أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

يوجب عقلا على المكلف أن لا يأتي فعلا بالطبيعة المأمور بها ، مع اعترافه بأنه لو أتى بها في ذلك فهي مصداق للمأمور به.

وقد يقرّب ذلك بأن هذه الحكومة العقلية ليست راجعة إلى القدرة وإنما هي راجعة إلى تصرف في مقام الامتثال ، مع الاعتراف بأن هذا الفرد المأتي به فعلا هو امتثال ، لكنه يلزم بتأخيره ، فهو لا ينكر الفردية ولا الامتثال وإنما يوجب تأخير الامتثال ، ولعل صدر كلام المحقق الثاني راجع إلى ذلك لا إلى دعوى الترتب.

ومن هذا الذي حررناه في وجه عدم المزاحمة بين الموسع والمضيق يظهر لك الجواب عما ربما يشكل عليه بأن عدم المزاحمة إنما هي لأن الموسع ينحصر بما عدا مورد المزاحمة ، فيرجع الأمر حينئذ إلى التقييد ، فانه قد ظهر لك أن الوجه في عدم المزاحمة إنما هو مجرد عدم التحتيم في ناحية الموسع ، وهذه الجهة ـ أعني عدم التحتيم في ناحية الموسع ـ تكون مصححة للحكومة العقلية بلزوم تأخير امتثال الموسع إلى ما بعد امتثال المضيق ، لا أن العقل يتصرف في نفس الأمر بالموسع بحيث إنه يخرج منه الأفراد المزاحمة بالمضيق على وجه يحكم العقل بخروجها عن حيّز الأمر بل إنه مع اعترافه بعدم خروجها عن حيّز الأمر الموسع يقول أخّر امتثال ذلك الأمر الموسع ، هذا.

وربما يقال : إن ما نحن فيه من موارد سلب القدرة شرعا أجنبي عن باب التكليف بغير المقدور ، فان المكلف وإن كان مأمورا فعلا بالمضيق يكون مأمورا بالموسع أيضا ، فلا الأمر بالمضيق تكليف بغير المقدور ولا الأمر بالموسع في حد نفسه تكليف بغير المقدور ، وغير المقدور إنما هو الجمع بينهما ، ومن الواضح أن الأمر بالموسع في وقت المضيق

١٤١

لا يقتضي الجمع بينهما ، وإن كان كل منهما مطلقا بالقياس إلى وجود الآخر وعدمه ، لما عرفت من أنه لا تحتيم فيه ، فهو أعني الأمر بالموسع لا يحتم عليه الجمع بينهما ، بل إن العقل حاكم عليه بلزوم تأخير الموسع والمفروض أن الشارع لم يمنعه من التأخير كي يلزم منه التكليف بالجمع بينهما ، فلو أتى بالموسع في ظرف المزاحمة كان ذلك المحال من قبله لا من قبل الشارع. وحاصل ذلك أن الحكم العقلي بلزوم التأخير لم يكن من قبيل التخصيص لدليل الأمر بالموسع ، بل كان تصرفا منه في كيفية امتثاله ، وهذا بخلاف ما لو كان بعض الأفراد غير مقدور تكوينا ، فان العقل يحكم بخروجه عن مدلول الأمر تخصيصا ، فتأمل.

ثم إنه ربما يورد على الجزء الثاني مما أفاده شيخنا من كون الأمر من قبيل إحداث الداعي ، بأن لازمه عدم توجه الأمر إلى من يعلم الشارع عصيانه ، وأنه لا يكون ذلك الأمر داعيا له على الفعل.

وفيه : ما لا يخفى ، فان المراد من إحداث الداعي ليس هو إحداثه في نفس المكلف فعلا وبالمباشرة ، بل المراد بذلك هو فتح باب الداعي له ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) وهذه الغاية أعني فتح باب الداعي وسلب المعذورية جارية في من يعلم الشارع بعصيانه كما هي جارية في حق من يعلم باطاعته ، بل هي جارية في من يعلم بحصول الداعي له على الفعل من قبل نفسه لا من جهة الأمر ، ولعل جريانها مما يؤيد ما حررناه في التعبدي والتوصلي (٢) من أصالة التعبدية ،

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٤٢.

(٢) عند التعرض لكلام المحقّق الكلباسي قدس‌سره في إشارات الأصول ، راجع المجلّد الأول من هذا الكتاب صفحة : ٤٦٦ وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس‌سره قد ابطل هذا القول فيما بعد. فراجع الصفحة : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ من المجلّد الأول.

١٤٢

وأن الغرض من الأمر هو أن يكون داعيا ، فمن كان داعيه غير الأمر لا يكون ممتثلا ولا آتيا بذلك المأمور به فتأمل. نعم هي لا تجري في حق العاجز غير القادر على الفعل ، لعدم إمكان إحداث الداعي في حقه وسيلة إلى تحريك إرادته وتوجيه قدرته نحو الفعل ، إذ لا قدرة له عليه ، فتأمل.

وحاصل ما ندعيه امور : الأوّل ، أن عدم المقدورية ولو عقلا لا تقتضي تقييد الموسع ، وإنما أقصى ما في ذلك هو تصرف العقل في مقام الامتثال بالحكم بالمعذورية في حال عدم القدرة ولزوم التأخير إلى ما بعد القدرة ، ولعل هذا هو المراد من التقييد الخطابي ، وهو عين الترتب حسبما سيأتي إن شاء الله تعالى (١).

الثاني : أنا لو سلّمنا التقييد في صورة عدم المقدورية عقلا فلا نسلّمه في صورة عدم المقدورية شرعا ولو فيما كان الأمران مضيقين.

الثالث : أنا لو سلّمنا ذلك في المضيقين فلا نسلّمه فيما لو كان أحدهما مضيقا والآخر موسعا ، لما عرفت (٢) من عدم المزاحمة بينهما ، ومن ذلك يعلم أنه لا حاجة في ذلك إلى الترتب ، وإنما يحتاج اليه في المضيقين بعد فرض تقييد المهم بعدم الأهم ، وهو عبارة أخرى عن الترتب ، لكن سيأتي إن شاء الله تعالى في الحاشية على بعض ما في ص ٢٢٧ (٣) ما هو التحقيق في ذلك.

الرابع : أن ما ذكرناه من أن المضيق الموجب لسلب القدرة شرعا

__________________

(١) راجع صفحة : ٣٠٣ ـ ٣٠٦.

(٢) في صفحة : ١٤٠.

(٣) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٣٥ من الطبعة الحديثة وستأتي الحاشية في الصفحة : ١٧٦.

١٤٣

لا يكون مؤثرا على ما يقابله من التكليف الآخر ، فيما لو كان ذلك الآخر غير مشروط شرعا بالقدرة ، أما لو كان كذلك بأن كانت القدرة مأخوذة شرعا فيه بحيث كانت دخيلة فيه خطابا وملاكا ، كان المضيق المفروض كونه غير مشروط شرعا بالقدرة حاكما على ذلك التكليف الآخر لكونه رافعا لموضوعه ، فان الشارع بعد فرض أنه سلب قدرة المكلف بواسطة أمره بالمضيق يكون ذلك المكلف غير قادر في نظره ، فيكون خارجا عن موضوع التكليف الآخر الذي قد أخذ القدرة فيه.

الخامس : أنه لا محصل لكون القدرة شرطا خطابا لا ملاكا إلاّ ما عرفت من عدم التصرف في مفاد الأمر ، وأن حكم العقل مقصور على مقام الامتثال ، وإلاّ فانا بعد أن بنينا على أن الخطابات من قبيل القضايا الحقيقة العامة لجميع المكلفين لا وجه لاخراج غير القادر عن ذلك الخطاب إلاّ بجعل القدرة شرطا شرعا وهو خلاف الفرض ، وحيث إنها لم تكن شرطا شرعيا لم يكن في البين إلاّ حكم العقل بمعذورية الجاهل أو استحالة الطلب في حقه ، وكل منهما لا يقتضي التقييد الشرعي ، وإنما أقصى ما فيه هو التقييد العقلي الذي لا محصل له إلاّ التصرف في المعذورية.

قوله في الكفاية : وعن البهائي قدس‌سره (١) أنه أنكر الثمرة بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الأمر به ، لاحتياج العبادة إلى الأمر ... إلخ (٢).

تقريب إنكار الثمرة بهذا التقريب مرجعه إلى دعوى عدم ترتب الأثر العملي على النزاع في الاقتضاء ، لأنه يكفي في فساد العبادة المأمور بضدها

__________________

(١) زبدة الأصول : ١١٨.

(٢) كفاية الأصول : ١٣٣.

١٤٤

عدم الأمر بها سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، غايته أنه على الأوّل تكون فاسدة من جهتين إحداهما عدم الأمر بها والاخرى وجود النهي عنها وعلى الثاني يتمحض الفساد من جهة عدم الأمر بها ، ولأجل ذلك أورد عليه في الكفاية بمنع توقف صحة العبادة على الأمر ، بل يكفي الرجحان الذاتي أعني الملاك في صحتها ، وحينئذ فلو قلنا بالاقتضاء كانت فاسدة لوجود النهي ، بخلاف ما لو قلنا بعدم الاقتضاء فانها وإن لم تكن مأمورا بها إلاّ أنه يكفي في صحتها الملاك ، وحينئذ تكون الثمرة عملية.

ولكن لا يخفى أنه بناء على ذلك يكون النزاع في وجود الثمرة العملية مبنائيا ، فبناء على الاحتياج إلى الأمر كما هو مبنى البهائي قدس‌سره لا تكون الثمرة عملية ، بخلاف ما لو قلنا بعدم الاحتياج [ إلى ](١) الأمر كما هو مبنى صاحب الكفاية فان الثمرة العملية تكون ظاهرة على هذا القول وكأنه لأجل ذلك عدل شيخنا قدس‌سره (٢) عن تقريب إنكار الثمرة بهذا التقريب بل قرّبه بمطلب آخر وهو عدم الأثر لهذا النهي ، لأنه مولد من الأمر بالمقدمة وهو لا أثر له ، فيكون وجوده مساويا لعدمه في عدم التأثير على العبادة ، وحينئذ يكون الفساد مترتبا على القول بالاحتياج إلى الأمر وعدمه ، فان قلنا بالاحتياج إلى الأمر كانت العبادة فاسدة سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، وإن قلنا بعدم الاحتياج كانت العبادة صحيحة سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، وعليه تكون الثمرة منتفية علميا وعمليا.

أما إشكال المحقق الثاني (٣) على إنكار الثمرة فهو راجع إلى الالتزام

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١ ـ ٢٢.

(٣) راجع جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

١٤٥

بالثمرة لو قلنا بالاحتياج ، فانه بناء على الاقتضاء يكون النهي مانعا عن الأمر فتفسد العبادة ، وبناء على عدم الاقتضاء لا تكون العبادة بلا أمر كي تكون فاسدة ، بل يكفي في صحتها تعلق الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا على نحو السريان ، فان الانطباق يكون قهريا والامتثال وجداني على ما أوضحه شيخنا (١) ، فيصح الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الطبيعة من دون حاجة إلى التمسك بأذيال الملاك.

هذا كله لو قلنا بالاحتياج إلى الأمر ، أما لو قلنا بعدم الاحتياج فان قلنا بعدم الاقتضاء فلا إشكال في صحة العبادة ، ولو قلنا بالاقتضاء فالذي ينبغي هو القول بالفساد استنادا إلى النهي الموجب للتخصيص وخروج تلك العبادة عن دائرة الأمر خطابا وملاكا ، إلاّ أن يدعى أن هذا التخصيص ليس على وتيرة التخصيصات الموجبة للخروج ملاكا ، بل هو ناشئ عن التزاحم غير المنافي لبقاء الملاك ، هذا هو مشرب الكفاية (٢) في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع.

لكن شيخنا قدس‌سره يشكل بأنه بناء على الامتناع يكون التخصيص واقعيا ويكون التزاحم آمريا وتدخل المسألة في باب التعارض ، ومع تقديم جانب النهي يكون التخصيص واقعيا ، والنهي فيما نحن فيه مع غض النظر عن كونه غيريا لا أثر له كما هو المفروض ، يكون حاله حال النهي في مسألة الاجتماع بناء على الامتناع من الجهة الأولى وتقديم جانب النهي ، وبناء على ذلك فالذي ينبغي في تقريب الاشكال على إنكار الثمرة هو الالتزام بترتب الثمرة ، وهي فساد العبادة بناء على الاقتضاء سواء قلنا بالاحتياج إلى

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٥٧ ، ١٧٥.

١٤٦

الأمر أو قلنا بعدم الاحتياج ، وعدم فساد العبادة بناء على عدم الاقتضاء سواء قلنا بالاحتياج أو قلنا بعدمه ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأوّل أعني الاحتياج فلما افيد من أن الانطباق قهري والامتثال وجداني.

ولكن شيخنا قدس‌سره في تقريب ما أفاده المحقق الثاني جعل النظر إلى خصوص ما لو قلنا بالاحتياج ، وسكت عن ترتب الثمرة بنظر المحقق الثاني فيما لو قلنا بعدم الاحتياج ، فلاحظ وتدبر. بل صرح فيما يأتي في توضيح إيراده على المحقق بأنه : إذا بنينا على كفاية الملاك في الصحة فلا بدّ من الالتزام بصحة الفرد المزاحم حتى بناء على كونه منهيا عنه أيضا لما ستعرف في بحث النهي عن العبادة إن شاء الله تعالى من أن النهي المانع من التقرب بالعبادة إنما هو النهي النفسي لا الغيري ، إلخ (١).

وينبغي أن يعلم أن تكليف غير القادر تارة نقول إنه من التكليف بالممتنع فيكون من الظلم ، وأخرى نقول إنه من التكليف الممتنع ، لأن الغرض من التكليف إحداث الداعي ، والداعي لا يعقل حدوثه في حق غير القادر ، فيكون تكليفه حينئذ لغوا ممتنعا من العاقل. والأوّل راجع إلى مسألة العدل وربما لم يمنعه الأشاعرة ، بخلاف الثاني فانه يكون التكليف لغوا لا يصدر من سائر العقلاء ولا يلتزم به أحد حتى الأشاعرة. ومقتضى الأوّل تقييد المأمور به بالمقدور ، ومقتضى الثاني تقييد التكليف بالقدرة ، ولكن لا يترتب أثر من هذه الجهة ، لما حقق في محله (٢) من أن القيود غير الاختيارية وإن كانت راجعة إلى المادة إلاّ أنها بالأخرة يكون الطلب مقيدا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) راجع أجود التقريرات ١ : ١٩٦ ، وحاشية المصنف قدس‌سره في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٩ وما بعدها.

١٤٧

بحصولها ، وكذلك لو أرجعناه إلى الهيئة فان المادة تتقيد به قهرا ، فحينئذ لا محيص عن الالتزام بتقيد كل من المادة والهيئة بالقدرة وخروج غير المقدور عن حيّز الطلب ، فالمبنيان يتعاكسان فان الأوّل يوجب تقييد المادة ابتداء وتقييد الهيئة ثانيا ، والثاني بالعكس ، وبالأخرة هما يشتركان في تقييد كل من المادة والهيئة.

هذه هي خلاصة ما يأتي في محله شرحه إن شاء الله تعالى من كون المسألة من باب التكليف بالممتنع أو من باب التكليف الممتنع.

أما هذا الوجه الأوّل الذي أفاده شيخنا قدس‌سره في مقام الايراد على المحقق قدس‌سره بقوله : وفيه أن ما ذكره قدس‌سره إنما يتم بناء على أن يكون منشأ اعتبار القدرة شرطا للتكليف هو قبح تكليف العاجز الخ ، في قبال الوجه الثاني الذي أفاده بقوله : وأما إذا بنينا على أن اعتبار القدرة إنما هو لاقتضاء نفس التكليف ـ إلى قوله ـ توضيح ذلك : أن الآمر إنما يأمر بشيء ليحرك عضلات العبد نحو الفعل بالارادة ... إلخ (١) فلم أتوفق لفهمه ، فان مقتضى الوجه المقابل للوجه الثاني هو كون القدرة قيدا ابتدائيا في المكلف به حسبما عرفته ، أما هذا الوجه الذي هو مجرد قبح تكليف العاجز على وجه لا يكون راجعا إلى أحد الوجهين المتقدمين ، فمما لم أتوفق لفهم المراد منه ، فلاحظ وتأمل.

وعلى أيّ حال نحن بعد أن قلنا بتعلق الأمر بصرف الطبيعة على نحو يكون المطلوب منها هو صرف الوجود لا الطبيعة السارية ، لم يكن عدم القدرة على بعض أفرادها موجبا لتخصيص المتعلق ، سواء كان المانع من تعلق الطلب بغير المقدور هو قبح تكليف العاجز ، أو كان المانع منه هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣ ـ ٢٤ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٤٨

كون الباعث على الطلب كونه على نحو الداعي لارادة المكلف ، لما قدّمه قدس‌سره (١) من أن عدم القدرة على بعض الأفراد لا يخرج صرف وجود الطبيعة عن كونه مقدورا ، ولو قلنا بأن المطلوب هو الطبيعة على نحو السريان كان عدم القدرة على البعض موجبا لخروجه عن متعلق الأمر ، سواء كان المانع هو قبح تكليف العاجز أو كان المانع هو داعوية الأمر إلى إرادة المكلف.

وإن شئت فقل : إن النزاع مع المحقق الثاني إنما هو في أن عدم القدرة على بعض الأفراد الطولية للطبيعة الناشئ عن الأمر بضدها في ذلك الوقت ، هل يكون موجبا لانثلام في متعلق الأمر أو في الأمر نفسه بواسطة ذلك المقدار من عدم القدرة ، أو أنه لا يؤثر على الأمر بالطبيعة أصلا ولا يوجب اعتبار عدم تلك القدرة في ناحية الأمر ولا في ناحية المأمور [ به ](٢) ، وهذا لا دخل له بكون المانع من الأمر بغير المقدور هو قبح تكليف العاجز أو الداعوية ، إذ بناء على مسلك المحقق المذكور لا يكون في البين عجز ولا عدم قدرة بالنسبة إلى متعلق الأمر ، فلاحظ.

وهذا يؤيد ما شرحناه من أن مراد المحقق قدس‌سره هو بقاء كل من الأمرين بحاله ، وفورية الفوري وإن كانت شرعية وهي قاضية بتأخير الموسع لكن ذلك لا بنحو الاشتراط والتقييد في متعلقه ، بل بنحو التصرف في امتثاله ، مع اعتراف لسان الفورية للفوري بأن ما يؤتى به من الموسع في زمان الفوري مصداق للامتثال ، فهي من هذه الجهة أشبه شيء بالحكومة العقلية بالتأخير بل هي هي بعينها ، لأن فورية هذا شرعا لا تقتضي النهي

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٢ ـ ٢٣ وقد تقدّم نقل كلام المحقّق الثاني قدس‌سره في الحاشية السابقة ، صفحة : ١٣٦ وما بعدها.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

١٤٩

شرعا عن امتثال غيره في وقته ، وإنما أقصى ما في البين هو أن لزوم إطاعة الفورية الحاكم بها العقل قاضية بحكم العقل بالتأخير المذكور ، فان الأمر الشرعي بالفورية وإن اقتضى النهي عن ضدها العام أعني ترك الفورية ، إلاّ أن ترك الفورية ليس هو عين فعل ضده في محله ، بل هو مقارن لذلك الترك فضلا عن كونه ملازما له ، إذ يمكن ترك الفورية بدون فعل ذلك الضد الخاص أعني الموسع ، وبناء عليه يمكن التفرقة بين ما لو كان الموسع في أوّل الوقت غير مقدور وجدانا وما إذا كان مزاحما فيه بواجب مضيق ، ففي الأوّل يلتزم بتقييد الواجب أو الوجوب بما بعد بخلاف الثاني.

والخلاصة : هي أن التكليف بالمضيق لا يوجب عدم القدرة على الموسع وإنما يوجب لزوم تقديم امتثاله على امتثال الموسع ، وحينئذ ينحصر الجواب عما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره بأن متعلق الواجب الموسع وإن كان هو صرف الطبيعة لا الطبيعة السارية ، وفورية الواجب الفوري في حد نفسها وإن لم تكن قاضية بتقييد متعلق الواجب الموسع ، إلاّ أنها بواسطة امتثالها تسلب القدرة عليه ، فتكون قاضية بسقوط إطلاق وجوب الواجب الموسع وشموله لصورة الاتيان بالواجب الفوري ، ولا تكون نتيجة ذلك إلاّ صحة الأمر بالموسع معلّقا على عدم الاتيان بالمضيق ، وهو الترتب الذي يأتي شرحه إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا الذي شرحناه من مسلك المحقق الثاني قدس‌سره يكون حاصله هو أنه قدس‌سره يعترف بكون التكاليف مقيدة بالقدرة ، إلاّ أن التكليف بالمضيق لا يوجب سلب القدرة عن الموسع ، بل أقصى ما فيه أنه يولّد تصرفا في مقام الامتثال بلزوم تقديم المضيق وتأخير الموسع ، مع الاعتراف بكونه امتثالا لو قدّمه ، ولكن أوردنا عليه بأن إطلاق الأمر بالموسع لا يشمل حال

١٥٠

امتثال المضيق ، فقهرا ينحصر الأمر بالموسع بحال عدم امتثال المضيق وهو معنى الترتب.

ولكن لا يخفى أنه ما المانع من القول بأن إطلاق الموسع يشمل حال امتثال المضيق إلاّ أن الأمر بالموسع في حال امتثال المضيق أمر بغير المقدور ، فيكون المانع من الشمول هو عدم القدرة ، فيكون الأمر بالمضيق بواسطة اقتضائه الامتثال سالبا للقدرة على الموسع ، فيعود الأمر حينئذ إلى التقييد بالقدرة ، وهكذا الحال في ذلك الذي ذكرنا أنه تصرف في مقام الامتثال ، إذ لا وجه لذلك التصرف إلاّ كون الموسع غير مقدور في حال امتثال الأمر بالمضيق ، وإلاّ فلا وجه للزوم تأخير الموسع ، وإذا انتهى الأمر بالأخرة إلى أن الأمر بالمضيق بواسطة اقتضائه الامتثال يكون سالبا للقدرة على الموسع ، كان ذلك عبارة اخرى عن الالتزام بأن الأمر بالموسع مقيد بعدم امتثال الأمر بالمضيق ، وأن منشأ هذا التقييد هو عدم القدرة على امتثاله في حال اقتضاء الأمر بالمضيق امتثاله بالاتيان بمتعلقه الذي هو المضيق وحينئذ ينحصر الأمر في تصحيح الموسع في وقت المضيق بالاكتفاء بالملاك أو سلوك طريقة الترتب.

قوله : قلت : إذا كان معروض الطلب مقيدا بالقدرة كما في آية الحج (١) أو الوضوء (٢) ، فلا محالة يكون كاشفا عن أن ما هو واجد للملاك هو المقيد بها أيضا ـ إلى قوله ـ وأما إذا لم يكن المعروض مقيدا بالقدرة ، بل كان عروض الطلب له مقيدا بذلك ... إلخ (٣).

قلت : لا يخفى أن استكشاف الملاك في مورد بعد فرض توقفه على

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٥١

ثبوت التكليف في ذلك المورد المفروض توقفه على ثبوت الاطلاق بالنسبة إلى ذلك المورد ، يكون الطريق إليه منسدا لما حرر من سقوط الاطلاق.

والحاصل : أنه بعد فرض سقوط الاطلاق بالنسبة إلى مورد عدم القدرة لا يمكن استكشاف الملاك في ذلك المورد ، لعدم ثبوت التكليف فيه ، فان ثبوت التكليف فيه منحصر بالاطلاق المفروض سقوطه في المورد المزبور ، وحينئذ ينحصر دفع الاشكال باختلاف الرتبة.

وليس المراد به كما يظهر من صدر هذه العبارة وذيلها أن القيود التي لها الدخل في الملاك تكون لاحقة للمادة ، والقيود التي ليس لها دخل في الملاك تكون لاحقة لعروض الطلب ، وأن مرتبة المعروض سابقة على رتبة عروض العارض له ، فان ذلك بظاهره واضح الفساد ، حيث قد تحقق في مبحث الواجب المشروط (١) أن القيد فيه راجع إلى المادة في مرتبة عروض الطلب عليها ، وأن القيد اللاحق للمادة قبل عروض الطلب عليها إنما هو قيد الواجب لا قيد الوجوب ، ومن الواضح أن ما يكون دخيلا في ملاك الطلب على وجه يكون وجوده بمنزلة السبب في تعلق الطلب بالمادة إنما هو قيد الوجوب لا قيد الواجب.

بل المراد باختلاف الرتبة هو أن قيود الوجوب وشروطه ، سواء كانت دخيلة في الملاك أو لم تكن كالقدرة كلها تكون لاحقة للمادة في مقام عروض الطلب عليها ، لكنها تختلف باعتبار أن منشأ التقييد بها تارة يكون هو عليتها للطلب وهي القيود التي لها دخل في الملاك ، وربما كانت القدرة من جملتها كما في وجدان الماء وكما في الاستطاعة. واخرى يكون منشأ التقييد بها هو علية الطلب للتقيد بها ، وهي القدرة وما يحذو حذوها

__________________

(١) في صفحة : ١٢ وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

١٥٢

كالدخول في ابتلاء المكلف ، بل عدم الاضطرار أيضا ، فان المنشأ في تقيد الطلب بها والعلة فيه هو الطلب نفسه ، حيث إنه بعث على الارادة ، ولا يمكن تحقق الارادة فيما ليس بمقدور أو فيما هو خارج عن الابتلاء أو فيما هو مضطر إليه.

فإذا كانت حيثية التقييد مختلفة من حيث الرتبة يكون الاطلاق أيضا مختلفا من الحيثية المذكورة ، بحيث يكون للطلب الواحد ناحيتان من الاطلاق. وإن شئت فقل : تكون له جهتان من الاطلاق ، الجهة الاولى إطلاقه من حيث اشتراطه بما يكون له العلية في نفس الطلب ، والجهة الثانية هي إطلاقه من حيث اشتراطه بما يكون نفس الطلب علة في اشتراطه ، وإذا سقط إطلاقه من الجهة الثانية بالنسبة إلى مورد عدم القدرة فلا يكون ذلك موجبا لسقوط إطلاقه من الجهة الاولى.

لكن قد يقال في الايراد على ذلك : بأنه بعد فرض التقييد وسقوط الاطلاق من الجهة الثانية ، لو قلنا ببقاء الاطلاق من الجهة الاولى كان مقتضاه ثبوت الطلب في مورد عدم القدرة ، وذلك مناف للتقييد من الجهة الثانية لأن مقتضى التقييد من الجهة الثانية هو عدم تحقق الطلب في مورد عدم القدرة.

اللهم إلاّ أن يجاب عنه باختلاف الحيثية أعني اختلاف الرتبة ، فيقال إن الطلب في مورد عدم القدرة ثابت من حيث عدم تقيده بما يكون علة فيه ، وليس بثابت من حيث تقيده بما يكون التقيد به معلولا للطلب ، وذلك عبارة اخرى عن ثبوت الطلب من حيث الملاك دون الخطاب ، فتأمل.

والأولى أن يجاب عن أصل الاشكال : بأن مقتضى الاطلاق هو ثبوت الطلب في مورد عدم القدرة ، ويكون ثبوت الطلب في ذلك المورد كاشفا

١٥٣

عن ثبوت الملاك ، ولا يرفع اليد عن هذا الاطلاق إلاّ بمقدار دلالة الدليل الدال على خلافه ، وليس لنا في قبال هذا الاطلاق إلاّ حكم العقل بقبح الطلب من غير القادر أو عدم إمكان تعلق الطلب بغير المقدور ، فإذا وسّعنا غير المقدور إلى ما يكون غير مقدور شرعا ولو من جهة الأمر بالضد الأهم كان هذا التقييد الناشئ عن هذا الحكم العقلي مقصورا على عدم تأثير ذلك الطلب المتعلق بالمهم في حق من ابتلي بالضد الأهم ، من دون أن يكون موجبا لقصور في متعلق الطلب المتعلق بالمهم ، بل من دون قصور في نفس طلب المهم ، بمعنى أن العقل يحكم على ذلك المكلف بأن يتأثر عن الطلب المتعلق بالأهم ولا يتأثر عن الطلب المتعلق بالمهم ، فلا يكون العقل حاكما بخروج المهم عن تحت دائرة الطلب فضلا عن دائرة الملاك.

ولو أطلقنا عليه الاخراج والتخصيص فانما هو بهذا المقدار ، لا أنه تخصيص وإخراج واقعي ليكون من قبيل الخاص والعام ، فان هذا التقديم إنما هو من باب التزاحم الذي سيأتي إن شاء الله تعالى (١) تحقيق أنه لا يرجع إلى التخصيص ، وأن التقديم الناشئ عن التزاحم لا ربط له بالتقديم الناشئ عن التعارض ، فان ذلك ـ أعني التقديم الناشئ عن التعارض ـ هو الذي يكون موجبا للتخصيص دون التقديم الناشئ عن باب التزاحم ، ولعل أصل هذا الاشكال من جملة الاشكالات الراجعة إلى الخلط بين باب التزاحم وباب التعارض.

ثم إن هذا المبنى وهو عدم تأثر المكلف من ناحية الأمر بالمهم في مورد عدم القدرة عليه لكونه مأمورا بالأهم هو المصحح للترتب ، بأن يكون عدم تأثر المكلف من ناحية الأمر بالأهم المعبّر عنه بعصيان الأهم شرطا في

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٤٨ ، وراجع أيضا الصفحة : ٢٧٢ من هذا المجلّد.

١٥٤

توجه الخطاب بالمهم ، وبه ينحل الأمر بالجلوس في الصلاة عند عدم القدرة على القيام ، ليكون محصل الأمر بالجلوس هو أنك إن لم تتأثر بالأمر بالقيام لعدم كونه مقدورا لك فصلّ من جلوس ، بخلاف ما لو قلنا إن محصله هو أنك إن لم تقدر على القيام فصلّ من جلوس ، على حذو قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا )(١) ليكون ذلك موجبا لاشتراط التكليف الأولي بالقدرة ، ليكون من قبيل ما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، ليتأتى فيه عدم الترتب أو عدم التصحيح بالملاك فيما لو زوحم القيام بما هو أهم منه فانتظر ما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب التزاحم في تزاحم الأجزاء والشرائط (٢) من شبهة كونها مشروطة بالقدرة الشرعية بواسطة أن أبدالها مشروطة بعدم القدرة عليها ، ليكون حالها حال الطهارة المائية التي كان مدرك كونها مشروطة بالقدرة هو اشتراط بدلها الذي هو الطهارة الترابية بعدم التمكن منها ، ببرهان أن التفصيل قاطع للشركة ، ليرد عليه أن مزاحمة القيام مثلا للركوع من قبيل تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية.

قوله : ففيه مضافا إلى أن هذا إنما يتم فيما إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في الملاك ـ إلى قوله ـ أن لزوم نقض الغرض ليس من مقدمات التمسك بالاطلاق ، بل من مقدماته تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ... إلخ (٣).

الأولى نقل ما حررته عنه في هذا المقام فلعله أوضح ، فانه أجاب عنه أوّلا : بأن المدار في الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس هو الوقوع

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

(٢) في صفحة : ٢٧٤ ، راجع أيضا الصفحة : ١٨٢ و ٢٥١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٥٥

في خلاف الواقع ، كي يقال إن ترك التقييد فيما نحن فيه مع إرادة المقيد في الواقع لا يوجب الوقوع في خلاف الواقع ، بل المدار في ذلك هو نقض الغرض ، وأن المتكلم إذا كان بصدد بيان ما له الدخل في ملاك حكمه وكان ملاك حكمه منحصرا بالقدرة ومع ذلك لم يبين ذلك ، كان ناقضا لغرضه من كونه بصدد البيان.

وثانيا : أن عدم البيان في المقام يكون موجبا للوقوع في خلاف الواقع ، حيث إن المراد من عدم القدرة ليس هو خصوص عدم القدرة وجدانا ، بل المراد به الأعم منه ومن عدم القدرة بواسطة الأمر بالأهم ، ففي هذه الصورة لو أتى المكلف بالمهم اعتمادا على ثبوت الملاك مستندا في ذلك إلى الاطلاق كان واقعا في خلاف الواقع. وبالجملة : أن كلا من الصغرى والكبرى ممنوعة فيما نحن فيه من الاشكال المذكور ثالثا.

قوله : قلت : التمسك بالاطلاق تارة يكون لأجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام ، ومن المعلوم أنه يتوقف على إحراز كونه في مقام البيان ، وإلاّ لما كان الاطلاق كاشفا عن تعلق إرادته بالمطلق واخرى يكون لأجل كشف المعلول عن علته بطريق الإنّ ، وهذا لا يتوقف على كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه ، وما نحن فيه من هذا القبيل ... إلخ (١).

تقدم (٢) أن استكشاف الملاك في مورد يتوقف على ثبوت التكليف في ذلك المورد ، وحينئذ فلو كان غرضنا استكشاف الملاك في مورد عدم القدرة كان علينا أن نثبت إطلاق التكليف بالنسبة إلى مورد عدم القدرة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠ ـ ٣١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في صفحة : ١٥١ ـ ١٥٢.

١٥٦

لننتقل من ثبوت التكليف فيه انتقالا إنيا إلى ثبوت الملاك ، ومن الواضح أن ذلك موقوف على جريان مقدمات الحكمة بالنسبة إلى مورد عدم القدرة ومنها كونه في مقام البيان.

فالحجر الأساسي في حل الاشكال هو إثبات الاطلاق بالنسبة إلى مورد عدم القدرة المتوقف على كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة ، وأنت بعد أن عرفت أن في المقام جهتين من الاطلاق ، إحداهما سابقة في الرتبة على الاخرى ، وأن سقوط الاطلاق في الجهة الثانية لا يستلزم سقوطه في الجهة الاولى ، تعرف أنّ تمسكنا بالاطلاق من الجهة الاولى إنما هو من قبيل النحو الأوّل من التمسك دون النحو الثاني.

نعم ، بعد الفراغ من تمامية التمسك بالاطلاق في الجهة الاولى على النحو الأوّل ، أعني كشف ما هو مراد المتكلم ، ننتقل إلى النحو الثاني ، أعني أنا بعد تصحيح الاطلاق من الجهة الاولى واستكشاف أن مراد المتكلم هو الاطلاق من الجهة الاولى وثبوت إطلاق الطلب ، ننتقل إلى علته انتقالا إنيا ، فيكون استكشاف الملاك في طول المراد المستكشف من الاطلاق من الجهة المذكورة ، بمعنى أنه بعد أن ثبت بالاطلاق أن مراد المتكلم هو إطلاق متعلق الطلب وعدم تقييده من الجهة المذكورة بالقدرة نستكشف عدم مدخلية القدرة في تحقق الملاك. ومن ذلك يظهر لك التأمل في الحاشية (١) وعدم ورود شيء منها على ما أفاده شيخنا قدس‌سره.

والحاصل : أنه ربما يتوجه الاشكال على التمسك بالاطلاق من الجهة الاولى على إثبات الملاك عند فقد القيد ، لأن التمسك بالاطلاق لاثبات الملاك يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة أعني جهة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٠ ـ ٣١.

١٥٧

الملاك ، ومن الواضح أن الآمر بالفعل لا يكون ناظرا إلى ملاكه كي يمكن القول بأنه في مقام البيان من ناحية الملاك.

وأجاب عنه بأن ثبوت الاطلاق وعدم ذكر القيد في الجهة الاولى أعني جهة المتعلق لا يكون متوقفا على كونه في مقام البيان من ناحية الملاك ، بل يكفي فيه كونه في مقام البيان من ناحية المتعلق ، وبذلك يثبت كون المتعلق مطلقا ، وهو بناء على مسلك العدلية يكون كاشفا عن عدم مدخلية القيد في الملاك وأن الملاك متحقق عند عدم القيد ، كشف المعلول عن علته ، وذلك أعني كشف المعلول عن علته يكون قهريا تابعا لواقعه من دون حاجة إلى نظر المتكلم إلى الملاك ، ولا على أنه في مقام البيان من ناحية الملاك.

لكن هذه الطريقة لا تخلو عن وعورة كما عرفت فيما تقدم (١) ، فلا بدّ أن نقول أوّلا : أن حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور أو بمحاليته لا يؤثر على تقييد الطلب على وجه يكون مخصصا له ، بل إن ذلك الحكم العقلي مقصور على الرتبة الثانية أعني رتبة المعذورية والامتثال ، وليس حالها إلاّ حال المعذورية بالنسبة إلى من لم يصله ذلك الخطاب ، حيث إن كلامنا إنما هو في التكاليف العامة التي تكون على نحو القضايا الحقيقية دون التكاليف الشخصية التي تكون على نحو القضية الخارجية.

وثانيا : أنا لو سلّمنا ذلك التقييد في القدرة التكوينية فلا نسلّمه في القدرة الشرعيّة التي يكون عدمها ناشئا عن التكليف بما هو الأهم أو المضيق ، فان مثل ذلك لا تكون الحكومة العقلية فيه إلاّ في مقام الامتثال دون مقام أصل الطلب ، وإلاّ خرجت المسألة عن باب التزاحم ودخلت في

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدمة ، صفحة : ١٥١ وما بعدها.

١٥٨

باب التعارض ، من دون فرق في ذلك بين المضيقين أو الموسع والمضيق أما الثاني فواضح لما عرفت (١) من عدم المزاحمة بين الموسع والمضيق وأما الأوّل فلأن التكليفين وإن كانا مضيقين إلاّ أنهما ليسا مضيقين بالأصالة وإلاّ لكانا من باب التعارض ، وإنما الكلام فيما لو طرأ الضيق على أحدهما بأن كانا معا موسعين ولكن اتفق تضيقهما ، أو كان أحدهما مضيّقا بالأصالة وكان الآخر موسعا ثم طرأه التضييق ، فانهما حينئذ يدخلان في باب التزاحم ، وحينئذ لا تكون الحكومة العقلية إلاّ من قبيل التصرف في مقام الامتثال ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أن الموسعين لا تزاحم بينهما أصلا سواء كانت القضية خارجية أو كانت كلية حقيقية ، أما المضيقان فان كانت القضية خارجية كانا من باب التعارض ، وكذلك لو كان التزاحم دائميا ولو في القضية الكلية ، كما في وجوب الاستقبال وحرمة الاستدبار ، وكما في وجوب الكون بعرفات يوم التاسع من ذي الحجة ووجوب الكون في المسجد في ذلك اليوم. ولو كانت القضية كلية وكان التزاحم اتفاقيا لم تكن من باب التعارض ، وكانت من باب التزاحم ، ولو قلنا بالحاق عدم القدرة شرعا بعدم القدرة عقلا ، وقلنا بأن عدم القدرة موجب للتقييد ، لزمنا القول بكونهما من باب التعارض ، وكذلك الحال في الموسع والمضيق ، لكن لا فرق فيه على الظاهر بين كون القضية خارجية وكونها كلية ، فانهما على كل حال لا يكونان إلاّ من باب التزاحم ، ولو قلنا بأن عدم القدرة الشرعية موجب للتقييد والتخصيص كانا من باب التعارض لا التزاحم.

وحاصل البحث : أن التقييد بالقدرة في المرحلة الثانية مسلّم لكن

__________________

(١) في صفحة : ١٤٠ وما بعدها.

١٥٩

لا أثر له في عالم الملاك ، بل إن عالم الملاك تابع للاطلاق والتقييد في المرحلة الاولى ، هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره.

ولكن ذلك لا يخلو عن تأمل ، لأنه مع فرض كون القدرة قيدا في المرحلة الثانية يرتفع الأثر في التقييد بها في المرحلة الاولى إلاّ في ناحية الملاك ، والمفروض أنه خارج عن نظر الآمر ، وظهور الأثر في غير المقدور شرعا غير نافع إلاّ بدعوى أن غير المقدور الشرعي بمنزلة غير المقدور عقلا فلا بدّ من تسوية المسألة في غير المقدور العقلي لنقيس عليه غير المقدور الشرعي.

ولا يخفى أنه قد تقدم في بعض المباحث (١) أن ما يكون دخيلا في الملاك على نحوين :

الأوّل : ما يكون بمنزلة الفتق ، مثل حدوث الآية باعتبار أن حدوثها يوجب نقصا يتلافى بصلاة الآيات ، ونحو ذلك من الحوادث التكوينية مثل طلوع الفجر وحدوث الزوال ، بل إن ذلك جار في بعض الحوادث الاختيارية مثل الافطار العمدي الذي يكون تلافي ما يحدث به في نفس الإنسان من النقص بالكفارة ، وهذا النحو يعبّر عنه بشرط التكليف وهو مفاد لفظة إن الشرطية ونحوها من أدوات الشرط ، وربما لم يكن لأجل حدوث نقص بحدوث ذلك الحادث ، بل يكون حدوثه علة في صيرورة الفعل ذا مصلحة ، فلا يخرج عن كونه شرطا في التكليف بذلك الفعل وعن التعبير عنه بمفاد إن الشرطية ونحوها من أدوات الشرط ، وعلى كل حال تكون مرتبته قبل الحكم.

__________________

(١) وهو مبحث المطلق والمشروط ، راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، صفحة : ٤٠.

١٦٠