أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

قوله : وقد بيّنا في ذلك المبحث أنّ هذا إنّما يتم بناء على أن يكون الأحكام المجعولة في الشريعة من قبيل الإخبار عن إنشاءات عديدة لكل مكلّف عند تحقّق شرطه ... إلخ (١).

بيان ذلك : أنّه بعد البناء على أنّ شرط التكليف من قبيل الداعي لجعل الحكم يكون ذلك الشرط بوجوده العلمي مؤثرا في الجعل ، فيكون له المدخلية في الجعل لا في المجعول ، وإذا كان له المدخلية في الجعل كان محصّل قوله « حجّ إن استطعت » أنّك إن استطعت أجعل عليك وجوب الحج ، فقبل تحقّق الاستطاعة لا جعل ولا مجعول ، وإنّما يكون الجعل عند الاستطاعة ، ويكون حاصل قوله « حج إن استطعت » هو الإخبار عن أنّه يجعل عليه وجوب الحج بعد تحقّق الاستطاعة ، وهذا هو أحد اللوازم الباطلة المترتبة على كون الشرط من قبيل داعي جعل الحكم ليكون علّة مؤثّرة في ذلك الجعل.

وهناك لازم باطل آخر ، وهو كون مدخلية ذلك الشرط في الجعل وتأثيره فيه مدخلية واقعية لم تكن بجعل من الشارع لا ابتداء ولا انتزاعا ، بحيث إنّ ذلك الشرط يكون علّة في جعل الشارع الوجوب وفي تشريعه ذلك الوجوب ، ومن الواضح أنّ ما هو علّة في أصل تشريع الحكم وجعله لا يعقل أن يكون بجعل وتشريع من قبل الشارع ، بل لا بدّ أن تكون مدخليته في جعل ذلك الحكم وتشريعه مدخلية واقعية ، فيكون علّة تكوينية لذلك الجعل والتشريع ، غايته أنّها تكون علّة بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، لكونها على الفرض من قبيل الدواعي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٢١

ولأجل هذا التخيّل افيد ما افيد في الكفاية من تصحيح الشرط المتأخّر ، ومن كون السببية خارجة عن حيّز الجعل الشرعي لا استقلالا ولا تبعا ، وأنّها إنّما تكون مجعولة تكوينا عرضا بعين جعل موضوعها تكوينا ، فراجع ما أفاده في الكفاية في باب الشرط المتأخّر (١) وفي باب الأحكام الوضعية في مباحث الاستصحاب (٢) فانّ ذلك كلّه مبني على أساس أنّ الشرط شرط للجعل لا للمجعول ، وأنّه من قبيل الداعي ، وأنّ مدخليته في الجعل باعتبار وجوده العلمي ، لكونه من دواعي الجعل والتشريع لا من حدود المجعول وقيوده.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ من جملة ما يلزم القول بأنّ الشرط من مقولة دواعي الجعل والتشريع هو ما عرفت من كون مدخليته في ذلك التشريع والجعل مدخلية تكوينية لا شرعية ، فلازمه كون الشرطية والسببية سببية تكوينية ، فهي حينئذ خارجة عن حيّز الجعل والتشريع أصلا ، وذلك خروج عن كلا القولين في السببية من كون المجعول ابتداء هو نفس السببية أو أنّ المجعول هو المسبّب عند وجود السبب ، وأنّ السببية منتزعة من جعل المسبب عند وجود السبب.

نعم ، قد أورد شيخنا قدس‌سره في محلّه على القول بأنّ المجعول ابتداء هو السببية أنّ لازمه أن لا جعل للشارع إلاّ جعل الدلوك مثلا سببا لوجوب الصلاة ، فبعد هذا الجعل ينوجد الوجوب تكوينا عند وجود الدلوك ، فلا يكون الوجوب المذكور مستندا إلى الشارع ، بل يكون الشارع بجعله السببية قد أعطى سلطة التشريع للدلوك ، وجعله موجبا لفيض الوجوب ورشحه

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٣.

(٢) كفاية الأصول : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

٣٢٢

على حدّ سائر العلل التكوينية ، غايته أنّ هذه السلطة والعلّية للدلوك كانت بجعل الشارع ، لا أنّ الشارع هو الذي يجعل الوجوب عند وجود الدلوك ، إذ بعد فرض جعله الدلوك علّة لوجوب الصلاة يكون جعله الوجوب المذكور عند الدلوك لغوا صرفا ، وحيث إنّ الضرورة قائمة على الثاني ـ أعني كون الوجوب مجعولا شرعيا ـ كان ذلك ملازما بالضرورة لأنّ الشارع لم يجعل السببية والعلّية للدلوك ، بل إنّما جعل الوجوب على تقدير الدلوك.

وبالجملة : أنّ أحد هذين الجعلين موجب للغوية الجعل الآخر ، وتمام الكلام في هذه الجهة من الإشكال في محلّه (١) إن شاء الله تعالى.

وإنّما حررنا هذا الإشكال هنا ليتضح لك أنّ ما تقدّم من الإشكال على كون الشرط من الدواعي بأنّ لازمه ما التزم به في الكفاية من كون مدخليته في الجعل تكوينية ، هو إشكال آخر غير هذا الإشكال الذي وجّهه قدس‌سره على القول بأنّ المجعول الشرعي ابتداء هو نفس السببية.

قوله : وتوهّم لزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زمانا ببيان أنّ وجوب الإمساك مثلا إن لم يكن متقدّما على الإمساك في أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن يكون المكلف ... الخ (٢).

ما أشبه الالتزام بتقدير الوجوب قبل الفعل والشرط آناً ما بتقدير الملكية قبل التلف آناً ما في موارد كثيرة التزم بها شيخنا قدس‌سره وغيره ، مثل التلف قبل القبض (٣) ، والتلف في زمان الخيار ثم فسخ ذو الخيار (٤) وغير

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٣٩٣ وما بعدها ، وتأتي حواشي المصنّف قدس‌سره في المجلّد التاسع.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦٠ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٣ و ٤) راجع منية الطالب ٣ : ٣٥٧ و ٣٣٨.

٣٢٣

ذلك. وقد حررنا رسالة في إبطال تقدير الملكية في أغلب تلك الموارد.

ثم إنّ القائل بهذا التقدير حسبما حررته عنه قدس‌سره هو المحقّق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس‌سرهما ، ولم أتوفق للعثور في كلامهما على أنّ الداعي لهما في الالتزام بهذا التقدير هو هذه الجهة التي أفادها قدس‌سره في توجيه التقدير المذكور ، وهي أنّه لو لا التقدير لزم تحصيل الحاصل أو المحال ، بل إنّ الظاهر من كلامهما هو تصحيح الترتّب بنحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلّق ، قال في الحاشية بعد أن ذكر نظير ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ تقييد أحد الإطلاقين أو كليهما يرفع غائلة نتيجة الإطلاقين من تعلّق الأمر بالجمع بينهما ، ما هذا لفظه :

فان قلت : لو كانت المقدمة المفروضة ( يعني ترك الأهم ) متقدمة على الفعل المفروض تم ما ذكر ، لتعلق الوجوب به بعد تحقّق شرطه فيصح تلبّسه به ، وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل كما هو المفروض في المقام فلا يتم ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره عن المكلّف ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتم ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود وعدم جواز توقف الشيء على الشرط المتأخر ، بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط ، وأمّا إذا قيل بجواز ذلك كما هو الحال في الإجازة المتأخرة الكاشفة عن صحة عقد الفضولي وتوقّف صحة الأجزاء المتقدمة من الصلاة على الأجزاء المتأخرة

٣٢٤

منها ، فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق الوجوب به ، وصحّ منه الإتيان بالفعل.

فان قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتى يصح الحكم بصحة الفعل المفروض ، مع أنّ مقتضى الأصل الأولي انتفاء الصحة.

قلت : إنّ ذلك أيضا قضية إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهم ، وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به بحسب الواقع فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهم ، فإذا علم المكلف ذلك بحسب حاله لم يكن هناك مانع من اشتغاله بغير الأهم ، ولا من تكليفه بالإتيان به ، ولا قاضي إذن بالالتزام بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه (١).

وقال في البدائع : فان قلت : الواجب المشروط لا يجب قبل الشرط ، فإذا كان ترك أحدهما شرطا لوجوب الآخر فكيف يتصف بالوجوب مقارنا للترك قبل تحققه. قلت : الشرط هو تقدير الترك لا نفس الترك ، وهو الفارق بين الواجب المشروط وبين ما نحن فيه ، فانّ الوجوب إن كان مشروطا بوجود شيء فهذا هو الواجب المشروط الذي يتوقّف وجوبه على وجود الشرط ، ولا يتصف بالوجوب قبله ولو مقارنا. أمّا لو كان مشروطا بتقديره لا بتحققه ووجوده فهذا يتصف بالوجوب قبل وجوده ، لأنّ الشرط هو تقدير الوجود لا نفسه ، والتقدير محقّق قبل وجوده ، فلا مانع من تحقق الوجوب قبل تحققه. وهذا يسميه بعض بالواجب المعلّق ، قسيم الواجب

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٧٣.

٣٢٥

المشروط والمطلق ، وبعض بالواجب المترتب نظرا إلى ترتّب الوجوب على تقدير عدم الآخر ، وبعضهم يسميه بالواجب المشروط بالشرط المتأخر ، والكل واحد. والمراد تصحيح الأمر بالضدين بوجه من الوجوه في آن واحد مع كون أحدهما مضيقا أو أهم ، وبعد صحة الوجه تسمّيه ما شئت (١).

وأنت بعد تأملك في كلماتهما قدس‌سرهما تعرف أنّ جلّ نظرهما إنّما هو تصحيح الترتب من ناحية الشرط المتأخر ، وأنّ جلّ نظرهما إنّما هو إلى الصلاة المقارنة زمانا لعدم الإتيان بالإزالة الذي هو شرط في وجوبها وأنّهما أخذا الشرط هو تمام العدم في تمام الوقت ، فلا بدّ أن يكون التكليف المشروط به المتعلق بالصلاة متأخرا عن ذلك العدم ، فيقع الإشكال حينئذ في صحة الصلاة قبل أوان وجوبها.

ولأجل هذه الشبهة جعلا وجوبها مشروطا بالعدم المذكور من باب الشرط المتأخر ، ليكون وجوبها متحقّقا في أوّل الوقت وإن كان شرطه متأخرا. نعم يلزم منه اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم ، لإطلاق الأوّل وحصول شرط الثاني وهو العصيان المتأخر ، فلا بدّ من الجواب عنه بأنّ الأوّل لمّا كان هادما لموضوع الثاني لم يكن اجتماعهما محالا ، سواء أخذنا العصيان الخارجي المتأخر بنفسه شرطا بناء على صحة الشرط المتأخر ، أو أخذنا الشرط هو العنوان المنتزع من تأخره بناء على بطلان الشرط المتأخر.

ولا يخفى أنّ إشكال الاجتماع لا يختص بمسلكهما ، بل يتأتّى على مسلك شيخنا قدس‌سره من أنّ الشرط هو العصيان المستمر في الخطاب

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٣٩٠.

٣٢٦

المستمر ، القاضي بالفعل المستمر أعني الصلاة ، فانّه أيضا يلزمه اجتماع الأمرين. ويجاب عنه بأنّه لمّا كان الأوّل هادما لموضوع الثاني لم يكن اجتماعهما محالا ، وهو الذي تتكفّله المقدمة الرابعة بمعونة ما تقدم في المقدمة الثانية من أنّ الوجوب المشروط لا ينقلب بوجود شرطه عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا.

نعم ، في الكفاية في مسألة تصحيح الواجب المعلّق بعد أن بيّن أنّه لا مانع من كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا قال ما هذا لفظه : مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به ، بأن يتصوّره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (١).

قلت : بل قد يقال : إنّ نفس الطلب مثل قولك « قم » لا يكون المنظور فيه إلاّ القيام المتأخر عن نفس هذا الطلب ولو في ثاني زمانه ، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون المراد من القيام في قوله « قم » هو القيام المقارن في الزمان لهذا الطلب ، بل لا بدّ أن يكون متأخرا عنه ولو في الآن الثاني منه وبعد البناء على ذلك نقول فيما نحن فيه إنّه لا يمكننا القول بأنه قد اجتمع الشرط والطلب والمطلوب في آن واحد ، كما أنّه لا يمكننا القول بأنّ هذا المطلوب وهو الصيام متأخر عن أول الفجر بمقدار تحقّق الطلب ليكون

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٣.

٣٢٧

واقعا في ثاني زمان الطلب ، لأنّ لازم ذلك أن يكون الصيام في ذلك الآن ـ أعني آن الطلب ـ غير داخل تحت ذلك الطلب ، وهو آن نهاري قامت الضرورة على دخوله تحت الطلب. فلا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بالتقدير المذكور ، بأن نلتزم بتحقّق الطلب قبل الفجر إصلاحا للمسألة ، ليكون ذلك الآن ـ أعني الآن المقارن لطلوع الفجر ـ داخلا تحت الطلب ، كما أنّه يكون متأخرا عنه وواقعا في الآن الثاني منه ، وبذلك نحتفظ بما قامت به الضرورة من كون الإمساك في أوّل الفجر داخلا تحت الطلب ، وبما قدّمناه من القاعدة العقلية وهي استحالة كون نفس المطلوب مقارنا لزمان الطلب.

ولا يخفى أنّ تقريب المسألة بهذا الوجه لا ينفع في رده كونه مستلزما للشرط المتأخر أو للواجب المعلّق ، لأنّ صاحب هذه المقالة ملتزم بصحة كل منهما ، بل هو إنّما التزم بلزوم تأخر الفعل الواجب عن الطلب إصلاحا للواجب المعلّق ، كما أنّه لا ينفع في رده النقض بالواجب الموسّع ، لأنّه لا بدّ من الالتزام به لمن التزم بأنّه لا بدّ في كل باب التكاليف من تأخر الفعل الواجب عن الطلب المتعلق به ، بل نحن القائلون ببطلان كل من الشرط المتأخر والواجب المعلّق يلزمنا بعد تمامية ما تقدم من استحالة مقارنة الفعل المطلوب لزمان الطلب وأنّه لا بدّ من تقدير الطلب ، أن نلتزم بذلك ونجعله من قبيل شرطية التعقب. كما أنّه لا ينفع في رده الاستناد إلى العلم بالتكليف في محركية المكلّف إلى فعل المكلّف به في الزمان المقارن لتعلّق ذلك التكليف ، لأنّ هذا المانع من المقارنة في الزمان بين نفس التكليف ونفس الفعل المكلّف به هو مانع واقعي ، لا دخل له بأنّ المكلف كيف يتحرك إلى المكلّف به ، كي يندفع بأنّ المحرك له هو العلم. كما أنّه

٣٢٨

لا يدفعه كون الفعل واقعا بتحريك التكليف لكونه بمنزلة علته ، فانّا بعد أن قلنا بأنّ التكليف لا يعقل أن يتناول الفعل المقارن له بحسب الزمان كيف يمكننا أن نقول إنّ ذلك الفعل الواقع في زمان توجه التكليف كان واقعا بداعي ذلك التكليف ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنما يتم لو قلنا بأنّ التكليف زماني يحتاج إلى مقدار من الزمان ، فانّه بناء على ذلك لا يمكننا القول بكون الفعل الواقع في ذلك الزمان داخلا تحت ذلك التكليف إلاّ بزحلقة ذلك التكليف إلى ما قبل الفجر آناً ما. وهذه الدعوى ـ أعني كون التكليف الذي هو البعث والخطاب يحتاج إلى مقدار من الزمان ـ هي إحدى موارد الخلط بين القضايا الحقيقية والقضية الخارجية ، فيتخيل المتخيل أنّه عند طلوع الفجر يتوجه الطلب والأمر بالصوم ، بمعنى أن يكون الزمان المذكور شرطا في الجعل ، وقبله لا جعل أصلا ولا تشريع ، وإنما يكون الجعل والتشريع عند طلوع الفجر ، ولا ريب أنّ الجعل والتشريع فعل من أفعال الشارع الآمر ، وهو محتاج إلى زمان يقع فيه ذلك الجعل والتشريع.

وإن شئت فقل : إنّ الطلب فعل من أفعال الطالب ، يحتاج إلى زمان يقع فيه ، فلو كان وقوع الطلب في أوّل الفجر لكان محتاجا إلى آن ما يقع فيه ذلك الطلب ، وقهرا يكون نفس المطلوب الذي هو فعل الصوم متاخرا في الزمان عن زمان الطلب ولو في ثاني زمان الطلب ، فلا بدّ حينئذ من مضي آن ما بعد الفجر ليكون ذلك الآن آن الطلب ، ويكون المطلوب واقعا في الآن الثاني ، وحيث إنّ ذلك مخالف لما قامت عليه الضرورة نصا وفتوى من أنّ مبدأ الصوم من أوّل الفجر ، كنّا مجبورين على زحلقة الطلب إلى ما

٣٢٩

قبل الفجر آناً ما وتقدير وقوعه قبله لنتخلّص من هذا المأزق. فهذا التقدير نظير تقدير الملكية قبل التلف في الموارد التي التزموا فيها بالملكية التقديرية تصحيحا للقواعد المسلّمة.

وهذه الجهة من الإشكال إنّما تتجه على ذلك المبنى الفاسد ، أعني كون القضية من قبيل القضية الخارجية وأنّ الشرط في مثل ذلك من قبيل شرط الجعل ، وأنت بعد أن اتضح عندك فساد هذا المبنى ، وأنّ قضايا الأحكام كلّها من قبيل القضايا الحقيقية ، وأنّ هذه الشروط كلّها شروط للمجعول ولا دخل لها بعالم الجعل والتشريع ، تعرف أنّه عند الفجر وإن صار وجوب الصوم فعليا إلاّ أنّ صيرورته فعليا لا تحتاج إلى آن من الزمان بل يكفي في تحقّق فعليته تحقّق ما هو شرطه الذي هو بمنزلة موضوعه ويكون تحقّق الفجر عين تحقّق لازمه الشرعي الذي هو الوجوب. ففعلية الوجوب المفروض أنّه مجعول على تقدير تحقّق الفجر لا تحتاج إلى مضي زمان ما بعد تحقق الفجر. نعم إنّ الفعل المقارن بالزمان لنفس الجعل والتشريع لا يكون داخلا في حيّز الطلب ، لكن قد عرفت أنّ زمان جعل الوجوب على تقدير الفجر وتشريعه هو سابق على طلوع الفجر ، بل هو بمعنى آخر مجرد عن الزمان حتى فيما مضى.

ولا يخفى أنّ هذا الذي حررناه مقتبس ممّا أفاده قدس‌سره في تحريراتي ، قال في بعض تلك الفوائد والاستدراكات على ما تقدم ما هذا لفظه الذي حررته عنه قدس‌سره : إنّا عند ما تكلّمنا على ما التزموا به من التقدير في المضيقات ذكرنا أنّ حجّتهم عليه هي استحالة الانبعاث عن البعث المقارن ، لأنّه مؤد إلى تحصيل الحاصل أو التكليف بالمحال ، وقد عرفت شرح هذه

٣٣٠

الحجة وما يرد عليها.

وهناك حجّة اخرى على ما ذكروا من التقدير فاتنا التنبيه عليها والجواب عنها في ذلك المقام ، وهي أنّ الانبعاث عن البعث يحتاج إلى العلم به ، وانبعاث الإرادة عن ذلك العلم بتصوّره وتصور ما يترتب على فعله وتركه من الثواب والعقاب ، وذلك محتاج إلى مقدار من الزمان يتخلل بين البعث والامتثال ، فلو كان البعث مقارنا لزمان الامتثال كما في المضيقات لم يكن لنا محيص عن الالتزام بتقدير البعث قبل زمان الامتثال بمقدار ما يتوقف عليه من العلم بالبعث والإرادة المتعلّقة بامتثاله. وإلى ذلك أشار في الكفاية (١) عند التعرض للشبهة الواردة على الواجب المعلّق بما حاصله : أنّ الأمر لا بدّ أن يكون باعثا على المتأخر ، ويستحيل أن يكون باعثا إلى المقارن.

والجواب عن هذه الحجة بعد اصلاحها بأنّه ليس المراد كون المأمور به مقيدا بالتأخر ، وأنّ المراد هو أنّ زمان متعلّقه لا بدّ أن يكون متأخرا قهرا عن زمانه ، أنّ هذه الحجة لا تتأتى في الأوامر التي تكون على نحو القضايا الحقيقية ، لما تقدم من كفاية تقدم العلم بالخطاب قبل حصول شرطه في الانبعاث عنه عند توجهه ، من دون حاجة إلى علم ثان يكون متخللا بين توجهه وامتثاله. أمّا القضايا الخارجية فان كان الواجب فيها موسعا لم تكن محتاجة إلى ما ذكر من التقدير ، وإن كان مضيقا كان على المولى أن ينشئ الوجوب قبل الوقت ليعلم به المكلّف ويتمكن من امتثاله في وقته ، فان لم يقدّم ذلك الوجوب كان المولى مفوّتا لغرضه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٣.

٣٣١

قلت : وحينئذ تنقلب القضية حقيقية لأخذ التقدير الآتي فيها. ولا يخفى أنّ لزوم هذا التقديم متأت في الموسع بناء على ما أفاده (١) من أنّه يجوز أن يكون امتثاله في أوّل أزمنة الإمكان كالمضيق. وقد عرفت أنّ الموجب لتأخر الامتثال زمانا عن نفس التكليف ربما يقرر بوجه آخر مبني على كون نفس التكليف محتاجا إلى زمان يشغله ، ويستحيل أن يكون الفعل المفروض كونه امتثالا له واقعا معه في زمانه على وجه يكون نفس الفعل امتثالا للأمر في أثناء زمان إنشاء الأمر وجعله قبل إتمام جعله وإنشائه ، ولأجل ذلك التزموا بالتقدير. ولعلّ ما التزموا من التقدير هو عين هذا الذي أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه في هذه الصورة يكون اللازم على الآمر تقديم إنشائه الوجوب ، فينشئه مشروطا بالزمان الآتي ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أنّ جعل التكليف المشروط بطلوع الفجر وتشريعه سابق على طلوع الفجر ، فانّ المجعول إنّما هو الوجوب على تقدير طلوع الفجر ، وهذا أعني جعل الوجوب وتشريعه على تقدير طلوع الفجر لو قلنا بأنّه زماني يحتاج في وقوعه إلى زمان يقع فيه ، فانّما هو فيما قبل الفجر ، وبعد جعل ذلك الحكم المشروط لا يكون في فعليته وتحقّقه بتحقّق موضوعه وشرطه محتاجا إلى زمان ما ، بل ينوجد ذلك الوجوب ويتحقّق بوجود شرطه ، ويكون تحقّق ذلك الشرط سابقا في الرتبة على تحقّق الوجوب المشروط به ، من دون أن يكون في البين سبق زماني للشرط المذكور على فعلية المجعول أعني الوجوب المشروط به ، إذ لا يكون لفعلية ذلك الوجوب زمان تقع فيه فعليته ، وإنّما تكون فعليته عين فعلية شرطه. كما أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٢.

٣٣٢

نفس الإتيان بالفعل في أوّل الفجر يكون أيضا متأخرا رتبة عن كل من تحقّق ذلك الشرط وتحقّق الوجوب المشروط به من دون تأخر زماني ، ولو تأخر زمانا لم يكن ذلك التأخر سائغا ، لكون الوجوب المذكور إنّما تعلق بالفعل الذي يكون في أوّل الفجر.

ولعلّ هذا التقرير هو المراد لشيخنا قدس‌سره (١) من أنّه ليس في البين إلاّ التأخر الرتبي دون التأخر الزماني ، بأن يكون ذلك مبنيا على كون تحقّق نفس الوجوب وفعليته غير محتاج إلى زمان ، وإنّما المحتاج إلى الزمان نفس جعله وتشريعه ، أعني جعل الوجوب على تقدير طلوع الفجر ، ومن الواضح أنّ فعل الصوم في أوّل الفجر لم يكن مقارنا في الزمان لتشريع ذلك الوجوب التعليقي وإنشائه ، كي نكون واقعين في ذلك المأزق الذي ينحصر التخلّص منه بالتقدير المذكور.

نعم ، بناء على هذا التقرير لا يحسن التعبير بأنّ الفعل الواجب مقارن في الزمان للوجوب ، لما عرفت من أنّ نفس فعلية الوجوب لا زمان لها كي يكون فعل الواجب مقارنا في الزمان لتلك الفعلية.

بل يمكن أن يقال : إنّ نفس الشرط ليس هو بزمان ولا زماني ، فانّ الشرط في مثل الزوال والفجر ونحو ذلك ليس إلاّ عبارة عن انتهاء ما مضى. وبعبارة اخرى : أنّ الشرط في مثل ذلك ليس هو بجزء من الزمان ، بل هو الحد الفاصل بين أجزاء الليل وأجزاء النهار ، ومن الواضح أنّه ليس هو بآخر جزء من الليل ولا بأول جزء من النهار ، بل هو حد وهمي لا وجود له ، وهو المقسّم لمجموع أجزاء الليل والنهار على ما حقّق في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٠.

٣٣٣

محلّه من كيفية انقسام الكم المتصل. نعم لو كان الشرط هو دخول النهار كان تحققه بتحقّق أول جزء من أجزائه وكان الوجوب الفعلي واردا على ذلك الجزء المتحقّق وكان الوجوب مستمرا مع استمراره ، ولا معنى لأن يقال إن الوجوب أو الواجب مقارن للشرط بحسب الزمان ، لأنّ الفرض أنّ الشرط هو نفس الزمان ، بل العبارة الصحيحة هي أن يقال : إنّ وجود الوجوب أو الواجب مقارن لوجود الشرط الذي هو نفس الزمان ، كما يرى ذلك في مثل « إن جاءت الساعة الثامنة من النهار فاسكت فيها بتمامها ».

هذا إن لم يكن الشرط هو تحقّق جميع أجزاء الزمان الذي هو النهار بمعنى المضي والانقضاء ، وإلاّ كنّا محتاجين إلى أخذ التعقب شرطا ، وخرج الشرط عن كونه زمانا أو زمانيا. وهكذا الحال فيما لو كان الشرط فعلا زمانيا أو تركا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (١) شرحه في كيفية أخذ العصيان شرطا ، وأنّ الشرط هل هو نفس عدم الأهم في تمام الزمان فيكون مستمرا من أول الأمر بالمهم ، أو أنّ الشرط هو انتهاء ذلك العدم في تمام الزمان ليكون الشرط في الحقيقة هو التعقب بالترك في تمام الزمان.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ قوله في أوّل هذه المقدمة الثالثة : إنّ فعلية الخطاب في المضيقات تكون مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه ... إلخ (٢) لا يخلو من تأمل ، لأنّ الشرط في مثل وجوب الصوم إن كان هو انتهاء الليل ، فليس هو ( أعني الليل ) هو الموضوع أو الشرط كي يكون فعلية وجوب الصوم مساوقة لآخر جزء منه ، على أنّها أعني الفعلية

__________________

(١) في الحاشية الآتية ، صفحة : ٣٣٦ ـ ٣٣٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٩.

٣٣٤

ليست مساوقة لوجود آخر جزء منه ، بل هي مساوقة لانتهائه. وإن كان الشرط هو دخول النهار فكذلك ، بل تكون مساوقة لوجود أوّل جزء منه إن كان الشرط هو نفس وجود النهار ، وإن كان الشرط هو انتهاءه كان من قبيل الشرط المتأخر ، نعم يتصوّر ذلك في الأفعال الزمانية المأخوذ فيها مجرد مقارنتها للوجوب لا انتهاؤها ومضيها.

قوله : منها أنّ عصيان الأمر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم ، فلا بدّ من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو يستلزم ... الخ (١).

محصّل ذلك أنّ القائلين بلزوم التقدير قيدوا أنفسهم بجهتين : الجهة الاولى : هي أنّه لا بد أن يكون الشرط سابقا في الزمان على التكليف المشروط به. الجهة الثانية : أنّه لا بدّ أن يكون التكليف سابقا في الزمان على زمان امتثاله. وبعد أن التزموا بهاتين الجهتين أشكلوا على الترتب إشكالات :

الأوّل : مبني على الجهة الثانية وحاصله : أنّ امتثال الأمر بالمهم مقارن لزمان عصيان الأهم ، وحيث إنّه لا بدّ في التكليف من كونه سابقا في الزمان على امتثاله لزمهم أنّ الأمر بالمهم سابق على امتثاله الذي هو مقارن في الزمان لعصيان الأهم ، فيلزمه أن يكون التكليف بالمهم سابقا في الزمان على عصيان الأهم ، وحيث إنّه مشروط به كان ذلك من قبيل الشرط المتأخر أو من قبيل الواجب المعلّق.

الإشكال الثاني : مبني على الجهة الاولى وحاصله : أنّه إن كان نفس

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٢ ـ ٦٣.

٣٣٥

العصيان شرطا في التكليف بالمهم كان لازم ذلك تقدم العصيان زمانا على التكليف بالمهم ، فيكون توجه التكليف بالمهم بعد تمامية عصيان الأهم التي هي عين سقوطه ، فيكون الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، فلم يجتمع الأمران.

الثالث : أنّ نفس الأمر بالأهم لمّا كان سابقا في الزمان على امتثاله كان سابقا في الزمان على عصيانه ، لأنّ العصيان قرين الامتثال في الزمان ، فيكون الأمر بالأهم سابقا على زمان عصيانه ، وحينئذ لو صحّحنا كون الأمر بالمهم في زمان عصيان الأهم كان زمانه هو زمان سقوط الأمر بالأهم ، فلم يجتمع الأمران. وسيأتي (١) توضيح هذه الإشكالات.

قوله : ومنها أنّ الشرط للأمر بالمهم إمّا أن يكون هو نفس العصيان أو كون المكلّف ممن يعصي فيما بعد ... الخ (٢).

توضيح ذلك : هو أنّه بعد الالتزام بأنّه لا بدّ أن يكون شرط التكليف سابقا في الزمان على نفس التكليف ، وبأنّ نفس التكليف لا بدّ أن يكون سابقا في الزمان على نفس فعل المكلّف به المعبّر عنه بزمان الامتثال ، وجّهوا الإيراد على القائلين بصحة الترتب بما حاصله : أنكم زعمتم أنّ تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم يرفع التدافع بينهما مع فرض كونهما متوجهين إليه في زمان واحد ، وحينئذ يتوجه عليكم أنّ هذا العصيان الذي أخذتموه شرطا في التكليف بالمهم إن كان هو العصيان فيما بعد ، بحيث يكون الشرط في توجّه التكليف بالمهم في هذا الزمان هو

__________________

(١) [ الظاهر أن نظره قدس‌سره إلى الحواشي الثلاث التالية ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦٣.

٣٣٦

كون المكلّف بحيث يتحقّق منه عصيان الأهم فيما بعد ذلك ، كي يكون الشرط في الحقيقة هو العنوان المنتزع ، فالتكليفان وإن اجتمعا في زمان واحد إلاّ أنّ التدافع بينهما باق بحاله ، لم يرتفع بواسطة أخذ العنوان المنتزع من العصيان المتأخر شرطا في التكليف في هذا الزمان بالمهم ، لأنّ المفروض أنّ عصيان الأهم لم يتحقّق بعد ، فكان الأمر بالأهم موجودا في هذا الآن مع الأمر بالمهم فيتدافعان. وقد أجاب قدس‌سره عن ذلك بأنّا لا نقول بكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولو قلنا بذلك كان أيضا كافيا في رفع المطاردة بين التكليفين ، نظرا إلى أنّ اشتراط الأمر بالمهم بعدم العصيان فيما سيأتي كاف في رفع التطارد بينهما ، لأنّه إنّما تنشأ المطاردة من ناحية اقتضاء الجمع ، ومع فرض التقييد المذكور لا يكون اجتماع التكليفين على النحو المسطور موجبا للجمع بينهما ، لأنّ وجود الأهم هادم لموضوع الأمر بالمهم.

وإن كان العصيان المأخوذ شرطا في التكليف بالمهم هو نفس العصيان بوجوده الواقعي ، فنظرا إلى ما تقدم من أنّه لا بدّ أن يكون شرط التكليف سابقا عليه في الزمان لا بدّ أن يكون عصيان الأمر سابقا على التكليف بالمهم ، فلا يتوجّه التكليف بالمهم إلاّ بعد تمامية عصيان الأهم ، ومعه يكون الأمر بالأهم ساقطا بانتهاء عصيانه ، وبعد أن سقط الأهم بالعصيان المتقدم يتوجه الأمر بالمهم ، فلم يجتمع الأمران في زمان واحد. وأجاب قدس‌سره عن هذه الجهة من الإشكال بأنّ الشرط هو نفس العصيان ، لكن لا باعتبار انقضائه ومضيه بل باعتبار نفس وجوده المقارن مع التكليف بالمهم ، وقد تقدم أنّه لا مانع من اقتران التكليف زمانا بشرطه وإن كان نفس

٣٣٧

التكليف متأخرا عن شرطه رتبة ، وحينئذ يكون الأمر بالمهم مقارنا بحسب الزمان للأمر بالأهم ، ويكون ما ذكرناه من كون الأمر بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأهم رافعا لذلك التدافع.

قول صاحب الكفاية قدس‌سره : ثم إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم أو المقارن ... إلخ (١).

ربما يقال : إنّ الوجه في حصره صورة أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر ، لأنّ العصيان لو كان متقدما على الأمر بالمهم لكان موجبا لسقوط الأمر بالأهم قبل توجه الأمر بالمهم ، بمعنى أنّ الأمر بالمهم لا يتوجه إلاّ بعد سقوط الأمر بالأهم ، وحينئذ لا يجتمع الأمران في زمان واحد. أمّا لو كان مقارنا فلأنّ العصيان آني فيحتاج إلى مضي زمان ، كما أنّ الأمر بالمهم آني فيحتاج إلى مقدار من الزمان ، ولا يكون نفس فعل المهم إلاّ بعد هذين الزمانين ، والمفروض أنّا نريد تصحيح الصلاة بمجرد عصيان الأهم ، فلا بدّ من الالتزام بتقدير الأمر بالمهم قبل عصيان الأهم ، وحينئذ يكون العصيان شرطا متأخرا ، ولا يصح كونه مقدما ولا مقارنا. نعم في صورة كون الشرط هو العزم على العصيان يتصور فيه التقدم والمقارنة ، لكن يتصور فيه أيضا كونه على نحو الشرط المتأخر ، بأن [ يكون ](٢) الأمر بالمهم مشروطا بأن يتأخر عنه العزم على عصيان الأمر بالأهم ولو آناً ما.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٤.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٣٨

وفيه ما لا يخفى ، أمّا أولا (١) : فلأنّ مقتضى توجيه عدم تصور كون العصيان من قبيل الشرط المتقدم هو أخذ العصيان الانقضائي الذي يحتاج إلى مرور تمام زمان الأهم ، على وجه يكون ذلك العصيان موجبا لسقوط الأمر بالمهم بتاتا ، ومن الواضح أنّه لو كان العصيان هو العصيان الانقضائي لم يمكن أخذه مقارنا ، إذ ليس العصيان الانقضائي إلاّ عبارة عمّا عرفت من مضي زمان الأهم ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتصور فيه المقارنة مع الأمر بالمهم ، بل لا بدّ أن يكون متأخرا عن الأمر المذكور ، ولا يتصور فيه إلاّ كونه من قبيل الشرط المتأخر دون المقارن والمتقدم. أمّا العزم على العصيان فهو يمكن أخذه على نحو الشرط المقارن والمتقدم ، فنكون في غنى عن أخذ العزم المذكور بنحو الشرط المتأخر وإن كان أخذه فيه ممكنا.

ثم لا يخفى أنّه لو كان المانع من أخذ العصيان شرطا مقارنا هو ما ذكر من كون الأمر بالمهم زمانيا ، وأنّ أخذه شرطا في التكليف يوجب الالتزام بتقدير التكليف قبله فيكون من قبيل الشرط المتأخر ، لكان ذلك أيضا موجبا لكون أخذ العزم شرطا من قبيل الشرط المتأخر ، لأنّ التكليف بالمهم يحتاج إلى مضي مقدار من الزمان ، فيكون زمان ذلك التكليف فاصلا بين العزم وبين نفس الصلاة ، فلا يتم ما أفادوه من صحة الصلاة بمجرد العزم كما هو مدعى القائل بالترتب ، فنضطر حينئذ إلى تقدير الأمر بالمهم قبل العزم ، فيكون من قبيل الشرط المتأخر ، ولا يعقل كونه شرطا متقدما أو مقارنا.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية (٢) وإن كان بانيا على كون التكليف

__________________

(١) [ لم يذكر قدس‌سره ثانيا ، فلاحظ ].

(٢) كفاية الأصول : ١٠٣.

٣٣٩

زمانيا يحتاج إلى مضي زمان يسعه كما ربما يظهر منه ذلك في مبحث الواجب المعلّق ، بأنّ جميع الواجبات وإن كانت حالية لا تكون متعلّقة إلاّ بما هو متأخر عنها ، لكن هذا لو سلّمنا كونه بانيا عليه ، إلاّ أنّ كلامه هنا ليس مبنيا على ذلك الأساس ، بل هو ناظر إلى النقل عن القائلين بالترتب ، وأنّهم يصلحونه بأخذ العصيان شرطا أو أخذ العزم عليه شرطا ، وأنّه لو أخذوا العصيان بنفسه شرطا فهو لا يتم إلاّ على أخذه شرطا متأخرا ، بخلاف ما لو أخذوا الشرط هو العزم على العصيان ، فانّه لا يتوقّف على كونه على نحو الشرط المتأخر ، بل يصحّ أخذه شرطا متقدما وشرطا مقارنا.

قوله : فان قلت ... إلخ (١).

هذا الإشكال راجع إلى الجهة الثانية ممّا تقدم (٢) ذكره ، وهي الالتزام بأنّ التكليف سابق في الزمان على الامتثال ، وتقريب ذلك هو أن يقال : سلّمنا أنّ عصيان الأهم مقارن في الزمان لما هو مشروط به ـ أعني الأمر بالمهم ـ على ما تقدم تفصيله ، لكن هناك إشكال آخر وهو أن الأمر بالأهم لا بدّ أن يكون سابقا في الزمان على امتثاله ، ولا ريب أنّ نفس الامتثال قرين العصيان ، فكما يكون الأمر بالأهم سابقا في الزمان على امتثاله يكون سابقا أيضا على عصيانه ، بحيث يكون زمان عصيان الأهم متأخرا زمانا عن الأمر به ، ومن الواضح أنّ الأمر بالأهم يكون ساقطا في زمان عصيانه ، فالأمر بالمهم الذي قد انوجد في زمان عصيان الأهم يكون منوجدا في زمان سقوط الأمر بالأهم ، وحينئذ لم يجتمع الأمران في زمان واحد.

وقد أجاب قدس‌سره عن ذلك بما تقدم من المنع من لزوم تقدم التكليف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦٥.

(٢) في صفحة : ٣٣٥.

٣٤٠