أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

النحو الثاني : ما تكون مدخليته بمنزلة الرتق ، بأن يكون رتق الصلاة الواجبة عند الآية مثلا متوقفا على كونها إلى القبلة أو كونها مع الطهارة أو كونها في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني ، ونحو ذلك من القيود التي يكون بعضها داخلا في الاختيار وبعضها خارجا عن الاختيار ، ويعبّر عن هذا النحو بكونه شرط الواجب وبكونه من متعلقات الفعل الواجب ، مثل صلّ متطهرا أو إلى القبلة أو في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني ، إلى غير ذلك من أنحاء متعلقات الفعل ، وكلها تكون واقعة تحت الطلب والايجاب ، فما كان منها اختياريا كان واجبا بايجاب الصلاة المقيدة به ، وما كان خارجا عن الاختيار يكون دخيلا في الملاك ، إلاّ أنه لا يتعلق به البعث مع فرض كون الصلاة المقيدة به متصفة بالوجوب.

وهكذا الحال في نفس الصلاة إذا اتفق كونها غير مقدورة ، فانها لا تخرج بواسطة عدم القدرة عليها عن كونها مركبا للوجوب ، وإن لم يتوجه البعث إليها في حال عدم القدرة عليها ، فان هذه المراتب أعني مرتبة البعث والزجر بل واستحقاق العقاب على المخالفة وإن كانت متفرعة عن جعل الوجوب لها ، إلاّ أن حكم العقل بعدم تحققها لا يوجب سقوط أصل وجوبها ولا ينافي بقاء ملاك الرتق فيها ، وهذا ـ أعني أصل وجوبها وكونها مشتملة على ملاك الرتق ـ وإن لم يكن له [ أثر ](١) في صورة عدم القدرة عقلا إلاّ أنه يظهر أثره في صورة عدم القدرة شرعا كما لو زوحمت بما هو الأهم كالازالة ، فان المزاحمة المذكورة وإن أوجبت سلب القدرة عنها إلاّ أن هذه القدرة ليست دخيلة في الملاك لا فتقا ولا رتقا ، فلا يكون انتفاؤها

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١٦١

موجبا لانتفاء الملاك رتقا ولا فتقا ، فلا يكون موجبا لسقوط أصل الوجوب ، ولا لسقوط ملاك الرتق فيها ، فينفتح بذلك باب الاتيان بها بداعي الملاك وليس في البين إلاّ مجرد حكم العقل بعدم باعثية الوجوب وهو لا يوجب سقوط الملاك.

بل لو قلنا بسقوط الوجوب أيضا لعدم اجتماعه مع وجوب ما هو الأهم الذي تكون مزاحمته لوجوبها موجبا لسلب القدرة عليها شرعا ، إلاّ أن ذلك ليس تقييدا شرعيا لايجابها بالقدرة عليها على وجه تكون القدرة شرطا في كونها ذات ملاك ، بل أقصى ما فيه هو سقوط طلبها والبعث إليها ، لما عرفت من أن هذه القدرة ليست دخيلة في الملاك لا فتقا ولا رتقا ، فلا يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء الملاك ، بل تبقى الصلاة على ما هي عليه من الملاك الفتقي والرتقي ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بسقوط البعث حتى لو قلنا بحكم العقل بسقوط الوجوب لم يكن ذلك موجبا لسقوط ملاك الصلاة رتقا ولا فتقا.

لا يقال : لعل القدرة على الصلاة تكون لها المدخلية في كونها راتقة ومع عدم القدرة عليها لا تكون واجدة لملاك الرتق.

لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكانت القدرة عليها دخيلة في ملاك الفتق ، بأن يكون الحاصل أنه إن وقعت الزلزلة وكنت قادرا على الصلاة كانت الصلاة المقدورة سادّة لذلك النقص الحادث ، وهذا المعنى يدفعه إطلاق الأمر بالصلاة وعدم تقييده بالقدرة بمفاد لفظة إن الشرطية ، وأقصى ما قيّد به هو حدوث الزلزلة ، أما مجرد حكم العقل بعدم وجود الأمر في مورد عدم القدرة فليس براجع إلى التقييد في مرحلة الفتق ، أو ما يرجع إليه

١٦٢

من صيرورة الصلاة ذات مصلحة توجب إيجابها ، بل هو تصرف في مقام البعث والمحركية ، لا في مقام العلية للايجاب ليكون عن قصور في الملاك والمصلحة ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما لو علمنا بوجود المصلحة التامة في الفعل ولكن كان هناك مانع يمنع المولى من الايجاب ، بل هو هو بعينه ، لأن فعلية الأمر بالأهم تمنع المولى من طلب مزاحمه الذي هو المهم.

وليس في البين إلاّ أنه ما دامت المزاحمة فلا أمر ولا إيجاب للصلاة لكن انتفاء الأمر ليس لأجل عدم الملاك فيها بل لأجل المزاحمة ، فإذا قلنا بالصحة وعدم توقف العبادية على الأمر واكتفينا بالملاك كانت العبادة صحيحة ، وإن منعنا من ذلك تعلّقنا بالترتب الذي ندعي أنه يدفع المزاحمة الموجبة للتدافع ، ولعل من صحح المسألة بالملاك قد تعلق في ذهنه الترتب فأبرزه بقالب الملاك.

قوله : ثم إنه ربما يورد على ما ذكرناه من تصحيح العبادة بالملاك بأن الأمر بالصلاة مع الأمر بالازالة مثلا بعد امتناع اجتماعهما متعارضان ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات ... إلخ (١).

توضيح الاشكال : هو أن يقال : كما أن بين مثل أكرم العلماء أو أكرم عالما ولا تكرم الفساق ، تعارض العموم من وجه ، فكذلك بين مثل أزل النجاسة وصلّ أيضا هذا التعارض ، غايته أن العموم في الأوّل أفرادي وفي الثاني أحوالي ، حيث إن الثاني من المثال الثاني يدل على وجوب الصلاة بقول مطلق ، سواء وجبت عليك إزالة النجاسة أو لم تجب ، كما أن الأوّل منه يدل على وجوب الازالة وجبت عليه الصلاة أو لم تجب ، ففي مورد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢.

١٦٣

الابتلاء بهما معا يلزم توجه كلا الأمرين ، وهما متنافيان ، فلا بدّ من إسقاط ذلك الاطلاق في أحدهما.

وتوضيح الجواب يتوقف على تمهيد مقدمات :

الاولى : أن بعض التكاليف ما هو مشروط شرعا بالقدرة ، فتكون القدرة دخيلة في ملاكه ، وبعض التكاليف لا يكون مشروطا شرعا بالقدرة ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بعدم إطلاق الخطاب بالبعث لمورد عدم القدرة ، فتكون القدرة شرطا للخطاب لا للملاك بالنحو الذي تقدم شرحه في الحواشي السابقة (١) ولو بمعنى حكم العقل بعدم امتثال ما هو متأخر في مقام التزاحم. وحاصل الفرق هو أن سقوط الاطلاق في الأوّل يكون بحكم الشارع وفي الثاني بحكم العقل.

وبالجملة : أن الموجب لسقوط الاطلاق في مورد عدم القدرة إن كان هو عدم الملاك كان الحاكم به هو الشارع ، وإن كان الموجب لسقوطه هو حكم العقل بقبح خطاب غير القادر أو محاليته كان الحاكم به هو العقل ، ونعبّر عن الأوّل بالمشروط بالقدرة الشرعية وعن الثاني بالمشروط بالقدرة العقلية.

الثانية : أن التعارض إنما يكون في مقام الاثبات والحكاية عن الحكم الشرعي الواقعي المفروض كونه واحدا ، لا في مقام الثبوت ، فان مقام الثبوت لا يعقل فيه التعارض حتى تعارض العموم المطلق فضلا عن التباين والعموم من وجه ، نعم في مقام الثبوت وإن شئت فقل مقام الجعل والتشريع ربما كان للشيء ملاكان أحدهما يقتضي التحريم مثلا والآخر يقتضي الايجاب ، ولكن لا بدّ للشارع من ملاحظة الأهم منهما فيجعل

__________________

(١) راجع الصفحة : ١٥٩ وما بعدها.

١٦٤

الحكم على طبقه ، ويبقى الآخر لغوا لا يستتبع حكما ، فان لم يترجح عنده أحد الملاكين على الآخر حكم بالتخيير أو الاباحة ، ويسمى ذلك بالتزاحم الآمري أعني تزاحم الملاكات في مقام الجعل والتشريع. وعلى أيّ حال لا تكون النتيجة في اجتماع الملاكين في ذلك المقام إلاّ جعل حكم واحد كما لو لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد.

ثم بعد جعل الحكم الواقعي تصل النوبة إلى مقام الاثبات والحكاية فربما كانت رواية تدل على حرمة الشيء واخرى تدل على وجوبه ، وحينئذ قهرا نحن نعلم أنهما معا غير مجتمعين على الصدق والمطابقة للواقع ونحتمل صدق إحداهما ومطابقتها للواقع دون الاخرى ، كما نحتمل عدم مطابقتهما معا للواقع وأن الحكم الواقعي على خلافهما ، و [ في ](١) هذا المقام أعني مقام الحكاية عن الواقع يقع التعارض ، وهو منحصر في ثلاثة أنواع : تعارض التباين ، وتعارض العموم من وجه ، وتعارض العموم والخصوص المطلق ، ومنه تعارض الاطلاق والتقييد.

أما التزاحم فان كلا من الحكمين فيه مفروض المطابقة للواقع ، وإنما يقع التدافع بينهما لأجل اتفاق عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فالتعارض لا يكون إلاّ في مقام التنافي في مقام الحكاية مع فرض وحدة المحكي أعني الحكم الواقعي وعدم تعدده ، واحتمال كون المطابق هو إحدى الحكايتين دون الاخرى ، أو احتمال عدم مطابقتهما مع فرض العلم بعدم صدقهما معا ، والتزاحم إنما يكون بعد فرض صدق كل من الحكمين وأن التدافع بينهما إنما هو في مقام الخروج عن عهدتهما ، لعدم إمكان

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١٦٥

امتثالهما معا وأنه لا بدّ من رفع اليد عن امتثال أحدهما.

المقدمة الثالثة : أن التدافع بين التكليفين تارة يكون لأجل عدم إمكان اجتماعهما وتنافيهما بحسب الذات ، كما في حرمة الفعل وإباحة نفس ذلك الفعل فانهما متنافيان ذاتا ، ولا ربط لهذا التنافي بقدرة المكلف ويلحق به ما انضم إلى هذا التنافي عدم قدرة المكلف على امتثالهما مثل وجوب الشيء وحرمته ، فان عدم قدرة المكلف في مثل ذلك لا أثر له في ذلك التنافي الذاتي بينهما ، إذ لو سوّغنا التكليف بغير المقدور لكان هذا التنافي موجودا بينهما لاستحالة اجتماعهما ، لكونه من قبيل اجتماع النقيضين ، ويكون حالهما من هذه الجهة حال اجتماع حرمة الشيء وإباحته ، ومن ذلك الوجوب المتعلق بالضدين ، فان الأمر بكل منهما محال مع قطع النظر عن قدرة المكلف وعدم قدرته ، وذلك لأن وجوب أحد الضدين مضاد لوجوب الضد الآخر ، فإذا دل دليل على وجوب أحد الضدين مثل بيّض هذا الجسم ، كان معارضا لما يدل على وجوب الضد الآخر مثل قوله : سوّد ذلك الجسم بعينه.

وتارة اخرى يكون التدافع بين التكليفين ناشئا عن مجرد عدم قدرة المكلف على امتثالهما ، مع فرض عدم التناقض والتضاد بين التكليفين ولا بين متعلقيهما ، وذلك كما في مثال أزل النجاسة وصلّ ، فان كل واحد من هذين الوجوبين في حد نفسه لا يدافع الوجوب الآخر ، كما أنه لا مضادة بين متعلقيهما ، وأقصى ما في البين هو الاطلاق المذكور في كل منهما ، أعني قوله أزل النجاسة سواء كانت الصلاة واجبة أو لم تكن وكذلك العكس ، ولا ريب أنه لا تدافع بينهما في صورة عدم وجوب الصلاة مثلا كما أنه لا تدافع بينهما في صورة وجوب الصلاة لو كان الجمع بينهما

١٦٦

مقدورا ، وإنما يقع التدافع بينهما في صورة واحدة وهي صورة عدم القدرة على الجمع بينهما.

وفي هذه الصورة إن حكم الشرع بكون أحدهما مقيدا بالقدرة ارتفع التدافع بينهما ، وكان ما لم يقيده الشارع بالقدرة حاكما على ما قيّده الشارع بها ، وإن حكم بكون كل منهما مقيدا بالقدرة كان المقدم في مقام التدافع هو الأسبق زمانا إن كان سبق زماني ، وإلاّ كان المكلف مخيرا بينهما ، وإن لم يحكم الشارع بشيء من التقييد كان التقييد بها عقليا صرفا وكان من باب التزاحم المأموري ، ولا ربط له بمقام التزاحم الآمري ، ولا بباب التعارض في مقام الاثبات والحكاية.

ومن ذلك كله يظهر لك الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم الفساق ومثل صلّ وأزل النجاسة ، فانه قد ظهر لك أن التدافع في المثال الأوّل لمّا كان راجعا إلى نفس التكليفين وإلى تنافيهما في حدّ نفسهما مع قطع النظر عن قدرة المكلف ، كان ذلك واقعا بينهما في مقام الثبوت ، وحيث إنه يستحيل اجتماعهما على هذه الكيفية في مقام الثبوت والواقع فلا جرم يكون التكاذب بينهما في مقام الحكاية ، فيكونان من قبيل المتعارضين بخلاف الثاني فان التدافع فيه لمّا كان منحصرا في ناحية قدرة المكلف كان الرافع له هو العقل بتقديم ما هو الأهم ، وتقييد الخطاب بالمهم بعدم الاتيان بالأهم إن كان أحدهما أهم ، وإلاّ كان كل منهما بنظر العقل مقيدا بالآخر وهو عبارة عن التخيير العقلي بينهما ، ويكون حالهما في ذلك حال باقي التكاليف المشروطة بالقدرة العقلية في إطلاق التكليف الواقعي وعدم تقييده في اللوح المحفوظ بالقدرة ، فلا يقع بينهما تكاذب في مقام الحكاية عن الواقع لكي يكونا من قبيل التعارض ، بل لا يكون التدافع بينهما إلاّ في مقام

١٦٧

إطلاق الخطاب الراجع إلى مقام التزاحم دون التعارض.

ومنه يظهر لك الفرق بين المثال ومثل صلّ ولا تغصب بناء على الاجتماع من الجهة الاولى استنادا إلى كون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، فان الشخص المجمع في المثال الأوّل يكون مأمورا به من القرن إلى القدم ، كما أنه يكون منهيا عنه كذلك ، وحيث إن ذلك محال في مقام الثبوت كان بينهما تكاذب في مقام الحكاية عن الواقع ، بخلاف المجمع في الصلاة والغصب فانه إنما يكون المأمور به هو ناحية الصلاة منه المعبّر عنه بمقولة الوضع ، والمنهي عنه هو ناحية الغصب منه المعبّر عنه بمقولة الأين ، فلا تلاقي بين الحكمين كي يكونا متنافيين في مقام الثبوت ، وإنما يكون التدافع بينهما في مقام الامتثال من جهة عدم القدرة ، فلا يكونان إلاّ متزاحمين.

فقد تلخص لك : أن الفرق بين التعارض والتزاحم في مورد التدافع والتضاد يكون من وجوه ، وإن شئت فقل : إن المورد في التعارض والمورد في التزاحم يختلف كل منهما عن الآخر من وجوه :

الأوّل : أن مورد التعارض هو التدافع بين نفس الحكمين مع قطع النظر عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، ومورد التزاحم هو التدافع الناشئ عن مجرد عدم القدرة مع فرض إمكان اجتماعهما بنفسهما. وهذا المقدار من الفرق كبروي ربما حصلت المناقشة في بعض صغرياته وإلحاق ما يكون ناشئا عن عدم القدرة بالتدافع الذاتي كما لو كان عدم القدرة دائميا ، وما لا يكون المنشأ فيه هو عدم القدرة بالتزاحم ، كما في مثال الزكاة الآتي ذكره في أقسام التزاحم إن شاء الله تعالى (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٣ ، راجع أيضا الصفحة : ٢٩٠ وما بعدها من هذا المجلّد.

١٦٨

والوجه في إلحاق التكليفين اللذين يكون عدم القدرة على الجمع بينهما دائميا بالتعارض هو لغوية أحدهما ، ولو باعتبار علم الشارع بأن المكلف يحكم عقله بسقوط إطلاقه خطابا أو بسقوط لزوم امتثاله ، ومع العلم بلغوية أحدهما يكون المكلف عالما بأن الروايتين اللتين تضمنتاهما غير صادقتين معا ، فيلزمه إجراء أحكام التعارض عليهما.

وهذا بخلاف اتفاق عدم القدرة ولو في التكاليف الانحلالية مثل أنقذ كل غريق وأطفئ كل حريق ، واتفق اجتماع الغريق والحريق مع عدم إمكان الجمع بينهما ، فان كل واحد من هذين وإن كان موردا للوجوب ، وكان عدم إمكان اجتماع وجوبه مع وجوب الآخر دائميا ، إلاّ أنه لا يضر بصدور ذلك التكليف الكلي المتضمن لانقاذ كل غريق وإطفاء كل حريق ، إذ لا يكون ذلك الحكم الكلي لغوا ، وأقصى ما فيه أن بعض أفراده غير مقدور وهو ما اتفق مع الآخر ، وهذا الفرد يحكم العقل بسقوط التكليف فيه خطابا أو بعدم لزوم امتثال الأمر الانحلالي المتعلق به ، إلاّ أن الشارع يمكنه أن يصدر الحكم الكلي وإن كان ساقطا في بعض أفراده خطابا ، ولا يلزمه بيان سقوطه في ذلك الفرد اعتمادا على الحكومة العقلية المذكورة ، بخلاف ما لو كان عدم القدرة في التكليف بتمامه دائميا ، لأن صدوره من الشارع مع فرض حكم العقل بأنه ساقط بتمامه خطابا ، أو بأن العقل حاكم بسقوطه امتثاله بتمامه يكون لغوا صرفا.

وبالجملة : أن حكم العقل بسقوط الحكم الواقعي الكلي في بعض أفراده خطابا أو في مقام الامتثال لا يوجب لغوية ذلك الحكم الكلي للاكتفاء بخروجه عن اللغوية بباقي الأفراد التي هي ليست موردا لذلك الحكم العقلي ، وهذا بخلاف حكم العقل بسقوط تمام ذلك الحكم الواقعي

١٦٩

الكلي ولو من جهة مرحلة الامتثال أو السقوط الخطابي ، فانه يوجب لغوية جعل ذلك الحكم الكلي ، بحيث إن العقل يحكم بأن الصادر من جانب الشارع هو أحد ذينك الحكمين الكليين ، فتكون الرواية المتضمنة لذلك الحكم معارضة للرواية الاخرى المتضمنة للحكم الآخر المفروض دوام عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فتجري عليهما أحكام باب التعارض وإن كان منشأ التدافع بينهما هو عدم قدرة المكلف ، ويكونان بمنزلة الحكمين اللذين يقع التدافع بينهما لذاتهما.

الثاني : أن مورد التدافع التعارضي إنما هو في مقام الإثبات والحكاية عن الحكم الواقعي ، ومورد التدافع التزاحمي إنما يكون في الحكمين الواقعيين المعبر عنه بالتزاحم المأموري.

الثالث : أن مورد التدافع التعارضي حيث إنه يكون مجهول الحكم الواقعي يكون مما يستحسن فيه السؤال من الشارع عن حكمه الواقعي بخلاف مورد التدافع التزاحمي حيث إنه لا يستحسن فيه السؤال من الشارع عن حكمه الواقعي ، حيث إن الشارع في مورد التزاحم المأموري يكون قد فرغ من بيان الحكم الواقعي في كل من المتزاحمين ، وكان الحكم الواقعي فيهما قد وصل إلى المكلف ، وإنما وقع الاشكال فيه من جهة التدافع بينهما في مقام الامتثال ، وذلك المقام ينحصر الرجوع فيه إلى العقل دون الشرع.

الرابع : أن مورد التزاحم يكون متأخرا في الرتبة عن مورد التعارض لما عرفت من أن المرتبة الاولى هي تزاحم الملاكات في مقام التشريع ونعبّر عنه بالتزاحم الآمري ، والرتبة الثانية هي مرتبة الاثبات والحكاية وفي هذه المرتبة يقع التدافع التعارضي ، وبعد الفراغ عن هذه المرتبة يقع التدافع في مقام الامتثال وهو التزاحم المأموري.

١٧٠

وهذه الجهات الأربع من الفرق بينهما كلها إنما تكون باعتبار المورد ، وهو المقام الأوّل الذي أشار إليه بقوله : أما الأوّل فتوضيحه أنه ... الخ (١).

قوله : وأما الثاني فلأن الحاكم بالترجيح والأخذ بذي المزية أو التخيير عند عدمها هو العقل في باب التزاحم والشرع في باب التعارض ، بناء على المختار من حجية الأمارات من باب الطريقية ، إذ مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط وعدم الاعتبار بمزية أحد الدليلين فيكون الحكم بالترجيح أو التخيير من باب التعبد الشرعي ... إلخ (٢).

إن ما أفيد في هذا المقام الثاني لا يخلو من الاجمال ، لما عرفت (٣) من أن تزاحم الملاكات في مقام التشريع الذي عبّرنا عنه بالتزاحم الآمري وإن كان الحاكم فيه هو الشارع ، ولا مجال للحكم العقلي فيه ، إلاّ أنه خارج عما نحن فيه من التدافع التعارضي والتدافع التزاحمي المعبّر عنه بالتزاحم المأموري.

ثم إن الشارع بعد الفراغ عن جعله الحكم الواقعي ووصوله إلى درجة الاثبات والحكاية يقع التدافع التعارضي ، وفي هذه المرحلة ـ أعني مرحلة الاثبات والحكاية عن الحكم الواقعي ـ لو وقع التعارض بأن كانت رواية معتبرة في حد نفسها تدل على أن الحكم الواقعي للفعل الفلاني هو التحريم ، وكانت رواية اخرى تدل على أن حكمه هو الايجاب ، فهذا هو باب التعارض ، فان قلنا بالسببية رجع إلى باب التزاحم ، وإن قلنا بالطريقية فان حكم فيه الشارع بحكم من ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى أو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٣ [ الموجود في النسخة المحشاة مغاير لفظا للنسخة القديمة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) في صفحة : ١٦٤.

١٧١

التخيير بينهما كان هو المتبع ، وإلاّ كان المرجع هو ما يحكم به العقل من التساقط ونحوه مما حرر في محله من أن الأصل في باب تعارض الأمارات هو التساقط أو التخيير.

ثم بعد إصلاح هذا التدافع التعارضي تصل النوبة إلى التدافع الناشئ عن عدم القدرة المعبّر عنه بالتدافع التزاحمي ، فان كان في البين تصرف شرعي في مقام عدم القدرة بأن قيّد أحدهما شرعا بالقدرة كان غير المقيّد بها مقدّما على المقيد ، وإن كان كل منهما مقيدا بها قدّم المقدم زمانا ، وإن لم يكن في البين تقييد بها في أحدهما كان المرجع في ذلك هو ما يحكم به العقل من الجهات العقلية الموجبة للتقديم في هذه المرتبة من التدافع.

وبالجملة : أن الحاكم في باب التعارض يمكن أن يكون هو العقل بالتساقط أو التخيير ، نعم لو حكم الشارع بالترجيح أو التخيير كان حكمه متبعا ، وسقط الحكم العقلي الذي كان مع قطع النظر عن الحكم الشرعي كما أن الحاكم في باب التزاحم إنما يكون هو العقل فيما إذا لم يكن في البين تصرف شرعي ، أما مع التصرف الشرعي بأن أخذ الشارع القدرة في أحدهما شرطا شرعيا كان لازمه هو سقوطه عند مزاحمته لما هو مشروط بالقدرة العقلية.

ولكن لا يخفى الجواب عن هذه الجهات ، فان ما أفاده شيخنا قدس‌سره إنما هو بعد فرض ثبوت الترجيح في البابين يكون الحاكم به في باب التعارض هو الشارع وفي باب التزاحم هو العقل ، وإن كان ذلك الحكم العقلي بواسطة كون أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية.

نعم ، يبقى من الترجيح في باب التعارض ما لم يكن راجعا إلى المرجحات السندية ، بل كان راجعا إلى المرجحات الدلالية ، وهو جميع

١٧٢

موارد الجمع الدلالي ، وهي مرجحات عقلائية ، بل قيل إن اغلب المرجحات السندية المنصوصة عقلائية ، وأن الترجيح الشرعي بها من باب الارشاد إلى المرجح العقلائي. اللهم إلاّ أن يقال : إن ذلك أيضا راجع إلى المرجح الشرعي ، نظرا إلى أن الترجيح بقوة الدلالة ، أو بكون المقدم بالنسبة إلى المقدم عليه من قبيل القرينة وذيها ونحو ذلك من الاصول العقلائية في باب الجمع الدلالي ، كلها راجعة إلى المرجح الشرعي ولو باعتبار إمضاء الشارع لذلك الأصل العقلائي.

وهكذا الحال في المرجحات السندية المدعى كونها عقلائية ، فان القواعد العقلائية ما لم يكن لها إمضاء من جانب الشارع ولو من باب عدم الردع لا اعتبار بها. وكيف كان ، فالأمر سهل في هذه الجهات كلها لوضوحها.

وخلاصة البحث : أن ما أفاده قدس‌سره من الفرق بأن التنافي في مورد التعارض يكون لذات الحكمين وفي مورد التزاحم لاتفاق عدم القدرة على الجمع بينهما يحتاج إلى توضيح ، وهو أن الضدين المأمور بكل منهما تارة يكون التضاد بينهما دائميا واخرى اتفاقيا.

فما كان التضاد بينهما اتفاقيا يتصور على صور ثلاث ، الاولى : أن يكون وجوب كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واخرى : يكون أحدهما مشروطا بذلك دون الآخر ، وثالثة : لا يكون شيء منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، بل تكون القدرة في كل منهما شرطا عقليا.

أما لو كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا دون الآخر كان الثاني حاكما على الأوّل ، فان شئت فسمّه تعارضا ، وهذه الحكومة جمع دلالي كما في الجمع بين دليل حجية الأمارة ودليل حجية الأصل ، فانه عند اجتماعهما في مورد يكون الأوّل حاكما على الثاني ، وإن شئت فسمّه

١٧٣

تزاحما ، وهذا التقديم بحكومة العقل ، إذ لا نزاع في التسمية بعد أن وضح الطريق في رفع التنافي.

وأما لو كان كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا فالمقدّم هو المقدّم زمانا ، ولو تقارنا كان المقام من قبيل التخيير كما هو الشأن في بعض صور التخيير الشرعي ، هذا هو حل رفع التنافي فما شئت فقل في التسمية.

وأما الأخير وهو كون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فقد تقدم أن التنافي بينهما إنما هو في مرتبة البعث والتحريك (١) ، فان كان أحدهما أهم سقط الآخر عن هذه المرتبة ، ولا وجه لسقوطه ملاكا ، بل لا وجه لسقوط أصل التكليف ، وهذا السقوط هو المعبّر عنه بكون الشرط شرطا في الخطاب لا في الملاك.

ولو لم [ يكن ](٢) في البين ما يوجب التقديم تولد التخيير ، ونتيجته هي أن كلا منهما محرّك عند عدم التحرك عن الآخر. وهذه الطريقة لا معدل عنها سواء سميناهما متعارضين أو سميناهما متزاحمين ، وسواء قلنا إن العقل هو الحاكم بها أو فرضنا أن الشارع قد تنازل وحكم بها ، فان حكمه لا يكون إلاّ من قبيل الارشاد إلى ما يحكم به العقل. وعلى أيّ حال أن الشارع في هذا المقام ليس له أن يداوي هذا التدافع بينهما باسقاط المهم خطابا وملاكا ، لأن الدواء إنما هو في مرحلة الداء ، والداء وهو التدافع إنما كان في الاقتضاء والباعثية دون نفس التكليف فضلا عن مرحلة الملاكية. هذا كله فيما لو كان التدافع والتضاد اتفاقيا.

أما لو كان دائميا ، فان لم يكونا مشروطين بالقدرة الشرعية كان

__________________

(١) راجع الصفحة : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

١٧٤

التزاحم آمريا ، فان كان أحدهما في نظر الشارع أهم جعل الحكم على طبقه دون المهم إلاّ مشروطا بعدم القدرة على الأهم أو مشروطا بعصيان الأهم والأوّل خارج عن محل الكلام من كون كل منهما مقدورا في حد نفسه وإنما جاء التدافع من جهة عدم القدرة على الجمع بينهما ، والثاني راجع إلى الترتب. وإن لم يكن أحدهما أهم تولد من ذلك التخيير الشرعي بينهما الذي يكون مرجعه تعين أحدهما عند عدم القدرة على الآخر أو عند عدم امتثاله. وكذلك الحال فيما لو كانا مشروطين بالقدرة الشرعية ، فانه يوجب التخيير الشرعي بينهما. وإن كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر سقط ما هو المشروط بها دون الآخر ، إلاّ إذا فرضنا عدم القدرة على الآخر وكان المشروط مقدورا توجه الأمر بالمشروط بالقدرة الشرعية مقيدا بها وبعدم القدرة على الآخر.

قوله : فان الواجب التخييري بالنسبة إلى خصوص فرده المزاحم لا اقتضاء ، بخلاف الواجب التعييني فان فيه اقتضاء لخصوص الفرد المزاحم لفرض تعينه ، ومعلوم أن ما ليس فيه اقتضاء لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ... إلخ (١).

لا يخفى أن لازم ذلك هو اجتماع الوجوب التخييري مع التعييني لعدم التزاحم بينهما ، بمعنى أنّ توجه الأمر التعييني بالازالة مثلا لا يوجب التخصيص العقلي في خطاب الوجوب التخييري وصرفه خطابا إلى غير مورد المزاحمة ، كي يبقى الفرد المزاحم للواجب التعييني بلا أمر تخييري بل إنه يبقى على ما هو عليه من كونه مشمولا للأمر التخييري خطابا وملاكا لأن نفس الخطاب التخييري بذلك الفرد لعدم كونه اقتضائيا لأنه لا تحتيم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٧٥

فيه لا يزاحم الخطاب بذلك الواجب التعييني ، وحينئذ لا نكون في مثل تزاحم الازالة مع الصلاة محتاجين في تصحيح الصلاة إلى الترتب ، بل بناء على ذلك لا معنى للترتب ، إذ لا يمكن أن يكون الخطاب التخييري بالصلاة مشروطا بعصيان الأمر بالازالة ، بل يكون أمرها التخييري متحققا خطابا في درجة الأمر بالازالة لعدم التنافي بينهما ، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في بعض الحواشي السابقة (١).

وبالجملة : أن هذا الأمر التخييري لعدم كونه اقتضائيا ولعدم اشتماله على التحتم يكون حاله حال الاباحة ، فكما أنا نقول إن الأمر بالازالة لا ينافي إباحة الاشتغال بشغل آخر مثل النوم ونحوه على وجه لا يكون موجبا لخدشة في إباحة النوم ولو في مرحلة الخطاب ، فكذلك ينبغي أن نقول في نسبته إلى الأمر بالصلاة بعد فرض كونه تخييرا لا تحتيم فيه.

اللهم إلاّ أن يقال : إن الأمر التخييري ولو كان غير اقتضائي لا يكون مؤثرا ولو بتلك الدرجة من الطلب التخييري في مقام مزاحمته مع الأمر بالازالة ، فيكون تخييريته وعدم كونه اقتضائيا موجبا لاندحاره عند المزاحمة مع الأمر بالازالة ، لا أن عدم اقتضائيته مصححة للجمع بينه وبين الأمر بالازالة.

وفيه تأمل ، فان شأن الواجب التخييري سواء كان شرعيا أو كان عقليا ما كان يجوز تركه إلى بدله ، سواء كان ذلك ـ أعني الحكم بجواز تركه إلى بدله ـ شرعيا أو كان عقليا ، ومع فرض كونه محكوما ولو بنظر العقل بجواز تركه إلى بدل لا يكون توجهه منافيا ومعاندا لما يكون محكوما بعدم جواز

__________________

(١) في صفحة : ١٤٠ ، ١٤٣.

١٧٦

تركه ، فلا تكون معاندة بين هذا النحو من الوجوب وبين غيره مما لا يكون محكوما بجواز الترك.

إلاّ أن نقول : إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، بأن نقول إن الأمر بالمضيق الذي هو الازالة (١) يستدعي حكم العقل بعدم جواز تركه وذلك موجب لحكم العقل بعدم جواز فعل غيره الذي هو الموسع لأنه ملازم لتركه ، وما حكم العقل بعدم جواز فعله أعني الموسع يكون خارجا عن حيّز الأمر التخييري ، سواء كان التخيير شرعيا أو كان عقليا. لكنك قد عرفت في المباحث السابقة المنع من ذلك ، فلا يكون حكم العقل بعدم جواز ترك المضيق موجبا لحكمه بعدم جواز الفعل الموسع ، فراجع وتأمل ، هذا.

ولكن المسألة بعد محل تأمل وإشكال ، فان العقل مع فرض حكمه بلزوم الاتيان بالازالة لا يعقل أن يحكم بالتخيير بين هذا الفرد من الصلاة المزاحم للازالة وبقية الأفراد غير المزاحمة لها في عرض حكمه بوجوب إطاعة الأمر بالازالة ، ومع فرض عدم إمكان هذا التخيير في نظر العقل لا يمكن صدوره أيضا من جانب الشارع فيما لو فرضنا أن التخيير شرعي لا من جهة لغوية التخيير بين الفرد غير المقدور والفرد المقدور مثل أن يخيّره بين الصلاة مثلا والطيران إلى السماء ، كي يدفع اللغوية فيما نحن فيه بأن في هذا التخيير فائدة ، وهي أنه لو عصى الازالة يكون ذلك الأمر التخييري مصححا لفعل الصلاة كما تضمنه غرر المرحوم الشيخ عبد الكريم قدس‌سره (٢).

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة : لأنه ، حذفناه للمناسبة ].

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

١٧٧

بل لما عرفت من أن العقل يمنع من صحة التخيير المذكور في عرض حكمه بلزوم إطاعة الازالة ، وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نقول إن العقل إنما يصحح هذا التخيير في فرض عصيان المكلف ما حكم به العقل والشرع من لزوم الإتيان بالازالة في ذلك الوقت الخاص ، وذلك عبارة اخرى عن الالتزام بالترتب.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو كان ضد الازالة مباحا كالنوم مثلا فان الأمر بالازالة لمّا كان سالبا للقدرة على النوم يكون موجبا لسقوط إباحته ، بمعنى أنه يوجب سقوط الحكم الشرعي بأنه يجوز لك فعل النوم على حذو سقوط الخطاب الالزامي بالصلاة.

قوله : أحدهما فيما إذا كان أحد الواجبين تخييريا عقليا أو شرعيا مع كون الواجب الآخر تعيينيا ... إلخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : إن ما ليس له بدل مقدّم على ما له البدل في البابين ، ولكن ملاك التقديم فيهما مختلف ، ففي باب التعارض إذا كان مفاد أحد الدليلين العموم الشمولي مثل لا تكرم الفاسق ومفاد الآخر العموم البدلي مثل أكرم عالما ، كان الأوّل مقدّما على الثاني ، لما حققناه (٢) في باب التعارض من حكومة الأوّل على الثاني ، لأن مدرك العموم في الثاني هو الاطلاق وعدم البيان ، والدليل الأوّل صالح لأن يكون بيانا ، سواء كان عمومه الشمولي بالوضع كما في مثل لا تكرم الفسّاق أو بالاطلاق كما في مثل لا تكرم فاسقا. وفي باب التزاحم إذا كان أحد المتزاحمين موسّعا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٩٣ ، فوائد الأصول ٤ : ٧٢٩.

١٧٨

والآخر مضيّقا قدّم الثاني على الأوّل ، لأن الموسع لكونه له البدل لا يزاحم المضيق لكونه لا بدل له. ومورد الأوّل هو كون المجمع مصداقا واحدا لكل من العامين من وجه ، مثل الشخص الواحد الذي يكون مصداقا للعالم والفاسق ، فيتعارض فيه الدليلان. ومورد الثاني هو كون المجمع مصداقين مثل الازالة والصلاة فيتزاحم التكليفان. وسيأتي في هذا التقرير الاشارة إلى ذلك في ص ٢٣٣ (١) إن شاء الله تعالى.

قوله : ثانيهما فيما إذا كان لأحد الواجبين بدل شرعا دون الآخر ، كما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء والأمر بتطهير البدن للصلاة ... الخ (٢).

كأن مجرد جعل البدلية ولو طولية يوجب تأخر ذي البدل عما لا بدل له. ولكن لا يبعد القول بأن منشأ التقديم هو كون ما له بدل طولي لا بدّ أن يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، ولو باعتبار كون بدله مقيدا بعدم القدرة على المبدل منه كما يستفاد ذلك من آية التيمم (٣) كما تقدم تحريره عنه قدس‌سره في ص ٢٢٢ (٤) ، وحينئذ يكون هذا القسم راجعا إلى القسم الآتي وهو تزاحم ما هو مشروط بالقدرة العقلية مع ما هو مشروط بالقدرة الشرعية (٥) ، ولا فرق بينهما إلاّ أن هذا بعد سقوطه خطابا وملاكا بواسطة عدم القدرة يكون الشارع قد قرر له بدلا وهو التيمم ، بخلاف ما سيأتي فان الشارع لم

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٤٨ من الطبعة الحديثة.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٣) النساء ٤ : ٤٣.

(٤) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٦ من الطبعة الحديثة.

(٥) [ في الأصل : بالقدرة العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].

١٧٩

يقرر له بدلا بعد سقوطه خطابا وملاكا بسبب عدم القدرة عليه.

وهذا المقدار من الفرق لا أثر له فيما نحن بصدده من كون المشروط بالقدرة العقلية مقدّما على المشروط بالقدرة الشرعية ، وكأن نظره قدس‌سره إلى أن ما له البدل الطولي وإن كان مشروطا بالقدرة الشرعية ، وكان مقابله المشروط بالقدرة العقلية مقدّما عليه ، فيدخل في القسم الآتي ، إلاّ أن هذا القسم ينفرد فيما لو كان ما ليس له البدل أيضا مشروطا بالقدرة الشرعية فانه وإن كان مساويا لما له البدل الطولي في كون كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، إلاّ أنه لمّا كان الآخر له البدل يكون ما ليس له البدل مقدّما عليه في مقام التزاحم كما سيأتي التصريح بذلك بقوله : والسر فيه ... الخ (١) وجعل مزاحمة الوضوء لبعض قيود الصلاة وأجزائها من ذلك القبيل بناء على أن القيود مشروطة بالقدرة الشرعية.

وفيه : المنع من ذلك ، لأن مجرد جعل البدل عند عدم الامكان لا يوجب كون المبدل منه مشروطا بالقدرة الشرعية. وثانيا : بأن تلك القيود مساوية للوضوء في جعل البدل لها.

والأولى التمثيل لذلك بمزاحمة الوضوء لوجوب الحج لو كان على وجه لا يتيسر له الماء في الطريق ، ولكنه مع ذلك لا يكون تقديم مثل الحج على الوضوء خاليا عن تأمل ، لتساويهما في الرتبة الاولى ، فلا وجه للتقديم ، ويكونان حينئذ داخلين فيما سيأتي (٢) من تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأن الترجيح فيهما ينحصر بالتقدم الزماني ، وغاية ما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦ ـ ٣٧ ، وسيأتي أيضا في كلام المصنف في الصفحة : ٢١٩ من هذا المجلّد.

١٨٠