أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

[ أن ](١) ذلك الفعل بعد طروّ الوجوب عليه لا يمكن الحكم عليه بأنّه يجوز تركه.

وقد تقدم تفصيل ذلك ، ولكن أعدناه لمحض التذكر ، والغرض الآن هو بيان أنه بناء على الجهة الاولى من الاشكال يكون النذر فيما نحن فيه قد تعلق بامتثال الأمر الاستحبابي المتعلق بالنافلة في وقت الفريضة ، فيكون متعلق النذر مرجوحا فلا ينعقد ، فلا يتم ما افيد من صحته استنادا إلى أن النذر متعلق بذات العبادة في ذلك الوقت وهي راجحة ، لما عرفت من أن المنذور ليس هو نفس الذات ، وإنما المنذور هو ذلك المأمور به بالأمر الاستحبابي ، فيكون مرجوحا فيبطل النذر ، ولا نص يدل على صحته ، وإنما أرادوا تصحيحه على القاعدة ، وقد عرفت أن القاعدة حينئذ تقتضي فساده لمرجوحية متعلقه.

ثم لا يخفى أن شيخنا قدس‌سره قال في الوسيلة في تعداد ما يشرع له التيمم ما هذا لفظه : أما ما يحرم على المحدث كمس كتابة القرآن وقراءة العزائم ومكث الجنب ونحوه في المساجد واجتيازه في المسجدين ونحوهما ، فلا يشرع التيمم لشيء منه إلاّ إذا وجب بنذر ونحوه ، إلخ (٢).

ويمكن أن يتجه عليه نظير ما أفاده من الاشكال على السيد في العروة بأن يقال : إن نفوذ النذر في ذلك يتوقف على جواز الدخول في المسجد ، وجوازه يتوقف على مشروعية التيمم له ، ومشروعية التيمم لذلك يتوقف على وجوب الدخول ، ووجوب الدخول يتوقف على نفوذ النذر ، فلو كان النذر ابتداء متعلقا بذلك الدخول مع التيمم بأن كان نذره بعد جنابته

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) وسيلة النجاة : ٥٢ ـ ٥٣.

٢٤١

كان باطلا من أصله ، وكان حاله حال ما لو استطاع ثم نذر الزيارة. ولو كان النذر مطلقا وكان حين النذر واجدا للطهارة المائية لكنه فقدها ، انحل نذره بالنسبة إلى ما بعد فقدها فيما لو تضيق وقت المنذور ، فلو نذره ثم أجنب ولم يتمكن من الطهارة المائية كان حاله حال ما لو نذر الزيارة ثم طرأته الاستطاعة.

وبالجملة : أن الدخول مع التيمم لا يمكن أن يكون مشمولا للنذر إلاّ بنحو ما عرفت من الدور ، ويكون النذر في ذلك محققا لشرط صحته الذي هو ارتفاع حرمة الدخول ، لأن الدخول بالنذر يكون واجبا وعند وجوبه يصح التيمم له ، وإذا صح التيمم له كان ذلك رافعا لحرمته ومجوّزا للدخول ، فان الدخول وإن كان في حد نفسه راجحا إلاّ أن الدخول في حال الجنابة خارج عنه لكونه محرما ، فلا يكون مشمولا للنذر ولا يكون النذر رافعا لحرمته إلاّ بما عرفته من لزوم الدور ، سواء كان نذره قبل الجنابة أو كان بعدها.

ثم إنك بعد اطلاعك على جميع هذا الذي حررناه وعلى جميع ما حرره السيّد قدس‌سره في نذر النافلة في وقت الفريضة ونذر الصوم المندوب في وقت الواجب (١) ، يتضح أنه قدس‌سره يريد أن يجعل دليل النذر مقدّما على دليل حرمة التنفل ، لأن كلامه بعد الفراغ عن حرمة التنفل ، فتراه في باب الصوم يقول : ولا يبعد أن يقال إنه لا يجوز بوصف التطوع ، وبالنذر يخرج عن الوصف إلخ (٢). وتراه في كتاب الصلاة يقول : وأما إذا قيّده بوقت الفريضة فاشكال على القول بالمنع ، وإن أمكن القول بالصحة ، لأن المانع إنما هو

__________________

(١) تقدمت مصادرهما في صفحة : ٢٣٩ ، ٢٤٠.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٣ : ٦١٩ / المسألة (٣).

٢٤٢

وصف النفل ، وبالنذر يخرج عن هذا الوصف إلخ (١). فهو في هذه الأمثلة يقول : إن دليل النذر يرفع موضوع التحريم وهو التطوع والتنفل ، لأنه يجعل المنذور واجبا ، فليس كلامه ممحضا لناحية الرجحان والمرجوحية ، بل جل غرضه هو كون النذر رافعا لموضوع الحرمة ، وبارتفاع الحرمة ترتفع المرجوحية ويتحقق الرجحان.

نعم قد يقال : إنه لا يرد عليه لزوم تحليل جميع المحرمات بالنذر لما عرفت من أن ذلك مختص بما إذا كان النذر رافعا لموضوع الحرمة وهو التطوع والتنفل ، ولأجل ذلك أفاد ما أفاده في مسألة الاحرام قبل الميقات (٢) من الاقتصار على مورد النص (٣) ، وأنه لا يرد النقض المذكور ، والسر في ذلك أن النذر المتعلق بالاحرام قبل الميقات لا يكون رافعا لما هو موضوع الحرمة ، بخلاف نذر التطوع والنافلة.

نعم ، يبقى الكلام معه في كيفية كون النذر في مثل ذلك رافعا لموضوع الحرمة ، وأن ارتفاع الحرمة الآتي من قبل النذر لا يصحح النذر ، فلا بدّ في بيان ذلك بأن يقال كما أفاده شيخنا قدس‌سره (٤) : إن النذر يتعلق بذات العبادة وهي في نفسها راجحة غير محرمة ، فينعقد نذرها فتجب وتخرج عن كونها تطوعا ، لا أن نفس وجوب الوفاء بالنذر يقلب التطوع في وقت الفريضة من حكمه التحريمي إلى الايجابي مع الاحتفاظ بعنوان التطوع ، كي يرد عليه حلية جميع المحرمات بالنذر ، هذا.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ٢٧٣ / المسألة (١٧) ( مع اختلاف يسير بين الطبعات ).

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٦٤٣ ـ ٦٤٤ / المسألة (١).

(٣) راجع وسائل الشيعة ١١ : ٣٢٦ / أبواب المواقيت ب ١٣.

(٤) تقدم مصدره في صفحة : ٢٤٠.

٢٤٣

ولكن لا يبعد أن يكون هذا الذي أفاده شيخنا قدس‌سره هو مراد السيد كما ربما يظهر ذلك من عبارته في كتاب الصلاة ، أعني قوله : وذلك لأن الصلاة من حيث هي راجحة ، ومرجوحيتها مقيدة بقيد يرتفع بالنذر إلخ (١) ، فكأنه يقول إن ذات الصلاة راجحة وتعلق النذر بذاتها صحيح ، وبعد صحته تخرج تلك الذات عن كونها تطوعا ، فهو عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره.

ومن ذلك كله يتضح لك أنه لا بدّ لمن يريد تصحيح النذر في مثل ذلك من الاعتماد على هذا الذي أفاده شيخنا قدس‌سره ، وبدونه يتوجه عليه الاشكال المذكور ، فما في الحاشية على هذا التقرير من أن ذلك لا يستلزم أن تكون جميع المحرمات محللة بالنذر (٢) مما لم يتضح وجهه كما أن ما فيها من أنه : لا فرق بين القول باشتراط انعقاد النذر برجحان متعلقه في نفسه ، والقول بكفاية الرجحان الناشئ من متعلق النذر ـ إلى قوله : ـ فلا نتيجة عملية إلخ (٣) ، مما لم يظهر وجهه ، حيث إنك قد عرفت أنه على القول الأوّل لا يمكننا الحكم بصحة نذر العبادة المرجوحة إلاّ بالنص أو بالطريقة التي أفادها شيخنا قدس‌سره بخلافه على القول الثاني. نعم قد عرفت التأمل في الطريقة التي سلكها شيخنا قدس‌سره ، فبناء على ذلك التأمل يلزمنا القول ببطلان ذلك النذر على القول الأوّل بخلافه على القول الثاني ، وحيث إنه لا ريب في بطلان القول الثاني كان المتعين هو الحكم ببطلان النذر المذكور.

وخلاصة هذا المبحث وزبدة المخاض منه : هو أن هذه الستة ـ أعني الاجارة والصلح والشرط في متن العقد واليمين والعهد والنذر ـ لو زوحمت بواجب مشروط بالقدرة العقلية كان مقدما عليها ، سواء تأخرت

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ٢٧٤ / المسألة (١٧).

(٢ و ٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٤٠.

٢٤٤

عنه في الزمان أو تقدمت. ولو زوحمت بما هو مشروط بالقدرة الشرعية كالحج ، فان كانت متأخرة عن الاستطاعة زمانا تقدم الحج عليها ، لكون كل منهما مشروطا شرعا بالقدرة فيتقدم المتقدم زمانا وهو الحج.

وإن كانت متقدمة زمانا على الاستطاعة ، فالثلاثة الاول ، أعني الاجارة والصلح والشرط تتقدم على الحج ، لاشتراكها معه في الاشتراط شرعا بالقدرة ، فيكون الترجيح بالتقدم الزماني ، ولا يضر ذلك باشتراطها بعدم محللية الحرام ، لكونها بواسطة تقدمها الزماني تكون رافعة لموضوع الحج الذي هو الاستطاعة ، وتخرج بذلك عن كونها محللة للحرام.

وأما الثلاثة الأخيرة أعني النذر وأخويه فهي وإن كانت مشاركة للثلاثة الاول في ذلك ، إلاّ أنها لمّا كانت مقيدة بعدم المرجوحية كان الحج مقدما عليها وإن تقدمت زمانا ، لأن تفويت الواجب بها وإن كان برفع موضوعه كاف في مرجوحيتها الموجبة لانحلالها ، وحاصله ما تقدمت (١) الاشارة إليه من أنه يستفاد من مساهلة الشارع فيها أن كونها رافعة لموضوع الحج كاف في مرجوحيتها.

وإن شئت فقل : إنهما وإن اشتركا في الاشتراط شرعا بالقدرة ، وكان كل واحد منهما صالحا لرفع موضوع الآخر ، إلاّ أن اعتبار عدم المرجوحية في متعلقها كان موجبا لتقدم الحج عليها ، إذ لو فرضنا محالا أنهما معا مقدوران لم يخرج متعلقها عن كونه مرجوحا بواسطة كونه مفوّتا للحج.

ولكن قد يقال : إن مرجوحيتها لم يكن لأجل تفويت الحج مع قطع النظر عن وجوبه ، وإنما تكون مرجوحة بواسطة كونها مفوّتة للواجب الذي هو الحج ، وتقدمها الزماني يخرجه عن كونه واجبا ، فلا تتحقق مرجوحيتها

__________________

(١) في صفحة : ٢٣٤.

٢٤٥

حينئذ ، فلا مندوحة لنا في تقدم الحج عليها إلاّ من ناحية إطلاق قولهم عليهم‌السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » (١) فان حجة الإسلام في ذلك الظرف خير من الوفاء بأحد هذه الثلاثة. فتأمل.

ولكن حققنا في بعض حواشي العروة في أوائل الزكاة أن مرجوحية النذر ليست من جهة كونه مفوّتا لموضوع الحج ، بل من جهة أنه في حد نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به يكون مزاحما لأفعال الحج ، فيكون مرجوحا من هذه الجهة لكونه مزاحما لواجب وهو الحج فيبطل ، ولا يكون التقدم الزماني مجديا لكونه فرع قابليته لاسقاط الحج ، وقابليته إنما تكون بعد استكمال شرطه وهو الرجحان في وقته ، الموقوف على عدم وجوب الحج ، فتأمل.

واعلم أن نسبة هذه الستة إلى حقوق الزوج كنسبتها إلى وجوب الحج في تقدم حق الزوج عليها لو تأخرت عن الزواج ، ولو تقدمت عليه كانت الثلاثة الاول مقدمة عليه ، وكانت الثلاثة الأخيرة متأخرة عنه ، بمعنى كونه مقدّما عليها ، فان حق الزوج مثل الحج في تقييده بعدم المانع الشرعي.

قوله : فلعل الملاك عند المزاحمة في طرف المهم دون الأهم ـ إلى قوله : ـ فيمكن أن يكون الخطاب في طرف المهم رافعا للملاك في طرف الأهم ... إلخ (٢).

هذه العبائر لا تخلو من مسامحة ، فإنها إنما تحسن في مورد احتمال أن يكون أحدهما مقدما على الآخر ، والمفروض هو القطع بعدم ذلك ، وحق التعبير أن يقال : إن كلا منهما رافع لموضوع الآخر لكونه سالبا لقدرة المكلف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٤٠ / كتاب الأيمان ب ١٨ ح ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٤٦

وبالجملة : ليس المقام مقام استظهار كي يحسن التعبير عنه بمثل هذه العبائر ونحوها مما عبّر عنه في الطبعة الجديدة ، فما في الحاشية (١) من أن ذلك إنما هو في باب التعارض لا في باب التزاحم إنما يكون واردا على هذه العبارات ، لا على أصل المطلب.

قوله : وإثبات أن الأهمية توجب فعلية ملاكه دون الطرف الآخر ، دونه خرط القتاد ... إلخ (٢).

لا يخفى أن مدعي التقديم لا يدعي أن الأهمية توجب الفعلية ابتداء وإنما يدعي أنها مرجحة.

قوله : فالتحقيق هو التخيير مطلقا ، وهذا التخيير شرعي كشف عنه العقل ، بداهة أنه إذا كان أحد الملاكين لا بعينه ملزما فلا بدّ للمولى من إيجاب أحد الفعلين لا بعينه (٣).

التخيير الشرعي تارة يكون ناشئا عن اشتراك الفعلين بملاك واحد بحيث يكون كل منهما وافيا بذلك الملاك على نحو يكون الجامع بينهما هو المؤثر في الملاك ، لكن لمّا لم يكن الجامع عرفيا خيّرنا الشارع بينهما واخرى يكون ناشئا عن ملاكين ، لكل من الفعلين ملاك على حدة ، لكن استيفاء أحد الملاكين موجب لانتفاء موضوع الملاك في الآخر.

وقد يقال : إن ما نحن فيه ملحق بالنحو الثاني ، فان عدم القدرة على الجمع بين الفعلين أوجب كون أحدهما لا بعينه غير واجد للملاك ، لأخذ القدرة في كل من التكليفين خطابا وملاكا ، مع فرض أنه قد اتفق أن لا قدرة للمكلف إلاّ على أحدهما.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٢ ـ ٤٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٤٧

لكن لا يخفى أنه لو كان التخيير شرعيا ولو باستكشاف حكم العقل كان ينبغي انحصاره بما إذا تساويا ملاكا ، أما لو كان أحدهما أهم فالذي ينبغي أن يقال إن الشارع يقدّم ذا الملاك الأهم كما هو الشأن في التزاحم الآمري ، ولو لم يكن في البين استكشاف التخيير الشرعي وكان الحاكم هو العقل ، فالعقل لا ينبغي له أن يحكم بالتساوي بينهما بعد اطلاعه على أن أحدهما أهم ملاكا من الآخر.

ولكن لا يخفى أن إرجاع ذلك إلى الحكومة الشرعية لا يمكن الالتزام به فيما نحن فيه ، لأنّ ذلك إنما هو في التزاحم الآمري الراجع إلى باب التعارض ، دون ما نحن فيه من التزاحم المأموري الذي هو راجع إلى باب التزاحم ، ومن هذه الجهة قد نقول إن التخيير عند التساوي عقلي لا شرعي.

ومن ذلك يظهر التأمل فيما علّقه المحرر في الحاشية (١) على التخيير الشرعي ، فانه جعل التخيير العقلي ناشئا عن أن الشارع لم يلزمه بأحدهما المعيّن. ولا يخفى أن محصل أن الشارع لم يلزمه بأحدهما المعيّن هو التخيير الشرعي. ثم لا يخفى أن لازم تعلق الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الآخر الذي جعله عين التخيير العقلي ، هو أنه قبل الشروع في كل منهما يتحقق كلا الملاكين ، فتأمل.

وبالجملة : أنا لو سلّمنا أن هذا التخيير راجع إلى الشارع فليس هو من باب التخيير الناشئ عن ملاكين يكون كل منهما موجبا لسقوط الآخر فان مقتضى ذلك هو أنه عند عدم كل منهما يكون مكلّفا بكل منهما لتحقق ملاك كل منهما حينئذ ، نعم بفعل أحدهما يسقط الآخر ، بل هو من باب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٤٢.

٢٤٨

التخيير الناشئ عن ملاك واحد مردد بين الملاكين ، فعند عدم كل منهما لا يكون في البين إلاّ ملاك واحد وتكليف واحد مردد بين التكليفين ، فهو على تقدير كون التخيير فيه شرعيا يكون قسما ثالثا.

لكن هذا إنما يتم لو كان أصل تأسيس الحكم منظورا به ذلك المورد الخاص الذي هو مورد المزاحمة ، وحينئذ يكون الحكم الشرعي تخييريا ونتيجته وجوب أحدهما على البدل كما لو كان التزاحم دائميا ، ولازم ذلك انحصار هذا الحكم الشرعي بمورد التساوي ملاكا ، أما لو كان أحدهما أهم ملاكا في نظر الشارع فهو لا يجعل الحكم إلاّ على طبقه ويسقط الملاك الآخر.

إلاّ أن كلامنا لمّا كان في القضايا الحقيقية ولم يكن التزاحم دائميا كان اللازم علينا سلوك طريقة اخرى ، وهي تتضح مما تقدم (١) في تقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية لكونه رافعا لموضوعه ، فيكون هذا التقديم من باب الحكومة أو الورود. ولا ريب أن المحكوم يسقط بقول مطلق ، ولا ينفعه كون ملاكه أهم لأن التقديم بالأهمية فرع تحقق الملاك ، والمفروض أنه منتف ومرتفع بالحكومة المذكورة.

وحينئذ نقول : إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية كان كل منهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه ، فهما متحاكمان مترافعان ، ونظرا إلى أن كلا منهما محكوم لا يجديه في تخلصه من هذه الحكومة كون ملاكه أهم كما عرفت ، فالترجيح بالأهمية حينئذ لا وجه له.

أما دعوى تعين الأهم للحكومة فممنوعة للزوم الدور ، حيث إن كونه

__________________

(١) في صفحة : ٢٠٧ وما بعدها.

٢٤٩

حاكما يتوقف على تحقق ملاكه ، وذلك متوقف على سقوط الأمر بالمهم وسقوطه يتوقف على كون الأهم حاكما ، فتكون النتيجة حينئذ هو عدم فعلية حكومة أحدهما على الآخر لما عرفت من لزوم الدور ، وعدم تحقق كل منهما إذ لا ملاك إلاّ واحد ، وعدم ارتفاع كل منهما لتحقق الملاك لأحدهما ، وحينئذ تكون النتيجة هي ثبوت أحدهما وتحققه ، فيكون المكلف به هو أحدهما على البدل ، وهو التخيير الشرعي المستكشف بطريق العقل من طريق هذا التحاكم والتوارد بين الحكمين.

وبعبارة اخرى : أن طبع المسألة يفضي بعد كون كل منهما رافعا لموضوع الآخر إلى أن الثابت بحكم العقل هو التكليف الشرعي بأحدهما على البدل ، فليس ذلك من باب التزاحم الآمري ليرجع إلى باب التعارض ولا من التزاحم المأموري ليكون التخيير عقليا ويكون الترجيح بالأهمية ، بل هو من باب التوارد والتحاكم ، ونتيجته هو أن الثابت والمحقق في وعاء التشريع هو أحد هذين التكليفين الشرعيين ، بعد أن حكم العقل بمحالية التوارد والتحاكم ، فتأمل. وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى عند التعرض للمشروطين بالقدرة العقلية (١) ، وعند الكلام على المقدمة الاولى والمقدمة الخامسة من مقدمات الترتب (٢) ، وقد تقدم له مزيد توضيح في مبحث الواجب التخييري (٣).

نعم ، إنّ انسداد باب الترجيح بالأهمية قابل للمناقشة ، لأن كلاّ منهما في حد نفسه مع قطع النظر عن الآخر مقدور ، وإنما يحصل التحاكم بالنظر

__________________

(١) راجع الحاشية المذكورة في الصفحة : ٢٥٦ وما بعدها.

(٢) راجع الصفحة : ٣٠٠ وما بعدها ، وكذا الصفحة : ٣٧١ وما بعدها.

(٣) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٦٢ وما بعدها.

٢٥٠

إلى كون خطاب الآخر سالبا للقدرة ، فيمكن العقل أن يرجح سلب القدرة في جانب الأهم كما في المشروطين بالقدرة العقلية ، فتأمل.

قوله : مثال الأوّل ما إذا وقع التزاحم بين وجوب القيام في جزءين طوليين من الصلاة ـ إلى قوله : ـ ومثال الثاني ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الكسوف قبل الظهر وبينه في صلاة الظهر ... الخ (١).

يمكن التأمل في كون القيام في صلاة الظهر أرجح منه في صلاة الآيات ، إلاّ أن يدعى أن الصلاة اليومية مقدمة على صلاة الآيات عند المزاحمة ، وحينئذ يكون ذلك كاشفا عن أهمية الجزء في الصلاة اليومية على الجزء في صلاة الآيات. وكيف كان ، فيمكن التأمل في كون ذلك من تزاحم المشروطات بالقدرة العقلية ، بل لا يبعد كونه من تزاحم المشروطات بالقدرة الشرعية ، فيكون الترجيح حينئذ بالتقدم الزماني ، وذلك لما قدّمناه من أن جميع أجزاء الصلاة وشرائطها من قبيل المشروط بالقدرة الشرعية ، لما تقدم في بعض المباحث السابقة (٢) وفي مبحث إجزاء الأمر الاضطراري من أن هذه الأجزاء في الصلاة ليست من قبيل الواجب في واجب بل هي من قبيل التقييد ، فإذا كانت القيدية مطلقة كان مقتضاه سقوط المركب بتعذرها ، وإن كانت مقيدة بحال التمكن كان ذلك عبارة أخرى عن كونها مشروطة بالقدرة الشرعية (٣) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى التصريح منه بأنها من قبيل المشروطات بالقدرة الشرعية ، فلاحظ الفائدة الاستطرادية (٤) ، لكنه قدس‌سره هناك

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) راجع الصفحة : ١٨٢.

(٣) [ في الأصل : العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

٢٥١

مع تصريحه بقوله : والسرّ فيه أن أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعا الخ ، حكم بترجيح ما هو قيد في الركن على ما هو قيد في غيره ، وذلك مناف لما أفاده هنا من أنه لا ترجيح بالأهمية في المشروطات بالقدرة الشرعية.

قال في المستمسك في مسألة تعذر القيام الاستقلالي الاستقراري والدوران في أبداله من أنحاء القيام : ثم إن الدوران بين الأحوال المذكورة في هذا المقام ليس من باب التزاحم الذي يكون الحكم عقلا فيه الترجيح إذا علمت الأهمية في واحد بعينه ـ إلى قوله : ـ وليس المقام كذلك ، إذ مصلحة الصلاة واحدة ، وإنما التردد فيما يكون محصلا تلك المصلحة والحكم فيه عقلا وجوب الاحتياط بالتكرار ... إلخ (١).

وفي مسألة ١٧ : لو دار أمره بين الصلاة قائما مومئا أو جالسا مع الركوع والسجود إلخ ، قال : والمقام وإن لم يكن من باب التزاحم ... بل من باب الدوران في تعيين البدل الاضطراري للتردد في تطبيق قاعدة الميسور ... إلخ (٢).

لا يخفى أنه لو كان لنا واجب بسيط وقد تعذر وقام الدليل على قيام بدل مقامه ، وتردد ذلك البدل بين فعلين ، لكان الأمر كذلك من الخروج عن باب التزاحم. لكن الظاهر أن هذه المقامات ، من الواجب المركب ودار الأمر بين جزءين من أجزائه ، ليست من هذا القبيل ، بدعوى أن مصلحة الصلاة واحدة ودار الأمر في محصلها ، أو دعوى أنه بعد أن سقطت الصلاة التامة يدور الأمر في إجراء قاعدة الميسور بين الفاقد للجزء الأوّل أو الفاقد للجزء الثاني ، نظير ما لو أمره بصبغ هذا الجسم الذي طوله عشرة أشبار

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٦ : ١١٤.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٦ : ١٣٤.

٢٥٢

مثلا ولم يتمكن إلاّ من صبغ تسعة أشبار منه ، إما بأن يسقط الشبر الأوّل ويصبغ الباقي ، أو أن يسقط الشبر الأخير منه ويصبغ ما قبله ، فانه بعد سقوط الأمر الأوّل التام يبقى الكلام في أنّ كلاّ من الباقيين ميسور ، ومع العلم بأنه لا يجب الأمران معا يكون الداخل في الميسور أحدهما ، ويكون المقام من قبيل العلم بخروج أحد الشخصين عن العام وبقاء الآخر ومقتضى الاحتياط الجمع لو أمكن والتخيير لو لم يكن ، ويكون المقام من قبيل الدوران بين الحجة واللاحجة في الدخول تحت عموم دليل حجية تلك الأمارة ، فان ذلك كله متفرع على وحدة الملاك والواجب الذي هو الصلاة التامة.

لكن لا يخفى أن الوجوب وإن ورد على المجموع المركب ، إلاّ أن كل واحد من أجزائه يكون له حظ من الوجوب ، ويكون وجوبه الضمني لأجل صلاح فيه ولو من جهة مدخليته في المصلحة ، فيكون كل واحد من الأجزاء ذا مصلحة وقد وقع اتفاق عدم القدرة على الجمع بين الجزءين فلا يكون إلاّ من باب التزاحم حتى في مثل القيام بالنسبة إلى قيوده المعتبرة من الاستقلال والاستقرار وتمام الاستقامة ، فان كل واحد من هذه القيود يكون واجبا ضمنيا عن مصلحة تقتضيه ، ولو سلّمنا عدم المصلحة وصرنا أشاعرة فان باب التزاحم ليس بمنسد عندهم ، وليس ذلك إلاّ من جهة اتفاق عدم قدرة المكلف على امتثال كلا الواجبين.

قوله : ومثال الثاني ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الكسوف قبل الظهر وبينه في صلاة الظهر على القول بأن ملاك الصلوات اليومية يتم بدخول اليوم وإن كان خطابها مشروطا بدخول أوقاتها ، فحيث إن المكلف بعد تمامية الملاك يكلف بحفظ القدرة أو

٢٥٣

بتحصيلها بتكليف نفسي ... إلخ (١).

قد تقدم (٢) في مباحث المقدمات المفوّتة الاشكال في لزومها ، وحينئذ يكون التكليف بالقيام فعلا لصلاة الكسوف بلا مزاحم فعلي فيكون هو المقدم.

ثم إنك قد عرفت (٣) الاشكال في كون الأجزاء الصلاتية ومنها القيام من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ، وأنها من قبيل المشروط بالقدرة الشرعية كما سيأتي (٤) التصريح بذلك منه قدس‌سره ، ولكن مع ذلك يمكن القول بكونها من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ، بمعنى عدم مدخلية القدرة في ملاكها وإن كان لها المدخلية في الخطاب بها ، فان ما ذكرناه من البرهان على كونها مشروطة بالقدرة الشرعية ـ أعني كون قيديتها مختصة بحال التمكن ـ لا يزيد على التصريح بالاشتراط ، وهو لا يدل دلالة قطعية على ذلك ، كما قد ادعي أن الزوال مع تصريح الآية (٥) وغيرها بالتقييد به غير دخيل بالملاك. نعم إن ظاهر الاشتراط هو مدخليته في الملاك ، لكن لمّا دلت الأدلة على عدم مدخليته فيه ولو من جهة دعوى قيام الدليل على لزوم حفظ المقدمة المفوّتة قبل الوقت ، كان الدليل كاشفا عن تحقق الملاك قبله.

وحينئذ فيمكننا أن نقول فيما نحن فيه : إن تقييد جزئية القيام أعني وجوبه الضمني بحال التمكن لا يكون دليلا قطعيا على مدخلية التمكن في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وقد ورد هذا المثال في المحشاة بعنوان المثال الثالث ].

(٢) في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ١١١ وما بعدها.

(٣) في الصفحة : ١٨٢ وما بعدها.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

(٥) الاسراء ١٧ : ٧٨.

٢٥٤

ملاك ذلك الوجوب الضمني ، لكن ذلك يحتاج إلى قيام الدليل على ما يكشف عن عدم مدخليته في الملاك ، مثل لزوم حفظ المقدمات قبله لو دل الدليل عليه لكن قد تقدم في ذلك المبحث أن مجرد قيام الدليل على لزوم حفظ المقدمات قبل الوقت أو حرمة تفويتها لا يدل على ذلك ، لامكان كون ذلك ناشئا عن أهمية الملاك في ظرفه عند الشارع ، على وجه يلزم الشارع أن يحافظ عليه قبل حصول ظرفه بذلك الالزام بحفظ المقدمات من باب متمم الجعل ، فراجع.

ثم لو سلّمنا كونه مشروطا شرعا بالتمكن وأنه دخيل فيه ملاكا فأقصى ما فيه أن لا يكون الترجيح حينئذ بأهمية الملاك ، أما الترجيح بالركنية أو بكونه جزءا من الصلاة اليومية التي هي أهم عند الشارع من صلاة الآيات فليس ذلك راجعا إلى الترجيح بالأهمية ، بل يمكن القول بأن ذلك من قبيل المرجح المنصوص ، بمعنى أنا نستكشف من حكم الشارع على ذلك الجزء بكونه ركنا أو حكمه بأنه لو زاحمت الآية الصلاة اليومية قدّمت اليومية ، أن الركن أو القيام في اليومية مقدّم على مقابله من القيام غير الركني أو القيام في صلاة الآيات ، ولا ضير في ذلك التعبد حتى لو قلنا بأن كلا منهما مشروط بالقدرة الشرعية ، لأن ذلك من قبيل التعبد على خلاف القاعدة ، فتأمل جيدا.

قوله : ذهب جماعة منهم المحقق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس‌سرهما (١) إلى أن التخيير بينهما شرعي ، نظرا إلى أنّ اجتماع الخطابين التعيينيين حال المزاحمة مستحيل ، وترجيح أحدهما على

__________________

(١) [ ستأتي عبارة المحقق الرشتي وتعليق المصنف عليها في صفحة : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ].

٢٥٥

الآخر بلا مرجح ، فيسقطان لا محالة ... إلخ (١).

تقدم (٢) في تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية فيما لو لم يكن في البين مرجح أن وحدة الملاك الناشئة عن وحدة القدرة موجبة للقطع بعدم توجه كلا التكليفين ، كما أن وجود القدرة ولو بالنسبة إلى واحد منهما لا بعينه موجب للقطع بعدم انتفاء كلا التكليفين ، وأنه لا بدّ من استكشاف تكليف واحد مردد بينهما ، فيكون المكلف به هو أحدهما لا كل منهما بشرط عدم الآخر ، وإلاّ لتوجه إليهما كل منهما في ظرف عدم كل منهما وهو مما يقطع بعدمه ، لأن توجههما معا ولو بهذا النحو من الاشتراط يكشف عن ثبوت ملاكيهما معا في ذلك الحال ، والمفروض أنا قد قطعنا بعدم ذلك ، وحينئذ لو تركهما معا لا يكون مستحقا إلاّ لعقاب واحد ، وهذا التقريب بعينه متجه فيما نحن فيه بالنسبة إلى مرتبة الخطاب.

والحاصل : أن ذلك التقريب السابق الراجع إلى حكومة كل منهما على الآخر في مقام أصل التكليف ملاكا وخطابا يكون بعينه جاريا فيما نحن فيه في خصوص مرحلة الخطاب ، فان الخطاب بكل منهما يكون رافعا للقدرة على الآخر التي هي موضوع الخطاب في الآخر ، وكما قلنا هناك إن المستنتج من حكومة كل منهما على الآخر هو تحقق أحد التكليفين لا بعينه خطابا وملاكا ، وسقوط الآخر أيضا خطابا وملاكا ، فكذلك ينبغي أن يكون الحال فيما نحن فيه ، بأن يكون المستنتج من حكومة كل منهما على الآخر في مرحلة الخطاب هو تحقق الخطاب بأحدهما لا بعينه وسقوط

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الحاشية المذكورة في الصفحة : ٢٤٨ وما بعدها.

٢٥٦

الخطاب بالآخر ، وذلك بأن نقول : إنا وإن قطعنا بتحقق كلا الملاكين إلاّ أن الخطاب بكل من الفعلين لمّا كان متوقفا على القدرة ، وليس لنا في البين إلاّ قدرة واحدة ، وكان العقل حاكما بسقوط الخطاب عند عدم القدرة نقول : إنا نقطع بعدم تحقق كلا الخطابين ، إذ ليس لنا إلاّ قدرة واحدة ، كما أنا نقطع بعدم سقوط كلا الخطابين للقطع بأن أحدهما مقدور لنا ، وحينئذ لا بدّ أن يكون المتوجه لنا هو أحد الخطابين لا بعينه ، ويكون الآخر الساقط هو أحدهما لا بعينه أيضا ، ويكون المكلف حينئذ مخيرا في امتثال أيهما شاء.

وبذلك يظهر التأمل فيما أفاده المحققان قدس‌سرهما من دعوى سقوط كل منهما استنادا إلى الترجيح بلا مرجح ، لأنا لا نريد أن ندعي التعيين في أحدهما كي يقال إنه ترجيح بلا مرجح.

كما أنه يظهر من ذلك أيضا التأمل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من كون كل منهما مقيدا بعدم الآخر ، إذ يكفي في رفع المحالية الناشئة من إطلاق الخطاب في كل منهما الالتزام بسقوط أحدهما لا بعينه ، وذلك عبارة اخرى عن كون الساقط هو إطلاق أحدهما أعني كون أحدهما لا بعينه مقيدا بعدم الآخر ، وحينئذ يكون المكلف مخيرا في امتثال أيهما شاء.

وإن شئت فقل : إنا لا نحتاج إلى تقييد كل منهما بعدم الآخر ، بل ولا إلى تقييد أحدهما لا بعينه ، بل يكفي في ذلك الالتزام بما تقتضيه وحدة القدرة المصححة للخطاب ، وهو كون المتوجه هو الخطاب بأحدهما لا بعينه وكون الخطاب بالآخر ساقطا. وبعبارة اخرى : أن طبع المسألة يقتضي أن يكون أحد الخطابين لا بعينه ساقطا ، وحينئذ يكون الباقي هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

٢٥٧

أحدهما لا بعينه ، فيكون المتوجه إليه هو أحد الخطابين لا بعينه ، وتكون النتيجة موافقة لما أفاده صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس‌سرهما.

والحاصل : أن تحرير النزاع على نحو يكون محله هو كون التخيير شرعيا أو يكون عقليا لا يخلو من تسامح ، بل الأولى هو جعل محل النزاع هكذا ، وهو أن المخاطب به المكلف شرعا هو أحدهما ، أو أن المخاطب به هو كل منهما بشرط عدم الآخر ، وقد عرفت أن العقل إنما يحكم بالأوّل دون الثاني ، فتأمل.

وسيأتي (١) إن شاء الله تعالى في المقدمة الاولى والخامسة من مقدمات الترتب بيان الفرق بين المشروطات بالقدرة الشرعية والمشروطات بالقدرة العقلية ، وأن طريقة التحاكم والترافع إنما تتجه في القسم الأوّل دون الثاني. وينبغي مراجعة حواشي ص ٢٥٥ (٢) فانّ فيها ما يوجب الميل إلى ما نقل عن صاحب الحاشية.

ثم لا يخفى أن كون كل من التكليفين مشروطا بعدم متعلق الآخر إنما يحسن فيما لو كان هناك ملاكان ، وكان تحقق أحد الملاكين واستيفاؤه موجبا لارتفاع موضوع الملاك الآخر ، كما في دفن الميت مثلا شقا ودفنه تلحيدا ففي مثل ذلك يمكن أن يتوجه إلى المكلف كل من التكليف بالشق وبالتلحيد مشروطا كل منهما بعدم الآخر ، ويكون تحقق أحد الفعلين مسقطا للتكليف بالآخر ، وكذلك يحسن هذا النحو من الاشتراط فيما لو

__________________

(١) في صفحة : ٣٠٠ وما بعدها ، وراجع أيضا الصفحة : ٣٧٣ وما بعدها.

(٢) [ هذا بحسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، وله قدس‌سره على هذه الصفحة حاشيتان مذكورتان في الصفحة : ٣٨٥ ـ ٣٩٠ من هذا المجلّد ].

٢٥٨

فرض أن عدم كل من المتعلقين شرط في تحقق ملاك الآخر ، فكان عدم المتعلق في كل منهما له المدخلية في الآخر خطابا وملاكا ، فانه حينئذ يحسن أن يتوجه إلى المكلف تكليفان مشروط كل منهما بعدم الآخر.

ولا فرق بين الأوّل والثاني إلاّ أن وجود أحد المتعلقين في الأوّل يكون مسقطا للتكليف الآخر ، وفي الثاني يكون كاشفا عن عدم توجه الآخر ، أما مثل ما نحن فيه مما كان الملاكان متحققين في حد نفسهما ولكن اتفق أن المكلف لم يقدر على الاتيان بكل من الفعلين ، فلا ينتج من ذلك إلاّ سقوط أحد الخطابين لا بعينه ، لا كون كل من الخطابين مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، فان سالب القدرة عن هذا الفعل ليس هو الاتيان بالفعل الآخر ، بل إن السالب للقدرة هو الخطاب بالآخر ، وهذا لا يداويه جعل أحدهما مشروطا بعدم الآخر ، لأنه في ظرف عدم كل منهما يتحقق الخطاب بكل منهما ، بل إن الذي يداويه هو انعدام الخطاب الآخر عند الخطاب بأحدهما ، وحينئذ يكون الناتج هو الخطاب بأحدهما ، هذا.

ولكن لا يخفى أن المكلف في ظرف إتيانه بأحدهما يكون غير قادر عقلا على الاتيان بالآخر ، وهو محذور الجمع بين الضدين ، فيمكن إصلاحه بالأمر بأحدهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وعند عدم كل منهما لا مانع من اجتماع الأمرين مشروطين بهذا النحو من الاشتراط ، وبذلك يسقط إطلاق كلا الخطابين ، ولعلنا يمكننا إجراء هذه الطريقة في المشروطين بالقدرة الشرعية ليكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر على حذو ما ذكر في المثال الثاني.

٢٥٩

ثم لا يخفى أنه قد تقدم في الواجب التخييري (١) أنه ربما كان ناشئا عن كون كل من الفعلين له ملاك يخصه ، فيكون ناشئا عن ملاكين لا يمكن الجمع بينهما لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فيكون الاتيان بكل منهما موجبا لسقوط الآخر ، ويكون محصله هو كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر ، ويكون وجود الآخر موجبا لسقوط طرفه ، ويكون الحال فيه بعينه هو الحال على مسلك شيخنا قدس‌سره ، غير أن القائل به يدعي أن ذلك بحكم الشارع ، وشيخنا قدس‌سره يدعي أنه بحكم العقل.

وبناء على ذلك يتحد المسلكان في الثمرة ، لأن الاختلاف في الثمرة المذكورة إنما يتم لو كان التخيير الشرعي المدعى ناشئا عن وحدة الملاك لا ما إذا كان ناشئا عن ملاكين لا يمكن الجمع بينهما ولو من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فلا تترتب الثمرة على المسلكين حتى مسألة تعدد العقاب لو تركهما معا ، فضلا عن كون المرجع في مقام الشك هو أصالة الاشتغال دون البراءة.

وهكذا الحال في الثمرة الثالثة ، لأن القيام الثاني لو كان هو الأهم كان اللازم هو حفظ القدرة له على كلا المسلكين ، وإذا لم تكن أهمية في البين كان المتعين هو الاتيان بالقيام الأوّل على كلا المسلكين ، لما عرفت من أن محصل الوجوب التخييري في المقام هو كون التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الآخر ، فيلزمه الاتيان بالقيام الأوّل وإسقاط القيام الثاني على كلا المسلكين ، وهكذا الحال فيما لو كانت مقدمة الواجب محرمة ، فلاحظ

__________________

(١) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٤٩ ، وراجع أيضا الحاشية المذكورة في الصفحة : ٢٦١ من المجلّد الثاني.

٢٦٠