمهم وإطاعته واقعا مع البواقي في آن واحد وإن اختلفت في الرتبة ، لكون كل واحد منها مقدما على ما يليه رتبة ، وكان إطلاق الأمر بالمهم الشامل في حد نفسه لصورة إطاعة الأهم وصورة عصيانه مقيدا بالصورة الثانية ، أعني صورة عصيان الأهم.

وإن كان أحد الأمرين مضيقا والآخر موسعا كما في إزالة النجاسة والصلاة ، كانت هذه الامور الخمسة أيضا متحدة بحسب الزمان مختلفة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٣٤١

بحسب الرتبة ، إلاّ أنّ الأمر الموسع لمّا لم يكن في حد نفسه وبتمامه مزاحما للمضيّق ، وإنما كان المزاحم له إطلاقه وشموله للفرد الواقع في وقت الإزالة ، وكان شمول الأمر الموسّع لذلك الفرد مطلقا في حد نفسه ، بمعنى أنّ شموله للفرد المذكور وعمومه له شامل لصورة الإتيان بالمضيّق وصورة عدم الإتيان ، بحيث إنّ الأمر بالصلاة يشمل الصلاة المزاحمة للازالة في كل من صورتي الإتيان بالإزالة وعدم الإتيان بها ، وهو غير ممكن إلاّ بالترتب ليكون مقتضاه تقييد شموله للفرد المذكور بصورة عدم الإتيان بالإزالة.

قلت : إنّ حكم العقل بخروج ذلك الفرد متولد عن المزاحمة وكون الإزالة أهم ، فانّه حينئذ يحكم العقل بخروج ذلك الفرد عن إطلاق الأمر بالصلاة ، ولكن إنّما يحكم بخروجه في صورة الإتيان بالإزالة ، ويبقى في صورة عدم الإتيان بالإزالة على ما هو عليه من كونه شاملا للفرد المذكور ، وحينئذ يجتمع في زمان واحد كل من شرط وجوب الإزالة ونفس وجوبها وعصيانه وشمول الأمر بالصلاة لذلك الفرد والإتيان بذلك الفرد.

لكن هذا كلّه بعد فرض حكم العقل بخروج ذلك الفرد المزاحم للإزالة ، وقد عرفت فيما تقدّم (١) أنّه لا مزاحمة بينهما ، فيجتمع إطلاق الأمر بالصلاة وشموله لذلك الفرد مع الأمر بالإزالة ، ولا مزاحمة بينهما ، إذ لا إلزام من ناحية الأمر بالصلاة كي يكون ذلك الالزام مدافعا ومزاحما للأمر بالإزالة.

قوله : المقدمة الرابعة وهي أهم المقدمات : أنّ انحفاظ الخطاب في تقدير ما إنّما يكون بأحد وجوه ثلاثة .. إلخ (٢).

يمكن تحليل هذه المقدمة إلى امور :

__________________

(١) في صفحة : ١٤٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦٦.

٣٤٢

الأوّل : أن التقدير الذي يمكن إضافة التكليف إليه تارة يكون مما يمكن جريان التقييد والإطلاق بالنسبة إليه ، من دون فرق في ذلك بين اللحاظيين والذاتيين ، وتارة لا يمكن فيه كوجود متعلق ذلك التكليف وعدمه.

الأمر الثاني : أنّ النحو الأوّل من التقدير يكون التقييد به موجبا لكونه بالنسبة إلى ذلك التكليف من قبيل العلّة بالنسبة إلى معلولها ، كما أنّ إطلاق التكليف من ناحيته يوجب ذلك أيضا ، إمّا لأنّ مقتضى إطلاق التكليف بالنسبة إليه راجع إلى تحقّق التكليف في كل من صورتي وجوده وعدمه ، فيكون كل من وجوده وعدمه سابقا في الرتبة على التكليف ، وإمّا لأنّ الإطلاق إنّما هو في قبال التقييد ، لكونه عدم التقييد ممّا من شأنه القابليّة للتقييد ، فيكون كل من وجود ذلك التقدير وعدمه واقعا في رتبة التقييد به ، فيكون سابقا في الرتبة على التكليف ، وتكون نسبته إلى ذلك التكليف من قبيل نسبة العلّة إلى معلولها.

أمّا النحو الثاني من التقدير فحيث إنّ التكليف يستدعي وضعه ، وباستدعائه وضعه يكون هادما لعدمه ، فيكون كل من وجوده وعدمه بمنزلة المعلول لذلك التكليف. أمّا الوجود فواضح ، وأمّا العدم فلكونه بديل الوجود ونقيضه ، فيكون واقعا في رتبته من ذلك التكليف أعني رتبة المعلولية ، أو لكون الوجوب لمّا كان مستدعيا لوضع الوجود كان بواسطة ذلك هادما لنقيض ذلك الوجود ، فيكون العدم بهذه الواسطة بمنزلة المعلول للتكليف المذكور.

الأمر الثالث : أنّ التكليف محفوظ في كل واحد من التقديرين المذكورين ، ولكن انحفاظه مع الأوّل من قبيل انحفاظ المعلول مع وجود

٣٤٣

علته ، وانحفاظه مع الثاني من قبيل العلّة مع وجود معلولها.

الأمر الرابع : أنّ التقدير الذي هو بمنزلة علّة التكليف يستحيل أن يكون انحفاظ التكليف معه موجبا لاقتضاء ذلك التكليف لوجوده ، أو كونه موجبا لانهدام عدمه ، لأنّ ما هو بمنزلة معلول الشيء يستحيل أن يكون بمنزلة علّة ذلك الشيء وإلاّ لزم تقدمه رتبة على نفسه. كما أنّ التقدير الثاني الذي هو بمنزلة معلول التكليف يستحيل أن يكون بمنزلة العلة للتكليف ، فما يقتضي التكليف وضع وجوده وهدم عدمه يستحيل أن يؤخذ ذلك التكليف مشروطا به أو مطلقا من ناحيته ليكون بمنزلة علّة ذلك التكليف ، لأنّ ما هو معلول الشيء يستحيل كونه بمنزلة علّته ، وإلاّ لكان مقدما على نفسه رتبة.

الأمر الخامس : أنّ عدم الأهم بالإضافة إلى نفس الأمر بالأهم يكون من قبيل المعلول ، لكونه مستدعيا لهدمه ، وما هو من قبيل المعلول للتكليف يستحيل أخذه شرطا فيه ليكون بمنزلة العلة لذلك التكليف ، وبالإضافة إلى الأمر بالمهم يكون من قبيل العلة ، فيستحيل أن يكون بالنسبة إليه من قبيل المعلول ، فلا يكون حينئذ مقتضيا. فالأمر بالأهم هادم لعدمه ، والأمر بالمهم لا يقتضي ذلك العدم ، فأين التدافع؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ذلك (١).

وتوضيح ما أفاده قدس‌سره في المقدمة الرابعة يحصل ببيان امور :

الأول : تقسيم التقادير إلى ما يجري فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي أو

__________________

(١) [ إلى هنا تنتهي الحاشية ، لكنه قدس‌سره أضاف إلى ذلك توضيحا في ورقة مستقلة ، وقد ارتأينا إدراج ذلك في المتن ].

٣٤٤

الذاتي وما لا يجري فيه ، وهو ما يقتضي التكليف وضعه كوجود المكلف به ، وما يقتضي التكليف هدمه ورفعه وهو عدم المكلف به.

الثاني : أنّ نسبة التقدير الأوّل الذي يكون قيدا في التكليف إلى نفس ذلك التكليف كنسبة العلّة إلى معلولها ، وهكذا الحال في التقدير الذي يكون التكليف مطلقا من ناحيته ، فانّ كلا من وجود ذلك التقدير وعدم وجوده حيث كان التكليف ثابتا على كل منهما يكون كل منهما بالنسبة إلى التكليف كنسبة العلّة إلى معلولها ، بمعنى كون كل منهما ملحوظا في الرتبة السابقة على التكليف.

أمّا التقدير الثاني الذي يكون التكليف متضمّنا لوضعه أو رفعه فتكون نسبته إلى التكليف كنسبة المعلول إلى علته ، فانّ ما يقتضي التكليف وضعه يكون معلولا للتكليف ، وكذلك ما يقتضي التكليف رفعه أعني عدم المكلّف به ، لأنّ عدم الشيء نقيض وجوده وبديله في مرتبته ، أو لأنّ التكليف بواسطة اقتضائه الوجود الذي هو نقيض العدم يكون بعين اقتضائه الوجود هادما للعدم.

وعلى أيّ حال يكون عدم متعلّق التكليف كوجوده في رتبة معلول التكليف ، وهذا بخلاف التقدير الذي يكون التكليف مشروطا به أو مطلقا بالقياس إليه ، فانّه يكون في رتبة علّة التكليف.

الثالث : أنّ التقدير الذي يكون بالنسبة إلى التكليف من قبيل العلّة يستحيل أن يكون ذلك التكليف مقتضيا لرفعه أو وضعه ، وإلاّ لعادت علة التكليف معلولة له ، والتقدير الذي يقتضي التكليف وضعه أو رفعه يستحيل أن يكون علّة للتكليف ، بأن يكون التكليف مشروطا به أو مطلقا من

٣٤٥

ناحيته ، وإلاّ لعاد المعلول للتكليف علّة له ، وكان ما هو في مرتبة المعلول واقعا في مرتبة العلّة.

ومن هذا الأمر الثالث يتضح لك استحالة تقييد التكليف بوجود المكلّف به أو بعدمه ، أو إطلاقه بالنسبة إليه من طريق آخر غير ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من لزوم تحصيل الحاصل أو التكليف بالمحال.

الرابع : أنّ التكليف محفوظ في كل من التقديرين السابقين ، ولكن انحفاظه مع الأوّل من قبيل انحفاظ المعلول مع علته ، ومع الثاني من قبيل انحفاظ العلّة مع معلولها.

الخامس : أنّ عدم الأهم بالنسبة إلى الأمر بالأهم يكون من التقادير التي يقتضي التكليف هدمها ، فيكون من قبيل ما هو المعلول للتكليف بالأهم ، وبالنسبة إلى التكليف بالمهم يكون من التقادير التي لا يقتضي التكليف وضعها ولا رفعها. فالتكليف بالأهم يقتضي رفع ذلك العدم وهدمه ، والتكليف بالمهم لا يقتضي وضع ذلك العدم ، فلا تدافع بينهما.

السادس : لا بدّ من دفع إشكال التدافع بينهما من ناحية اخرى غير العدم المذكور ، وتلك الناحية هي أنّ التكليف بالأهم يقتضي وضعه ، والتكليف بالمهم يقتضي وضعه أيضا ، فيؤول الأمر حينئذ إلى التكليف بوضع كل منهما.

وقد يقال في الجواب عنه : إنّ الأوّل لمّا كان هادما للثاني ولو بواسطة هدمه لموضوعه ، لم يكن الأمر بكل منهما على النحو المسطور منتهيا إلى الجمع بينهما ، والشاهد على ذلك أنّهما لو كان جمعهما مقدورا وأتى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٨.

٣٤٦

المكلف بهما معا دفعة واحدة لم يقع الثاني منهما على صفة الوجوب ، كما تقدم من مثال وجوب دخول المسجد بقول مطلق ووجوب القراءة مشروطا بعدم دخول المسجد.

وفيه : أنّ مجرد كون الأوّل هادما للثاني لا يخرج الأوّل عن كونه مقتضيا لوضع متعلّقه ، والثاني أيضا قاض بوضع متعلقه ، فيلزم طلب الاجتماع. والعمدة في الجواب : هو أنّ تقيد الثاني بعصيان الأوّل يخرجهما عن اقتضاء الجمع.

وقد يشكل بالنقض فيما لو قيّدنا الثاني باطاعة الأوّل ، فانّ الأوّل يكون موجبا لوضع موضوع الثاني ، والثاني إن لم يكن موجبا لحفظ موضوع نفسه فلا أقل من عدم كونه هادما لموضوع نفسه ، فينبغي أن يقال إنّه لا يحصل التدافع بينهما. ولا بدّ في الجواب من التقريب السابق (١) وهو أنّ الأمر الأوّل وإن لم يكن متحققا في مرتبة إطاعة نفسه ليكون هو السالب للقدرة على الثاني ، لكن امتثال الأوّل يكون سالبا للقدرة على الثاني ، فيمتنع الثاني عند إطاعة الأوّل لكونه غير مقدور حينئذ.

السابع : لا بدّ من التعرض للمقدمة الوجودية ، فانّ التكليف يقتضي وضعها مع أنّه مطلق من ناحيتها ، فكيف صحّ لكم القول في الأمر الثالث بأنّ ما يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه يستحيل كون التكليف مقتضيا له.

وإجمال الجواب هو المنع من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى ما يكون من المقدمات الوجودية واجبا ، غايته أنّ التكليف محفوظ مع كل من وجودها وعدمها على نحو انحفاظ العلّة مع معلولها ، والشاهد على ذلك

__________________

(١) المتقدم في صفحة : ٣٠٩.

٣٤٧

أنّها لو كانت شرطا في التكليف لاستحال كون ذلك التكليف مقتضيا لوجوبها ، ولازم ذلك أنّ التكليف لو كان مطلقا بالقياس إليها بحيث إنّه كان ثابتا على كل من تقديري وجودها وعدمها ، لكان اقتضاء ذلك التكليف لإيجادها محالا ، فلا بدّ من القول بأنّها بعد فرض كونها واجبة بالوجوب الغيري الذي اقتضاه الوجوب النفسي المتعلق بذيها ، لا يمكن أن يكون ذلك الوجوب الوارد عليها مقيدا بوجودها ، أو مطلقا من ناحية وجودها وهو واضح. فهي من هذه الجهة نظير الإطاعة والعصيان في استحالة تقييد الطلب أو إطلاقه من ناحيتهما ، لكونهما بالنسبة إلى ذلك التكليف من قبيل المعلول بالنسبة إلى علّته ، فيستحيل وقوعهما منه منزلة العلة.

قوله : الثالث : أن يكون الخطاب بنفسه مقتضيا لوضع هذا التقدير أو لرفعه ، فيكون محفوظا في الصورتين لا محالة .. الخ (١).

المراد من المحفوظية في هذا القسم كما مرّ وسيأتي (٢) هي نحو محفوظية العلّة مع وجود معلولها ، بمعنى أنّ ذلك التكليف يكون ثابتا ومتحققا في صقعه مع فرض وجود ما تعلق به وعدمه ، لا أنّه موجود في مرتبة وجود متعلقه وعدمه ، لما عرفت وسيأتي من الفرق بين المحفوظيتين. ففي القسم الأوّل والثاني تكون من قبيل محفوظية المعلول الذي هو نفس التكليف مع التقدير المشروط به ، أو المطلق بالقياس إليه الذي هو بمنزلة علة ذلك التكليف ، وفي القسم الثالث تكون محفوظية التكليف بالقياس إلى وجود متعلقه وعدمه من قبيل محفوظية العلة مع وجود معلولها وعدمه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٧.

(٢) في الحاشية السابقة واللاحقة.

٣٤٨

الذي هو بديل وجوده في مرتبته.

قوله : أما استحالة التقييد فلأنّ وجوب فعل لو كان مشروطا بوجوده ، فلازمه اختصاص مطلوبيته بتقدير وجوده خارجا ، وهو طلب الحاصل ... إلخ (١).

مضافا إلى ما عرفت (٢) من أنّ وجود المتعلق وعدمه يكون واقعا في مرتبة معلول التكليف ، فيستحيل أخذه قيدا أو مطلقا في ذلك التكليف ، لكونه حينئذ واقعا في مرتبة علّة التكليف ، فيستحيل أخذه شرطا فيه. أما الوجود فواضح ، لأن كون التكليف مقتضيا له مناف لكونه شرطا فيه ، لأن مقتضى كونه شرطا هو أن لا يكون مقتضيا له. وأمّا العدم فلأنّ التكليف هادم له ، فيستحيل أخذه شرطا فيه ، لأنّ مقتضى كونه شرطا فيه هو أن لا يكون متعرضا له بوضع ولا برفع ، لاستحالة كون الحكم رافعا لموضوعه وشرطه.

نعم يصح أن يقال : إن لم تصلّ فصلّ ، لكنه على معنى إن لم تصلّ فيما مضى فصلّ فيما سيأتي ، فلا يكون الشرط هو نفس عدم الصلاة ، بل يكون الشرط هو مضي العدم ، ولا كلام لنا فيه ، وإنّما كلامنا في الشرط المقارن أعني العدم الذي يقترن به ذلك التكليف ، ليكون الحاصل أنّ عدم الصلاة المقرون بالتكليف بها يكون شرطا في نفس ذلك التكليف ، فيكون الحاصل هو الأمر بايقاع الصلاة مقرونا بعدمها.

فاتضح بذلك فساد ما ربما يقال هنا من أنّ كل تكليف إنّما يتوجه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في صفحة : ٣٤٤ ، ٣٤٥.

٣٤٩

عند عدم متعلقه ، لأنّ توجهه مع فرض وجود متعلقه يكون من تحصيل الحاصل ، لأنّك قد عرفت أنّ توجه التكليف في حال عدم متعلقه لا يوجب كون ذلك العدم شرطا في ذلك التكليف. نعم لازم ذلك أن لا يصح التقييد بكل من الوجود والعدم ، كما لا يصح أن يكون التكليف في الواقع مطلقا بالقياس إلى كل منهما ، وحينئذ يكون اللازم هو الإهمال في الواقع من هذه الناحية ، أعني وجود المتعلق وعدمه.

لكن يمكن الجواب عنه : بأنّ التكليف إنّما يتعلق في الواقع بنفس الذات ، فانّه طلب الوجود ، ولا ريب أنّ معروض طلب الوجود إنّما هو نفس [ الذات ](١) المعرّاة عن كل من الوجود والعدم ، كما هو الشأن في نفس معروض الوجود ، فلا إطلاق ولا تقييد من هذه الناحية بل ولا إهمال بمعنى الصلاحية لكل من التقييد والإطلاق ، وذلك ممكن معقول ، كما لو لاحظنا نفس التكليف بالنسبة إلى وجود نفسه وعدمه ، فانه لا يكون مطلقا من هذه الناحية ولا مقيّدا ولا مهملا ، بل في هذه المرحلة لا يكون الملحوظ إلاّ نفس التكليف.

وهكذا الحال في متعلق التكليف فانّ التكليف الوارد على الفعل مثلا لا يكون في الواقع مقيدا بوجود ذلك الفعل ، ولا مقيدا بعدمه ولا مطلقا من هذه الناحية بل ولا مهملا ، لأنّ ذلك كلّه إنما يتصور فيما يمكن أن يكون التكليف بالقياس إليه واسعا أو مضيقا ، أمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يتحقق فيه تقييد ولا إطلاق ولا إهمال ، كما هو الحال في نفس متعلق ذلك التكليف ، فانّه لا يعقل أن يكون الوجوب واردا على الفعل المقيد بالوجود

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٥٠

أو المقيد بالعدم أو المطلق من هذه الناحية ، بل ولا المهمل ، فتأمّل.

ونظير ما تقدم من التوهم توهم إيراد آخر وقع في نفسي ، قد يتخيل توجّهه على ما أفاده قدس‌سره من استحالة كون التكليف مقتضيا للتقادير التي يكون انحفاظه معها لكونه مطلقا بالقياس إليها ، فيقال : إنّ كل تكليف بالنسبة إلى المقدمات الوجودية لمتعلقه يكون انحفاظه معها لكونه مطلقا بالقياس إليها ، مع أنّه يقتضي وضعها. وعن هذا التوهم ينشأ الإيراد على كل ما رتّبه قدس‌سره على إلحاق التقادير التي ينحفظ معها التكليف لكونه مطلقا بالقياس إليها بالتقادير التي يكون انحفاظه لكونه مقيدا بها ، سوى إمكان كون التكليف ناظرا إليها من حيث الإطلاق والتقييد.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهة على تقدير تماميتها لا تخل بغرضه قدس‌سره من عدم التدافع بين الأمرين في مسألة الترتب ، لأنّ هذه الشبهة مبنية على الفرق بين التقادير التي يكون انحفاظ التكليف معها لأجل أنّه مقيد بها ، والتقادير التي ينحفظ معها لأجل أنّه يقتضيها ، كيف ما كانت التقادير التي يكون انحفاظه معها لأجل كونه مطلقا بالقياس إليها ، وإن كان الظاهر أنّه قسم ثالث لكونه جامعا لآثار كل من القسمين.

وحاصل هذا التوهم الذي وقع في نفسي هو أنّ جميع المقدمات الوجودية لما هو متعلق التكليف لا يكون التكليف بالقياس إليها مشروطا ، بل يكون مطلقا ، فيكون انحفاظ التكليف معها لأنّ التكليف مطلق بالقياس إليها ، ومن الواضح أنّ التكليف يكون مقتضيا لها. فالذي ينبغي بناء على هذا التوهم جعل ما يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه قسما ثالثا ، ويقال إنّ ما يكون انحفاظ التكليف معه لكونه ـ أي التكليف ـ مشروطا بالقياس إليه

٣٥١

يستحيل أن يكون التكليف مقتضيا له ، وما يكون انحفاظ التكليف معه لكونه ـ أي التكليف ـ مطلقا بالقياس إليه يمكن أن يكون ذلك التكليف مقتضيا له كما في المقدمات الوجودية ، ويمكن أن لا يكون التكليف مقتضيا له كما في غير المقدمات الوجودية ممّا يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه ، وما يكون انحفاظ التكليف معه لأجل أنّه يقتضيه يستحيل أن يكون التكليف مطلقا أو مقيدا بالقياس إليه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ التكليف يقتضي المقدمات الوجودية ، فينبغي أن لا يكون مطلقا بالقياس إليها ، اللهم إلاّ أن يقال : إنّ التكليف إن كان بنفسه يقتضي التقدير استحال كونه مطلقا بالقياس إليه ، أمّا إذا كان اقتضاؤه له بواسطة توقف متعلقه عليه فلا مانع من كونه مطلقا بالقياس إليه. لكن الإشكال بعد باق ، لأنّ التكليف إن كان مقتضيا للتقدير ولو بواسطة توقف متعلقه عليه يكون ذلك التقدير في مرتبة معلول الحكم ، وحينئذ يستحيل أن يكون مطلقا بالقياس إليه ، لأنّ كونه مطلقا بالقياس إليه يستدعي كون ذلك الحكم في مرتبة المعلول له.

اللهم إلاّ أن نمنع هذه الجهة أعني جهة كون إطلاق التكليف بالقياس إلى التقدير موجبة لكون ذلك التقدير بمنزلة العلة لذلك التكليف ، فانّ ذلك إنّما هو في خصوص التقييد به ، أمّا إطلاقه بالقياس إليه فلا يستلزم ذلك ، فانّ وجوب الحج لو كان مطلقا من حيث الاستطاعة لم يكن محصله إلاّ أنّه غير مقيد بها ، وأنّ ذلك الوجوب موجود في ظرف وجودها وفي ظرف عدمها ، وذلك لا يستلزم التقدم الرتبي للاستطاعة ولا لعدمها على وجوب الحج ، وحينئذ لو اتفق أن كان نفس الواجب متوقفا على الاستطاعة ، بحيث إنّها كانت مقدمة وجودية للحج لاتفاق توقّفه عليها ، لكان وجوب الحج

٣٥٢

مقتضيا لإيجادها ، ولا يكون اقتضاؤه لإيجادها منافيا لكون الوجوب نفسه غير مشروط بها ، وأنّه موجود سواء كانت موجودة أو كانت معدومة ، غايته أنّها لو كانت معدومة كان على المكلف إيجادها لكون ذلك التكليف مستدعيا لإيجادها.

ولا يخفى أنّ المنشأ في هذه الشبهة هو ما اشتهر على الألسنة من أنّ التكليف بالقياس إلى المقدمات الوجودية لما هو متعلّق به يكون مطلقا لا مشروطا.

ولا يخفى أنّ دفع هذه الشبهة بأنّه لا مانع من إطلاق التكليف بالقياس إلى بعض ما يكون هو ـ أعني التكليف ـ مقتضيا له قد يقال إنّه لا يمكن الالتزام به ، فانّ ما أفاده قدس‌سره من الدليل على استحالة كون التكليف مقتضيا لما يكون انحفاظه معه لكونه مطلقا بالقياس إليه كان برهانا عقليا غير قابل للتخصيص بالمقدمات الوجودية ، ولأجل ذلك لمّا عرضت بخدمته قدس‌سره هذا التوهم أجاب عنه بأنّ المقدمات الوجودية إنّما هي القسم الأخير ، أعني ما يكون انحفاظ التكليف معه لأجل أنّه يقتضيه ، لا لأجل كونه مطلقا بالقياس إليه.

وتوضيحه : أنّ ما اشتهر على الألسنة من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى المقدمات الوجودية من قبيل ربّ مشهور لا أصل له ، حيث إنّ التكليف المفروض كونه مقتضيا للمقدمات الوجودية يستحيل أن يكون مطلقا بالقياس إليها ، كما يستحيل أن يكون مشروطا بها ، لما عرفت فيما تقدّم من جواب التوهم الأوّل.

وبالجملة : أنّ الغرض من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى شيء أنّه يمكن أن يكون التكليف مقارنا لوجود ذلك الشيء ، كما يمكن أن يكون

٣٥٣

مقارنا لعدمه ، فقولنا إنّ وجوب الصلاة مطلق بالقياس إلى قيام زيد مثلا أنّه يمكن أن يكون وجوبها متحققا في حال قيامه وفي حال عدم قيامه ، بحيث يكون وجوب الصلاة وامتثاله مقارنا لقيام زيد كما يكون مقارنا لعدمه ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يتأتى في المقدمات الوجودية بالقياس إلى التكليف المتعلق بذيها ، لاستحالة أن يكون التكليف بذي المقدمة وامتثاله مقارنا لوجود المقدمة أو لعدم وجودها ، وحينئذ فلا بدّ أن يكون انحفاظ التكليف معها لأجل أنّه يقتضيها ، لا لأجل أنّه مطلق بالقياس إليها.

فتلخّص لك : أنّ المقدمات الوجودية يستحيل أن يكون التكليف بالقياس إليها مطلقا كما يستحيل أن يكون مشروطا ، فلا يكون انحفاظه معها لأجل ذلك ، بل لأجل أنّه يقتضيها ، فلا يكون من التقادير ما يكون التكليف بالقياس إليه مطلقا ويكون انحفاظه معه لأجل أنّه مطلق بالقياس إليه ، ومع ذلك يكون ذلك التكليف مقتضيا له ، فتأمل.

لا يقال : إذا شك في كون مقدمة الوجود شرطا في الوجوب فلا إشكال عندكم في التمسّك باطلاق الوجوب على عدم كونها شرطا ، فكيف قلتم إنّ الوجوب لا يعقل أن يكون مطلقا بالنسبة إلى مقدمة الوجود.

لأنّا نقول : إنّا لم نتمسك بالإطلاق المذكور على عدم كونها شرطا في الوجوب بعد فرض كونها مقدمة وجود واجبة ، حيث إنّه مع الفرض المذكور ـ أعني كون المقدمة المذكورة واجبة ـ لا يبقى مجال للشك في كونها شرطا للتكليف ، لما هو واضح من أنّ ما هو شرط التكليف لا يعقل أن يكون واجبا ، وإنّما نتمسك بالإطلاق المذكور فيما إذا شككنا في وجوب تلك المقدمة وكان الشك في وجوبها ناشئا عن الشك في كونها شرطا في التكليف ، فبالإطلاق ننفي كونها شرطا في التكليف ، ويتفرع عليه

٣٥٤

أنّ المقدمة المذكورة واجبة ، لا أنّا ننفي الشرطية المذكورة بالإطلاق المذكور بعد فرض الفراغ عن كونها واجبة ، كي يتوجه عليه حينئذ ما ذكر من دعوى عدم معقولية الإطلاق بالنسبة إلى المقدمة الواجبة.

لا يقال : بناء على ذلك لا يكون الإطلاق كاشفا عن وجوب المقدمة ، بل تكون المقدمة المذكورة غير داخلة تحت الطلب ، سواء كان الطلب مقيدا بها أو كان مطلقا من جهتها. أمّا الأوّل فواضح ، لما ذكرنا من أنّ قيد الطلب لا يدخل تحته. وأمّا الثاني فلما ذكرتم من استحالة ما يكون الطلب مطلقا بالقياس إليه أن يكون داخلا تحت الطلب ، فأيّ فائدة في التمسك بالإطلاق المذكور؟

لأنّا نقول : إنّا لم نجعل الإطلاق دليلا على وجوب المقدمة ابتداء ، بل جعلنا الإطلاق دليلا على أنّها لم تكن شرطا في التكليف ، وبعد إثبات أنّها ليست شرطا نبقى نحن ومقدمة وجودية غير مأخوذة شرطا في التكليف بذيها ، فنحكم بأنّها واجبة بوجوب ذيها ، إذ لا مانع منه إلاّ كونها شرطا في التكليف ، وقد نفيناه بالاطلاق ، وبعد ثبوت وجوبها يحكم العقل باستحالة إطلاق الوجوب بالقياس إليها ، فتأمل فانّ لازم ذلك أن يكون الإطلاق ممّا يلزم من وجوده عدمه.

والجواب الحاسم لأصل هذا التوهم هو أن يقال : إنّه قد مرّ (١) في مبحث المقدمة الموصلة وسيأتي (٢) في بعض مباحث الترتب أنّ وجوب

__________________

(١ و ٢) [ الظاهر أنه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره تفسيرا لكلام المحقق صاحب الحاشية قدس‌سره. وقد تقدم ذلك في أجود التقريرات ١ : ٣٤٩ ، ويأتي في أجود التقريرات ٢ : ١٠٧ ـ ١٠٨ ].

٣٥٥

المقدمة واقع في مرتبة وجوب ذيها من كون الآمر بصدد تحصيل ذيها ، فيكون الوجوب الغيري الذي هو باقتضاء الوجوب النفسي المتعلق بذيها متوجها إلى خصوص ما يكون من المقدمة واقعا في سلسلة علل ذيها ، فلا يكون ذلك الوجوب مقتضيا إلاّ لخصوص ما يكون في درجة وجود ذيها كي تكون واقعة في سلسلة علله. وحينئذ فما يقتضيه الوجوب هو خصوص ما كان واقعا في سلسلة علل ذيها ، أعني ما يتعقبها ذوها. وما يتمسك باطلاق الوجوب على عدم كونه شرطا فيه هو مطلق وجود المقدمة ، فيكون الذي ينحفظ معه الوجوب لأنّه يقتضيه هو خصوص ما يقع في سلسلة علل ذي المقدمة وما يتعقبه وجوده ، وهذا لا يكون الوجوب مطلقا بالقياس إليه ولا ما هو نتيجة الإطلاق ، لكونه في الرتبة الثانية من رتبة الوجوب المذكور ، حيث إنّه رتبة إطاعته ، ويكون الذي ينحفظ معه الوجوب من المقدمة لأجل أنّ الوجوب مطلق بالقياس إليه هو المقدمة قبل هذه المرتبة ، أعني مرتبة وجودها في سلسلة علل ذيها.

والحاصل : أنّ المقدمة التي يقتضيها الوجوب هي الواقعة في مرتبة إطاعة الأمر بذيها ، وهذه لا يعقل إطلاق الوجوب بالنسبة إليها ، والتي يكون الوجوب مطلقا بالقياس إليها هي المقدمة في الرتبة السابقة على رتبة الإطاعة ، فيتمسك بالإطلاق على عدم كونها شرطا فيه ، حيث إنّ كون الشيء شرطا في الوجوب وعدم كونه شرطا فيه إنّما هو في الرتبة السابقة على رتبة إطاعة ذلك الوجوب.

ولكن لا يخفى ما في ذلك كلّه من التطويل بلا طائل ، فانّ الشبهة واهية من أصلها ، حيث إنّها ناشئة عن الخلط بين نسبة وجود المقدمة إلى

٣٥٦

الوجوب النفسي المتعلق بذيها ونسبة وجودها إلى نفس الأمر الغيري المتعلق بها ، ومن الواضح [ أن ](١) التكليف الذي يكون منحفظا معها لكونه مقتضيا لها إنّما هو أمرها الغيري ، أمّا الأمر النفسي المتعلق بذيها فلا يكون انحفاظه إلاّ من جهة كونه مطلقا بالقياس إليها ، لا من جهة أنّه يقتضيها ، فانّ الأمر النفسي لا يكون هو الباعث على إيجاد المقدمة ، وإنّما يكون الباعث على إيجادها هو الأمر الغيري المعلول لذلك الأمر النفسي بناء على الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها.

وفيه تأمّل ، لأنّ لازم كون الوجوب النفسي المتعلّق بذيها مطلقا من ناحيتها أن يكون عدمها سابقا في الرتبة على ذلك الوجوب النفسي ، وهو سابق في الرتبة على الوجوب الغيري ، وهو سابق في الرتبة على عدمها ، لكونه مقتضيا لهدمه ، فيكون واقعا منه في مرتبة المعلول.

والصحيح ما تقدم (٢) نقله عن شيخنا قدس‌سره في جواب هذه الشبهة ، من أنّ المقدمة الوجودية تكون واقعة في مرتبة ذيها ، من حيث كون الوجوب النفسي مقتضيا لها ، فلا بدّ أن لا يتصور إطلاق ذلك الوجوب النفسي بالنسبة إليها ، كما لا يتصور بالنسبة إلى نفس ذيها ، وهذا لا ينافي انحفاظ الوجوب معها لكونه مقتضيا لها ، فراجع وتأمل.

ثم إنّه قد يتوهم الإيراد على ما فرّعه قدس‌سره (٣) على هذه المقدمة من ارتفاع التدافع في الأمرين المترتبين ، فيقال إنّ أقصى ما في هذه المقدمة أن لا يكون بين الأمرين تدافع بالنسبة إلى عدم الأهم ، حيث إنّ الأمر بالأهم

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) في صفحة : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٧٢.

٣٥٧

وإن كان محفوظا معه كالأمر بالمهم ، إلاّ أنّه لمّا كان انحفاظ الثاني معه لا لأجل كونه مقتضيا له بل لأجل كونه مشروطا ومقيدا به ، بخلاف انحفاظ الأوّل معه لأنّه إنّما يكون محفوظا معه لأجل كونه مقتضيا له لا لأجل كونه مقيدا ومشروطا به ، فكان الأوّل رافعا للتقدير المذكور وكان الثاني غير متعرض لرفعه أو وضعه ، فلم يكن بينهما تدافع بالقياس إليه ، إلاّ أنّهما بينهما التدافع بالقياس إلى اقتضاء نفس الأهم ، فانّ الأوّل يقتضيه في عرض اقتضائه رفع عدمه ، بمعنى أنّ الأمر بالأهم في حال كونه رافعا لعدمه وهادما له يكون مقتضيا لوضع الأهم (١) ، وقد كان الأمر بالمهم في ذلك الحال مقتضيا لوضع المهم ، فعاد محذور التدافع بين الأمرين المذكورين بحاله.

ولا يخفى ما في هذا التوهم ، فانّه إن كان المراد من أنّ الأمر بالأهم يقتضي وضع الأهم في حال عدم الأهم أنّه يقتضي وضعه في مرتبة عدمه ، بحيث يكون وضعه مقارنا لعدمه ، فقد عرفت أنّه محال ، لرجوعه إلى كون الأمر بالأهم مطلقا بالقياس إلى عدم متعلقه. وإن كان المراد أنّه يقتضي وضعه في الرتبة السابقة على عدمه ، بمعنى أنّه في الرتبة السابقة على مرتبة وجوده وعدمه يكون الأمر به مقتضيا لوضعه ، كما يكون مقتضيا في تلك الرتبة لرفع نقيضه أعني عدمه ، فذلك لا إشكال فيه ، إلاّ أنّ الأمر بالمهم لا يكون مقتضيا لوضع المهم في تلك الرتبة ، بل ليس الأمر بالمهم متحققا في تلك الرتبة ، أعني الرتبة السابقة على وجود الأهم وعدمه ، بل إنّما يقتضيه في الرتبة المتأخرة عن عدم الأهم ، لكونه مشروطا بذلك العدم.

لا يقال : إنّ الأمرين المذكورين وإن كانا مختلفين بحسب الرتبة إلاّ

__________________

(١) [ في الأصل : المهم ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٥٨

أنّهما متحدان زمانا ، فيكون مأمورا بكل من الضدين في آن واحد فيعود المحذور.

لأنّا نقول : ليس المحذور في اجتماعهما إلاّ ما عرفت من التدافع المنتهى إلى الأمر بالجمع بين الضدين ، وذلك التدافع مندفع بما ذكرنا من الطولية الموجبة لتعاكسهما في الاقتضاء ، فانّ الأمر بالأهم (١) وإن كان مقتضيا له إلاّ أنّ اقتضاءه له عين هدمه لموضوع الأمر بالمهم ، والأمر بالمهم إنّما يكون مقتضيا للمهم على فرض عدم تحقق ما يقتضيه الأمر بالأهم من رفع نقيضه الذي هو عدم الأهم. وهذا كلّه مستفاد ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أنّ الأمر بالأهم لا ينزل إلى مرتبة الأمر بالمهم ، والأمر بالمهم لا يكون صاعدا إلى مرتبة الأمر بالأهم.

وأمّا ما في الكفاية (٣) من تسليم القضية الثانية وإنكار القضية الاولى فهو ممّا لا نعرف له معنى محصلا ، وكأنّه قدس‌سره يرى أنّ الأمر بالأهم لمّا كان مطلقا من جهة عدم متعلقه فيكون متحققا عند عدم متعلقه ، الذي يكون الأمر بالمهم متحققا عنده أيضا.

وفيه : ما عرفت من استحالة إطلاق الأمر بالأهم بالنسبة إلى عدم متعلقه ، مع أنّه قدس‌سره إذا سلّم أنّ الأمر بالمهم لا يصعد إلى مرتبة الأمر بالأهم لكونه متأخرا عنه رتبة فكيف يعقل أن يكون الأمر بالأهم نازلا إليه ، وهل ذلك إلاّ إنكار لما بينهما من التقدم والتأخر الرتبي. وبالجملة فانّ تسليمه للقضية الثانية وإنكاره للقضية الاولى من قبيل الجمع بين المتنافيين ، فتأمل.

__________________

(١) [ في الأصل : بالمهم ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٧٢ ، ٧٣.

(٣) كفاية الأصول : ١٣٤.

٣٥٩

لا يقال : إذا كان التقدم والتأخر الرتبي مسوّغا لتوجه الأمرين المذكورين ، فليكن كذلك فيما إذا علّق الأمر بالمهم على وجود الأهم.

لأنّا نقول : ليس مجرد التأخر الرتبي كافيا في ذلك ، بل هو بضميمة ما أفاده قدس‌سره في هذه المقدمة من التعاكس بين الأمرين ، وأنّ الأوّل منهما يكون طاردا لموضوع الأمر بالمهم ، وأنّ الثاني لا يكون حافظا لذلك الموضوع الذي يطرده الأوّل ، بضميمة ما أفاده قدس‌سره (١) في المقدمة الاولى من أنّ الأمر بالمهم لمّا كان مقيدا بعدم الإتيان بالأهم ، كان ذلك مخرجا للأمرين عن كونهما مستلزمين للأمر بالجمع بين الضدين.

وبالجملة : أنّ الأمرين في هذه الصورة لا بأس باجتماعهما ، بخلاف الصورة المفروضة فانّ الأمر الأوّل فيها يكون مقتضيا لحفظ موضوع الثاني ، والثاني وإن لم يكن متعرضا لذلك الموضوع بوضع ولا برفع ، إلاّ أنّه لمّا كان محصّله لزوم الإتيان بالمهم في حال الاتيان بالأهم ، كان من هذه الجهة من قبيل الأمر بالجمع بين الضدين ، فيكون محالا من هذه الجهة وإن كان متأخرا في الرتبة عن الأمر بالأهم.

وملخص ذلك : أنّ توجه الأمر بالمهم مشروطا بالإتيان بالأهم في نفسه محال ، كان الأمر بالأهم متحدا معه في الرتبة أو كان متقدما عليه في الرتبة ، بل إنّ ذلك الأمر محال وإن لم يكن في البين أمر بالأهم أصلا ، فتأمل.

ولو قال : إن أمرتك بالأهم أو إن علمت بالأمر بالأهم فافعل المهم أو فاترك الأهم ، كان ذلك محالا من جهة اخرى ، وهي لزوم المناقضة أو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٥.

٣٦٠