أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

لها ، فلا يكون التيمم لها مشروعا فلا يكون مقدورا.

ولعل السر في ذلك : هو أن ذلك التكليف الأهم لو كان مزاحما لنفس تقيد الصلاة بالطهارة المائية كان موجبا لسقوط التقييد خطابا وملاكا أما إذا لم يكن مزاحما لنفس التقيد المذكور ، بل كان مزاحما لنفس الغاية المشروطة به ، لم تكن تلك المزاحمة موجبة لسقوطه خطابا وملاكا ، بل يكون في ذلك تابعا لغايته المشروطة به ، وحيث إنها لم تكن مشروطة شرعا بالقدرة بل كانت القدرة فيه عقلية صرفة ، لم يكن تقدم ذلك التكليف المفروض أهميته موجبا إلاّ لسقوطه خطابا لا ملاكا ، فيمكن الحكم حينئذ بصحته إما بالملاك أو بالترتب ، وذلك كما لو كان وقت الصلاة واسعا وابتلي بازالة النجاسة عن المسجد ، فان المزاحمة تقع بين الازالة وبين الصلاة مقيدة بمطلق الطهارة الأعم من المائية والترابية.

وفي هذه الجهة من الاشكال مباحث دقيقة شريفة فصلناها فيما علقناه على ما حررناه عن شيخنا قدس‌سره في هذه المسألة ، فراجعها هناك (١) وتأمل فيها حق التأمل.

والذي صرح به شيخنا قدس‌سره في رسالة المشكوك (٢) : أن الوضوء بالنسبة إلى أصل وجود الماء وإن كان مشروطا بالقدرة الشرعية المستفاد من التفصيل الذي تضمنته الآية الشريفة (٣) ، إلاّ أنه بالنسبة إلى استعمال الماء في الوضوء لا يكون إلاّ مشروطا بالقدرة العقلية ، وحينئذ يكون الوضوء للصلوات الاخرى في مورد وجوب التيمم للصلاة التي ضاق وقتها صحيحا

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٣) المائدة ٥ : ٦.

٢٠١

بالملاك ، وهذا بخلاف موارد وجوب التيمم لأجل وجوب صرف الماء في حفظ نفس محترمة. هذا ملخص ما أفاده هناك.

قلت : وحينئذ يشكل الأمر في الوضوء للصلاة الحاضرة ، فانه من هذا القبيل لكون الماء موجودا عنده ، وإنما المزاحم هو استعماله ، والمفروض أنّ القدرة عليه شرط عقلي (١).

اللهم إلاّ أن يقال : إنه يبطل من جهة اخرى ، وهي أن ملاكية الوضوء لهذه الصلاة هو مقدميتها لها ، فإذا فرض كونه مفوّتا لها أو لبعضها في الوقت كان خاليا من الملاك المذكور فلا يصح لذلك ، لكن يبقى الاشكال في موارد أخر يكون التكليف المزاحم مزاحما لنفس الاستعمال كما في الموارد التي تكون الطهارة المائية فيها مفوّتة لواجب فعلي ، مثل المسارعة في أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد ونحو ذلك مما تكون الطهارة المائية موجبة لتفويته إذا اتفق مزاحمتها له ، هذا كله. مضافا إلى إمكان التأمل في أصل هذا المطلب وهو التفرقة بين القدرة على أصل وجود الماء والقدرة على استعماله ، وقد تعرضنا لذلك فيما علّقناه على ما حررناه (٢) ، وأيضا حررناه في رسالة مستقلة (٣) فراجع وتأمل.

لا يقال : قد تقدم (٤) أن المستحب وكذلك الواجب التخييري لا يزاحم المضيق سواء كان التخيير شرعيا أو كان عقليا ، فالذي ينبغي أن يقال في جواب هذا الاشكال : إن الغاية التي يتوضأ لها ليست من الواجبات المضيقة ، بل هي إما مستحبة وإما واجبة تخييرا ولو عقليا مثل صلاة القضاء

__________________

(١) [ في الأصل : شرعي ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢ و ٣) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٤) في صفحة : ١٤٠ ما بعدها.

٢٠٢

لكونها موسعة ، وحينئذ يكون وضوءه لها أيضا كذلك ، فلا مانع من كونه مامورا به بهذا النحو من الأمر الموسع ، فلا يكون الأمر به منافيا للأمر بالتيمم للصلاة الحاضرة التي قد ضاق [ وقتها ](١) ، فيكون ذلك هو الوجه فيما حكموا به من صحة الوضوء لغاية اخرى.

لأنا نقول : إن الوضوء المذكور وإن كان مستحبا أو كان واجبا موسعا تبعا لتوسعة غايته ، إلاّ أن الوضوء كيف كان الطلب المتعلق به لا يكون إلاّ مشروطا بالقدرة الشرعية ، الذي عرفت أنه يسقط خطابا وملاكا بمزاحمة المضيق له ، فان الوضوء المستحب أو الواجب التخييري تكون مزاحمته للواجب المضيق موجبة لارتفاع الطلب المتعلق به خطابا وملاكا ، ومعه لا يمكن توجيه الحكم بصحته بهذا التوجيه ، لأنّ الطلب المشروط بالقدرة الشرعية سواء كان استحبابيا أو كان واجبا تخييريا أو كان واجبا تعيينيا يسقط خطابا وملاكا بواسطة الأمر بالمضيق ، فلا بدّ في توجيه الحكم بصحة الوضوء فيما نحن فيه بما قدمناه (٢) ، فتأمل.

ثم إنك قد عرفت فيما تقدم (٣) أنه لو خالف وأقدم على الوضوء في مورد ضيق الوقت مع علمه بالضيق كان وضوءه باطلا ، لكن الظاهر أن ذلك لا لمجرد كون الوضوء مشروطا بالقدرة الشرعية والوقت بعد فرض تقديمه عليه يكون سالبا لقدرته ، وبعبارة اخرى أن ذلك ليس لمجرد المزاحمة ، بل هو لجهة اخرى وهي قيام الأدلة مثل إطلاق صحيحة زرارة ونحوها مما

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].

(٢) في صفحة : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) في صفحة : ١٩٩.

٢٠٣

تقدم (١) من الأدلة على سقوط الأمر بالوضوء في الفرض المزبور ، ولو من جهة المحافظة على الوقت ، على وجه لو فرضنا أن الوضوء غير مشروط بالقدرة الشرعية لكانت تلك الأدلة كافية في الدلالة على أنه غير مأمور به في المقام.

ولو لا هذه الجهة وبقينا نحن والمزاحمة للوقت ، وأن الوقت مقدّم ورافع في مقام المزاحمة للقدرة على الوضوء ، لكان لازم ذلك هو صحة الوضوء في مورد الجهل بالضيق وقد أفتوا بفساده ، ألا ترى أنه لو كان عنده من الماء ما لا يكفيه إلاّ لأحد الأمرين من إزالة النجاسة عن المصحف أو المسجد أو صرفه في الغسل أو الوضوء ، فانه يسقط الوضوء أو الغسل ، لكون صرف الماء في إزالة النجاسة عن المسجد أو المصحف موجبا في مقام المزاحمة لسلب قدرته على الغسل أو الوضوء ، فيكون وضوءه باطلا مع العلم بالنجاسة المذكورة ، أما مع الجهل بها فلا يكون وضوءه المذكور باطلا.

وهكذا الحال فيما لو كان عالما بالنجاسة المزبورة لكنه تخيل أن الماء يكفيه لازالتها وللطهارة المائية ، ثم بعد أن أقدم على الطهارة المائية تبيّن له أن الماء لا يكفي لهما ، فان طهارته المائية تكون صحيحة.

وهكذا الحال فيما لو كان معه عطشان مشرف على التلف من العطش وكان صاحب الماء لا يعلم بذلك وأقدم على الوضوء بذلك الماء ، فان وضوءه يكون صحيحا.

وهكذا الحال فيما لو بقي من الوقت مقدار الصلاة مع الغسل أو هي

__________________

(١) في صفحة : ١٩٣ ـ ١٩٥.

٢٠٤

مع التيمم وإزالة النجاسة عن المسجد أو المصحف وكان عالما بذلك الضيق والنجاسة ، فان غسله يكون باطلا ، بخلاف ما لو كان جاهلا بذلك ، سواء كان جاهلا بأصل النجاسة أو كان عالما بها لكنه تخيل سعة الوقت لكل منهما فتبين خلافه.

والحاصل : أن التكليف المزاحم لما هو مشروط بالقدرة الشرعية يكون حاله حال ما لو زاحم المشروط بالقدرة العقلية ، في أن سالبيته للقدرة ومزاحمته له منوطة بالتنجز بالعلم ، وأن الجهل بأصل التكليف المزاحم أو الجهل بالمزاحمة بعد فرض العلم بأصل التكليف المزاحم يكون رافعا للمزاحمة ، وموجبا لعدم كون ذلك التكليف المزاحم سالبا للقدرة على ذلك التكليف الآخر ، سواء كان ذلك التكليف الآخر مشروطا بالقدرة العقلية أو كان مشروطا بالقدرة الشرعية ، حيث إن سالبيته للقدرة إنما هي من حيث التنجز واقتضائه اشتغال المكلف به ، لا بمجرد وجوده الواقعي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، حيث إن الجاهل بالضيق وإن كان عالما بوجوب إيقاع الصلاة في الوقت ، إلاّ أنه لما تخيل سعة الوقت لم تكن عنده الطهارة المائية مزاحمة للوقت ، فكان يرى نفسه قادرا عليها ، فلا تكون في البين مزاحمة كي تكون طهارته المائية باطلة ، وحينئذ لا بدّ لنا في الحكم ببطلان الوضوء في هذه الصورة مع الجهل بالضيق من رفع اليد عن طريقة المزاحمة ، وسلوك الطريقة المتقدمة أعني الادلة على سقوط الأمر بالوضوء وعدم مشروعيته ، فيكون الوضوء باطلا سواء كان عالما أو كان جاهلا بالضيق.

اللهم إلاّ أن يقال : إن المزاحمة إنما يسقطها الجهل إذا كان الجهل متعلقا بأصل التكليف المزاحم ، أما الجهل المتعلق بنفس المزاحمة كالجهل

٢٠٥

بالضيق فيما نحن فيه وفي مثال ضيق الوقت عن الجمع بين الطهارة المائية وازالة النجاسة عن المصحف أو المسجد (١) أو الجهل بعدم كفاية الماء لكل منهما ، فلا يكون مسقطا للمزاحمة ، فتكون الطهارة المائية في مثل ذلك باطلة لتحقق المزاحمة ، فتأمل فان ذلك غير بعيد.

بل لا يبعد القول بأن الجهل بوجود النجاسة لا يؤثر في رفع المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة الشرعية الذي هو الوضوء ، فان هذا الشخص الجاهل بوجود النجاسة في المصحف أو المسجد أو الناسي لذلك وإن لم يكن فعلا مخاطبا بها ، إلاّ أن الأمر الواقعي بازالتها يكون في الواقع رافعا لموضوع الطهارة المائية الذي هو القدرة ، فلا يكون في الواقع مكلفا بالوضوء ، وإنما يكون الجهل المذكور نافعا فيما لو كان ذلك التكليف الآخر غير مشروط شرعا بالقدرة ، فينبغي أن يحكم ببطلان الوضوء في مورد الجهل بالنجاسة في المسجد أو على المصحف.

لكنهم على الظاهر لم يلتزموا ببطلان الوضوء في مثل ذلك ، كما يشهد بذلك ما ذكره في العروة في كتاب الحج ، وذلك قوله قدس‌سره : وإن اعتقد عدم مانع شرعي فحج فالظاهر الاجزاء إذا بان الخلاف ، وإن اعتقد وجوده فترك فبان الخلاف فالظاهر الاستقرار (٢) ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس‌سره. ومراده من المانع الشرعي هو التكليف المزاحم لوجوب الحج الذي يكون مقدما على الحج في مقام المزاحمة.

__________________

(١) مع قطع النظر عن كونها فورية ، فان فوريتها توجب عليه تقديمها لاعتقاده سعة الوقت. والأولى أن يمثّل لذلك بما لو اعتقد كفاية ما عنده من الماء لطهارته ولمن يخاف عليه العطش ، فتوضأ ثم تبين أنه لا يكفي [ منه قدس‌سره ].

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٢١ / ضمن المسألة ٦٥.

٢٠٦

والمستفاد من ذلك هو أن المشروط بالقدرة الشرعية ، كالمشروط بالقدرة العقلية في توقف سقوطه بالمزاحمة على العلم بذلك التكليف المزاحم ، بحيث إنه لو لم يكن عالما بذلك التكليف لا يكون ذلك التكليف المجهول مزاحما لما بيده من التكليف المشروط بالقدرة الشرعية ، كما هو الحال في المشروط بالقدرة العقلية ، وحينئذ يكون الجهل بذلك التكليف الواقعي رافعا للمزاحمة ، بمعنى أنه لا يكون موجبا لسلب القدرة على ما بيده من التكليف ، فيكون ذلك على خلاف ما يستفاد من حكمهم ببطلان الوضوء عند الجهل بالضيق من أن ذلك الجهل لا يرفع المزاحمة ، ويكون التكليف المعلوم المتعلق بايقاع الصلاة في الوقت مزاحما للتكليف بالطهارة المائية وإن كان جاهلا بمزاحمتها لايقاع الصلاة في الوقت لتخيله سعة الوقت لهما ، إلاّ أن يكون المنشأ في الحكم ببطلان الوضوء في الصورة المزبورة هو الأدلة الخاصة مثل حسنة زرارة المتقدمة (١) ، فتأمل.

قوله : فيقدّم فيه ما كان الاشتراط فيه عقليا فانه قابل لأن يكون رافعا لشرط الآخر ومعجّزا ... الخ (٢).

ويمكن تقريب الحكومة بنحو آخر وهو أن يقال : إن كون أحد التكليفين سالبا للقدرة على الآخر إنما هو بخطابه المقتضي لانشغال المكلف فيه لا بملاكه ، ومن الواضح أن مرتبة الملاك مقدمة على مرتبة الخطاب ، وحينئذ لو كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا دون الآخر كان الآخر رافعا لملاك الأوّل ، من دون أن يكون ذلك الأول قابلا لأن يرفع الخطاب بالثاني ، لأن المفروض أن الثاني قد رفع ملاك الأوّل قبل أن يصل

__________________

(١) في صفحة : ١٨٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٠٧

هو ـ أعني الأوّل ـ إلى مرتبة الخطاب به التي بها يكون هو ـ أعني الأوّل ـ رافعا للخطاب بالثاني ، فكان الثاني رافعا للأول قبل أن يصل إلى الدرجة التي يمكن فيها أن يكون رافعا للثاني ، فلا يعقل أن يكون الأوّل صالحا لرفع الخطاب بالثاني ، لأنه أعني الثاني قد رفعه قبل أن يصل إلى درجة إمكان رفعه به ، فتأمل.

قوله : ولا يفرق في هذا القسم بين تقدم الوجوب غير المشروط شرعا على المشروط أو تأخره عنه زمانا ... إلخ (١).

كما أنه لا مورد فيه للترجيح بالأهمية ، لكن صرح في العروة بالترجيح بالتقدم الزماني وبالأهمية ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس‌سره شيئا ، فقال في مسألة ٦٤ من كتاب الحج ما هذا لفظه :

إذا استلزم الذهاب إلى الحج تلف مال له في بلده معتد به لم يجب ، وكذا إذا كان هناك مانع شرعي من استلزامه ترك واجب فوري سابق على حصول الاستطاعة أو لاحق مع كونه أهم من الحج ، كانقاذ غريق أو حريق الخ (٢) فجعل ملاك تقديم ما هو مشروط بالقدرة العقلية على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية منحصرا بأحد أمرين ، التقدم الزماني وإن لم يكن أهم ، أو الأهمية وإن لم يكن تقدم زماني ، فيستفاد منه أن ما هو مشروط بالقدرة العقلية لو لم يكن أهم ، ولم يكن متقدما زمانا ، لم يكن مجرد كونه مشروطا بالقدرة العقلية موجبا لتقدمه على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية. وبنحو ذلك صرح في مسألة ٣١ (٣) فراجعه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٣٩٣.

٢٠٨

وراجع ما أفاده في العروة أيضا في مسألة ٦٦ : إذا حج مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب محرم لم يجزه عن حجة الاسلام وان اجتمع سائر الشرائط ، لا لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ـ إلى قوله : ـ بل لأن الأمر مشروط بعدم المانع ، ووجوب ذلك الواجب مانع الخ (١).

وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، لما سيأتي (٢) في شرح الاستطاعة من شمولها لما إذا لم يكن في البين تكليف شرعي مزاحم للحج ، سواء كان توجهه سابقا على الاستطاعة أو كان متأخرا عنها. نعم في خصوص الواجب أو الحرام الذي يضطر إلى مخالفته في الطريق مثل أكل النجس كلام سيأتي إن شاء الله تعالى (٣) ، وقد تعرض له في العروة وحاشيتها في مسألة ٦٩ (٤).

والحاصل : أن أضعف التكاليف ملاكا مما هو مشروط بالقدرة العقلية يكون مقدّما على ما هو أقواها ملاكا مما هو مشروط بالقدرة الشرعية ويكون الأوّل رافعا لموضوع الثاني ، وبذلك يكون مسقطا له خطابا وملاكا وإن كان زمان توجهه متاخرا عن زمان توجه الثاني ، والسر في ذلك أن الشارع بعد أن أخذ القدرة شرطا في توجه الثاني على وجه كانت معتبرة فيه خطابا وملاكا ، وحينئذ لو توجه إلى المكلف تكليف من النحو الأوّل يكون ذلك المكلف في عالم التشريع غير قادر على امتثال الثاني ، فهو بنظر الشارع مسلوب القدرة على الثاني ، ومع كونه بنظره مسلوب القدرة على

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٢٧ ـ ٤٢٩.

(٢) في صفحة : ٢١٤ ـ ٢١٦.

(٣) في صفحة : ٢١٩ وما بعدها.

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٣٢.

٢٠٩

الثاني يكون ذلك التكليف الثاني غير متوجه إلى ذلك المكلف ، لعدم تحقق شرطه في عالم التشريع في حق ذلك المكلف ، ولأجل [ ذلك ](١) نقول إنه لا يتأتى فيه الترتب ، لأن شرط الترتب إحراز الملاك ، ومع وجود التكليف الأوّل يكون الثاني ساقطا خطابا وملاكا.

لا يقال : لا ريب في توقف صحة الخطاب على القدرة ، وقلتم إن الخطاب بالمهم المشروط بالقدرة العقلية يصح توجهه على تقدير عصيان الأهم ، فيكون المهم على تقدير عصيان الأهم مقدورا ، ويصح الخطاب به حينئذ على هذا التقدير أعني تقدير عصيان الأهم ، فإذا صححتم الخطاب بالمهم في فرض عصيان الأهم لأجل أنه مقدور على هذا التقدير ، فلم لم تصححوا الأمر بما هو مشروط بالقدرة الشرعية على تقدير عصيان ذلك المشروط بالقدرة العقلية ، ويكون ذلك المقدار من القدرة المصححة للخطاب بالمهم المشروط بالقدرة العقلية مصححا للتكليف بما هو مشروط بالقدرة الشرعية على تقدير عصيان ما كان مقدما عليه مما هو مشروط بالقدرة العقلية.

لأنا نقول : إن الفرق بين البابين واضح ، فان القدرة المصححة للخطاب فيما هو مشروط بالقدرة العقلية يكفي فيها رفع استقباح الخطاب بما هو غير مقدور ، وتقدير عصيان الأهم كاف في رفع ذلك القبح ، بخلاف القدرة المصححة للملاك فيما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فان توجه التكليف به يتوقف على كونه مقدورا للمكلف في عالم التشريع ، بحيث إن الفعل يكون مقدورا بنظر الشارع ، ومع بقاء الأمر الأوّل لا يكون ذلك الفعل

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٢١٠

مقدورا بنظر الشارع. ومجرد أخذ عصيان الأوّل فيه لا يجعله مقدورا بنظر الشارع وإن كان أخذ ذلك العصيان مصححا للخطاب ، لأن مجرد صحة الخطاب وارتفاع قبحه لا يلازم كونه مقدورا بنظر الشارع كي يكون مصححا لتوجه التكليف الذي أخذت القدرة فيه شرعا ، المتوقف على كونه مقدورا بنظر الشارع ، فتأمل.

والحاصل : أنّ الموجب للقبح هو التدافع بين الأمرين ، وأخذ العصيان في الثاني رافع لذلك التدافع ، بخلاف ما يكون مشروطا شرعا بالقدرة ، فان سقوطه عند التدافع لأجل أن الأوّل رافع لموضوعه الذي هو القدرة بنظر الشارع ، وهذا الارتفاع منوط ببقاء الأمر الأوّل ، ومن الواضح أن مجرد عصيان الأوّل لا يوجب ارتفاعه كي يكون ذلك محققا للقدرة على الثاني بنظر الشارع ، وحيث كان الأمر الأوّل باقيا في ظرف عصيانه يكون استلزامه لعدم القدرة على الثاني باقيا بحاله ، فلا يكون شرطه الشرعي الذي هو القدرة متحققا حينئذ ، وبناء على ذلك يكون الأمر الثاني باقيا على ما هو عليه من كونه ساقطا خطابا وملاكا في ظرف عصيان الأوّل.

وإن شئت فقل : إن قولنا بصحة الترتب في المشروط بالقدرة العقلية ليس من جهة أن عصيان الأهم يوجب تحقق القدرة على المهم ، وكيف يكون محققا للقدرة على المهم مع فرض أن عصيان الأهم لم يكن مسقطا للأمر بالأهم الذي هو الموجب لسلب القدرة على المهم ، بل إنما قلنا بصحته من جهة أن عدم القدرة لا يرفع الملاك ، فلم يبق إلاّ إشكال التدافع بين الأمرين وعدم إمكان الجمع بين إطلاقيهما ، فكان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم دافعا للمحذور المذكور أعني المطاردة والمدافعة بين الأمرين ، ومن الواضح أن ذلك كله إنما يتم فيما هو مشروط بالقدرة

٢١١

العقلية ، أما ما هو مشروط بالقدرة الشرعية فان المانع فيه هو ارتفاع ملاكه عند الأمر بالأهم ، ومن الواضح أن التعليق على عصيانه لا يوجب سقوط الأمر بالأهم كي يكون محققا للقدرة على المهم كي يكون محققا لملاكه.

والخلاصة : أن عصيان الأهم لا يولّد القدرة على المهم على وجه يجعله مقدورا في نظر الشارع وإن كان مقدورا في نظر العقل ، وإنما أقصى ما في ذلك أن التعليق عليه يوجب رفع قبح الخطاب بالمهم ، لأن ملاك صحة الخطاب به إنما هو راجع إلى العقل ، والمفروض أنه مقدور في نظر العقل ، وقبح المطاردة مندفع بالتعليق على العصيان ، وهذا إنما يؤثر في المشروط بالقدرة العقلية ، أما المشروط بالقدرة الشرعية فالخطاب به يتوقف على كونه مقدورا بنظر الشارع ، لأنه هو الحاكم بالتقييد بالقدرة فلا بدّ فيه من كون المكلف به مقدورا في نظره ، والعصيان لا يجعله مقدورا في نظره.

وسرّ الفرق بينهما راجع إلى ما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب من أن المزاحم بمجرد توجهه يكون رافعا للقدرة على المشروط بالقدرة الشرعية ، بخلاف المشروط بالقدرة العقلية فانه إنما يرفع القدرة بامتثاله ، وأن عدم امتثال الأمر بالأهم لا يولّد القدرة الشرعية على امتثال المهم على وجه لو كان مشروطا شرعا بالقدرة لكان ذلك كافيا فيه ، لما عرفت من أنه مع بقاء الأمر بالأهم لا يكون في نظر الشارع قادرا ، وأن أقصى ما يولّده عدم امتثال الأمر بالأهم هو القدرة العقلية على امتثال المهم المصححة للخطاب به في حكم العقل ، فراجع ما حررناه

__________________

(١) في الصفحة : ٣٠٠ وما بعدها.

٢١٢

في مقدمات الترتب.

تتميم لا بأس به : وهو أنه قد يناقش في خصوص الطهارة المائية بأنها لو كانت مشروطة بالقدرة شرعا بحيث كانت القدرة دخيلة في وجوبها خطابا وملاكا ، لكان حالها حال الاستطاعة في الحج ، ومن الواضح أنه لا يجب تحصيل الاستطاعة بقبول الهبة أو الاستيهاب ، مع وجوب قبول الماء أو استيهابه إذا لم يكن موجبا للوهن المنتهى إلى الضرر ، بل صرح بعضهم بوجوب التكسب لتحصيل الماء (١) ، ولا أقل من الفرق بينهما فيما هو معلوم من جهة لزوم طلب الماء بالضرب في الأرض ، ومن الواضح أنه لا يجري مثله في باب استطاعة الحج.

ويمكن الجواب عن خصوص الطلب في الأرض بأنه على خلاف القاعدة ، للنص (٢) الذي لا بدّ من توجيهه بأنه من قبيل متمم الجعل الكاشف عن أن ملاك الطهارة المائية يقتضي هذا المقدار من لزوم الطلب ، وأما بالنسبة إلى الكسب والاستيهاب وقبول الهبة فيمكن دعوى لزومه من باب متمم الجعل أيضا ، بدعوى استفادة ذلك من نصوص الضرب في الأرض.

والأولى أن يقال في الجواب عن لزوم مثل ذلك في القدرة على الماء دون استطاعة الحج : إن الشرط هو القدرة على الماء ، وهي حاصلة لمن يقدر على تحصيله بالكسب أو الاستيهاب أو قبول الهبة ، بخلاف

__________________

(١) قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره [ في مصباح الفقيه ( الطهارة ) ٦ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ] : ولو وهبه واهب وكان في قبولها منة يشق على الطباع تحملها لم يجب كما صرح به غير واحد وإلاّ يجب ، بل ربما يجب الاستيهاب عند ابتذال الماء واستغناء المالك عنه ، كما أنه يجب تحصيله بسائر أنحاء الاكتساب ما لم يترتب عليه ضرر أو مشقة رافعة للتكليف ، وهذا مما يختلف بحسب الموارد والاشخاص كما لا يخفى [ منه قدس‌سره ].

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمم ب ١.

٢١٣

الاستطاعة فانها مفسرة بملك الزاد والراحلة ، وهي غير حاصلة لمن كان قادرا على ملكهما بالكسب ونحوه.

لا يقال : بعد فرض تفسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة فمن أين جاء اشتراط القدرة حتى جعلتم الحج من المشروط بالقدرة الشرعية.

لأنّا نقول : إن التفسير بهما لا يدل على الحصر ، مع أن في بعض الروايات الصحيحة (١) إضافة صحة البدن وتخلية السرب ، فيمكن أن يجعل المستند في كونه مشروطا بالقدرة الشرعية وأن التكليف الالزامي المشروط بالقدرة العقلية رافع له بما اشتملت عليه هذه الروايات من تخلية السرب فان ظاهرها وإن كان هو الأمن في الطريق إلاّ أنه بدوي ، يمكن التوسع فيه بارادة عدم المانع حتى من جانب التكاليف الشرعية. وليس ذلك ببعيد فتأمل.

أو يقال : إن أوّل ما يعتبر في تحقق مفهوم الاستطاعة هو القدرة ولكن لمّا كانت الاستطاعة التي علّق الحكم على وجودها أضيق دائرة من القدرة المطلقة ، تعرضت الروايات لبيان الشروط الاخرى التي تحتاج إلى بيان ، مثل ملك الزاد والراحلة ومثل تخلية السرب ومثل الصحة من المرض ونحو ذلك من الشروط التي لو لم تتعرض لها الروايات المفسرة وتبين لنا اعتبارها في الاستطاعة ، لحكمنا بعدم اعتبارها وقلنا بوجوب الحج بمجرد القدرة ولو بالمشي والتسكع ، كما هو مذهب بعض العامة وهو مالك (٢) على ما حكي عنه ، فيكون المتحصل من مجموع ظاهر الآية الشريفة (٣) وما ورد

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٨ ح ٤ ، ٧.

(٢) راجع بداية المجتهد ١ : ٣١٩ ، المغني ٣ : ١٦٨ ، لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٦٣٤.

(٣) آل عمران ٣ : ٩٧.

٢١٤

في تفسيرها بما ذكر هو اعتبار القدرة واعتبار أمر آخر فوق القدرة وهو ملك الزاد والراحلة ، والروايات تعرضت للثاني لاحتياجه إلى بيان دخوله في قيد الاستطاعة ، بخلاف الأوّل فان مجرد القدرة لا محل للتشكيك في اعتبارها في وجوب الحج بعد قوله : ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) لأن ذلك أوّل درجات الاستطاعة.

ولعل هذا الوجه أولى مما في الحدائق (٢) من حمل الروايات المزبورة المقيدة بخصوص ملك الزاد والراحلة على التقية لأنه مذهب جمهور العامة (٣) ، وبذلك رجح الأخبار الدالة على تفسير الاستطاعة بالأعم من الزاد والراحلة على الأخبار المزبورة ، فراجع وتأمل.

وان شئت فراجع المستند (٤) فانه تعرض للأخبار المشتملة على الزاد والراحلة ، وليس جلها بلسان التفسير ، بل جلها أو كلها بلسان أنه إن ملكهما فهو ممن يستطيع الحج ، ومن الواضح أنه لا دلالة في هذا اللسان على الحصر ، بل أقصى ما فيه أن مالكهما من جملة من يستطيع الحج بمعنى أنه لا يعتبر فيه أزيد من ملكهما ، لا أنه لا يعتبر فيه مطلق القدرة ، بل في صحيحة الحلبي « إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره الله فيه ، فقد ترك شريعة من شرائع الاسلام » (٥) وتكاد تكون هذه الصحيحة صريحة في اعتبار القدرة ، وأنه إذا كان تركه لشغل يعذره الله

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الحدائق الناضرة ١٤ : ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) بدائع الصنائع ٢ : ١٢٢ ، المغني ٣ : ١٦٩ ، لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٦٣٣ وما بعدها.

(٤) مستند الشيعة ١١ : ٢٧ وما بعدها.

(٥) وسائل الشيعة ١١ : ٢٦ / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٦ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

٢١٥

فيه لم يكن الحج واجبا عليه. ومن الواضح أن من جملة الأشغال المحققة للمعذورية الاشتغال بأداء واجب شرعي ، فان ذلك من أهم الأشغال التي توجب العذر عند الشارع ، لما حققناه (١) من أن الأمر الايجابي تعجيز مولوي ، فراجع تمام ما أفاده في المستند في الجواب عن شبهة الاختصاص بملكية الزاد والراحلة ، ويتضح لك حينئذ أن اعتبارهما لا دخل له بما نحن فيه من اعتبار القدرة شرعا.

تنبيه : ذكر السيد قدس‌سره في العروة : أن غير المحترم الذي لا يجب قتله بل يجوز كالكلب العقور والخنزير والذئب ونحوها لا يوجبه ، وإن كان الظاهر جوازه (٢).

وقال شيخنا قدس‌سره في الحاشية على ذلك : جوازه في الأمثلة الثلاثة ونحوها مشكل ، نعم في غير المؤذي من الحيوان غير المحترم لا يبعد جوازه (٣).

ثم قال السيد قدس‌سره : وفي الثانية ( يعني الصورة التي نقلناها ) يجوز (٤) ، وقال شيخنا قدس‌سره في الحاشية : ما لا يبعد جوازه هو إعدام الماء بصرفه على ذلك الحيوان ، فينتقل التكليف إلى التيمم ، أما التخيير بين الطهارتين مع التمكن من الماء عقلا وشرعا فقد تقدم أنه لا يبعد القطع بعدمه (٥).

قلت : لكن جواز صرف الماء على ذلك الحيوان في الصورة المفروضة وإخراج المكلف نفسه من الواجد إلى الفاقد يحتاج إلى دليل والظاهر أنه ليس في البين ما يصلح لذلك سوى بعض الاطلاقات (٦) وهي

__________________

(١) راجع ما ذكره قدس‌سره في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب ، الصفحة : ٣٠٠ وما بعدها.

(٢ و ٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٧٦.

(٤ و ٥) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٧٧.

(٦) وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٨ / أبواب التيمم ب ٢٥.

٢١٦

واردة في حفظ الماء لخوف العطش لا في جواز صرفه.

والحاصل : أنه كما قلنا إنه لا يبعد القطع بعدم التخيير بين الطهارتين نقول إنه لا يبعد القطع بعدم جواز صرف ذلك الماء الموجود ، فان وجوب الوضوء إن كان متوجها إليه في ذلك الحال كان مقتضاه هو صرف ذلك الماء في الوضوء ، ومقتضى لزوم صرفه فيه عدم سلطنته على صرفه في غيره ، فلا يبعد القطع بعدم اجتماع وجوب الوضوء وجواز صرف ذلك الماء في غيره ، إلاّ إذا قام دليل قطعي يدل على جواز صرفه في ذلك الغير فان ذلك الدليل يكون محصله هو جواز إخراج نفسه من موضوع الواجد إلى موضوع الفاقد. والحاصل : أن جواز صرف ذلك الماء على ذلك الحيوان المفروض أن حفظه غير واجب ، وأنه لا ضرر ولا حرج على المكلف في عطبه وتلفه ، لا يكون إلاّ من قبيل جواز إراقة الماء في ظرف تحقق وجوب الوضوء ، فراجع وتأمل.

استطراد : ربما يقال إن المدار في مسألة ضيق الوقت على الخوف الوجداني ، كما لو ادعي استفادة ذلك من صحيحة زرارة المتقدمة (١) ، وحينئذ لو شك في سعة الوقت وبقائه على وجه يسع الطهارة المائية والصلاة لم يكن استصحاب بقاء الوقت نافعا ، لأنّ أقصى ما فيه هو الحكومة على ما يكون موضوعه الشك والاحتمال ، لا على ما يكون موضوعه الخوف الوجداني الملازم للاحتمال إلاّ على تقدير الأصل المثبت ، بل لو قلنا بحجية الأصل المثبت لم يكن نافعا ، لأن أقصى ما فيه هو الحكم بنفي ذلك اللازم تعبدا ، والمفروض فيما نحن فيه أن ذلك اللازم وهو الخوف موجود وجدانا فلا يعقل التعبد بعدمه.

__________________

(١) في صفحة : ١٨٧.

٢١٧

ومنه يظهر لك أنه لو قامت بيّنة على بقاء الوقت لم تكن نافعة ، لأن أقصى ما فيها هو أن قيام البينة يوجب زوال الشك والاحتمال تعبدا وأنها حجة في نفي لازم الشك تعبدا ، وأقصى ما فيها أن تكون قائمة على عدم الخوف ، فانها لا تنفع مع فرض وجود الخوف وجدانا ، إلاّ أن يكون مرجع ذلك إلى تنزيل هذا الخوف منزلة عدمه في عدم ترتب الأثر عليه. وهذا البحث جار في كل ما يكون من الأحكام الشرعية موضوعه الخوف ، مثل خوف الضرر ونحوه في حرمة السفر وفي وجوب الافطار.

أما استصحاب الضرر لو جرى فانه أيضا لا ينفع ، لأنه من قبيل الاحراز التعبدي لما هو محرز بالوجدان ، لأن حرمة الصيام حينئذ محققة وجدانا بواسطة الخوف ، فلا يكون إثباتها تعبدا باستصحاب الضرر إلاّ من قبيل الاثبات التعبدي لما هو محرز وجدانا ، فتأمل.

ثم إنه يمكن القول بسقوط استصحاب بقاء الوقت فيما تقدم في مسألة الوضوء حتى مع قطع النظر عن كون الموضوع هو الخوف ، بل كان الموضوع لسقوط الوضوء ووجوب التيمم هو ضيق الوقت واقعا ، وذلك بدعوى أن مفاد الصحيحة المشار إليها هو وجوب التيمم في مورد احتمال الضيق ، وهو غالبا مقرون باستصحاب بقاء الوقت ، فيكون ذلك دالاّ على عدم اعتناء الشارع بالاستصحاب المذكور ، ويكون ذلك مثل تقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب في موردها ، باعتبار كون موردها مقرونا غالبا باستصحاب عدم الاتيان بما شك من الأجزاء ، فلاحظ وتأمل ، وراجع العروة (١) وحواشيها في هذه المسألة أعني مسألة التيمم في مورد احتمال

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٨٤ / مسألة ٢٧.

٢١٨

عدم سعة الوقت ، وراجع ما حررناه (١) هناك ، وأهم ذلك هو ضم مرسلة العامري إلى صحيحة زرارة (٢) في لزوم التيمم عند خوف فوت الصلاة بفوات وقتها ، وهذه المرسلة ذكرها في الوسائل (٣) في باب انتقاض التيمم بوجدان الماء ، كما أن صاحب الجواهر (٤) ذكرها أيضا في ذلك الباب فراجع.

قوله : وأما القسم الثاني فيقدّم ما كان بحسب الزمان متقدّما على الآخر في الفعلية والانطباق ... إلخ (٥).

لعل من هذا القبيل ما هو مسلّم من أنه لو علم أنه لا يتمكن من الطهارة المائية في طريقه إلى الحج لا يكون ذلك موجبا لسقوط الحج ويمكن أن يعلل الحكم المذكور بأن مجرد العلم بفوات الطهارة المائية والانتقال إلى الترابية لا يكون مانعا من السفر المباح فضلا عن الواجب ، فلا يكون ذلك رافعا للقدرة على الحج. ولعل الطريقة الثانية أولى وأنفع وحاصله : أن هذه الفروع مبنية على جواز السفر لمن علم أنه في سفره يضطر إلى ما يجوز ارتكابه عند الاضطرار ، مثل الاخلال بالصلاة أو ارتكاب أكل النجس ونحوهما ، وعلى هذا الاساس يبتني ما أفاده قدس‌سره من الاشكال في الحاشية على ما في العروة في مسألة انحصار الطريق بالبحر وكان مستلزما لمثل هذه الامور.

قال في العروة مسألة ٦٩ : لو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه إلاّ مع خوف الغرق أو المرض خوفا عقلائيا ، أو استلزامه الاخلال بصلاته

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٣٦٦ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٣٧٧ / أبواب التيمم ب ١٩ ح ٢.

(٤) جواهر الكلام ٥ : ٢٣٧.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٣٦ ـ ٣٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢١٩

أو إيجابه لأكل النجس أو شربه. ولو حج مع هذا صح حجه ، لأنّ ذلك في المقدمة وهي المشي إلى الميقات ، كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات (١).

وعلّق شيخنا حاشية على قوله : لأكل النجس ، هذا نصها : سقوط الحج وحرمة ركوب البحر باستلزامه للامور الأخيرة لا يخلو عن إشكال (٢).

وقد يقال : إن ما أفاده في المتن مخالف لمسلكه من الترجيح بالتقدم الزماني ، حيث إن التكليف بالحج سابق على التكليف بهذه الامور ، كما أن إشكال شيخنا قدس‌سره في الحاشية مخالف لمسلكه من تقديم ما هو مشروط بالقدرة العقلية على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فانه بناء على ذلك ينبغي أن يقال بتقدم هذه التكاليف على الحج ، لأنها مشروطة بالقدرة العقلية وهو مشروط بالقدرة الشرعية.

والجواب : أن مثل هذه المسألة خارج عن كل واحد مما أفاداه ، بل إن هذه المسألة داخلة في أن طروّ الاضطرار في الطريق إلى شرب النجس أو الاخلال بشيء من أجزاء الصلاة أو شرائطها ، هل يكون العلم بطروّه موجبا لحرمة السفر لو كان الطريق منحصرا ، والظاهر أنه لا مانع منه لدخوله في جواز تعجيز الانسان نفسه عن التكليف قبل حدوث زمانه المشروط به (٣) ، وحينئذ لا يكون مسقطا للاستطاعة.

ولعل الوجه في هذه الحاشية هو استفادة فقهية ، من جهة أن طروّ مثل هذه الامور مما لا ينفك عنه السفر غالبا ، فلو منعناه لأجلها لم يكن السفر مشروعا أصلا ، ولا نسدّ باب الحج وباب الاستطاعة بالمرة.

وهذا الوجه ( أعني جواز السفر لمن علم أن سفره يوجب الاخلال

__________________

(١ و ٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٤ : ٤٣٢.

(٣) [ في الأصل : المشروط هو ، والصحيح ما أثبتناه ].

٢٢٠