أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

تحقق الاضافة مع انعدام أحد طرفيها وهو المشروط ... الخ (١) فإنّ الالتزام بكون الامتثال مراعى بالاتيان بالشرط في ظرفه وصرف الأمر إليه لا يدفع اعتبار التقيد الذي هو الاضافة المشار إليها فيما تقدم.

وحينئذ يقال : إن هذه الاضافة أعني التقيد قد حصلت بعد انعدام أحد طرفيها الذي هو المشروط. فلا بد في الجواب عن ذلك بما تقدمت الاشارة إليه في الحاشية السابقة (٢) من أنه لا مانع من لحوق الشرط واتصاف ذلك الفعل السابق بكونه قد لحقه ذلك الشرط ، وذلك هو عبارة عن تقيده بلحوق الشرط ، بل لا يعقل أن يتصف بكونه مقيدا بلحوق الشرط له إلاّ بأن يتحقق ذلك الفعل ثم يلحقه الشرط المذكور.

ولا يخفى أن ما أفيد في الاشكال من الشق الأول مناف لما تقدم في الأمر الثاني من أن الأمر الانتزاعي إنما ينتزع عن نفس السابق الخ (٣).

ثم لو سلّمنا مساواة الشرط للجزء كان الاشكال باقيا ، إذ لا ريب في كون التقيد دخيلا فيها ، فيسأل حينئذ عن أن التقيد بتلك الاضافة هل هو حاصل قبل اللاحق أو لا يحصل إلاّ بعد اللاحق ، فعلى الأول يلزم وجود ذلك التقيد الذي هو أمر انتزاعي قبل وجود قيده ، وعلى الثاني يلزم تحقق الاضافة مع انعدام أحد طرفيها.

والحاصل : أنه يرد على هذا الذي افيد هنا أوّلا : أنّه مخالف لما افيد سابقا من أن العنوان الانتزاعي معلول للأول دون الثاني.

وثانيا : أنه مخالف لما افيد سابقا (٤) من أن السبب المباين مقدور

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢٣.

(٢) في صفحة : ١٧.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٢٢.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٣١٩.

٢١

بواسطة القدرة على سببه.

وثالثا : أن هذا الاشكال إنما نشأ عن تقيد الأول بالقيد المذكور لا عن كون الثاني غير داخل في الأمر ، فلا يرفعه دعوى كون الشرط المتأخر داخلا في الأمر كالجزء ، فان هذا الاشكال يأتي في كل من الشرط والجزء سواء قلنا بأن الشرط داخل في الأمر كالجزء أو قلنا بخروجه عن حيّز الأمر وأن الواجب فيه هو التقيد فقط.

ولا مدفع للاشكال المزبور إلاّ ما اشير إليه بقوله : فيكون الامتثال مراعى باتيانه في ظرفه كحال الأجزاء بعينها.

ورابعا : أن دعوى كون الشرط بذاته واجبا كالجزء مناف لما هو معلوم وصرّح به هنا من كون القيد في الشرط خارجا ، وأن الداخل هو التقيد فقط.

وخامسا : أن هذا التقريب الموجب لانصراف الأمر إلى ذات الشرط يلزمه أن يكون الجزء واجبا نفسيا ضمنيا من جهتين ، إحداهما من جهة ذاته ، والأخرى من جهة صرف الأمر الوارد على التقيد به إلى نفسه ، فيكون واجبا بوجوبين نفسيين ضمنيين أو أن وجوبه متأكد.

وسادسا : أنه بعد جميع هذه التمحلات يكون الاشكال السابق الراجع إلى السؤال المذكور باقيا بحاله في كل من الجزء والشرط ، فإنه وإن اندفع الشق الأول منه بدعوى كون الامتثال حاصلا عند حصول المتأخر لا قبله ، إلاّ أن الشق الثاني وهو المعبّر عنه بقوله : وعلى الثاني ... الخ ، باق بحاله فلا بد من دفعه بما تقدمت الاشارة إليه ، هذا.

ولكن الذي حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، أعني بيان كون شرائط

٢٢

المكلف [ به ](١) فيما لو كانت متأخرة خارجة عن محل النزاع في الشرط المتأخر ، مقصور على بيان أن الامتثال لا يحصل إلاّ عند حصولها ، فيكون حال الشرائط المتأخرة حال الجزء المتأخر في كونه قيدا في صحة السابق وأنّ الامتثال لا يحصل إلاّ عند حصولها ، فلا يكون لها دخل بالشرط المتأخر ، وإنّما تكون من هذا الوادي لو قلنا بأن الامتثال يحصل قبل حصول تلك الامور المتأخرة ، فراجع ما حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام (٢) ، هذا.

ولكنك بالتأمل فيما ذكرناه في حاشية ص ١٨٥ (٣) يمكنك الجواب عن هذه الاشكالات ، فان الشرط بعد أن صار مركبا للوجوب النفسي ، وكان بالنسبة إلى التقيد من قبيل نسبة العناوين الأولية إلى العناوين الثانوية تخرج المسألة عن كون الشرط في السابق هو العنوان المنتزع أعني عنوان السبق أو اللحوق ، ولا يكون الامتثال حاصلا إلاّ عند وجود اللاحق ، ولأجل ذلك أراد شيخنا قدس‌سره إخراج باب شرائط المكلف [ به ](٤) عن محل الكلام وأرجعها إلى باب الأجزاء المتأخرة ، وكأنه في هذا المقام يختار مسلك استاذه السيد محمد الاصفهاني في أن التكليف لا يسقط إلاّ عند الجزء الأخير ، ولا يمكن تخريج المسألة على كون الشرط هو عنوان السبق واللحوق.

ثم لا يخفى أن كون العناوين الانتزاعية لا تحقق لها خارجا لا يوجب

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

(٢) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٣) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، وقد تقدمت الحاشية في ص ٩ من هذا المجلّد.

(٤) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

٢٣

صرف الأمر بها إلى الأمر بمنشإ انتزاعها ، لإمكان القول بكونها بنفسها متعلقة للأمر ، غايته أنها مقدورة بالقدرة على منشأ انتزاعها ، فلا يكون وجوبه إلاّ مقدميا ، فلا بد من شرح ذلك بما قدمناه من كون المقام من قبيل العناوين الأولية والعناوين الثانوية ، وأن نفس وجود القيد يكون علة توليدية لوجود التقييد ، وهذا كله ـ أعني الالتزام بانبساط التكليف على وجود القيد ـ إنما صرنا مضطرين إليه لأجل تصحيح ما عن السيد الشيرازي قدس‌سره من كون الامتثال حاصلا عند كل جزء ويكون الشرط هو التعقب ، ففي الأجزاء يكون الجزء الأخير واجبا لأنه بنفسه واجب ، لكن في الشرط المتأخر لمّا كان غير واجب بنفسه وإنما وجب مقدمة لحصول القيد فيما تقدمه ، فلو التزمنا بسقوط الأمر فيما تقدمه لم يبق ما يوجب علينا الاتيان بالشرط المتأخر.

قوله : الأمر الرابع : لا ينبغي الريب في أن العلة الغائية وملاكات الأحكام التي هي علل تشريعها لا تكون بوجودها الخارجي مؤثرة في تشريع الحكم وجعله ، بداهة أنها متأخرة في الوجود الخارجي عن متعلقات الأحكام فضلا عن نفسها ... إلخ (١).

قد مرّ مرارا أن غاية الفعل ما كانت بوجودها الخارجي معلولة للفعل وبوجودها العلمي علة باعثة على إرادته وصدوره من الفاعل ، وملاكات الأحكام كالنهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الصلاة مثلا إنما هي غاية نفس الفعل أعني الصلاة ، فتكون بوجودها الخارجي معلولة له وبوجودها العلمي علة باعثة على تعلق إرادة الفاعل بذلك الفعل ، ولا دخل لها بالحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢٥ [ المنقول هنا مخالف للنسختين ].

٢٤

المتعلق بذلك الفعل ، أعني الايجاب الذي هو فعل صادر من الشارع. نعم إن الايجاب يكون غايته الامتثال وغاية الامتثال هي النهي عن الفحشاء. وبنحو من التسامح نقول : إن ملاكات الأحكام هي غاية جعلها باعتبار كونها غاية الغاية.

وعلى أيّ حال ، لا دخل لهذه الغايات بما هو محل البحث أعني شرط التكليف. نعم يمكن أن نسمّيها شرطا بمعنى شرط الجعل لا شرط المجعول ، ومعنى كونها شرط الجعل كونها علة غائية لذلك الجعل هذا كله في الملاكات وغايات جعل الأحكام. أما ما يناط به الحكم أعني شرط المجعول فهو أجنبي عن ملاكات الأحكام ، نعم إن تحقق ملاك الحكم متوقف عليه ، ولأجل ذلك جعل ذلك الحكم منوطا ومشروطا به ، وهذا هو محل الكلام في إمكان تأخره كما يرى في من علم بأنه يرده ضيف في آخر الشهر تتوقف ضيافته على استعداد من أول الشهر ، وكما في من علم بأنه يكلف بالحج مثلا في السنة الآتية وأنّ تعلم أحكام الحج لا يحصل عليه إلاّ إذا شرع فيه من هذه السنة ، فلو أمره الشارع بالاستعداد أو التعلم من الآن كانت له صورتان :

الاولى : أن يقول إن من علم بأنه يضيف في الآتي يجب عليه الاستعداد من الآن ، وحينئذ يكون الشرط هو علم المأمور بنحو تمام الموضوع ، ويصح كونه بنحو جزء الموضوع ، وليس ذلك من قبيل الشرط المتأخر في شيء ، لأن الشرط إنما هو العلم بذلك المتأخر لا أن المتأخر هو الشرط.

الصورة الثانية : أن يقول : إن من يتكلف في آخر الشهر يجب عليه

٢٥

الاستعداد من أول الشهر ، وحينئذ يكون الشرط هو كونه بحيث يتكلف في آخر الشهر أو كونه يستطيع في السنة الآتية ، وهذا العنوان حاصل ومتحقق في الحال ، إذ لا ريب في أن زيدا يصدق عليه فعلا أنه يموت في المستقبل أو أنه يسافر إلى الحج مثلا ونحو ذلك من الامور الاستقبالية ، وليس ذلك من الشرط المتأخر في شيء ، بل لعله ليس من قبيل كون الشرط هو العنوان المنتزع أعني عنوان التعقب ونحو ذلك مما تصلح به غائلة الشرط المتأخر.

ثم بعد جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية باحدى الصورتين المذكورتين ربما وجّه الآمر أمره إلى المكلف أمرا مطلقا إن كان الآمر عالما بأنه واجد لذلك الشرط ، وإن لم يكن المأمور عالما بأنه واجد لذلك الشرط بأن تقول لمن تعلم بأنه يستطيع في السنة الآتية تعلّم أحكام الحج ، وهذا من قبيل تطبيق الكبرى الكلية على الصغرى المفروضة الحصول وأخذ النتيجة من ذلك ، ويكون المصحح لتوجيه الأمر فعلا هو علم الآمر بتحقق الشرط فيما سيأتي ، وليس من قبيل القضية الخارجية المشتملة على جعل مختص بذلك الفرد الخارجي ، ولا من قبيل تأخر الشرط كي نقول إن تجويز تأخر الشرط مبني على الخلط بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ولا من قبيل غاية جعل الحكم كي يكون وجودها العلمي مؤثرا في جعل الآمر كي نقول إن تجويز تأخر الشرط مبني على الخلط بين غاية الحكم وبين شرطه ، أو نقول إنه مبني على الخلط بين شرط الجعل وشرط المجعول ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، لو لم يكن في البين إحدى الكبريين ، بل لم يكن إلاّ قوله تعلّم الآن أحكام الحج ، بأن كان هذا إنشاء وجعلا جديدا ، يقع الكلام حينئذ أنه إنما أمره بذلك لعلم الآمر بأنه يتكلف بالحج فيما سيأتي ليكون من قبيل

٢٦

القضية الخارجية ، أو أنه إنما أمره بذلك مشروطا بأن يتكلف الحج فيما سيأتي ، وحينئذ تكون قضية تعليقية حقيقية. وعلى الأوّل يكون التكليف بالحج فيما سيأتي من قبيل الداعي ، وعلى الثاني من قبيل القيد والشرط.

ويتخرج على ذلك ما لو أذن لزيد بدخول داره وكان زيد يعلم أنه عدوّ له وأنه لو اطلع على ذلك لما أذن له ، فعلى الداعي يجوز له الدخول وعلى التقييد لا يجوز ، لكن كل ذلك فيما إذا لم يكن مسبوقا بجعل كبروي ، أما لو كان قد صدر منه ذلك الجعل الكبروي بأن قال لا يجوز لمن هو عدوي دخول داري ثم بعد ذلك رأى شخصا وأذن له ، لا من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى وأخذ النتيجة ، بل كان ذلك الأمر الشخصي المتوجه إلى زيد أمرا جديدا ولو من جهة الغفلة عن ذلك الجعل الكبروي فعلى التقييد لا إشكال في أنه لا يجوز له الدخول ، وعلى الداعي ينبغي القول بأنه يجوز له الدخول ، لكن مقتضى انطباق الكبرى عليه أنه لا يجوز له ذلك ، فيلزم اجتماع الحكمين المتناقضين ، إلاّ أن نقول إن صدور هذا الاذن الشخصي لزيد يكون ناسخا أو تخصيصا قهريا لتلك الكبرى ، أو نقول بلغوية هذا الاذن الشخصي ، فلاحظ وتأمل. هذا كله في شرح ما أفاده شيخنا قدس‌سره.

ولكن لا يخفى أن الذي تلخص : هو أن مدخلية شيء في الحكم أو في الفعل الاختياري يكون على ثلاثة أنحاء :

الأول : نحو الداعي ، وهو ما يكون بوجوده الخارجي معلولا للفعل وبوجوده العلمي علة في الفعل لكون العلم بترتبه على الفعل موجبا لتعلق الارادة بذلك الفعل.

النحو الثاني : ما يكون من قبيل الاعتقاد المقارن ، مثل تهيئة أسباب

٢٧

الضيافة لمن يعلم أنه يرده الضيف في غد مثلا. والفرق بين النحوين أن الأول لا يكون وجوده الخارجي إلاّ متأخرا عن الفعل ، بخلاف الثاني فان وجوده الخارجي ربما كان سابقا على الفعل ، كأن تحسن إلى زيد باعتقاد أنه أحسن فيما مضى إليك أو إلى من تتعلق به. وربما كان مقارنا للفعل بأن تقوم في المجلس تعارفا لزيد باعتقاد أنه فعلا ورد المجلس في حين أنه لم يرد المجلس لا هو ولا غيره. وربما كان متأخرا عن الفعل كأن يعطي الملك الجائزة فعلا لمن ورده باعتقاد أنه يسافر غدا في حين أنه لا يسافر أصلا.

وهذه الأقسام الثلاثة وإن اصطلحنا عليها بأنّها من قبيل الاعتقاد المقارن ومن قبيل تخلف الاعتقاد ، إلاّ أنها يمكن إرجاعها بنحو من الشرح إلى الدواعي.

ومن ذلك يظهر لك أن الداعي وما الحق به لا يكون وجوده الخارجي إلاّ متأخرا عمّا يدعو إليه ، ولا يتحقق فيه التقدم الخارجي ولا المقارنة.

ومن ذلك يظهر لك التأمل في توسعة الكفاية (١) لما يكون مؤثرا بوجوده العلمي الذي هو الداعي وما ألحق به إلى المتقدم والمقارن والمتأخر خارجا.

وعلى كل حال ، أن هذين النحوين في قبال النحو الثالث وهو ما يكون قيدا في الشيء وشرطا في تحققه.

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إن الفعل الخارجي الاختياري بعد تحققه لا يدخله التقييد والتعليق الذي هو النحو الثالث ، وينحصر ما يدخله

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٣.

٢٨

بأحد الأولين أعني الداعي والاعتقاد المقارن. أما الأحكام وما هو من سنخها من الانشائيات فالأمر فيها بالعكس ، فان الحكم كالوجوب أو الملكية لا يدخله الداعي ولا الاعتقاد المقارن وإنما يدخله التقييد والتعليق. نعم إن إنشاء الحكم وجعله في عالم الاعتبار لمّا كان من الأفعال الاختيارية للحاكم كان موردا للدواعي ولما يكون من قبيل الاعتقاد المقارن ، ولا يدخله التقييد والتعليق. ولذلك تراهم يستدلون على بطلان التعليق في العقود بالاجماع ، فلا يصح البيع في قولك بعتك هذا إذا طلعت الشمس أو إذا جاء زيد ، لأجل محض الإجماع ، لا لأجل أن الانشاء غير قابل للتعليق كما ربما صدر عن بعضهم فأوردوا عليه بأن هذا القيد ليس قيدا للانشاء لأن الانشاء فعل خارجي لا يعقل التعليق فيه ، وإنما القيد قيد للمنشإ الذي هو نفس البيع فلا مانع منه عقلا ، ولكن العمدة في منعه هو الاجماع على البطلان واعتبار التنجز في العقود ، فراجع (١).

وهذه الجهة أعني عدم دخول الداعي والاعتقاد المقارن في الحكم لا يفرق فيه بين كون القضية حقيقية وكونها خارجية ، حتى في مثل قولك لمن تعلم أنه مستطيع : حج أيّها الانسان ، فإن هذا الاعتقاد ـ أعني اعتقادك باستطاعته ـ له الدخل في إنشائك وجوب الحج عليه من دون أن تقيده بالاستطاعة ، فلاحظ وتأمل.

نعم ، إن نفس الحكم في القضية الخارجية كما لا يدخله الداعي والاعتقاد فكذلك لا يدخله التقييد ، وإلاّ خرجت القضية عن كونها خارجية وعادت قضية حقيقية تتضمن الملازمة بين الاستطاعة ووجوب الحج ، وإن

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٧٠.

٢٩

كان ذلك في خصوص ذلك الشخص كما حققناه في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية (١).

قوله في الحاشية : فلأن شرطية شيء للمأمور به ليست إلاّ بمعنى دخل ذلك الشيء في المأمور به ، وكون الأمر متعلقا بالمقيد به الذي هو عبارة عن حصة خاصة من الطبيعي ـ إلى قوله ـ فوجود القيد المتأخر لا شأن له إلاّ أنه يكشف عن وجود تلك الحصة في ظرف كونها مطلوبة ... الخ (٢).

الظاهر من كون المطلوب هو الحصة هو حديث التوأمية الذي أفاده الاستاذ العراقي قدس‌سره (٣) أعني كون المطلوب هو الحصة التي هي توأم مع القيد وعليه يكون كل من القيد والتقييد خارجا عن الطلب ، فلا يكون القيد دخيلا في المأمور به ، فلا يلتئم الصدر مع الذيل. وعلى أيّ حال أن هذا التحصص هو وليد وجود القيد ، فلم يندفع محذور الشرط المتأخر إلاّ بما تقدمت الاشارة إليه (٤) من أخذ العنوان المنتزع قيدا. وهكذا الحال في قيود التكليف أو الوضع فان إصلاحه منحصر بما عرفت من العنوان المنتزع ، أو ما يرجع إليه من أخذ الشرط هو كون المكلف على الصفة الكذائية في الاستقبال ، كما عرفت (٥) من أخذ الشرط في وجوب تعلم أحكام الحج في الحال هو كون المكلف يستطيع في الاستقبال.

وما تضمنته الحاشية أعني قوله : وربما يجعل الحكم على الموضوع

__________________

(١) راجع صفحة : ١٠ ـ ١١ من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٢٨.

(٣) راجع مقالات الأصول ١ : ٢٤٣.

(٤) في صفحة : ١٣.

(٥) في صفحة : ٢٥ ـ ٢٦.

٣٠

المقيد بقيد أخذ مفروض الوجود بعد وجوده ... الخ (١) ، هو عين كون الشرط هو الصفة الاستقبالية التي هي نحو العنوان المنتزع الموجب لعدم تأخر الشرط ، إذ ليس الشرط هو الذات المتأخرة وإنّما الشرط هو تأخرها وهو متحقق فعلا ، فلاحظ.

قوله في الحاشية : إلاّ أنه لا بد من الالتزام بالكشف الحقيقي بمعنى آخر ـ إلى قوله ـ فالمال مثلا قبل الإجازة كان محكوما بكونه مملوكا لمالكه الأول ، وبعد الاجازة يحكم بكونه ملكا للمجيز من حال صدور العقد ـ إلى قوله في دفع المضادة ـ فوحدة زمان الملكيتين مع تغاير زمان الاعتبارين لا محذور فيها أصلا ... الخ (٢).

هذا هو عين النقل مع الانقلاب من حين الاجازة ، وهو مسلك العلاّمة الخراساني قدس‌سره في حاشية المكاسب (٣) ولا دخل لذلك بالكشف الحقيقي ، فانه مسلك ثالث مغاير للقول بالكشف والنقل الحقيقيين.

قوله في الحاشية : إذا فرضنا تعلق الاجازة بالملكية المنشأة قبل الاجازة ... الخ (٤).

هذا أحد أدلة الكشف ، وقد أجيب عنه في محله (٥) بأن الملكية المنشأة لم تكن مقيدة بالزمان الذي وقعت فيه ، كما أن الإجازة لم يكن متعلقها هو الملكية المقيدة بالزمان السابق ، بل الواقع سابقا هو نفس الملكية ، كما أن المجاز هو نفس الملكية لا الملكية السابقة ، وحينئذ فبعد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣٠.

(٣) حاشية كتاب المكاسب : ٦١.

(٤) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣١.

(٥) راجع المكاسب ٣ : ٤٠٣.

٣١

الامضاء لا يعقل أن يكون أثر الإجازة سابقا عليها ، فراجع.

وقول شيخنا قدس‌سره : إن الملكية الشرعية الثابتة حين الاجازة لا ربط لها بالملكية المنشأة ... الخ (١) ليس المراد به أن الملكية المنشأة تكون مقيدة بالزمان ، نعم هي واقعة فيه ، وفرق بين كون الشيء واقعا في الزمان المخصوص وبين كونه مقيدا بذلك الزمان ، وسيأتي توضيح ذلك منه قدس‌سره (٢).

قوله في الحاشية : إنشاء الأمر المتأخر ... الخ (٣).

إن ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : على أنا قد بينا سابقا ... الخ (٤) ليس هو مختاره ، بل هو جدل مفاده أنه لو سلّمنا تقييد المنشأ فمن الممكن أن يكون المنشأ هو الملكية في زمان الاجازة فلا يتم دليل القائل بالكشف فلاحظ. وليس ذلك من قبيل تأخر المنشأ عن الانشاء ، إذ ليس المنشأ هو الملكية المطلقة ، بل المنشأ إنّما هو الملكية على تقدير الموت ، وهو حاصل فعلا وإن لم تكن الملكية موجودة فعلا في عالم الانشاء ، بل الموجود في عالم الانشاء هو الملكية على تقدير الموت كما تقدّم (٥) تحقيقه في الواجب المشروط.

قوله في الحاشية : وهل يكون العقل أو العرف مشرّعا في قبال الشارع؟ كلا ... الخ (٦).

لا يخفى أن ذلك لم يدّعه شيخنا قدس‌سره ، وإنّما جلّ غرضه هو أنه بعد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣١.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٣٣١.

(٥) في صفحة : ٦ ـ ٧ وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

(٦) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣٢.

٣٢

أن كانت الاجازة بحسب النظر العرفي والعقلي مؤثرة بذات وجودها لا بالعنوان المنتزع ، لم يمكن القول بالكشف بدعوى كون الشرط هو العنوان المنتزع. وفي الحقيقة أن هذا الوجه الثالث ليس من وجوه تصحيح الشرط المتأخر بل هو ضد الشرط المتأخر ، وإنّما هو توجيه للقول بالكشف بغير الالتزام بالشرط المتأخر.

ثم بعد البناء على أن النظر العرفي قاض بكون الاجازة بوجودها الخارجي مؤثرة لو ورد دليل يدل على ترتيب آثار الملكية قبلها كما في قضية عروة البارقي (١) ، كان منزّلا على مجرد التعبد وتنزيل الملكية الآتية عند الاجازة منزلة الموجودة فعلا وهو معنى الكشف الحكمي ، وهذا الحكم وإن أمكن جعله حقيقيا عن ملكية حقيقية ، إلاّ أن ذلك النظر العرفي القاضي بكون الاجازة مؤثرة بوجودها يقضي سدّ باب هذا الاحتمال.

قوله في الحاشية : فيرد عليه أوّلا : أنا نفرض الكلام في موارد الاجارة الفضولية ... الخ (٢).

لا يخفى أن تقدم المملوك وهو المنفعة السابقة لا دخل له بتقدم الملكية ، كما أنّ تأخره كما في الاجارة على المنفعة في العام الآتي لا دخل له بتأخر الملكية.

قوله في الحاشية : وثانيا ـ إلى قوله ـ والاهمال غير معقول ... الخ (٣).

لا يخفى أن هذا أعني دعوى عدم معقولية الاهمال وأنه إذا انسدّ باب

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٤٥ / أبواب عقد البيع ب ١٨ ح ١ ، عوالي اللآلي ٣ : ٢٠٥.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣٢.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٣٢.

٣٣

التقييد لا بدّ من تحقق الاطلاق إنما هو في المفاهيم دون الأفعال الخارجية وما نحن فيه من قبيل الثاني ، إذ لا فرق بين إيجاد الكسر الخارجي بآلته وبين إيجاد الملكية في صقع الانشاء بآلته التي هي العقد ، فان الموجود هو نفس الذات لا المقيد بالزمان الحالي ولا المطلق ، فلاحظ.

قوله : وأمّا المسألة الفقهية فعدم جريان الأصل فيها لعدم ترتب الأثر عليه ـ إلى قوله ـ إذا لم يكن هناك أثر عملي مترتب على جريانه (١).

كان الأنسب أن يكون هذا البحث بعد البحث الآتي المتعرض لثمرة النزاع ، لكن حيث تحقق هناك عدم الثمرة العملية صح له هنا أن يقول بعدم الأثر العملي.

قول صاحب الكفاية قدس‌سره : نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لما صح التمسك بالأصل كما لا يخفى (٢).

الظاهر أن مراده هو أنه يعتبر في الأصل النافي للتكليف (٣) كون ذلك التكليف لو فرضنا تحققه واقعا لكان من الممكن نفيه في المرتبة الفعلية كما هو في جميع موارد النفي من الأحكام الظاهرية ، فانها منحصرة في المورد القابل للتفكيك فيه بين الواقع والفعلية ، فان محصّل الأصل النافي هو الحكم بعدم فعلية الحكم سواء كان موجودا في الواقع أو لم يكن موجودا فيه ، وكما أنه ليس الأصل النافي مقيدا بوجود الحكم الواقعي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٥ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الأصول : ١٢٦.

(٣) [ في الأصل هنا زيادة : هو ، حذفناه لاستقامة العبارة ].

٣٤

فكذلك ليس بمقيد بعدمه ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، فلا يتأتى إلاّ في المورد القابل للاطلاق.

أما لو كان الحكم الواقعي بحيث إنه لو فرضناه موجودا في الواقع لكان فعليا ، على وجه لا يمكن الحكم بعدم فعليته بقول مطلق ـ سواء كان موجودا في الواقع أو كان غير موجود فيه ـ فلا تجري فيه الاصول النافية.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان وجوب المقدمة لو كان موجودا في الواقع لكان ذلك ناشئا عن الملازمة بينه وبين وجوب ذيها المفروض كونه فعليا ، والمفروض أن هذه الملازمة محققة حتى في المرتبة الفعلية ، فيكون الحاصل أن هذا الوجوب لو كان موجودا في الواقع لكان فعليا ، ولاستحال عدم فعليته مع فعلية ملازمه الذي هو وجوب ذي المقدمة ، ومن الواضح أنه حينئذ غير قابل لأن تجري فيه الاصول النافية ، فان محصل جريانها في المورد الذي تجري فيه هو نفي التكليف الفعلي في ذلك المورد ، سواء كان موجودا في الواقع او لم يكن موجودا ، إذ ليس محصل إجراء الأصل النافي هو عدم ذلك التكليف واقعا حقيقة بنحو التصويب ، بل محصله هو أن ذلك الحكم ليس بفعلي حتى لو كان موجودا في الواقع ، وهذا المحصل لا يتأتى فيما يكون وجوده واقعا ملازما لفعليته وأنه لو لم يكن فعليا لزم التفكيك بين المتلازمين.

ومن ذلك يظهر أنه لا داعي لحمل عبارة الكفاية في توجيه المنع من إجراء الأصل النافي ، بأن احتمال عدم الوجوب المقدمي عبارة اخرى عن احتمال التفكيك بين المتلازمين ، كي يتوجه عليه بأنه يكفي في تحقق احتمال عدم الوجوب احتمال عدم الملازمة ، وأن عموم دليل الأصل النافي يكون كاشفا عن نفي الملازمة نظير كشف عموم « لعن الله بني أمية » عن أنه

٣٥

لا مؤمن فيها. مضافا إلى أن ذلك لا يرفع الاحتمال الوجداني للملازمة في مقام الفعلية ، وحينئذ يتحقق في الحكم بعدم وجوب المقدمة احتمال كونه تفكيكا بين المتلازمين ، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك بينهما ، فإن تحقق المحال مما لا يمكن [ أن يكون ](١) متعلقا للاحتمال ، وما ذلك إلاّ من قبيل احتمال اجتماع الضدين أو النقيضين.

نعم ، يظهر من الكفاية أنّ بناءه على عدم الملازمة في مقام الفعلية وأنها منحصرة في الواقع ، وحينئذ يتوجه عليه أن الملازمة على تقدير ثبوتها لا بد من تحققها في المرتبة الفعلية ، ولا يعقل نفي الملازمة الذاتية بين شيئين في المرحلة الفعلية مع الاعتراف بتحققها واقعا ، فتأمل.

ويمكن أن يقال : يكفي في الحكم بعدم الفعلية احتمال عدم الوجوب واقعا من جهة احتمال عدم الملازمة ، وإن كان ذلك الوجوب لو كان موجودا واقعا لكان فعليا. وبالجملة : أن احتمال الوجوب واقعا مساوق في المقام لاحتمال فعليته ، وهذا الاحتمال بعينه لا يمنع من جريان الأصل النافي الحاكم بعدم الفعلية ، إذ ليس محصل الحكم بعدم الفعلية هو الحكم بذلك على كل من احتمالي وجود الوجوب واقعا وعدمه واقعا ، كي يقال إنه على التقدير الأول أعني احتمال الوجوب واقعا يلزم التفكيك بين المتلازمين ، أعني وجوب المقدمة ووجوب ذيها أو فعلية وجوبها ووجوبها الواقعي ، بل إن محصل الأصل النافي هو مجرد الحكم بعدم الفعلية ولو من جهة احتمال عدم الوجوب واقعا.

وبعبارة أخرى : أن مفاد الأصل النافي ليس هو مقيدا بوجود التكليف واقعا ولا بعدمه واقعا ، لبطلان كل منهما ، ولا بد حينئذ من أن لا يكون مطلقا

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

٣٦

بالقياس إلى كل منهما بحيث يكون محصّله هو الحكم بعدم الفعلية على كل من تقديري وجود الوجوب واقعا وعدمه واقعا.

وفيه تأمل ، لأن ذلك موجب للاهمال واقعا وهو محال.

فالأولى أن يقال : إنه ليس مفاد الاستصحاب هو الحكم بعدم الفعلية بل مفاده ليس إلاّ إحراز عدم الوجوب واقعا سيما إذا أنكرنا الحكم الظاهري فيه وفي باب الأمارات ، وأنه ليس في البين إلاّ الحجية وجعل الاحراز ، ولا تنافي بين قيام الحجة الشرعية على عدم وجوب المقدمة مع قيام الحجة العقلية ـ أعني القطع ـ على وجوب ذيها مع فرض احتمال الملازمة بين الوجوبين ، فانه يكفي في صحة الحجة الشرعية على عدم وجوب المقدمة مجرد احتمال العدم واقعا ، وإن كان المنشأ في احتمال العدم المزبور هو احتمال عدم الملازمة ، فتأمل فان ذلك كله لا يدفع احتمال كون الحكم المذكور موجبا للتفكيك ، واحتمال التفكيك محال كنفس التفكيك.

قوله : وأمّا المقام الثاني : فالحق فيه هو القول بوجوب المقدمة الخارجية بالوجوب الترشحي القهري الملازم لوجوب ذي المقدمة الخ (١).

ظاهر هذه الجملة أن وجوب المقدمة لازم قهرا لوجوب ذيها ، بحيث إنه إذا تعلق الوجوب بذي المقدمة توجب المقدمة حتى لو كان الآمر غافلا عن التوقف على المقدمة ، فيكون مفاد هذه الجملة راجعا إلى ما في الكفاية (٢) من كون وجوبها من قبيل لوازم ماهية وجوب ذيها ، غايته أنه مجعول بالتبع ، لا بالجعل البسيط ولا بالجعل التأليفي.

ويمكن الجزم بعدم صحة هذه الدعوى ، إذ لا يكون من الآمر إيجاب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٥ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الأصول : ١٢٥.

٣٧

للمقدمة وإنما هو الانوجاب قهرا على الآمر ، وهذا الانوجاب مما لا نتعقله.

لكن شيخنا قدس‌سره أصلحه بأن الملازمة بين الايجابين لا بين الوجوبين ، وذلك قوله : فيدفعه أن المدعى هو تعلق الارادة بها قهرا عند إرادة ذي المقدمة ، فلا يتمكن المريد لذي المقدمة من عدم إرادتها ليتوقف تحققها على فائدة وغاية (١).

لكن هذا المقدار من الملازمة قابل للانكار ، إذ لازمه أن يكون إيجاب المقدمة قهريا على الآمر غير اختياري له. ولا يخفى ما فيه سيما بالنسبة إلى الشارع المقدس ، ولعله أردأ من ظاهر الكفاية من الالتزام بانوجاب المقدمة عند إيجاب ذيها ، فلاحظ وتأمل.

وأقصى ما يمكن القول به هو حكم العقل على الآمر الذي أوجب ذا المقدمة أن يوجب المقدمة ، لأن عدم إيجابها منه مع إيجابه لذيها كالتناقض أو كالتهافت ، فلا يكون حال الملازمة بين إيجاب ذي المقدمة وإيجاب المقدمة إلاّ كالملازمة بين حكم العقل بحسن الشيء وبين إيجاب الشارع بمعنى أنه يلزم على الشارع الحكيم أن يوجب ما حكم العقل بحسنه فكذلك نقول في هذا المقام إنه يجب على العاقل الذي صدر منه إيجاب ذي المقدمة أن يصدر منه إيجاب المقدمة محافظة على ذي المقدمة وبذلك يخرج إيجاب المقدمة عن اللغوية ، فان تم هذا فهو وإلاّ كان القول بوجوب المقدمة شرعا باطلا من أصله.

ثم إنه لو تم ذلك نقول : إن هذا المقدار كاف في الحكم بالملازمة بين الإيجابين بل بين الوجوبين أيضا ، فيقع الكلام حينئذ في ان هذا التلازم هل هو محقق في جميع مراتب وجوب ذي المقدمة ، كي يكون موجبا لعدم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٦ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٨

جريان الأصل في وجوب المقدمة مع فرض وجوب ذيها ، لأن مقتضى الأصل المذكور الجاري في فرض وجوب ذي المقدمة هو القطع بعدم الملازمة بين الوجوبين في مرحلة الظاهر ، وهو ينافي احتمال الملازمة المطلقة بينهما ، أو أنّ هذا التلازم إنما يكون بين الوجوبين في الواقع فلا يمنع من جريان الأصل المذكور. والذي يظهر من الكفاية (١) هو الثاني ، لكن الظاهر هو الأول ، فراجع ما حررناه في شرح عبارة الكفاية (٢).

ثم إن هذا المقدار من التلازم كاف في تحقق إيجاب كل ما يتوقف عليه الواجب ، من دون حاجة إلى الالتفات إلى خصوص هذه المقدمة والاطلاع على أنها يتوقف عليها الواجب ، بل يكفي في ايجابها إيجاب كل ما يتوقف عليه الواجب ، وهذا المقدار يلتفت إليه كل آمر.

وأمّا قياس الارادة الشرعية على الارادة التكوينية فهو مسلّم ، إلاّ أن الارادة التكوينية لو تعلّقت منك بالكون في مسجد الكوفة كانت تلك الارادة باعثة لك على تعلق إرادتك التكوينية أيضا بالحركة من محلك إلى نفس المسجد ، وهذه الثانية متولدة عن الاولى ، ونسبتها إليها نسبة المنفذ ومن قبيل فتح الطريق لتأثير الاولى وإزالة العقبات الواقعة دون نفوذها ، فهي نظير أوامر الاطاعة ، فلو قسنا الارادة الشرعية على ذلك لم يكن مقتضاه إلاّ كون الأمر بالمقدمة تنفيذا للأمر بذي المقدمة ، فلا يكون إلاّ من سنخ أوامر الاطاعة فلا تكون مولوية ، ولأجل ذلك لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب. نعم يمكن القول بأنها مولوية منشؤها المحافظة على المراد الأصلي على حذو المراد التكويني ، فهي شرعية مولوية وإن لم يترتب عليها الثواب

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) [ الظاهر أن مراده ما تقدم في صفحة : ٣٤ ].

٣٩

والعقاب ، وليست إرشادية بحيث تكون إرشادا إلى ما يحكم به العقل من لزوم إطاعة المولى بالاتيان بما تعلقت به إرادته.

ومنه يظهر لك أن الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الايجابين ويكون الثاني منهما حافظا للأول ، ويكون تحقق الثاني مشروطا بالالتفات إلى التوقف ، ولا يخرج عن كونه اختياريا للآمر ، بل هو اختياري له بعد التفاته وكونه حكيما ، نظير إيجابه الواجب الذي حكم بحسنه العقل.

نعم ، لو قلنا إن الملازمة هي بين الوجوبين أو هي بين إيجاب ذي المقدمة ووجوب المقدمة ، لكان وجوبها قهريا على الآمر.

ومن ذلك يظهر لك أنه لا يقاس وجوبها بوجوب الاحتياط في بعض موارد الشبهات الحكمية كما في الدماء والفروج ، كما أنه لا يقاس بالوجوب الشرعي الناشئ عن حكم العقل بالحسن بناء على الملازمة. أما الأول فلأن في وجوب الاحتياط فائدة وهي إيصال المكلف إلى المراد الواقعي وإن لم يترتب عليه الثواب أو العقاب ، فانه لو لا هذا الوجوب لأجرى البراءة العقلية. وأمّا الثاني فلأنه يترتب عليه الثواب والعقاب وبواسطتهما يتوصل المولى إلى لطفه بعباده من إيصالهم إلى ما فيه مصالحهم ، إذ لولاه لما وصلوا إلى ذلك لعدم اعتنائهم بمجرد الحسن العقلي.

نعم إن المحافظة على الارادة النفسية ربما كان لها أثر في إيجاب المقدمة قبل الوقت إذا فرض أنه لا يتمكن منها عند الوقت ، فالشارع محافظة على مراده المهم في الوقت يوجب المقدمة قبل الوقت محافظة على ذلك المراد الذي هو ذو الأهمية عند الشارع كما في المقدمات المفوّتة ، لكن ذلك ليس كليا بل ينحصر في الموارد التي لها أهمية توجب

٤٠