أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

بصلاته ، أو أنه يوجب اضطراره لأكل النجس أو شربه ، مع كون ذلك أعني الصلاة وحرمة أكل النجس وشربه من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ) هو الموجب لعدم سقوط وجوب الحج ، لما عرفت من جواز السفر في الصورة المفروضة ، وإن لم يكن السفر لأجل الحج فضلا عما لو كان السفر للحج الواجب.

وبعد الفراغ عن جواز السفر في هذه الصورة أعني لو كان السفر مستلزما لترك واجب مشروط بالقدرة العقلية ، يكون جوازه فيما لو كان مستلزما لترك ما هو مشروط بالقدرة الشرعية كما في السفر في طريق لا ماء فيه فيوجب الانتقال إلى التيمم بطريق أولى ، وحينئذ يكون جوازه للسفر للحج الواجب بطريق أولى ، ويكون هو الموجب لتقدم الحج في الصورة المذكورة على الطهارة المائية ، لا أن الموجب له هو كون الحج لا بدل له والطهارة المائية لها بدل طولي وهو التيمم مع فرض كونهما معا مشروطين بالقدرة الشرعية ، فان الاعتماد في التقديم على هذا الوجه كما يظهر من شيخنا قدس‌سره لا يخلو عن تأمل ، فان وجوب الحج يكون بازاء وجوب الطهارة المائية ، فلا بدّ من إعمال الترجيح بينهما ، فان سقط وجوب الحج تعين وجوب الطهارة المائية ، وإن سقطت الطهارة المائية تعين وجوب الحج وبعد سقوط الطهارة المائية يكون الانتقال إلى بدلها وهو التيمم ، والاعتماد في الترجيح على مجرد أن الطهارة المائية لو سقطت لها بدل طولي بخلاف الحج ، لا يخلو عن نحو من الاستحسان.

ومن ذلك يتضح الاشكال فيما لو كانت عليه كفارة مرتبة من العتق والاطعام والصيام وكان لولاها مستطيعا ، إلاّ أنّ شراءه العبد وعتقه يوجب سلب استطاعته ، كما أنّ صرف المال في الاستطاعة والحج يوجب عدم

٢٢١

قدرته على شراء العبد ، فهل يقدم الحج لأنه لا بدل له ويسقط العتق لأن له بدلا وهو الصيام؟

تنبيه : ربما يقال إن ما أفاده في العروة في ذيل المسألة بقوله : ولو حج مع هذا صح حجه ، لأن ذلك في المقدمة وهي المشي إلى الميقات كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات (١) لا يخلو عن إشكال ، وذلك لأنّ الظاهر من حكمه بصحة الحج هو صحة كونه حجة الاسلام كما يعطيه صدر الكلام ، ومن الواضح أنّه بعد البناء على ما صدّر به المسألة من كون هذه الامور مسقطة لوجوب الحج ، لا يمكن الحكم بكون حجه حجة الاسلام لأنّ المفروض هو صورة الانحصار.

وبالجملة : أنه إن كان الطريق منحصرا بما يستلزم هذه الامور وقلنا بسقوط الحج بذلك ، لم يكن وجه للحكم بصحته عن حجة الاسلام لو أقدم على الارتكاب كما صرح بذلك في مسألة ٦٦ (٢) ، وإن لم يكن الطريق منحصرا بذلك أو كان منحصرا ولم يكن مستلزما للامور المذكورة واتفق الارتكاب ، لم يكن اختياره لذلك الطريق مسقطا لوجوب الحج ، كما أن ارتكابه لم يكن مخلا بحجة الاسلام. وهكذا الحال في ركوب الدابة المغصوبة. اللهم إلاّ أن يريد بقوله « صح حجه » (٣) مجرد الحكم بصحة الحج وإن لم يكن من باب حجة الاسلام ، لكن قد عرفت أنه لا يلائم مع صدر الكلام ، هذا.

ولكن الجواب عن الاشكال المزبور واضح على الظاهر ، فانه وإن لم

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٣٢ / المسألة ٦٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٢٧.

(٣) [ المذكور في المسألة ٦٩ ، المتقدمة في الصفحة : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ].

٢٢٢

يجب عليه الحج قبل خروجه ، لكن بعد أن خرج وارتكب ما ارتكب ووصل إلى الميقات ، أو قبل أن يصله فارغا من تلك الارتكابات ، وكان في ذلك الحال واجدا لجميع الشرائط المعتبرة ، توجه إليه الحج الإسلامي من ذلك الحين ، نظير من أقدم متسكعا وقبل الميقات حصلت له الشرائط من المال ونحوه.

قوله : قلت أما حديث عدم اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا فيمنعه أن وجوب الوفاء تابع لما نذره ، وحيث إن النذر تعلق بالفعل المقدور لاقتضاء نفس تعلق النذر ذلك ... إلخ (١).

لا ينبغي الريب في أن النذر مشروط بالقدرة الشرعية وأنه ليس كسائر الواجبات المشروطة بالقدرة العقلية ، وإلاّ كان اللازم تقدمه على الحج حتى لو كان صدور النذر بعد تحقق الاستطاعة ، وهذا مما لم يقل به أحد على الظاهر ، وذلك مما يكشف عن أنه ليس من قبيل المشروطات بالقدرة العقلية.

ثم إنّ ملخص ما أفاده قدس‌سره في هذا المقام أوّلا : دعوى كون متعلق وجوب الوفاء بالنذر مشروطا بالقدرة الشرعية تبعا لأصل النذر ، إذ لا يتعلق بغير المقدور. وثانيا : اعتبار الرجحان في متعلق النذر في ظرف وقوعه لا في ظرف تعلق النذر به. وثالثا : اعتبار كونه غير محلل للحرام أو محرم الحلال.

ولا يخفى أن الأوّل وكذا الثالث يشترك فيه النذر مع الاجارة والصلح والشرط ، ولا إشكال في تقدمها على الحج وعلى ما يزاحمها مما هو مثل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٢٣

طروّ حق الزوج ، فراجع ما حررناه (١) في حواشي الاجارة على العروة ، وما أفاده قدس‌سره (٢) في حاشية المناسك من الفرق بين النذر والاجارة ، وما حررناه (٣) عنه قدس‌سره في هذا المقام من الفرق بين الشرط والنذر ، بأنّ الأوّل مشتمل على حق المشروط له ، كما ينبغي مراجعة ما حررته (٤) في شرح كون الشرط محللا للحرام ومحرما للحلال من كونه ابتداء تصرفا في نفس الحلية والحرمة على نحو ما ذكرناه في كونه مخالفا للكتاب ، وعلى أيّ حال هو لا يوجب تقدم الحج.

ثم إنّ القدرة المأخوذة في هذه الأبواب ليست من سنخ القدرة الملاكية ، وإنما هي من سنخ القدرة العقلية ، باعتبار كون مورد هذه الامور أعني النذر والشرط والاجارة والصلح لا بدّ من كونه مقدورا ، ويكون وجوب الوفاء واردا على ما ورد عليه العقد فيها ، ومن الواضح أن القدرة المذكورة لا دخل لها في ملاك هذه العقود ، ولا في ملاك الأمر بالوفاء بها.

نعم ، لا مجال لانكار اعتبار القدرة في متعلقها وإلاّ لكان انشاء الالتزام بها وجعلها لغوا صرفا ، ولأجل ذلك جعلوها من شروط صحة هذه المعاملات ، وحينئذ يكون حالها حال القدرة الشرعية التي هي دخيلة في الملاك ، فلو زاحمها ما هو مشروط بالقدرة العقلية قدّم عليها وأوجب انحلالها أو كشف عن بطلانها فيما هو مورد المزاحمة ، كما لو اتفقت آية في زمان الاجارة ، فان الاجارة تنحل في مقدار أداء صلاة الآيات ، ويلزمه

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) سيأتي نصّه في صفحة : ٢٢٦.

(٣) راجع ما حرره عنه في صفحة : ٢٢٦ الآتية.

(٤) مخطوط لم يطبع بعد.

٢٢٤

الاتيان بصلاة الآيات ، ولو عصى لم يجب عليه العمل المستأجر عليه في ذلك ، لا بالملاك ولا بالترتب ، لانكشاف بطلان الاجارة بالنسبة إلى ذلك المقدار من الزمان.

والحاصل أنه يمكن أن يقال : إن الظاهر مما دل على أنه يشترط في متعلق النذر والعهد واليمين والشروط أن لا يكون محللا للحرام وأن لا يكون مخالفا للكتاب ، هو أن لا يكون كذلك بنفسه بحيث يكون المنذور هو ترك الواجب أو فعل الحرام ، أما إذا كان مستلزما لذلك وكان مقارنا له كما فيما نحن فيه ، حيث إنه ليس المنذور هو ترك الحج وإنما المنذور هو الزيارة التي يكون فعلها مستلزما لترك الواجب ، ففي دخوله تحت هذا العموم تأمل وإشكال ، لتوقف ذلك على تقدم الحج وهو أول الكلام لامكان القول بأن تقدمه يتوقف على تحقق الاستطاعة ، والوجوب النذري رافع لها ، ولا أقل من تساوي الاحتمالين ، لكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر ، ولأجل ذلك نقول : إنه لو قوبل الشرط أو الاجارة بما هو مشروط بالقدرة العقلية كان الثاني هو المقدّم ، مع كون كل من الاجارة والنذر مشروطا بكل من القدرة وعدم تحليل الحرام ، وهكذا الحال في عقد الصلح على الفعل المضاد للحج.

وقد أجاب قدس‌سره عن ذلك حينما عرضت بخدمته النقض بالشرط بما حاصله حسبما حررته عنه : بأن دليل الشرط المذكور أوسع من ذلك ، فان المراد من عدم كونه محللا للحرام أوسع من أن يكون كذلك بنفسه أو يكون مستلزما أو مقارنا له ، وأما تقديم شرط الزيارة على وجوب الحج فلأن في الشرط جهة اخرى زائدة على جهة النذر ، وهي كون المشروط ملكا للمشروط له على المشروط عليه ، وبذلك يخرج المشروط عليه عن

٢٢٥

الاستطاعة ، انتهى.

ويمكن التأمل فيه ، فانه فرع انعقاد الشرط في قبال وجوب الحج بمعنى أن وجوب الحج لو قلنا بتقدمه لكان رافعا لموضوع الشرط ، فان المالكية فرع بقاء نفوذ الشرط ، والحج يكون رافعا لذلك.

وبنحو ذلك أجاب عن النقض بالاجارة فيما تعرض له قدس‌سره في أوائل مناسك الحج ، وهذا نص ما تفضل به في هامش المناسك : الفرق بين النذر والاجارة هو كفاية سلطنة الموجر على منفعة نفسه عند عقد الاجارة في صحة تمليكها وتملك المستأجر لها ، فلا يبقى مورد لتأثير الاستطاعة ، بخلاف النذر فان اشتراطه حدوثا وبقاء برجحان المنذور من حيث نفسه ومع الغض عن تعلق النذر به ، يوجب انحلاله بالاستطاعة (١).

ويمكن التأمل في ذلك بعين ما تقدم من التأمل في الشرط من جهة اعتبار القدرة وعدم محللية الحرام في كل منهما ، نعم العمدة في الفرق هو اعتبار الرجحان في متعلق الأمر (٢) ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أن التفرقة بين هذه الامور أعني الاجارة والصلح والشرط في ضمن العقد اللازم ، وبين العهد واليمين والنذر من هذه الجهة أعني أخذ القدرة شرعا في كل منها ، وأنه لا بدّ في كل منها من عدم كونه محللا للحرام على وجه تكون الثلاثة الاول مقدمة على الحج بخلاف الأواخر ، في غاية الاشكال ، ونحن نراهم يقدّمون الاول على الحج لو كانت سابقة على الاستطاعة ، ويقدّمون الحج عليها لو كانت متأخرة عن الاستطاعة ، فالذي ينبغي أن تكون الثلاثة الأخيرة أيضا كذلك. وهكذا الحال في حقوق الزوج

__________________

(١) دليل الناسك : ٢٩.

(٢) [ كذا في الأصل ، والصحيح : متعلق النذر ].

٢٢٦

لو كانت هذه الأمور سابقة على التزويج ، بخلاف ما لو كان التزويج متأخرا عنها ، أما بالنسبة إلى تزاحمها مع ما هو مشروط بالقدرة العقلية فانه يقدّم عليها مطلقا ، سواء كان توجهه إلى المكلف سابقا على هذه المعاملات أو كان لاحقا لها ، كما عرفت فيما لو طرأت صلاة الآيات على من كان مقيدا بأحد هذه المعاملات ، من دون فرق في ذلك بين هذه الامور الستة من ناحية اعتبار القدرة وعدم محللية الحرام في كل منها.

وأما الثاني فالمراد به هو الرجحان الذاتي ، فلا تضره مزاحمة الواجب كالحج ، لأن ذلك لا يخرجه عن الرجحان إلاّ بعد تحقق موضوع الحج ، وهو أوّل الكلام. فالأولى في توجيه التقديم هو دعوى استفادة المساهلة من الشارع في النذر ، وأنه يستفاد من مثل قولهم عليه‌السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » (١) أنه يسقطه كل ما يزاحمه مما هو خير منه ، من دون فرق في ذلك بين كون المنذور هو مثل الكون في يوم عرفة عند مشهده عليه‌السلام أو الكون في الكعبة ، أو كون المنذور هو الحج غير حجة الاسلام ، فراجع وتأمل.

ثم لا يخفى أن مقتضى تقدم الحج على النذر وانحلاله به [ أن ](٢) لا يكون موردا للترتب ، بحيث إنه لو عصى الحج لم يجب عليه الوفاء بالنذر ، لا بالملاك ولا بالترتب ، لانكشاف بطلان النذر وانحلاله بذلك.

نعم ، لا يتوجه عليه النقض بما في العروة (٣) من تقدم النذر على الزكاة فيما لو نذر في أثناء الحول التصدق ببعض النصاب أو بتمامه عند

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٤٠ / كتاب الأيمان ب ١٨ ح ١ [ وفيه : ... فدعها ].

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ١٩ / مسألة ١٢.

٢٢٧

الحول ، بأن يقال إن التصدق الذي هو مقتضى الوفاء بالنذر يكون مزاحما لوجوب الزكاة ، لكون كل منهما يكون متوجها عند رأس الحول.

وبيان عدم ورود النقض : أن النذر وإن لم ينفذ في حصة الزكاة لكون وجوبها حاكما على وجوب الوفاء بالنذر ، إلاّ أنه لمّا كان بالنسبة إلى ما عدا حصة الزكاة نافذا بلا إشكال ، فذلك كاف في رفع شرط وجوب الزكاة وهو إمكان التصرف بتمام النصاب ، فراجع العروة وما شرحناه (١) في ذلك الفرع المشار إليه.

وفيه تأمل ، فانه يتوجه أيضا القول بتقدم الزكاة ، لأنّ النذر بواسطة كونه موجبا لارتفاع موضوع الزكاة ينبغي أن نقول بعدم نفوذه ، نظير قولنا إن نذر الزيارة غير نافذ بواسطة كونه موجبا لارتفاع موضوع الحج ، فتأمّل.

والحاصل : أن ملاك تقديم الحج إن كان هو اعتبار الرجحان الذاتي في متعلق النذر ووجوب الحج رافع لرجحانه فيمكن التأمل فيه ، فانه إنما يرفع رجحان المنذور بواسطة تحقق وجوبه ، والمفروض أن تحقق وجوبه متوقف على عدم تحقق وجوب المنذور ، فيكون سقوط وجوب المنذور متوقفا على سقوط رجحانه ، وسقوط رجحانه متوقف على تحقق وجوب الحج ، وتحقق وجوب الحج متوقف على سقوط وجوب المنذور.

وإن كان ملاك تقديم الحج هو اعتبار كون المنذور غير محلل للحرام بمعنى كونه غير موجب لترك الواجب ، فيمكن التأمل فيه بنحو ما تقدم فان سقوط وجوب المنذور يتوقف على كونه موجبا لترك واجب وهو الحج ، وكونه كذلك يتوقف على تحقق وجوب الحج ، وتحقق وجوب الحج يتوقف على سقوط وجوب المنذور.

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

٢٢٨

اللهم إلاّ أن يقال : إنه يشترط في وجوب المنذور أن لا يكون مزاحما لواجب ولو بكونه رافعا لموضوعه ، لكن هذا مدرك آخر يمكن إثباته بما استفيد من مذاق الشارع في النذور والأيمان ولو من مثل قولهم عليهم‌السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » وهو مطلب آخر لا دخل له باعتبار عدم محللية الحرام ، وإلاّ لجرى في الشرط والصلح والاجارة ونحوها.

ثم لا يخفى أنه قدس‌سره أعرض عما ذكره في السؤال ثانيا من تقدم النذر زمانا ، لأن ذلك مسلّم عنده ، وقد يمنع عن ذلك كما في الحاشية من المقرر (١) نظرا إلى أن وجوب الخروج إلى الحج سابق في الزمان على وجوب الوفاء بالنذر.

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بأنّ وجوب الخروج بالنسبة إلى أعمال الحج في أيامه لا يكون إلاّ من قبيل المقدمات المفوّتة ، وحينئذ يكون وجوب البقاء بالنسبة إلى الوفاء بالنذر أيضا كذلك ، لكونه من المقدمات المفوّتة أيضا.

وثانيا : أن يوم عرفة وإن كان متأخرا عن كل من النذر والخروج إلى الحج ، إلاّ أن الوجوب المشروط بذلك الزمان لكل من المنذور والوقوف بعرفة يكون بالنسبة إلى المنذور أسبق منه بالنسبة إلى الوقوف بعرفة ، لأن سببه يكون سابقا على سبب الحج الذي هو الاستطاعة ، فكان وجوب المنذور المشروط بذلك الزمان واردا على ذلك اليوم قبل ورود وجوب الوقوف المشروط بذلك الزمان.

وبالجملة : أن وجوب الزيارة ووجوب الوقوف وإن كانا متحدين زمانا وهو يوم عرفة ، وكان كل من الوجوبين مشروطا بذلك اليوم ، إلاّ أن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٧.

٢٢٩

وجوب الزيارة سابق على وجوب الوقوف لتقدم سببه ، فكان تقدمه أشبه شيء بالتقدم الرتبي.

وثالثا : أن الكلام أوسع من كون المنذور هو زيارة عرفة ، بل هو جار فيما لو كان المنذور هو الحج الندبي في ذلك العام ثم طرأت الاستطاعة في ذلك العام أيضا.

ورابعا : أنه في خصوص النذر المتعلق بالزيارة لا يكون تاما في جميع موارده ، لأنه إنما يتم في خصوص من كان في العراق ، وأما من كان في المدينة فلا تكون مقدمات الحج فيه أعني الخروج مع الرفقة سابقة على مقدمات الزيارة ، بل الأمر في مثل ذلك على العكس.

تكميل : لا يخفى أنه قدس‌سره قد أفاد في بعض ما حررته في الدروس الفقهية في مباحث الوقت من كتاب الصلاة عند الكلام على نذر النافلة في الأوقات المكروهة ، فانه قدس‌سره تعرض هناك استطرادا لمسألة الحج والنذر بعد بيان اعتبار الرجحان في الثاني ، وأن المدار فيه على الرجحان حين العمل لا حين النذر ، وأفاد قدس‌سره ما نصّه ، أعني نص ما وجدته في تحريراتي عنه قدس‌سره وهو :

أن المدار في هذه المسألة على كون الرجحان في صحة النذر هل يكفي فيه رجحان الفعل حال النذر ، أم لا بدّ فيه من رجحان الفعل في محله وظرفه. وهذا النزاع إنما يمكن أن يتوجه على فرض إمكان الشرط المتأخر أو تصوير الواجب المعلّق ، فانه حينئذ يمكن أن يقال : إن الرجحان المتأخر شرط في الانعقاد فعلا ، أو أن الفعل في ظرفه يكون راجحا فعلا ، وأما بناء على عدم صحتهما كما حققناه في محله فلا بدّ من أن يكون الرجحان كسائر شرائط صحة النذر ووجوب الوفاء به ، فيكون الانعقاد مشروطا برجحان

٢٣٠

المتعلق ، ففي مثل زيارة عرفة لو نذرها قبل زمان الحج ينحل النذر لعدم تحقق شرط انعقاده أعني الرجحان ، لكونه في وقت الحج لا يكون إلاّ مرجوحا ، انتهى ما وجدته في تحريراتي عنه قدس‌سره في ذلك المبحث.

وهذا الوجه وإن كان مساقه هو الاستدلال على أن الرجحان المعتبر هو الرجحان حال الفعل لا حال النذر ، إلاّ أنه يمكن أن يجعل دليلا على تقدم الحج على النذر بأن يقال : إنه بعد أن قام الدليل على اعتبار رجحان الفعل في انعقاد النذر لا بدّ لنا حينئذ من القول بأنه لا ينعقد إلاّ عند الفعل بمعنى [ أن ](١) النذر لا يكون متصفا بالانعقاد إلاّ عند زمان الفعل المنذور واتصاف ذلك الفعل بصفة الرجحان ، إذ بعد كونه شرطا في الانعقاد لا يعقل أن يكون أثره وهو الانعقاد متقدما على زمان الفعل ، لأن فرض تقدم الأثر لا يخلو عن وجهين باطلين : أوّلهما أن نقول : إنه من باب الشرط المتأخر بحيث يكون الرجحان المتحقق في ظرف الفعل المتأخر مؤثرا في الانعقاد من حين النذر. ثانيهما أن نقول : إن رجحان الفعل من الصفات التي تلحق الفعل قبل وجوده ، بحيث يكون فعل الغد متصفا فعلا بالرجحان الحالي ، على وجه يكون الرجحان فعليا والراجح استقباليا.

وبطلان الأوّل راجع إلى مبحث الشرط المتأخر ، وأما بطلان الثاني فهو واضح لكونه أشبه شيء بالواجب المعلّق ، بل هو أقبح منه ، لأن الاشكال في ذلك راجع إلى عدم القدرة على جرّ الزمان ، بخلاف الاشكال هنا فانه راجع إلى اتصاف الشيء بصفة خارجية قبل وجوده ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الذي هو صفة عارضة على الفعل عارضا عليه قبل وجوده.

نعم ، يمكن أن يحكم عليه فعلا بالرجحان في ظرفه ، بمعنى أن

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٢٣١

يحكم فعلا على ذلك الفعل الذي ظرفه الغد بأنه راجح بمعنى أنه راجح في غد ، بحيث يكون المحمول فعلا على ذلك الفعل هو الرجحان في غد وإن كان الحمل الآن ، ولا ريب أن ذلك ليس من باب اتصاف ذلك الفعل بالرجحان الآن ، بل هو من باب توصيفه الآن بالرجحان الآتي ، فهو نظير الحكم بالمحبوبية على ولدك الذي يولد فيما بعد.

ومن الواضح أن الشرط في انعقاد النذر إنما هو عروض صفة الرجحان على متعلقه الذي لا يكون إلاّ في ظرفه ، دون مجرد الحكم فعلا على ذلك الفعل بالرجحان الموجود في ظرفه ، وحيث كان الشرط هو الرجحان الآتي فلا ريب في توقف الانعقاد ووجوب الوفاء عليه ، ويكون الانعقاد ووجوب الوفاء متحققا في ظرفه ، كما هو الشأن في جميع ما يكون شرطا للوجوب على نحو القضية الحقيقية ، ويكون تحقق الرجحان في ظرفه محققا للانعقاد ولوجوب الوفاء على نحو النقل الصرف دون الكشف ، ومن الواضح أن تحقق الانعقاد في ذلك الحال يكون مسبوقا بفعلية وجوب الحج الموجب لرفع رجحان الفعل.

لا يقال : إن وجوب الحج حيث كان مشروطا بالقدرة الشرعية على أفعاله التي من جملتها أعمال يوم عرفة ، يتأتى فيه ما ذكرتم في رجحان الفعل المنذور ، بأن يقال إن القدرة المعتبرة هي القدرة الحاصلة يوم عرفة ففي ذلك اليوم يقع التصادم بينهما.

لأنا نقول : يكفي في فعلية الحج الموجبة لسقوط رجحان متعلق النذر في يوم عرفة فعلية وجوب ما سبق من أعماله ، ولو باعتبار الخروج مع الرفقة وقطع المسافة ، فيكون وجوب الحج سابقا زمانا على وجوب الوفاء بالنذر. نعم لو لم يكن في البين إلاّ أعمال يوم عرفة التي هي متعلق

٢٣٢

النذر لكان ذلك اليوم مورد التصادم ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، أوّلا : أن وجوب الأعمال السابقة متوقف على القدرة على اللاحقة ومنها أعمال يوم عرفة.

وثانيا : ما تقدمت الاشارة إليه (١) من النقض بالشرط ، فان مقتضى هذا الوجه هو تقدم الحج عليه وإن كان الشرط سابقا زمانا على الاستطاعة لأنّ ما ذكر في وجه تقدمه على النذر من أنّ النذر لا ينفذ إلاّ في ظرف تحقق ما هو الشرط في نفوذه الذي هو رجحان الفعل في ظرفه ، يتأتى حرفا بحرف في نفوذ الشرط ، فانه لمّا كان نفوذه مشروطا بأن لا يكون محللا للحرام كان نفوذه متوقفا على تحقق ذلك الشرط في ظرف وقوع الفعل الواجب بمقتضى الشرط.

وثالثا : أن ما تقدم (٢) من حصر أخذ الرجحان بالوجهين السابقين يمكن منعه ، لامكان أخذ الشرط في انعقاد النذر تعقبه برجحان متعلقه في ظرفه ، وإن كان في ذلك تأمل أشرنا إليه في مباحث الشرط المتأخر (٣) من كونه راجعا إليه ، من جهة كون التعقب معلولا لذلك الرجحان المتأخر ، فتأمل.

ورابعا : أنا لو قلنا بصحة الشرط المتأخر أو قلنا بالواجب المعلّق لم يكن ذلك نافعا في انعقاد النذر فعلا ، لأنّ تحقق الرجحان فعلا موقوف على كون الفعل في وقته غير مزاحم بما يرفع رجحانه إما على نحو الشرط المتأخر أو على نحو الواجب المعلق ، والمفروض أن الفعل في وقته مزاحم

__________________

(١) راجع ما تقدم في صفحة : ٢٢٣ وما بعدها.

(٢) في صفحة : ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٣) لاحظ الحاشية المتقدمة في صفحة : ١٢ وما بعدها.

٢٣٣

بذلك ، فلا يمكننا الحكم فعلا بأنه راجح ولو على نحو الشرط المتأخر أو على نحو الواجب المعلق ، إلاّ أن يكون المدعى أن انقلاب الفعل إلى المرجوحية في ظرفه لا يكون مخلا بالحكم فعلا بأنه راجح.

فالانصاف : أنه لم يتحقق حتى الآن الوجه في حكمه قدس‌سره بتقدم الحج على خصوص النذر فيما لو تقدم النذر زمانا على الاستطاعة.

نعم ، يمكن أن يقال : إن ذلك مأخوذ من إطلاق قولهم عليهم‌السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » (١) ، بدعوى أنه يستفاد منه أن مطلق عروض ما يكون فعله أرجح من الوفاء بالنذر يكون موجبا لانحلال النذر. أو يقال : إنه يستفاد من مجموع ما ورد في أبواب اليمين وأخويه أن كونه مفوّتا لواجب ولو برفعه موضوع ذلك الواجب يكون موجبا لانحلاله أو عدم انعقاده. والحاصل : أنه يستفاد من كثير من الأخبار تساهل الشارع في النذر على وجه يكتفى في الحكم بمرجوحيته مجرد مزاحمته للحج ، ولو كان ذلك برفعه موضوع وجوب الحج ، فراجع وتأمل.

أما العهد واليمين فالظاهر أن ما أفيد من أن اعتبار الرجحان في متعلق النذر في ظرفه هو الموجب لانحلاله عند مزاحمته الحج ، لا يتأتى فيهما لعدم اعتبار الرجحان في متعلقهما ، فلم يبق إلاّ ما ذكرناه من دعوى أنه يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في تلك الأبواب مساهلة الشارع في ذلك على وجه تنحل هذه الامور عند مزاحمتها بالحج ونحوه من التكاليف الالزامية ولو كانت مشروطة بالقدرة الشرعية.

وفي الجواهر ـ بعد أن سرد الأخبار وكلمات الأصحاب في انعقاد اليمين على متساوي الطرفين من جهة الدنيا والدين ، وأنه لو كان أحد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٤٠ / كتاب الأيمان ب ١٨ ح ١ [ وفيه : ... فدعها ].

٢٣٤

طرفيه أرجح من الآخر ولو بحسب الدنيا لا تنعقد اليمين على الطرف المرجوح ، قال بعد المناقشة مع المسالك ـ ما هذا لفظه :

نعم ، ما سمعته من النصوص وغيرها ظاهر في عدم انعقاد اليمين على ذلك حتى في صورة التجدد ، بمعنى أنّه كان عند اليمين راجحا ثم صار مرجوحا دنيا أو آخرة ، كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا ـ ثم قال : ـ بقي شيء وهو الاجمال في خيرية (١) خلاف اليمين التي تقتضي عدم الحنث وعدم الكفارة ، هل هو نقيض اليمين كالترك بالنسبة إلى الفعل وبالعكس ، أو الأعم منه ومن أضدادها مثل أن يحلف على أن يعطي لزيد كذا وكان عطاؤه لعمرو مثلا خيرا له من عطائه لزيد ، بل الاجمال في نفس الخيرية أيضا ، ضرورة أنّ عدم الوفاء بالحلف على مال أو عمل مع فرض عدم رجحان فيه خير له من الوفاء ، لبقاء ماله في يده وعدم تحمله مشقة التعب في العمل ، ولكن يسهّل الخطب أنّ الضابط وجوب الوفاء في جميع محال الشك ، لعموم ما دل على وجوب الوفاء به (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ هذا الذي أفاده قدس‌سره في اليمين من عدم انعقاده فيما هو مرجوح ولو بحسب الدنيا ، وإن كان من حيث الدين لا رجحان لأحد طرفيه ، وأنه لو طرأت المرجوحية ولو بحسب الدنيا فيما بعد اليمين انحلت اليمين ، يتأتى في النذر بطريق أولى ، لأنه يعتبر فيه الرجحان بحسب الدين ، وحينئذ لو التزمنا بالمرجوحية فيما لو كانت ناشئة من أرجحية الضد كان علينا أن نلتزم بسقوط النذر في قبال وجوب الحج عند طروّ

__________________

(١) هذا إشارة إلى ما سرده من الأخبار الدالة على ما تقدمت الاشارة إليه من أنه « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » ، فراجع الأخبار التي ذكرها قدس‌سره [ منه قدس‌سره ].

(٢) جواهر الكلام ٣٥ : ٢٧٧.

٢٣٥

الاستطاعة ، إذ يكفي في المرجوحية حينئذ مجرد تفويت الحج ، وإن كان ذلك بواسطة رفع موضوعه الذي هو الاستطاعة.

ولا يخفى أني لم أعثر في كلامه قدس‌سره على هذا الذي نسب إليه من تقديم النذر على الحج ، وأن المدار في الرجحان على الرجحان حال النذر لا في هذه المقامات أعني أبواب العهد والنذر واليمين ولا في غيره ، حتى أني راجعته فيما لو نذر الحج ثم استطاع (١) فلم أجد له تصريحا في شيء من هذين المطلبين ، بل اقتصر في ذلك على نقل كلام الشهيد في الدروس (٢) ونقل مناقشة المدارك (٣) له وتأويله (٤) كلام الدروس.

وبالجملة : أني فعلا أستبعد صدور ذلك منه قدس‌سره خصوصا الاكتفاء بالرجحان حال النذر ، سيما مع ملاحظة هذا الذي نقلناه عنه في باب اليمين ، فراجع وتأمل لعلك تعثر على شيء من ذلك في كلماته قدس‌سره.

بل ربما يظهر مما أفاده في باب نذر التصدق في أوائل كتاب الزكاة ما ربما يظهر منه التوقف عند المزاحمة مع وجوب الزكاة (٥).

ويمكن أن يقال : إن كلماته قدس‌سره في تفسير كلام الشهيد مشعرة بذلك ، فانه قال في آخر ما تعرض له في مسألة ما لو نذر الحج ثم استطاع ، من نقل كلام الدروس والمدارك ما هذا لفظه : وقد يقال إن مراد الشهيد ـ بقرينة تفريعه ـ عدم وجوب حجة الاسلام بحصول الاستطاعة في عام النذر المطلق إلاّ أن تبقى إلى السنة الثانية ، لصيرورة الحج بالنذر إن كان

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ١٧ : ٣٤٧.

(٢) الدروس الشرعية ١ : ٣١٨.

(٣) مدارك الأحكام ٧ : ١٠٠.

(٤) أي تأويل صاحب الجواهر قدس‌سره.

(٥) راجع جواهر الكلام ١٥ : ٤٢ وما بعدها.

٢٣٦

مطلقا كالدين ، فيعتبر في وجوب حجة الاسلام حينئذ وفاؤه ، وليس المراد منه عدم وجوب الحج بالنذر إلاّ بملك الزاد والراحلة نحو حجة الإسلام ضرورة أنه لا دليل عليه ، ومن المستبعد جزم الشهيد به.

ولا يرد عليه النقض بما أفاده في بحث اليمين من انحلاله لو طرأته المرجوحية ، لامكان الجواب عنه بأن صيرورة الحج المنذور مرجوحا يتوقف على تقديم وجوب الحج ، ولا يكفي في مرجوحيته مجرد كونه مزاحما لوجوب الحج ولو كان هو رافعا لموضوع وجوب الحج.

قوله : وهذا الذي ذكرناه مطرد في كل ما اشترط وجوبه على أن لا يكون محللا للحرام ، ويتأخر وجوبه عند التزاحم عن الواجب الآخر وإن كان مشروطا بالقدرة شرعا ... الخ (١).

قد عرفت فيما تقدم (٢) أن كلا من الاجارة والصلح والشرط في متن العقد مشروط بعدم كونه محللا للحرام ، ومع ذلك لا إشكال في تقدمها على الحج ، وقد تقدم (٣) ما نقلناه عنه قدس‌سره في وجه تقدم الاجارة والشرط على الحج ، وتقدم أيضا التأمل في ذلك الوجه.

قوله : وما عن السيّد الفقيه الطباطبائي قدس‌سره من أن اللازم في متعلق النذر أن لا يكون محللا للحرام ولو بلحاظ وجوب الوفاء به ، نظرا إلى جواز نذر الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر والتطوع في وقت الفريضة ، فيظهر ضعفه مما ذكرناه من أن اللازم هو عدم كون نفس المتعلق محللا للحرام لا بلحاظ حكمه المشروط بذلك ، مضافا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩ ـ ٤٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في صفحة : ٢٢٣.

(٣) في صفحة : ٢٢٥.

٢٣٧

إلى أن لازمه حلية جميع المحرمات بالنذر ... إلخ (١).

ذكر السيّد قدس‌سره ذلك في كتاب الحج في الاحرام قبل الميقات ، واستدل على ذلك بالنص ، فقال : وذلك لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من الأخبار (٢) ، واللازم رجحانه حين العمل ولو كان ذلك للنذر ، ونظيره مسألة الصوم في السفر ، المرجوح أو المحرم من حيث هو مع صحته ورجحانه بالنذر ، ولا بدّ من دليل يدل على كونه راجحا بشرط النذر ، فلا يرد أن لازم ذلك صحة نذر كل مكروه أو محرم. وفي المقامين المذكورين ( يعني الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ) الكاشف هو الأخبار ، انتهى (٣).

وأنت ترى أنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على النص ، غايته أنه قدس‌سره أراد أن يجعل النص كاشفا عن رجحانه ، وأنه يكفي في الرجحان الكاشف عنه النص الرجحان الآتي من ناحية النذر. نعم يرد عليه أنه بعد هذا كله لا ينطبق النص على القاعدة ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الآتي من ناحية النذر مصححا للنذر بعد فرض اشتراطه بكون متعلقه راجحا في حد نفسه. وعلى كل حال ، فقد تعرض هو قدس‌سره لدفع هذا اللازم الذي أشار إليه شيخنا قدس‌سره بقوله : مضافا إلى أن لازمه حلية جميع المحرمات بالنذر الخ.

ثم إن محط كلام السيّد قدس‌سره وان كان هو في ناحية الرجحان لا في ناحية محللية الحرام ، إلاّ أن أصل المسألة ـ وهو الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ـ إنما هو فرض حرمة ذلك في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، فيكون النذر عنده رافعا لكل من المرجوحية والحرمة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) راجع وسائل الشيعة ١١ : ٣٢٦ / أبواب المواقيت ب ١٣.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٦٤٣ ـ ٦٤٤ / المسألة (١).

٢٣٨

الذاتية. ومن الغريب أن شيخنا قدس‌سره لم يعلّق شيئا في حاشيته على العروة عند ما حرره السيّد قدس‌سره في ذلك المقام.

نعم في مسألة الصوم المندوب في وقت الصوم الواجب في كتاب الصوم فيما لو كان المندوب منذورا التي هي لا نص فيها على الظاهر ، قال السيّد قدس‌سره : ولا يبعد أن يقال : إنه لا يجوز بوصف التطوع ، وبالنذر يخرج عن الوصف ، ويكفي في رجحان متعلق النذر رجحانه ولو بالنذر ، وبعبارة اخرى : المانع هو وصف الندب ، وبالنذر يرتفع المانع (١).

وعلق شيخنا قدس‌سره على قوله : يخرج عن الوصف ، ما هذا لفظه : هذا هو الصحيح ، لكن لا بدعوى كفاية الرجحان الناشئ عن النذر في صحته إذ فيه من المحذور ما لا يخفى ، بل لأن متعلق النذر هو ذات الصوم دون التطوع ، ومرجوحية التطوع لا يستلزم مرجوحية ذات الصوم ، بل هو على رجحانه الذاتي ، فينعقد نذره ويرتفع موضوع التطوع بذلك. ويطّرد ذلك في جميع ما كان من قبيله (٢).

وقد تقدم الكلام في اجتماع النذر والأمر الاستحبابي وأنه يندك أحدهما بالآخر في مباحث مقدمة الواجب ومباحث الواجب النفسي والغيري (٣) ، فراجع وتأمل.

نعم ، إن السيّد قدس‌سره في مسألة ١٧ من كتاب الصلاة في مسألة نذر النافلة في وقت الفريضة على القول بالمنع ، أراد أن يجعل النذر رافعا لذلك التحريم والمنع ـ إلى أن قال : ـ ولا يعتبر في متعلق النذر الرجحان

__________________

(١ و ٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٣ : ٦١٩ ـ ٦٢٠ / ضمن المسألة (٣).

(٣) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، وراجع أيضا حواشي المصنف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢١٨ وما بعدها.

٢٣٩

قبله ومع قطع النظر عنه (١). وعلّق عليه شيخنا قدس‌سره (٢) بما محصله : أنّه مختص بالاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ، ولا يقاس عليهما غيرهما وإلاّ تبدل حكم كل حرام بنذره ، فراجع.

ولا يخفى أن شيخنا قدس‌سره كأنه يلتزم بحرمة هذه الامور ومرجوحيتها لكنه قدس‌سره يقول إن المنذور هو ذات العبادة ، وهي بنفسها غير محرمة ولا مرجوحة وبالنذر تكون واجبة ، وبذلك تخرج عن موضوع التحريم والمرجوحية وهو التنفل في وقت الفريضة ، وحيث إنّ الكلام في ذلك مبني على ما تقدم من دعوى الاندكاك فلا بأس باعادة الاشارة إليه ، فنقول بعونه تعالى :

إنه قد تقدم منه قدس‌سره في بعض مباحث المقدمة والوجوب الغيري أن الأمر النذري فيما لو نذر النافلة يقع على ذات [ العبادة ](٣) ، كما أن أمرها الأصلي الاستحبابي يقع على الذات المذكورة ، فيندك أحدهما بالآخر ويعطي كل منهما ما يفقده الآخر ، ويتولد من ذلك أمر وجوبي عبادي. وقد تقدم الاشكال في ذلك من جهتين :

الاولى : أن الأمر النذري لم يقع على ذات العبادة ، فان النذر إنما تعلق بامتثال ذلك الأمر الاستحبابي ، فلم يتحد المتعلقان.

الجهة الثانية : أن الأمر النذري لو سلّمنا تعلقه بعين ما كان قد تعلق به الاستحبابي لم يكن ذلك موجبا لانعدام ذلك الأمر الاستحبابي بالذات ، بل تبقى ذاته باقية ، غايته أن حدّه الآخر وهو جواز تركه ينعدم ، نظرا إلى

__________________

(١ و ٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ٢٧٤ / فصل في أوقات الرواتب.

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٢٤٠