أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

عدم امتثاله للتكليف الأوّل ، فلا يحكم بسقوط الخطاب عنه في ذلك الظرف ، وذلك هو معنى كون الخطاب بالثاني مشروطا بعدم امتثال التكليف [ الأول ](١) ، لأنه في ذلك الظرف أعني ظرف عدم امتثال الأوّل في نظر العقل قادر على امتثال التكليف الثاني ، فلا يكون العقل مانعا من خطابه به في ذلك الظرف وإن منع من خطابه به في ظرف امتثاله التكليف الأوّل ، لكونه في ذلك الظرف أعني ظرف امتثاله الأوّل غير قادر على امتثال التكليف الثاني ، ففي خصوص ذلك الظرف يحكم العقل بسقوط الخطاب بالثاني.

والحاصل : أن التكاليف التي أخذ الشارع القدرة شرطا فيها يكون التكليف المزاحم لها بنفس توجهه سالبا للقدرة عليها في نظر الشارع ، فيكون بنفس توجهه حاكما ورافعا لموضوعها الذي هو القدرة في نظر الشارع ، وهذا بخلاف التكاليف التي لم يحكم الشارع بأخذ القدرة فيها ، وإنما تكون القدرة فيها شرطا عقليا باعتبار قبح تكليف العاجز أو استحالته ، فان العقل لا يحكم بسقوط الخطاب فيها عن المكلف إلاّ في المورد الذي يراه العقل غير قادر ، والمفروض أن العقل لا يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف المزاحم ، وإنما يراه غير قادر بالنظر إلى ظرف اشتغاله بذلك المزاحم ، فالعقل لا يحكم بسقوط ذلك الخطاب عنه إلاّ في ذلك الظرف ، أعني ظرف امتثاله للتكليف المزاحم دون ظرف عدم امتثاله ، وحينئذ قهرا تكون النتيجة هي انحصار حكم العقل بسقوط الخطاب بخصوص ظرف امتثاله لذلك المزاحم ، أما في ظرف عدم امتثاله له فلا يراه العقل غير قادر ،

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٠١

فلا يكون عند العقل ما يمنع من توجه الخطاب إليه في ذلك الظرف ، وذلك عبارة أخرى عن حكم العقل بكون ذلك الخطاب مشروطا بعدم امتثال ذلك التكليف المزاحم ، وأنه عند عدم الأهمية يكون الخطاب بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، لكون كل منهما مقدورا في نظر العقل عند عدم الاشتغال بمتعلق الآخر ، وإن لم يكن مقدورا في نظر الشرع ، لكون الشارع يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف الآخر إليه وإن لم يمتثله بعد.

إلاّ أنك قد عرفت أن ذلك إنما يؤثر فيما لو كان الشارع هو الذي أخذ القدرة في موضوع ذلك التكليف ، لأنه حينئذ يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف الآخر إليه ، فيكون نفس توجه ذلك التكليف إليه سالبا لقدرته على الآخر في نظر الشارع ، فيكون بنفس توجهه حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه خطابا وملاكا ، بخلاف ما لو لم يكن في البين إلاّ حكم العقل بقبح خطاب غير القادر ، فان ذلك التكليف لا يرتفع الخطاب به بمجرد توجه التكليف المزاحم ، لأن العقل حينئذ لا يراه غير قادر وإنما يراه غير قادر بالنظر إلى مشغوليته بامتثال ذلك التكليف ، فهو لا يسلب القدرة على الآخر بنظر العقل إلاّ بامتثاله ، فعند امتثاله له يحكم العقل بسقوط الخطاب بالآخر ، فيكون الخطاب بذلك الآخر مشروطا بنظر العقل بعدم الاتيان بمتعلق ذلك المزاحم.

لا يقال : بناء على هذا التحرير إنه لو كان مشغولا بمباح يكون الخطاب ساقطا عنه ، لأنه في ظرف اشتغاله بالمباح يكون غير قادر على الامتثال في نظر العقل. والحاصل : أن سالب القدرة إن كان هو نفس الخطاب بالأهم بنفس توجهه إلى المكلف على حذو ما تقدم في

٣٠٢

المشروطات بالقدرة الشرعية ، كان مقتضاه سقوط الخطاب بالمهم لا تقييد خطابه بعدم الاتيان بالأهم ، وإن كان السالب للقدرة هو اشتغاله بالأهم كان اشتغاله كاشتغاله بالمباح ، فيكون اشتغاله بالمباح سالبا للقدرة ، فينبغي أن يقيد الأمر ولو خطابا بعدم اشتغاله بالمباح.

لأنا نقول : لا هذا ولا ذاك ، بل إن السالب للقدرة بنظر العقل هو اشتغاله بالأهم بما أنه امتثال للأمر بالأهم ، لأن عدم القدرة إنما جاء من قبل اقتضائهما الاجتماع ، وحينئذ لو توجه إليه الأمر بالمهم في مرتبة اشتغاله بامتثال الأمر بالأهم كان مقتضى اجتماع هذين الأمرين هو الجمع بين الفعلين ، وهو غير مقدور ، فالعقل حينئذ يحكم بانه في ظرف اشتغاله بامتثال الأمر بالأهم يكون خطابه بالمهم ساقطا ، أما على تقدير عدم اشتغاله بالأهم فلا يكون توجه الخطاب إليه بالمهم مستلزما للجمع بين الفعلين ، فلا يحكم العقل بسقوط الخطاب بالمهم في ذلك الحال ، وهو عبارة اخرى عن حكم العقل بتقييد الخطاب بالمهم بما إذا لم يكن المكلف مشتغلا بامتثال الأمر بالأهم ، ومنه يعلم الحال فيما لو تساويا في الأهمية فان العقل حينئذ يحكم بسقوط الخطاب في كل منهما عند الاشتغال بامتثال الآخر ، فيكون كل من الخطابين في نظر العقل مشروطا بعدم امتثال الآخر ، هذا.

ولكنه لا يخلو عن تأمل ، فانه عند انشغاله بالأهم يمكنه رفع اليد عنه والانشغال بالمهم ، وما المانع من ذلك إلاّ الأمر بالأهم ، وهو كما يكون مانعا في الأثناء يكون مانعا في الابتداء ، وحينئذ تكون النتيجة هي سقوط كلا الخطابين في صورة التساوي وسقوط خطاب المهم في مقابلة الأمر بالأهم.

ولنا أن نقول : إنه ليس في البين سقوط خطاب وإنما هو مجرد

٣٠٣

حكم العقل بالمعذورية ، وذلك في صورة التساوي عند الاتيان بأحدهما وفي صورة الأهمية عند الاتيان بالأهم ، أما في صورة تركهما في الأوّل فلا يكون معذورا لا عن هذا ولا عن ذاك ، وكذلك في الثاني. نعم لو فعل المهم امتثله لكنه لا يكون معذورا في ترك الأهم ، وهذا هو محصل الترتب المعقول.

ثم إنه لو كان المنظور من كون امتثال الأهم سالبا للقدرة على المهم هو تمامية الامتثال ، كان الموجب لسلب القدرة هو انشغال الزمان بالأهم ، ولا فرق حينئذ بينه وبين الانشغال بالمباح أو مضي الزمان دون فعل من الأفعال. وفي الحقيقة لا يكون السالب للقدرة إلاّ الأمر بالأهم ، ولو لم يكن في البين أهم كان كل واحد منهما سالبا للقدرة عن الآخر ، فان كان في البين تقييد كان من هذه الناحية ، وعلى الأوّل أعني وجود الأهم بينهما يكون الأمر بالمهم مقيدا خطابا أو لا يكون مقيدا ، بل يكون ساقطا ، وكذلك الحال على الثاني من الطرفين.

وليس ذلك كله إلاّ عبائر اصطلاحية ، وإلاّ فليس في البين إلاّ حكم العقل بمعذرية المكلف في ترك أحدهما المعيّن أو غير المعيّن مع بقاء الأمر بحاله ملاكا وخطابا ، فلو فعل الأهم عذره العقل من ناحية المهم ، ولو ترك الأهم لم يعذره العقل من ناحية المهم كما لم يعذره من ناحية الأهم ، وحينئذ ففي هذا الحال أعني حال تركه الأهم لو فعل المهم كان قد فعله امتثالا لأمره ، لأن الأمر الشرعي كما عرفت لم ينخدش ملاكا وخطابا ، حيث إنه ليس في البين إلاّ مثل قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) وهذا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

٣٠٤

الفرد مطلوب منه إيجاد الصلاة باعتبار كونه من جملة المخاطبين ، لا أن له صلّ خاصة به من جانب الشارع ، وإنما هي قضايا انتزاعية ينتزعها العقل من القضايا الحقيقية ، ولا يكون محصل ذلك الانتزاع إلاّ ما عرفت من عدم المعذورية في المخالفة أو المعذورية ، من دون فرق في ذلك بين كون تلك الكبرى بلسان الطلب كما في مثل : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أو كونها بلسان الاخبار عن التكليف الذي هو الوجوب ، مثل أن يقول إن كل مكلف تجب الصلاة في حقه ، فان جعل الكبرى وإن انحل إلى صغريات إلاّ أن الحكم في كل من تلك الصغريات لم يكن مجعولا مستقلا ، بل ليس هو إلاّ عين الحكم الذي تضمنته الكبرى.

وعلى كل حال ، أن هذه التقييدات الشخصية الناشئة عن القدرة العقلية لا تلحق الحكم الذي تضمنته الكبرى ، بل ولا الحكم الانتزاعي في الصغرى ، وليست هي في الحقيقة تقييدات شرعية وهو واضح ، ولا عقلية إذ لا محصل للقيد الذي يحكم به العقل إلاّ حكم العقل بأنه لا بدّ للشارع أن يقيد الحكم به ، فيعود القيد شرعيا وان كان هو بحكم العقل ، ولا محصل لكون القيد قيدا عقليا صرفا في الحكم الشرعي إلاّ ما عرفت من مجرد المعذورية ، ويكون الحاصل فيما نحن فيه هو وجود الأمرين الأمر بالازالة والأمر بالصلاة ، غير أن المكلف لو فعل الأوّل كان معذورا من ترك امتثال الثاني ، ولو ترك الأوّل لم يكن معذورا في تركه بل ولا في تركه الثاني ، ومع ذلك يمكنه في ذلك الحال ـ أعني حال تركه الأوّل ـ الاتيان بالثاني امتثالا لأمره ، وهذه هي حقيقة الأمر الترتبي.

وإلى هنا ينتهي البرهان على صحته في الأحكام الكلية ، وأما في القضايا الخاصة مثل أن تقول لولدك أخرج إلى السوق فان عصيت فاشتغل

٣٠٥

بالكتابة ، فذلك يحتاج إلى تقييد في خطاب المهم ، وإلاّ حصل التنافي الموجب لدخول المسألة في التعارض على ما عرفت في التضاد الدائمي.

وإن شئت فقل : إن هذه الجهة من البحث هي الحجر الأساسي في الترتب ، وتوضيح الحال في ذلك : هو أنه بعد الالتزام بأن نفس الأمر بالأهم لا يكون سالبا لقدرة المكلف على المهم ، وإنما يكون السالب لقدرته على المهم هو نفس امتثال الأهم ، فيرد عليه حينئذ أن الاتيان بالمباح بل بالحرام أو المستحب في ذلك الظرف ، بل عدم الاتيان بشيء من الأفعال في ذلك الظرف لو تعقلناه ، يكون سالبا لقدرته على المهم ، فيجاب عن ذلك بأن ذلك كله من باب سلب القدرة من نفسه باختياره ، وذلك لا ينافي كون فعل المهم مقدورا في حقه في حد نفسه ، فيقال حينئذ إن امتثال الأهم أيضا كذلك ، فانه باختياره قد أقدم عليه ، فيكون هو السالب لقدرة نفسه على المهم.

وأقصى ما في البين من الفرق أن العقل يعذره في هذه الصورة في سلبه قدرة نفسه على المهم بصرفها في الأهم ، بخلاف سلبه قدرة نفسه عليه في بقية الصور أعني فعله المباح ونحوه ، فان العقل لا يراه معذورا في ذلك ، وبالأخرة لا يكون الأمر بالمهم ساقطا عند الاتيان بالأهم ، ولا يكون منحصرا بصورة عدم الاتيان بالأهم ، بل يجتمع الأمران ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بمعذورية المكلف عند فعله الأهم وتركه المهم ، ولو ترك الأهم فالعقل مضافا إلى حكمه بعدم معذوريته في ترك الأهم يحكم عليه بالاتيان بالمهم ، لأن تركه في هذا الحال لا يكون معذورا فيه عند العقل ، بل العقل يلزمه في ذلك الحال ـ أعني حال تركه الأهم ـ بالاقدام على فعل المهم ، وإلى هنا يتم الترتب على هذه الطريقة.

٣٠٦

بل يتم الترتب على طريقة شيخنا قدس‌سره من كون السالب للقدرة هو امتثال الأهم ، لأنه قد ثبت أن المكلف عند اشتغاله بامتثال الأهم لا يكون الخطاب بالمهم متوجها إليه ، لأنه حينئذ مسلوب القدرة عليه. نعم لو لم يمتثل الأهم توجه إليه الخطاب بالمهم ، لأنه حينئذ غير مسلوب القدرة عليه ، فيكون الحاصل أنه عند عصيانه الأهم يكن مأمورا بالمهم ، وهذا هو عين الترتب. نعم تتوجه عليه إشكالات يحتاج دفعها إلى بعض المقدمات.

وبالجملة : أن ما عدا المقدمة الاولى من المقدمات راجع إلى دفع الاشكالات الواردة ، لا أنها الحجر الأساسي في أصل الترتب ، بل يمكن أن يقال إنه قدس‌سره لا يحتاج إلى دعوى كون المحالية وهي طلب الجمع آتية من الاطلاقين ، وأنه لو قيدنا كلا منهما بعدم الاتيان بالآخر ارتفع المحذور المذكور ، كي يتوجه عليه ما تقدم في بعض المباحث (١) من أنه لا يخرج عن الجمع التبرعي ، ولعل المراد هو ما عرفت من أن انسلاب القدرة في كل منهما إنما هو عند الاتيان بالآخر ، ولازم ذلك هو انحصار الخطاب في كل منهما بما لو لم يأت بالآخر ، فتكون النتيجة أن كلا منهما مقيد بعدم الاتيان بالآخر ، وأن الأمر بالمهم مشروط بعدم الاتيان بالأهم ، وذاك ترتب من الطرفين وهذا من طرف واحد.

والخلاصة : هي أن الذي أتخيله هو أن هذه المقدمة هي الحجر الاساسي في الترتب ، فانه بعد البناء على أن التكاليف المشروطة بالقدرة عقلا يكون الاشتغال بامتثال أحدها موجبا لسلب القدرة عن الآخر ، يكون امتثال الأمر بالأهم موجبا لسلب القدرة عن المهم ، فيكون الخطاب بالمهم

__________________

(١) في صفحة : ٢٦٣.

٣٠٧

ساقطا عند الاشتغال بالأهم ، ولازمه انحصار الخطاب بالمهم بصورة عدم امتثال الأمر بالأهم ، وهذا هو محصل الترتب ، أعني كون توجه الخطاب بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأمر بالأهم ، من دون حاجة إلى دعوى أن المحالية إنما جاءت من الاطلاقين وعند التقييد ترتفع المحالية ، وبناء على ذلك يكون الترتب على طبق القاعدة.

وأما باقي المقدمات فكلها إنما سيقت لدفع بعض الايرادات على الترتب المذكور ، ولكنك قد عرفت الاشكال في ذلك ، وأن الاشتغال بالأهم وإن كان سالبا للقدرة على المهم إلاّ أنه يشاركه في ذلك سائر الأفعال المباحة بل حتى المحرمة ، فلم يبق إلاّ دعوى كون الأمر بالأهم باعتبار اقتضائه الامتثال يكون سالبا للقدرة على المهم ، لكنك قد عرفت أنه إنما يسلبها شرعا لا تكوينا ، والمفروض أن القدرة التي هي شرط في الخطاب بالمهم إنما هي القدرة العقلية لا التشريعية ، والمفروض وجود تلك القدرة العقلية التكوينية ، غايته أنه باختياره صرفها في أداء الأهم أو في فعل المباح أو في فعل الحرام ، وكل ذلك لا يخرجه عن كونه في نفسه قادرا على المهم الذي هو شرط في صحة خطابه به ، فلم يبق لدينا إلاّ أنه مأمور بكل من الأهم والمهم ، لكون كل منهما مقدورا له في حد نفسه ، غايته أنه عند اشتغاله بالأهم يعذره العقل في مخالفة خطاب الأمر بالمهم ، أما عند عدم اشتغاله بالأهم فالعقل لا يعذره في مخالفة ذلك الخطاب ، هذا كله حسبما تقتضيه القواعد.

أما لو صرح الآمر بالأمر الشخصي بقوله : أزل النجاسة وإن لم تفعل فصل ، فلا ينبغي الاشكال في صحته وعدم انتهاء ذلك إلى الأمر بالجمع بين الضدين ، وكأن جميع هذه المقدمات مسوقة لمثل هذا الأمر الشخصي

٣٠٨

وأنه لا مانع منه عقلا ولا شرعا ، وأن دفع كل ما يتوهم من الموانع راجع إلى مقدمة من المقدمات المذكورة ، فلاحظ.

ويمكننا الاختصار بأن نقول : إن نفس الخطاب بالأهم سالب للقدرة على المهم ، فيكون موجبا لسقوط الخطاب بالمهم ، ولكن العمدة هو أن الأمر بالأهم وإن كان مطلقا بالنسبة إلى إطاعة الأمر بالمهم وعصيانه ، ومقتضاه سقوط الأمر بالمهم في قبال الأمر بالأهم ، إلاّ أنّ الأمر بالأهم لا إطلاق له بالنسبة إلى عصيان نفسه لا إطلاقا لحاظيا ولا إطلاقا ذاتيا ، بل إن هذه المرحلة أعني مرحلة العصيان لا يتصور فيها الاجمال فضلا عن الاطلاق الذاتي أو الاطلاق اللحاظي ، ففي هذه المرحلة أعني مرحلة عصيان الأهم لا مانع من الخطاب بالمهم ، غايته أنه يكون مشروطا بعصيان الأهم وهو معنى الترتب. ومرحلة اطاعة [ الأهم ](١) وإن كانت كذلك فلا يكون الخطاب بالأهم في هذه المرحلة هو السالب للقدرة على المهم لعدم تحققه في مرحلة إطاعة [ نفسه ](٢) إلاّ انّ الاطاعة بنفسها سالبة للقدرة على المهم ، لان العقل بعد أن يراه مشغولا بما يلزمه إطاعته وهو الأمر بالأهم يراه غير قادر على المهم في هذه [ المرحلة ](٣) أعني مرحلة إطاعة الأهم ، فيحكم العقل حينئذ بسقوط الخطاب بالمهم في هذه المرحلة ، ويكون الحاصل هو حكم العقل ببقاء خطاب المهم في مرتبة عصيان الأهم ، وبسقوط خطاب المهم في مرتبة إطاعة الأهم ، وهذه الحكومة العقلية قابلة لأن يستكشف منها تقييد الشارع لخطابه بالمهم بعصيان الأهم ، غايته أنه تقييد في مرحلة الخطاب وسقوط خطابه بالمهم عند إطاعته الأهم ، وهو

__________________

(١ و ٢ و ٣) [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].

٣٠٩

مقصور على سقوط الخطاب دون الملاك ، ولو منعنا من الاستكشاف المذكور كان محصل الحكومة العقلية هو تقييد الخطاب الشرعي بقيد عقلي.

وإن شئت فقل : إن محصله هو معذورية المكلف عن المهم عند اشتغاله بالأهم ، وعدم معذوريته عنه عند عدم اشتغاله بالأهم ، وذلك هو محصل التقييد العقلي ، فان هذا التقييد كتقييد الأمر بالمهم بكونه مقدورا في كونه تقييدا عقليا ، حيث إن القدرة على المهم منحصرة بعصيان الأهم ، لأن سالب القدرة على المهم إنما هو الخطاب بالأهم ، وهذا الخطاب غير متحقق في هذه المرحلة أعني رتبة عصيان الأهم ، لما عرفت من عدم إطلاق الخطاب بالنسبة إلى مرتبة عصيان نفسه.

لا يقال : قد حقق في محله (١) الاشكال على الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية باختلاف الرتبة ، بأن اختلاف الرتبة لا يجوّز اجتماع النقيضين أو الضدين ، فالذي ينبغي هنا هو المنع من تجويز الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم استنادا إلى اختلاف الرتبة.

لأنا نقول : أوّلا : لا يخفى الفرق بين كون المعلق عليه هو الجهل بالحكم الأولي وكون المعلق عليه هو عصيان الحكم الأولي ، لما عرفت (٢) من تحقق إطلاق الحكم بالنسبة إلى الجهل به ، غايته أنه إطلاق ذاتي لا لحاظي ، وهذا بخلاف العصيان فان الحكم الأولي لا إطلاق له بالنسبة إلى عصيانه لا إطلاقا لحاظيا ولا ذاتيا.

وثانيا وهو العمدة : أن الأهم والمهم وإن كانا ضدين إلاّ أن الأمر

__________________

(١) في المجلّد السادس فانّ له قدس‌سره حاشيتين على الصفحة : ١٤ و ١١٢ من فوائد الأصول.

(٢) في المجلّد السادس ، الحاشية على قوله في فوائد الأصول ٣ : ١٢ فلا بدّ من جعل ...

٣١٠

بالأهم ليس بضد للأمر بالمهم ، نعم لا يجتمع الأمران لأن اجتماعهما يوجب طلب الجمع بين الضدين وهو محال لكونه غير مقدور ، وبعد فرض كون الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر بالأهم لا يكون اجتماعهما موجبا لطلب الجمع بين الضدين ، إذ لا مانع من أن يقول القائل اصبغ هذا الجسم بالبياض وإن لم تفعل فاصبغه بالسواد ، ولا يكون محصله هو طلب الجمع بين اللونين ، فتأمل.

وثالثا : أن ما ذكر من [ أن ](١) اختلاف الرتبة لا يسوّغ اجتماع النقيضين ، لعله منقوض بالعلة والمعلول ، فان المعلول معدوم في المرتبة السابقة على العلة وموجود في المرتبة المتأخرة عن العلة ، وهكذا الحال في العلة نفسها فانها معدومة في مرتبة المعلول موجودة في الرتبة السابقة على المعلول.

ويمكن الجواب عن هذا النقض : بأنه من قبيل الخلط بين الوجود الخارجي وبين التحقق بحسب الرتبة ، فان المنفي من المعلول قبل العلة هو تحققه رتبة لا وجوده الخارجي ، كما أن الثابت منه بعد العلة إنما هو تحققه لا وجوده الخارجي ، وإلاّ فان الوجود الخارجي من كل منهما مقارن في الزمان لوجود الآخر ، فلم يجتمع الوجود والعدم منهما في الزمان الواحد ، فتأمل وراجع ما حررناه في أوائل مباحث القطع (٢).

وقد سلك بعض مشايخنا قدس‌سره في مقالته (٣) مسلكا آخر بناه على

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) في المجلّد السادس ، الحاشية على قوله في فوائد الأصول ٣ : ١٤ وإذا تعلق بحكم ...

(٣) فراجع مقالته المطبوعة قدس‌سره [ في مقالات الاصول ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٤ ] ولعل عبارتها غير واضحة ، وراجع ما حررناه عنه في الدرس ، فان حضورنا في درسه كان في أثناء هذه المسألة أعني مسألة الترتب ، وكان ذلك في ٢٣ ج ١ / ١٣٣٨ [ منه قدس‌سره ].

٣١١

نقصان التكليف ، فان التكليف التام يكون متكفلا بطرد جميع أعدام متعلق ذلك التكليف ، وهذا لا يجتمع مع التكليف بالضد الآخر ، بخلاف ما لو كان التكليف ناقصا غير متعرض لسد باب العدم من ناحية وجود الضد الآخر فانه لا مانع من توجهه مع التكليف بالضد الآخر بالنحو المسطور ، وبعد توجه كلا التكليفين فالعقل يتصرف في كل منهما ويحكم بنقصان كل منهما عن الاقتضاء التام إن كانا متساويين ، وإلاّ حكم العقل بتمامية التكليف بالأهم ونقصان التكليف بالمهم ، وتمامية الأهم لا تدافع التكليف الناقص المتعلق بالمهم ، لأنها إنما تسد باب عدم الأهم ولو من ناحية الاتيان بالمهم ، فهي تطرد عدم الأهم الآتي من ناحية وجود المهم ، والتكليف الناقص المتعلق بالمهم لمّا لم يكن مقتضيا لحفظ المهم وسد عدمه من ناحية وجود الأهم لم يكن مقتضيا لطرد عدمه الآتي من ناحية وجود الأهم ، فلم يكن ذلك التكليف الناقص المتعلق بالمهم مدافعا للتكليف التام المتعلق بالأهم في اقتضائه سد باب عدم الأهم من ناحية وجود المهم ، فان ذلك الأمر بالمهم لا يقتضي فتح باب ذلك العدم كي يتدافعا فيه.

ويمكن التأمل فيه : بأنه لا معنى لنقصان نفس الطلب ، لما حقق في محله (١) بأنه مرتبة بسيطة غير قابلة للكمال والنقصان ولا للشدة والضعف. نعم يمكن تصوير ذلك النقصان من الطلب بالحاقه بالحكم بجواز الترك بالاشتغال بالضد الآخر ، نظير ما تصورنا الطلب الاستحبابي باقترانه بالحكم بجواز الترك ، وحينئذ يكون الحاصل في صورة التساوي أن كلا منهما مطلوب ، وأن العقل حاكم بجواز ترك كل منهما بالاشتغال بالآخر ، وفي

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وراجع حاشية المصنّف قدس‌سره في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٤٩ وما بعدها.

٣١٢

صورة الاختلاف يكون العقل حاكما ببقاء الأمر بالأهم بحاله ، ويكون حكم العقل بجواز الترك منحصرا بالتكليف بالمهم ، بمعنى أن العقل يحكم بأنه يجوز تركه بشرط اشتغاله بامتثال الأهم ، وهذا عبارة اخرى عما أفاده شيخنا قدس‌سره من كونه مشروطا بعدم امتثال الأمر بالأهم.

اللهم إلاّ أن يقال : إن الحكم العقلي على الخطاب بجواز المخالفة عند امتثال الآخر لا يكون راجعا إلى اشتراط الخطاب بعدم ذلك الامتثال ، لأن اشتراط الخطاب بذلك موجب لعدم تحقق الخطاب عند امتثال الآخر ، وهذا بخلاف الحكم العقلي على ذلك الطلب ونقصانه وأنه تجوز مخالفته عند الاشتغال بامتثال الآخر ، فان ذلك المقدار من الطلب يكون ثابتا ومتحققا ولو عند الاشتغال بامتثال الآخر.

ولكن لا يخفى أنه لو سلّم جميع ذلك كان حاصله هو حكم العقل بالتخيير ، وأن نتيجة ذلك التخيير العقلي هو حكمه على كل من الخطابين بجواز المخالفة عند الاشتغال بالآخر ، وقد تقدم البحث عن ذلك وأن نتيجة الأمرين هل هي التخيير العقلي أو هي تقييد كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، فراجع وتأمل.

قال قدس‌سره في مقالته : فان قلت كيف لم يكن حينئذ المطاردة بينهما مع أن الطلب التام في الطرف الآخر يطرد الأمر الناقص بمقتضاه ، وإن لم يكن الأمر الناقص يطرد التام ، لأنّ مقتضاه حفظ الوجود من سائر الجهات غير ما يلازم وجود غيره.

قلت : بعد ما اعترفت أن مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات في ظرف انسداد الباب الملازم لوجود الضد ، كيف يقتضي الطلب التام طرد هذا المقتضى ، إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة ، وفي ظرفه

٣١٣

لا اقتضاء للطلب الناقص ، فأين المطاردة ولو من طرف واحد فضلا عن الطرفين (١).

(٢) ( مع أن الطلب التام في الطرف الآخر ) الذي هو الأهم ( يطرد الأمر الناقص ) المتعلق بالمهم ، فان ذلك الطلب التام المتعلق بالأهم يكون ( بمقتضاه ) طاردا للطلب الناقص المتعلق بالمهم ، لأنّ الطلب بالأهم لكونه تاما يكون مقتضيا لحفظ وجود ذلك الأهم وسدّ أبواب عدمه حتى عدمه المقرون بوجود [ المهم ](٣) ، فيكون الطلب بالأهم طاردا للطلب بالمهم لكونه مزيلا للمهم ( وإن لم يكن ) هو أعني ذلك ( الأمر الناقص ) المتعلق بالمهم له القابلية لأن ( يطرد ) الطلب ( التام ) وذلك ( لأن مقتضاه ) أعني مقتضى الطلب الناقص المتعلق بالمهم هو مجرد ( حفظ الوجود ) أعني وجود المهم ( من سائر الجهات ) الموجبة لعدمه ( غير ما ) هو من الأعدام ( يلازم وجود غيره ) أي غير المهم الذي هو الأهم.

والحاصل : أن الطلب الناقص المتعلق بالمهم وإن كان غير طارد للطلب التام المتعلق بالأهم لعدم تعرضه لجهة عدمه الآتية من ناحية وجود الأهم ، وإنما يتعرض ويطرد الأعدام الأخر الآتية من غير ناحية وجود الأهم ، إلاّ أن الطلب التام لكونه متعرضا لسد جميع أبواب عدمه حتى العدم الملازم أو المقارن لوجود المهم يكون من هذه الجهة طاردا للطلب بالمهم حتى في ظرف كون طلب المهم مقتضيا لوجود ذلك المهم ، وحينئذ تعود

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٣٤٣.

(٢) [ لا يخفى أنّ ما يأتي مما جعل في قوسين هو نص عبارات كتاب مقالات الاصول قد شرحه المصنف قدس‌سره ].

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣١٤

المطاردة بين الطرفين.

( قلت : بعد ما اعترفت أن مقتضى الطلب الناقص ) مقصور على ( حفظ سائر الجهات في ظرف ) اتفاق ( انسداد ) باب عدمه من ناحية وجود ضده الأهم ، فكان ذلك الطلب الناقص غير متعرض لسد ذلك الباب من أبواب عدمه ، أعني به ( الباب الملازم لوجود الضد ) الأهم ، ومع هذا الاعتراف ( كيف ) تقول لا بد أن ( يقتضي الطلب التام ) المتعلق بالأهم ( طرد هذا ) المقدار من ( المقتضى ) للطلب الناقص المفروض أنه ـ أعني ما يقتضيه الطلب الناقص ـ منحصر بسد أبواب عدم المهم غير العدم المقارن أو الملازم لوجود الأهم ، فكيف يعقل أن يكون ما يقتضيه الطلب التام طاردا لما يقتضيه الطلب الناقص ، ( إذ ) لو قلنا بكونه طاردا له لكان ( نتيجة طرده ) له هي ( منع انسداد تلك الجهة ) من وجود المهم ، بمعنى أن إحدى جهات وجود المهم هي عدم الأهم ، فالطلب بالمهم لو كان تاما لكان سادا لهذه الجهة من وجوده أعني بها عدم الأهم ، لكنه لمّا كان ناقصا لم يكن مقتضيا لسد تلك الجهة ، وحينئذ فالطلب التام المتعلق بالأهم لو قلنا إنه طارد لذلك الطلب الناقص لكان أقصى ما في ذلك هو كونه طاردا ومانعا من انسداد تلك الجهة من وجود المهم ، والمفروض أن طلب المهم لا يسد تلك الجهة كي يكون منع طلب الأهم من انسدادها مدافعا لطلب المهم.

والحاصل : أن طلب الأهم وإن منع من انسداد عدمه الآتي من ناحية وجود المهم ، إلاّ أن طلب المهم لا يسدّ باب عدمه الآتي من ناحية وجود الأهم ، فهو لا يطرد عدم الأهم ولا يفتح باب العدم على وجود الأهم المفروض كون طلب الأهم سادا لها ، لأن طلب المهم لا يقتضي حفظ

٣١٥

وجوده من ناحية وجود الأهم ، بمعنى أنه لا يقتضي فتح باب عدم الأهم ، ( و ) إنما قلنا بذلك ، لأن وجود الأهم ( في ظرفه لا اقتضاء للطلب الناقص ) لأن اقتضاء الطلب الناقص إنما هو حفظ وجود المهم من غير ناحية وجود الأهم ، ففي ظرف وجود الأهم لا اقتضاء للطلب الناقص ، فكيف يكون ذلك الطلب التام المتعلق بالأهم طاردا لاقتضاء الطلب الناقص.

وإن شئت مزيد التوضيح لذلك فراجع ما حررناه (١) عنه في الدرس فانه ربما يكون أوضح من هذا الذي حررناه.

وعلى كل حال ، أنه قدس‌سره بعد أن التزم بنقصان الطلب بالمهم بالمعنى الذي شرحناه من كونه مقرونا بجواز تركه إلى فعل الأهم ، لا يكون بينه وبين الطلب التام المتعلق بالأهم تزاحم وتدافع ، لأن الطلب الناقص المتعلق بالمهم المفروض كونه مقرونا بجواز تركه إلى فعل الأهم يكون بالنسبة إلى فعل الأهم لا اقتضاء ، فلا يزاحم ما فيه الاقتضاء ، على حذو ما ذكرناه من عدم المزاحمة بين المضيق والموسع ، وحينئذ فلا داعي إلى سلوك هذه الطرق الملتوية.

قوله : غاية الأمر أن العقل يكشف عن خطاب تخييري شرعي لئلا يلزم تفويت الملاك ... الخ (٢).

تقدم أن القائلين بسقوط كلا الخطابين إنما يقولون بالتخيير العقلي دون الشرعي ، فراجع ما نقلناه عن البدائع فيما تقدم (٣).

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) في صفحة : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٣١٦

قوله : فيكون التخيير عقليا لا شرعيا ، إذ يكون حينئذ كل من الخطابين مشروطا ومترتبا على عدم الاتيان بمتعلق الآخر ... الخ (١).

ظاهره أن التخيير العقلي راجع إلى تقييد كل من الخطابين بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، لكن قد عرفت (٢) أن التخيير العقلي يمكن إرجاعه إلى النقصان في درجة الطلب بالنحو الذي حررناه من حكم العقل بجواز المخالفة عند الاشتغال بالآخر ، فيكون حال هذا التخيير العقلي كحال التخيير الشرعي الراجع إلى حكم الشارع بجواز ترك كل من المتعلقين عند الاتيان بمتعلق الآخر. لكن ذلك في التخييريات الشرعية محل تأمل ، إذ لازمه أنه لو أتى بهما معا في آن واحد كان كل واحد منهما واجبا بالوجوب التخييري المذكور ، كما أن لازم تقييد الطلب شرعا بعدم الآخر هو خروج كل منهما عن المطلوبية عند الاتيان بهما معا ، وحينئذ لا بدّ من إرجاع هذا الشرط إلى مرحلة المسقط ليكون الحاصل أنه في رتبة عدم كل منهما يكون كل منهما واجبا ، وأنه لو أتى بأحدهما سقط الآخر ، ولو أتى بهما معا دفعة واحدة كان كل منهما واجبا ، وتمام الكلام في محله من باب الواجب التخييري (٣).

قوله : المقدمة الثانية قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أن شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع ... إلخ (٤).

هذه المقدمة مسوقة لبيان أن وجوب المهم بعد أن فرضناه مشروطا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٦ ـ ٥٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في صفحة : ٣١٢ وما بعدها.

(٣) لاحظ المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٥١ و ٢٦٧ وما بعدها.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٥٧.

٣١٧

بعدم الاتيان بالأهم ، وقد فرضنا تحقق ذلك العدم ، يكون ذلك الوجوب فعليا ، لكن فعليته لا توجب إطلاقه بحيث يكون ذلك الوجوب عند تحقق شرطه المذكور الذي هو عدم الأهم مطلقا من ناحية ذلك العدم ، ولا ينقلب عما هو عليه من كونه مشروطا بحيث يكون طاردا لعدم (١) ذلك الضد الذي هو الأهم ، كما هو مقتضى إطلاقه من ناحية وجود الأهم وعدمه ، وإلاّ لكان ذلك خلفا ، لما تقرر من كون ذلك الوجوب مشروطا بعدم الأهم ، وهذا الوجوب الذي وجد بوجود موضوعه وجوب شخصي غير قابل للاطلاق والتقييد ، إلاّ أنه فرد من ذلك الوجوب الكلي المشروط ، فيكون هو بنفسه مشروطا بذلك الشرط ، لكونه فردا من ذلك المشروط ، ويستحيل أن لا يكون مشروطا بذلك الشرط وإلاّ لم يكن فردا من ذلك المشروط ، بل كان فردا لوجوب كلي آخر غير مشروط بالشرط المذكور ، وهذا أمر واضح سواء قلنا بأن الشرط راجع إلى الموضوع أو قلنا بأنه لا يرجع إلى ذلك ، بدعوى أن شرط التكليف غير ما هو موضوعه ، فان هذه الدعوى وإن كانت غير صحيحة ، إلاّ أنا لو سلّمناها لم تكن مخلة بما نحن بصدده من أن الوجوب المشروط لا ينقلب بواسطة تحقق شرطه عما هو عليه من الاشتراط به إلى الاطلاق من ناحية ذلك الشرط ، فان ذلك الانقلاب موجب للخلف على كل حال من رجوع الشرط إلى الموضوع وعدم رجوعه إليه. نعم ربما كان ذلك الخلف والمحال على تقدير رجوع الشرط إلى الموضوع أوضح منه على تقدير عدم رجوعه إليه.

ومنه يعرف الحال لو قلنا بأنّ الشرط من مقولة دواعي جعل الحكم ،

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، فليتأمل ].

٣١٨

فانا لو قلنا بتلك المقالة الفاسدة وجعلنا الشرط من دواعي جعل الحكم عند تحققه بحيث يكون مرجع قوله « حج إن استطعت » إلى الاخبار بأنّ الشارع يجعل وجوب الحج عند ما تتحقق الاستطاعة ، لم يكن ذلك الوجوب الذي يجعله الشارع فيما بعد الاستطاعة مطلقا من ناحيتها ، على وجه يكون ذلك الوجوب الذي يجعله الشارع فيما بعد الاستطاعة شاملا لوجود الاستطاعة وعدمها ، فان ذلك أيضا موجب للخلف ، إذ لو أخرجنا ذلك الحكم عن كونه من قبيل القضايا الحقيقية وجعلناه من قبيل القضية الخارجية ، لم يكن هو إلاّ في ظرف الاستطاعة ، فكون الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة لا يكون إلاّ من قبيل الخلف لما هو المفروض من كونه مجعولا على ذلك المكلف بعد فرض تحقق استطاعته.

والحاصل : أنا لو قلنا بكون الاستطاعة من دواعي جعل الحكم على المكلف ، فان كان ذلك الجعل أعني جعل وجوب الحج حاصلا الآن كان محصله أنه يجب عليه الحج الآن قبل تحقق الاستطاعة ، وهو خلف لما هو المفروض من أن الوجوب إنما يكون بعد الاستطاعة ، وحينئذ ينحصر الأمر بأن نقول : إن الجعل إنما يكون بعد الاستطاعة ، فلا يكون إلاّ من قبيل الاخبار الآن بأنه يجعل الوجوب بعد الاستطاعة ، فلو قلنا إن ذلك الوجوب الذي يجعله فيما بعد الاستطاعة مطلق من ناحية الاستطاعة كان لازمه وجود الوجوب سواء كانت الاستطاعة معدومة أو كانت موجودة ، وهو خلف لما أخبر به من أنه إنما يجعل الوجوب بعد الاستطاعة ، حتى أنا لو قلنا بأنه من قبيل الواجب المعلق لم يخرج ذلك عن الخلف ، لأن مع فرض كون الاستطاعة المتأخرة داعيا في جعل الوجوب الآن لا يكون ذلك الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة ، بحيث إنه يكون شاملا لما إذا لم تتحقق

٣١٩

الاستطاعة فيما بعد.

وهكذا الحال فيما لو قلنا بأن سببية الاستطاعة لذلك الوجوب سببية تكوينية ، وأن الاستطاعة علة تكوينية لوجوب الحج ، فانه أيضا لا يعقل أن يكون ذلك الوجوب المعلول تكوينا للاستطاعة مطلقا من ناحية الاستطاعة.

وبالجملة : أن هذه الدعاوي ـ أعني دعوى عدم رجوع الشرط إلى الموضوع ، أو دعوى كون « مثل حج إن استطعت » من قبيل الإخبار عن أنه يوجب عليه الحج بعد تحقق الاستطاعة ، أو دعوى كون الاستطاعة علة تكوينية لوجوب الحج ـ وإن كانت كلها دعاوي فاسدة ، إلاّ أنا لو التزمنا بأحدها لم يكن شيء منها مصححا لكون ذلك الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة ، على وجه يكون الحج واجبا على ذلك المكلف سواء تحققت له الاستطاعة أو لم تتحقق له. نعم إن عدم الانقلاب بناء على ما أفاده شيخنا من كونه من القضايا الحقيقية ورجوع الشرط إلى الموضوع أوضح منه بناء على إحدى هذه الدعاوي الفاسدة.

قوله : ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلّة التشريع ، بتوهّم أنّ الشرط خارج عن الموضوع وهو من قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه ... الخ (١).

لا يخفى أنّا لو سلّمنا عدم رجوع الشرط إلى موضوع الحكم فلا يلزمنا الالتزام بكونه من قبيل داعي الجعل ، بل لنا أن نقول إنّه خارج عن باب الدواعي أيضا ، بأن نقول إنّه ـ أعني باب الشرط ـ باب مستقل خارج عن باب الدواعي كما هو خارج عن باب الموضوع.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٢٠