أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

ثم إنه قد يقال : إنه يمكن الاستدلال على ما ذكرناه من استحالة كون شرط تأثير الارادة والمانع من تأثيرها واقعين تحت الارادة ولو بارادة اخرى غيرية مترشحة عن الارادة الاولى المتعلقة بأصل الفعل المعبّر عنه بذي المقدمة ، بأن نقول إن الارادة المتعلقة بالفعل المزبور إما أن تكون علة تامة في وجوده بمعنى أنها لا يتوقف تأثيرها في وجوده على وجود شرط أو عدم مانع ، أو أنها لا تكون علة تامة بل يكون تأثيرها فيما تعلقت به متوقفا على تحقق الشرط وانتفاء المانع ، فان كان الأوّل سقط الكلام على مانعية الضد بالمرة وكان البحث ساقطا من أصله ، وإن كان الثاني ننقل الكلام الى الشرط والمانع فنقول إنهما إن احتاجا الى الارادة نقلنا الكلام الى تلك الارادة المتعلقة بهما ، فان كانت علة تامة لزمه ما ذكرنا من سقوط البحث من أصله ، وإن كانت محتاجة في تأثيرها الى الشرط والمانع نقلنا الكلام إليهما ، وهل هما داخلان تحت الارادة أو لا ، وهلمّ جرّا فيلزم التسلسل ، فلا محيص من أن نقول بعدم دخول الشرط والمانع اللذين هما في مرتبة العلة في تحقق المراد تحت الارادة ، سواء كانت هي نفس الارادة السابقة أو كانت هي إرادة ثانية مترشحة عن الارادة الاولى.

اللهم إلاّ أن يقال : إن التسلسل إنما يذهب في الشرط والمانع الاختياريين ، أما إذا انتهيا الى شرط ومانع غير اختياريين بل تكوينيين أو الى شرط وعدم مانع تكون الارادة علة في تحققهما من دون توقف على شرط ومانع ، فلا ريب في انقطاع الشرط ، فتأمل.

ويمكن القول بسقوط هذا البحث أعني كون الارادة مقتضية أو علة تامة من أصله ، لأن العلة أو المقتضي الذي يوجد الفعل ويكون علة في وجوده إنما هو الفاعل ، من دون فرق بين الأفعال الاختيارية وغيرها كما

١٢١

يصدر سهوا أو نسيانا ، وليست الارادة في الأفعال الاختيارية إلاّ كيفية في صدورها عن فاعلها الذي هو العلة الحقيقية في إيجادها ، ولو ترقينا بالارادة وغالينا فيها لم تكن إلاّ في مرتبة شرط تأثير العلة في خصوص الأفعال الاختيارية ، والمطلب محتاج إلى التأمل.

والأولى أن يقال : إن كلا من المقتضي والشرط وعدم المانع من مقدمات المأمور به ، وعلى تقدير القول بوجوب المقدمة نقول بوجوبها إلاّ أن ذلك لا دخل له بنفس إرادة الفعل الواجب وشرط تأثيرها والمانع من تأثيرها ، فانها كلها وإن كانت من مقدمات وجود الفعل الواجب إلاّ أنها لا تدخل في حساب المقدمات الواجبة ، فان تلك أعني المقدمة الواجبة ما تكون واقعة تحت إرادة الفاعل تبعا لارادته الفعل الواجب ، دون الارادة نفسها وما يكون في صقعها من الشرط والمانع من تأثيرها ، ولا مانع من كون مقدمية هذا النحو من المقدمات ـ أعني شرط تأثير الارادة وعدم المانع من تأثيرها ـ متوقفة على تحقق الإرادة وتعلقها بالفعل المأمور به.

وبالجملة : لا ريب في أن إرادة الفعل علة وأجزاءها أجزاء العلة ، لكن إن هذه العلة لا تكون قابلة لتعلق الوجوب بها ليترشح عليها من وجوب معلولها. وشيء آخر وهو أن عدم الضد لا يكون من قبيل عدم المانع من تأثير الارادة ليكون من أجزاء علة الشيء ليكون واجبا بوجوب ذلك الشيء حتى لو قلنا بوجوب الارادة.

ثم إنه قد يجاب من قبل المحقق الخونساري بما حاصله : أن توقف عدم الازالة على وجود الصلاة وإن كان محالا ، لتوقف استناد عدم الازالة إلى وجود الصلاة على تحقق المقتضي للازالة ، وهو محال فيكون التوقف المذكور محالا ، إلاّ أن ذلك لا يستلزم القول بمحالية توقف وجود الازالة

١٢٢

على عدم الصلاة.

وتوضيح ذلك : أن مانعية المانع لا تتوقف على وجوده ، بل هو مانع سواء كان موجودا أو كان معدوما ، وحينئذ نقول إنه إذا وجد المقتضي للازالة فوجود المقتضي للصلاة حينئذ وإن كان محالا لما ذكر من استحالة اجتماع المقتضيين ، إلاّ أنه مع ذلك يصدق أن الصلاة لو وجدت لكان وجودها مانعا ، فيكون وجود الازالة حينئذ متوقفا على عدم الصلاة وأقصى ما في البين هو أن وجود الصلاة عند وجود المقتضي للازالة محال ، وهو لا ينافي ما ذكرنا من القضية التعليقية القائلة إنه لو وجدت الصلاة لكانت مانعة من الازالة ، وهذا المقدار من التعليق كاف في إثبات مانعية الصلاة ، لما عرفت من أن المانعية للشيء لا تتوقف على وجود الشيء ، بل يكفي فيها مجرد كونه لو وجد لكان مانعا وإن كان معدوما فعلا ، وحينئذ تكون نسبة عدم الصلاة إلى الازالة من قبيل عدم المانع ، وهو كاف في المقدمية وتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر ، وإن كان العكس أعني توقف عدم أحدهما على وجود الآخر محالا ، وحينئذ لا يتوجه على المحقق الخونساري ما تقدم من أن جوابه عن الدور بمنع توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر مستلزم لمنع توقف وجود أحدهما على عدم الآخر.

قلت : حاصل هذا التوهم أن الضد الموجود لا يكون مانعا من وجود الآخر ، لكن الضد المعدوم يكون مانعا من وجود الآخر ، وذلك عبارة اخرى عن أن عدم أحد الضدين لا يستند إلى الضد الموجود ، لكن الضد الموجود يستند إلى عدم الآخر.

وفيه : ما لا يخفى ، أما أوّلا : فلأنا قد قدمنا أنه لا معنى لأن يكون الوجود مستندا إلى العدم ، وإنما صح لنا أن نقول إن وجود الممنوع يستند

١٢٣

إلى عدم مانعة ، لأن مانعة لو وجد لكان الممنوع منعدما ، لكون وجود المانع دافعا لتأثير مقتضي الممنوع ، وبهذا الاعتبار صح لنا أن نقول إن وجود الممنوع مستند إلى عدم مانعة ، [ فلا بد ](١) في كون وجود الازالة مستندا إلى عدم الصلاة من كون الصلاة لو وجدت كانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، ومن الواضح أن وجود أحد الضدين أعني الصلاة لا يمكن أن يكون دافعا لتأثير مقتضي الازالة ، لأن الصلاة عند وجودها إنما توجد مع مقتضيها ، ومع كون مقتضيها موجودا لا يكون مقتضي الازالة موجودا ، فلا يصح لنا أن نقول إن وجود الصلاة دافع لتأثير مقتضي الازالة كي يصح أن يقال إن وجود الازالة مستند إلى عدم الصلاة.

وثانيا : نقول إن وجود أحد الضدين إن كان في حدّ نفسه مانعا من وجود الآخر جاء الدور المذكور ، وإن لم يكن وجود أحدهما بنفسه مانعا من الآخر لم يصح أن نقول إن وجود أحدهما يتوقف على عدم الآخر. ومرجع ما ذكر من التفكيك إلى أن المانع إنما يكون مانعا عند انعدامه وأنه عند وجوده لا يكون مانعا ، وحاصل ذلك أن الضد يكون مانعا عند عدمه لا عند وجوده ، فان حاصل ذلك التفكيك أنه إن وجدت الصلاة انعدم مقتضي الازالة ، فلا تكون الصلاة الموجودة مانعة منها ، وإن انعدمت الصلاة ووجدت الازالة كانت الصلاة مانعة منها ، ومحصله أن مانعية الصلاة منحصرة في عدمها ، وعند وجودها (٢) لا تكون مانعة ، فيتوجه حينئذ ما ذكرناه من أنها إن كانت متصفة بالمانعية في حد نفسها كانت مانعة في حالتي وجودها وعدمها ، وإن لم تكن متصفة بذلك لم تكن مانعة في حالة

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) [ في الأصل : مانعية الصلاة في وجودها وعند عدمها ، والصحيح ما أثبتناه ].

١٢٤

وجودها ولا في حالة عدمها ، ولا يعقل التفكيك بين حالة وجودها وحالة عدمها.

وثالثا : أن المراد من التالي فيما ذكر من القضية القائلة إنه لو وجدت الصلاة عند وجود الازالة لكانت هي أعني الصلاة مانعة منها ، هو اتصاف الصلاة بالمانعية ، ليكون ذلك معلّقا على وجودها عند وجود الازالة ، وحينئذ نقول إن كان المراد من المقدّم أعني وجود الصلاة وجودها مجردة عن مقتضيها كان المقدّم المذكور محالا ، لاستحالة وجود الشيء بدون مقتضيه ، فتكون المانعية المعلّقة عليه محالا وهو المطلوب ، وإن كان المراد من المقدّم هو وجود الصلاة بمقتضيها منعنا الملازمة المذكورة ، لما هو واضح من أنه عند وجود الصلاة مع وجود مقتضيها ينعدم مقتضي الازالة فلا تكون الصلاة مانعة منها حينئذ.

لا يقال : نختار الشق الأوّل ونقول عند وجود الازالة ووجود مقتضيها لو وجدت الصلاة ولو من دون مقتضيها لكانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة وهذا المقدار كاف في إثبات فعلية المانعية ، وإن كان ما علّق عليه دافعية الصلاة لتأثير مقتضي الازالة محالا ، حيث إن المانعية منتزعة من مجرد كون الصلاة لو وجدت ولو بلا مقتضيها لكانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة وإن كان وجودها بلا مقتضيها محالا ، وهو معنى ما تقدم من إن مانعية الشيء لا تتوقف على وجوده ، بل يكفي فيها القضية التعليقية القائلة إنه لو وجد لكان دافعا لتأثير المقتضي وإن كان المعلّق عليه محالا.

لأنا نقول : إن المانعية وإن لم تتوقف على وجود المانع بل كان المانع مانعا حتى في حال عدمه ، لكونها أعني المانعية الفعلية منتزعة من القضية التعليقية القائلة إنه لو وجد لكان دافعا لتأثير المقتضي ، وهذا المقدار

١٢٥

من التعليق كاف في إثبات المانعية فعلا وإن لم يكن المانع موجودا فعلا بل كان معدوما ، لكن لا بد فيها أعني المانعية الفعلية من كون ما علّق عليه الدفع المذكور أعني وجود المانع ممكنا ، وإلاّ لكان كل شيء مانعا من كل شيء ألا ترى أن النار مقتضية للاحراق ، وحرارة الشمس في حدّ نفسها ليست بمانعة من ذلك ولا دافعة لتأثير هذا المقتضي ، ولكن لو فرضنا محالا أن حرارة الشمس مولّدة لوجود الماء فيما تقع عليه من الحطب ، لصح أن يقال إن حرارة الشمس لو كانت مولّدة للماء فيما تقع عليه لكانت دافعة لتأثير المقتضي المذكور أعني النار في الاحراق ، فلو كان تعليق الدافعية على الفرض المحال موجبا لتحقق المانعية للشيء لكانت الحرارة المذكورة مانعة من الاحراق.

والحاصل : أن المعلّق عليه الدافعية في القضية الآنفة الذكر ـ أعني قولنا لو وجدت الصلاة عند الفرض المزبور أعني وجود الازالة بوجود مقتضيها لكانت الصلاة دافعة لتأثير مقتضي الازالة ـ إن كان هو وجود الصلاة بالنحو الممكن ، بمعنى وجودها مع المقتضي لها ، كانت الملازمة ممنوعة لعدم كون الصلاة في هذا الفرض دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، حيث إن الصلاة عند وجودها بمقتضيها ينعدم مقتضي الازالة ، فلا يصح أن يقال إنها دافعة في هذا الفرض لمقتضي الازالة. وإن كان المراد من المقدّم المذكور هو وجود الصلاة بالنحو الممتنع أعني وجودها مجردة عن مقتضيها فالملازمة المذكورة وإن كانت صحيحة إلاّ أن مجرد هذه التي يكون الملزوم فيها ممتنعا لا يكفي في تحقق المانعية ، بل لا بدّ في تحقق المانعية من كون الملزوم ممكنا.

مضافا إلى أنه يمكننا أن نمنع الملازمة حتى في هذه الصورة ، أعني

١٢٦

ما لو كان المراد من المقدّم الذي هو وجود الصلاة وجودها بالنحو الممتنع أعني وجودها مجردة عن مقتضيها ، إذ من الممكن أن يقال إنها في هذا الفرض أعني فرض وجودها مجردة عن علتها ومقتضيها لا تكون دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، حيث إن فرض وجود الصلاة مجردة عن علتها ومقتضيها عبارة عن فرض تغيير في ذاتها على وجه تكون موجودة مجردة عن علتها ، ومن الجائز أن يكون الفرض رافعا لما في ذات الصلاة من خاصية التدافع وعدم الاجتماع مع الازالة ، فلا يكون وجودها على هذا النحو دافعا لتأثير مقتضي الازالة.

لا يقال : إن مانعية المانع كما لا تكون متوقفة على وجوده بل يكون المانع مانعا في حال عدمه ، فكذلك لا تكون مانعيته متوقفة على إمكان وجوده ، بل المانع يكون مانعا حتى لو كان وجوده محالا ، حيث إن المانعية إنما تنتزع عن كون الشيء لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي ، فإذا كانت حاله هذه كان متصفا بالمانعية وإن كان معدوما أو كان وجوده محالا. وبالجملة : أن محالية وجود الشيء أمر وكونه لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي أمر آخر ، والمانعية إنما تنتزع من الثاني أعني القضية التعليقية ، ومن الواضح أنها غير متوقفة على إمكان وجود الشيء. والحاصل أن المحال لا يخرج بمحاليته عن اقتضاء ذاته من كونه لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي.

لأنا نقول : إنا لا ننكر إمكان كون الشيء المحال في حدّ نفسه مانعا من شيء آخر ، وإنما ننكر أن تكون الدافعية المعلّقة على النحو المحال من وجود الشيء منشأ في مانعيته كما فيما نحن فيه ، حيث إن نفس وجود أحد الضدين أعني الصلاة ليس بمحال ، وإنما المحال هو نحو من أنحاء وجوده أعني وجوده بلا علة وبلا مقتض يقتضيه مع وجود مقتضي الضد الآخر

١٢٧

أعني الازالة ، ونقول إن القضية المتضمنة لتعليق الدافعية على هذا النحو من الوجود غير مسلّمة ، لما قررناه من أن هذا النحو من وجود الشيء مستلزم لخروج ذاته حينئذ عن مقتضياتها وخواصها التي منها انسلاخه عن علته ومقتضيه ، فمن الممكن أن يكون ذلك موجبا أيضا لعدم المنافرة بينه وبين ضده على وجه لا يكون دافعا لتأثير مقتضيه ، ومن الواضح أن هذه الجهة لا تأتي فيما هو محال في حد نفسه ، خصوصا إذا كانت محاليته ذاتية ، فتأمل.

ثم إنه لو سلّم ذلك كله فأقصى ما فيه هو أن تكون الصلاة عند وجود الازالة مانعة ، ويكون عدمها بالنسبة إليها من قبيل عدم المانع ، لكنه لا ينتج ما هو المطلوب من كون العدم المذكور واجبا ليكون فعلها محرما ، لما عرفت من كون وجودها في هذا الظرف محالا ، فيكون عدمها ضروريا ويكون وجوبه تحصيل الحاصل وتحريمها تحريمها لما هو ممتنع الحصول.

قوله : ومما يدلك على عدم مقدمية ترك أحد الضدين للآخر أنه لا شبهة في أن عدم كل شيء يناقض وجوده في مرتبة واحدة ... الخ (١).

هذا برهان آخر على عدم كون ترك أحد الضدين سابقا في الرتبة على الضد الآخر ، وحاصل ذلك البرهان هو أن كل متقابلين يكون تقابلهما في رتبة واحدة ، إذ لو كان أحدهما في رتبة وكان الآخر في رتبة سابقة لم يكن بينهما تقابل ، فإذا كان السواد ضدا مقابلا للبياض مثلا كان كل منهما في رتبة الآخر ، وحينئذ لا بدّ أن يكون عدم السواد في رتبة البياض ، إذ لو كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

١٢٨

عدم السواد سابقا في الرتبة على البياض كان السواد نفسه حاصلا في تلك الرتبة أيضا ، لأنه نقيضه والنقيض مساو لنقيضه في الرتبة ، فيكون نفس السواد أيضا سابقا في الرتبة على البياض ، وقد كان توأما معه في الرتبة لكونه ضده ، هذا خلف.

ومن ذلك يظهر لك أنه لو كان عدم كل منهما سابقا في الرتبة على الآخر لكان كل منهما سابقا في الرتبة على الآخر ، فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه. ويزيد الطين بلّة في المتناقضين ، فانه لو كان وجود أحد المتناقضين متوقفا على عدم النقيض الآخر بحيث كان عدم أحد النقيضين سابقا في الرتبة على النقيض الآخر ، كان ذلك عبارة اخرى عن ارتفاع النقيضين ، مضافا إلى ما تقدم من الاشكالين في الضدين ، مثلا القيام وعدمه متناقضان ، فلو كان عدم الثاني سابقا في الرتبة على الأوّل الذي هو القيام لكان ذلك عبارة أخرى عن ارتفاع النقيضين ، أما الأوّل وهو القيام فلفرض الكلام في السابق على رتبته ، فهو في تلك الرتبة منتف ، وأما الثاني وهو عدم القيام فلأنا فرضنا كون عدمه سابقا على رتبة القيام ، ففي تلك الرتبة لا يكون عدم القيام حاصلا كما لم يكن القيام حاصلا فيها أيضا وهو ارتفاع النقيضين ، كذا قيل (١).

لكن فيه تأمل ، لأن هذا الاشكال باق حتى لو لم نقل إن عدم أحد النقيضين متقدم رتبة على النقيض الآخر ، فانه لا شبهة في أن القيام مناقض لعدم القيام ، فلا بدّ أن يكونا في رتبة واحدة ، لكن في الرتبة السابقة على القيام لا يكون أحد النقيضين وهو القيام متحققا ، فلو كان النقيض الآخر

__________________

(١) يظهر ذلك مما أفاده القوچاني في حاشيته على الكفاية [ ١ : ١١٢ / تعليقة ٢٣١ منه قدس‌سره ].

١٢٩

وهو عدم القيام متحققا في تلك الرتبة ، لكان أحد النقيضين وهو عدم القيام حاصلا في الرتبة السابقة على نقيضه الذي هو القيام وقد قلتم إنه محال لكونهما في رتبة واحدة ، وإن لم يكن ذلك النقيض الآخر وهو عدم القيام متحققا في تلك الرتبة لزم ارتفاع النقيضين أعني القيام وعدم القيام ، أما انتفاء الأوّل فلأن الكلام في الرتبة السابقة عليه ، وأما الثاني فلفرض انتفائه.

ولا مخلص عن هذا الاشكال إلاّ أن نقول : إنهما في الرتبة السابقة على القيام غير متناقضين ، فلا مانع من ارتفاعهما ، بمعنى أن عدم القيام في الرتبة السابقة على القيام لا يكون مناقضا للقيام ، كما أن القيام لو لوحظ في الرتبة السابقة على عدم القيام لا يكون مناقضا لعدم القيام ، فتأمل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما تقدم في الضدين ، فانا لو قلنا إن عدم السواد سابق في الرتبة على البياض لا يكون لازمه أن السواد سابق في الرتبة على البياض ، بدعوى كون السواد نقيضا لعدم السواد فيكون مثله سابقا في الرتبة على البياض.

وبيان التأمل في ذلك : هو أن النقيض هو بديل الشيء في رتبته لا في رتبة أخرى ، وحينئذ يكون النقيض لعدم السواد السابق على البياض هو السواد الذي هو بديله في تلك الرتبة السابقة على البياض ، لا السواد الذي هو في رتبة البياض ، بل هو ـ أعني السواد في رتبة البياض ـ إنما يكون نقيضا لعدم السواد الذي هو توأم مع رتبة البياض لا عدم السواد الذي هو سابق في الرتبة على البياض. والحاصل أن عدم السواد الذي هو توأم مع البياض يناقضه السواد الذي هو توأم مع البياض ، كما أن عدم السواد السابق في الرتبة على البياض إنما يناقضه السواد الذي هو في رتبته ، فتأمل.

نعم ، في المقام إشكال آخر غير إشكال الدور المذكور وغير هذا

١٣٠

الاشكال ، وذلك الاشكال في مانعية كل من الشيئين للآخر ، فان مقتضى كون هذا مانعا عن ذاك هو كونه واقعا في رتبة علته وجودا أو عدما ، فيكون سابقا في الرتبة على ذاك ، وذلك بعينه جار في كون ذاك مانعا من هذا فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على صاحبه ، فيكون سابقا في الرتبة على نفسه.

والحاصل : أن المانع وإن لم يكن وجوده مؤثرا في وجود الممنوع بمعنى أنه ليس جزء العلة المؤثرة ، وأن أقصى ما فيه هو أن وجوده يكون مانعا من تأثير المقتضي في وجود الممنوع ، وأنه عند عدمه يكون المقتضي مؤثرا في وجود الممنوع ، إلاّ أنه يكون واقعا وجودا أو عدما في رتبة العلة بالنسبة إلى الممنوع ، فيكون سابقا في الرتبة على الممنوع ، وحينئذ يستحيل كون كل من الشيئين مانعا من الآخر ، لانتهائه إلى كون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه ، فيتأتى فيه عين إشكال الدور الناشئ عن كون كل منهما علة مؤثرة في صاحبة.

ولعل هذا هو المراد مما أفاده المرحوم شيخنا المحقق الآغا ضياء قدس‌سره في مقالته ـ فانه بعد أن أجاب عن إشكال الدور بما يرجع إلى إنكار المانعية ، قال ما هذا لفظه : نعم الذي يرد على المقدمية في الطرفين هو استلزام كون وجود كل واحد في رتبة متأخرة عن الآخر ، نظرا إلى حفظ الرتبة الواحدة بين النقيضين ، ونفس هذه الجهة محذور مستقل ، بل هو في الحقيقة وجه استحالة الدور أيضا ، انتهى (١) ـ لو لا قوله : نظرا إلى حفظ الرتبة الواحدة بين النقيضين ، فان هذه الجملة لا تساعد على إرادته ما

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٣٤٠.

١٣١

ذكرناه ، بل هي مساعدة على إرادته الاشكال السابق ، أعني ما تقدم من أنه لو كان عدم السواد سابقا في الرتبة على وجود البياض كان نقيض ذلك العدم الذي هو السواد نفسه سابقا أيضا ، نظرا إلى حفظ الرتبة في النقيضين ، فيكون السواد سابقا في الرتبة على البياض ، وهكذا الحال في ناحية البياض ، فان عدمه لو كان سابقا على السواد لكان هو أعني البياض سابقا على السواد أيضا لأنه نقيض عدم البياض ، وحينئذ يكون كل من السواد والبياض سابقا في الرتبة على الآخر.

وهذا الاشكال وإن تقدم الجواب عنه إلاّ أنا نزيد الجواب وضوحا بأنا لو لم نقل بأن عدم أحد الضدين الذي هو السواد مثلا مقدمة لوجود الآخر الذي هو البياض ، إلاّ أنا نقول إنه في الرتبة السابقة على البياض هل يكون الحاصل في تلك المرتبة هو السواد ، فيكون سابقا في الرتبة على صاحبه ، أو يكون الحاصل في تلك الرتبة هو عدم السواد ، فيكون السواد أيضا في تلك الرتبة حفظا لوحدة الرتبة في النقيضين ، أو يكون كل من السواد وعدمه غير حاصل في تلك الرتبة فيلزم ارتفاع النقيضين. وحينئذ لا محيص لنا من أن نقول إن الحاصل في تلك المرتبة هو السواد ، إلاّ أنه ليس بضد للبياض المتأخر رتبة عنه ، أو نقول إن الحاصل في تلك الرتبة هو عدم السواد ، إلاّ أنه ليس بنقيض للسواد الذي هو ضد وتوأم مع البياض ، لكونه متأخرا عنه رتبة.

وهكذا الحال في مسألة العلة والمعلول ، فان عدم المعلول وإن كان نقيضا للمعلول إلاّ أن العدم الذي هو نقيض للمعلول يكون في مرتبة المعلول ، ولا يتعدى هذه المرتبة إلى رتبة العلة ، بل إن عدم المعلول الحاصل في مرتبة العلة إنما يكون نقيضه هو المعلول في تلك المرتبة أعني

١٣٢

مرتبة العلة ، إذ لو كان نقيضه هو المعلول المتأخر رتبة عن العلة كانا من اجتماع النقيضين ، لتحقق كل منهما في رتبته.

والحاصل : أن نفس المعلول وعدمه متناقضان في كل من المرتبتين أعني أنهما متناقضان في مرتبة العلة ، والموجود منهما هو عدم المعلول ، وفي مرتبة وجود المعلول يعني مرتبة ما بعد العلة والموجود منهما هو المعلول نفسه. ولا يصح القول بأن العدم الذي هو في مرتبة العلة نقيض للمعلول الذي هو في مرتبة ما بعد العلة ، فلا يتجه ما قيل في الحاشية (١) من أن العدم الذي هو في مرتبة المعلول يكون سابقا عليه وحاصلا في رتبة العلة ، لأن المقارن لما هو متأخر في الرتبة لا مانع من كونه مقارنا لما هو سابق لذلك المتأخر ، فانه يرد عليه أنه كيف يكون ذلك كذلك والحال أن هذا العدم المقارن لرتبة العلة قد اجتمع مع وجود المعلول الذي هو متأخر في الرتبة ، فلو كان ذلك العدم السابق رتبة نقيضا لذلك الوجود المتأخر رتبة لكان قد اجتمع النقيضان.

فتلخص لك أن عمدة الاشكال على التمانع بين الضدين امور أربعة :

الأوّل : أن المانع سابق في الرتبة على الممنوع ، فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه.

الثاني : أن كلامنا إنما هو في الأفعال الاختيارية التي تقع متعلقا للتكليف ، وينحصر المقتضي فيها بارادة المكلف وليست هي إلاّ واحدة ، ففي ظرف تعلقها بأحد الفعلين لا يكون مقتضي الآخر موجودا كي يكون أحدهما مانعا من الآخر.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٦.

١٣٣

الثالث : الدور الذي عرفته.

الرابع : أن عدم المانع ولو في غير الضدين إنما يكون في مرتبة العلة بالنسبة إلى الممنوع ، فلا يكون إلاّ في صقع المقتضي لذلك الممنوع ، وقد عرفت أن المقتضي هو الارادة ، فتكون مقدمية ترك المانع متوقفة على مانعيته ، وهي أعني المانعية إنما تكون عند المقتضي الذي هو إرادة الممنوع ، فيكون الحاصل أن مقدمية المقدمة متوقفة على إرادة ذيها ، وذلك أسوأ مما عن صاحب المعالم (١) من أن وجوبها موقوف على إرادة ذيها وحينئذ لا محيص لنا من أن نقول إن هذا الترك وإن توقف عليه الفعل الذي هو ذو المقدمة ، إلاّ أن هذا الترك أعني ترك المانع لا يكون واجبا لعدم دخوله تحت الارادة ، وإنما هو في المرتبة السابقة على المراد ، فان ما يعتبر في تأثير الارادة لا يعقل أن يتعلق به التكليف ، لكون التكليف إنما يكون باعثا على تعلق إرادة المكلف ، فلا بدّ أن يكون متعلقه هو ما تحت الارادة أعني المراد ، ولا يعقل أن يكون متعلقه هو ما يكون معتبرا في رشح إرادته ، هذا.

ولكن تقدم (٢) الكلام على ذلك وأن الارادة وأجزاءها من المقدمات ولا مانع من كون مقدمية عدم المانع متوقفة على إرادة ذي المقدمة ، لكن الارادة لا يتعلق بها الوجوب ، وإنما يتعلق الوجوب بما هو تحت الارادة من مقدمات وجود الشيء وأجزاء مقدماته ، حتى علته التكوينية وأجزائها التي يكون عدم المانع من جملتها ، إلاّ أن أحد الضدين ليس بمانع من الآخر ليدخل تحت هذا الحساب ، لما عرفت من محالية ذلك بل محالية التمانع

__________________

(١) معالم الدين : ٧١.

(٢) في صفحة : ١٢٢.

١٣٤

بين الشيء ومقابله وإن لم يكونا ضدين.

وفي المسألة إشكال خامس ، وهو أنا لو سلّمنا جميع ما تقدم وقلنا إن ترك الصلاة يكون مقدمة للازالة وأن ذلك الترك واجب ، فلا نسلّم أن وجوب ذلك الترك مقتض للنهي عن الصلاة إلاّ بعد الفراغ عن أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، بمعنى الترك الذي هو نقيضه ، أعني نفس الصلاة التي هي نقيض ذلك الترك الواجب ، أو هي عين ترك ذلك الترك ، ولكن هلمّ الكلام في ذلك الضد العام الذي هو نقيض لترك الصلاة أعني الصلاة نفسها ، فانا وإن قلنا إنها ضد عام لذلك الترك الواجب لكونها نقيضا له أو ملازمة لما هو نقيضه ، إلاّ أنا كيف قلنا إنها منهي عنها بحيث قلنا إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فانا إن أخذنا النهي بمعنى الردع والزجر فلا ريب أن وجوب ترك الصلاة لا يقتضي الردع والزجر عن نفس الصلاة ، لما تقدم (١) من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام بمعنى الردع والزجر الناشئ عن فساد في ذلك المنهي عنه.

وإن أخذنا النهي بمعنى طلب الترك ليكون طلب ترك الصلاة الناشئ عن كون ذلك الترك مقدمة للازالة عبارة اخرى عن النهي عن فعلها ، بناء على أن النهي من مقولة الطلب غايته أنه متعلق بالترك ، ففيه ما تقدم (٢) في ذلك المبحث أيضا من أن النهي وإن قلنا إنه عبارة عن طلب الترك إلاّ أنه لا بدّ أن يكون ناشئا عن فساد في الفعل ، وإلاّ فان طلب الترك الناشئ عن صلاح في ذلك الترك لا يكون موجبا لتحريم ذلك الفعل ، فالصلاة حينئذ لا تكون محرمة ولا منهيا عنها ، غايته أن تركها كان مطلوبا لصلاح في ذلك

__________________

(١ و ٢) راجع الحاشية المتقدمة في صفحة : ٩٧ وما بعدها.

١٣٥

الترك ، لكونه يتوقف عليه الواجب الذي هو الازالة ، فلا يصح لنا القول بأن الأمر بالازالة يقتضي النهي عن الصلاة وتحريمها ، وإن صح لنا أن نقول إن الأمر بالازالة يقتضي طلب ترك الصلاة ، لما عرفت من أن مجرد طلب ترك الشيء الناشئ عن صلاح في ذلك الترك لا دخل [ له ](١) بحرمة ذلك الشيء والنهي عنه الناشئ عن فساد في نفس ذلك الشيء ، ومورد النهي هو هذا الثاني دون الأوّل ، فتأمل. لكن لو وصلت المسألة إلى وجوب ترك الصلاة ترتبت الثمرة وهي فسادها ، وإن لم نقل إن وجوب تركها موجب لحرمتها.

قوله : وأورد المحقق الثاني قدس‌سره على إنكار الثمرة في صورة مزاحمة الموسع بالمضيق ... الخ (٢).

لا يخفى أن هذه المسألة ومسألة الترتب نسبها شيخنا قدس‌سره (٣) إلى المحقق الثاني في جامع المقاصد في كتاب الدين عند التعرض لحكم مزاحمة الصلاة الموسعة مع أداء الدين عند المطالبة ، قال العلاّمة في القواعد : ولا تصح صلاته في أوّل الوقت ، ولا شيء من الواجبات الموسعة المنافية في أوّل وقتها قبل القضاء مع المطالبة ، وكذا غير الدين من الحقوق كالزكاة والخمس ، انتهى (٤).

قال في جامع المقاصد ـ بعد أن تكلم في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده ومنعها بجميع اسسها من المقدمة وغيرها ـ فان قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسع ، لأنه

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢.

(٣) راجع الهامش رقم (٢) من فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٣١٢.

(٤) قواعد الأحكام ٢ : ١٠٢ ( مع اختلاف يسير ).

١٣٦

حين وجوب الصلاة إذا تحقق وجوب القضاء على الفور يلزم تكليف ما لا يطاق وهو باطل ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري. قلنا : لا نسلّم لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع أوجبت عليك كلا من الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسع ، فان قدمت المضيق فقد امتثلت وسلمت من الاثم ، وإذا قدمت الموسع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. والحاصل أن الأمر يرجع إلى وجوب التقديم وكونه غير شرط في الصحة والامتثال. مع انتقاضه بتضيق الوقت ، فانه إن بقي الوجوب لزم ما سبق ، وإن خرج لزم خروج الواجب عن صفة الوجوب ، مع أنه لا دليل على الترجيح إذ هما واجبان مضيّقان قد تعارضا ، فلا بدّ من خروج أحدهما عن صفة الوجوب لئلا يلزم المحذور ، والدلائل تدل على خلافه ، ومع تسليمه فلا دليل يقتضي خروج واحد بعينه من الصلاة في آخر الوقت وقضاء الحق المضيق (١) ، فالحكم بصحة الصلاة في آخر الوقت أيضا باطل لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح (٢) انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره وإنما نقلناه بطوله لتطلع على مرامه.

وكأن شيخنا قدس‌سره يجعل الجزء الأوّل من كلامه إشارة إلى الترتب والجزء الثاني وهو قوله : مع تسليمه ... الخ ، إشارة إلى هذه الجهة أعني ما يقال في النقل عن المحقق قدس‌سره من أن الانطباق قهري والامتثال وجداني والاجزاء عقلي ، فتأمل في كلامه.

وكيف كان ، فقد ذكر شيخنا قدس‌سره أن مورد كلام المحقق إنما هو في

__________________

(١) ذكر قدس‌سره في الأصل عبارة جامع المقاصد هكذا : في أجزاء الوقت ( آخر الوقت ) للحق المضيق ...

(٢) جامع المقاصد ٥ : ١٢ ـ ١٤.

١٣٧

المضيق والموسع لا في المضيقين ، نعم لو كان المزاحم للفوري هو أحد الأفراد العرضية من الواجب الآخر كانا من قبيل المضيق والموسع.

ثم إنه بعد ذلك أفاد (١) في الإيراد عليه ما حاصله : أنه إن كان المانع من تكليف العاجز هو محض القبح العقلي تم ما افيد من الانطباق القهري وإن كان المانع هو أن التكليف من قبيل إحداث الداعي وتوجيه قدرة المكلف إلى فعل المأمور به لم يتم ذلك ، لأنه بناء على ذلك يكون ذلك الحكم العقلي موجبا لتقييد المأمور به وانحصاره بما هو مقدور للمكلف.

ولا يخفى أن توجيه القدرة إنما هو بواسطة إحداث الداعي ، بمعنى أن الأمر يكون الغاية منه هو إحداث الداعي ، ويترتب على إحداث الداعي توجيه قدرة المكلف إلى الفعل المأمور به ، فلا يرد عليه ما في الحاشية (٢) من أن لا محصل للتكليف إلاّ جعل المكلف به على عاتق المكلف ، وأن توجيه القدرة إنما هو بحكم العقل ، وذلك إنما يكون بعد التنجز والعلم بالتكليف ، هذا.

مضافا إلى أن ما ذكره من كون محصل التكليف هو مجرد جعل المكلف به على عاتق المكلف ممنوع ، لأنه إنما يقتضي ذلك بواسطة تعلق الارادة به من قبل الآمر ، ومن الواضح أن إرادة ما لا يكون لكونه غير مقدور للمكلف لا يعقل صدورها من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

وأما ما في الحاشية المذكورة (٣) من الايراد على الجزء الأوّل بكونه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣ [ لعله قدس‌سره يريد الحاشية المذكورة من المقرر ، وإلاّ فهي غير الحاشية المتقدمة آنفا ].

١٣٨

منافيا لمسلكه قدس‌سره من عدم صحة الواجب المعلق أعني ما يكون مقيدا بالزمان المتأخر ، فلا يتجه عليه قدس‌سره أيضا ، لأنه بناء على الجزء الأوّل لا يكون الواجب مقيدا بالزمان المتأخر ، أعني أن فرض الكلام هو أنه قدس‌سره يدعي أنه بناء على الجزء الأوّل لا يكون في البين ما يوجب التقييد ، فان كانت مناقشة فهي في عدم استلزام الجزء الأوّل للتقييد ، لا أنّه بعد تسليم عدم التقييد يكون المقام من قبيل الواجب المعلق.

ولكن الظاهر أنه لا بدّ من التقييد ، غايته أن القيد لا يكون دخيلا في الملاك كأغلب القيود الزمانية. نعم لو كانت بقية الأفراد عرضية كما في باب الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى يندفع الاشكال المزبور. وإن شئت توضيح الحال في مسلك المحقق وعدم تأتيه في الأفراد الطولية لكونه منتهيا إلى الواجب المعلق فراجع ما علّقناه على هذا الكتاب في ذلك المبحث عند الكلام على الجهة الثانية ص ٣٠٠ (١).

نعم يبقى إشكال الفرق بين الوجهين ، وأن نتيجة الوجه الثاني هو التقييد بخلافه على الأوّل. والذي رسمته عنه قدس‌سره في بيان ذلك هو أن الوجه الأوّل يرجع إلى تقييد المكلف بالقادر ، بخلاف الوجه الثاني فانه يرجع إلى تقييد المكلف به ، وأن لهذين الوجهين آثارا تترتب عليهما ، ومن تلك الآثار ما نحن فيه.

لكن يمكن التأمل في ذلك صغرى وكبرى ، أما الأوّل فلإمكان ادعاء كون كل (٢) من الوجهين راجعا إلى تقييد المأمور به ، وأما الثاني فلإمكان

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ١٧٧ من الطبعة الحديثة ، وسيأتي تعليقه قدس‌سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في صفحة : ٦٢ ، ٧٦.

(٢) [ في الأصل هنا زيادة : منها ، حذفناه لاستقامة العبارة ].

١٣٩

ادعاء رجوع تقييد المكلف إلى تقييد المكلف به. وبعبارة اخرى أنه يمكن التأمل أوّلا : في رجوع الوجه الأوّل إلى تقييد المكلف نفسه ، بل قد يقال إنه راجع إلى تقييد المكلف به. وثانيا : أنا وإن سلّمنا كون الأوّل راجعا إلى تقييد المكلف فهو أيضا موجب لحصر الأمر بما عدا القادر (١) ، وقهرا يكون الوجوب منحصرا بمورد القدرة.

ويمكن أن يقال : إن وجه الفرق بين الوجهين أن الحكم العقلي في الثاني يوجب سحب الأمر إلى ما بعد فعل المضيق ، فلا يكون الأمر موجودا في وقت المضيق ، بخلافه على الوجه الأوّل فانه لا يوجب سحب الأمر إلى ما بعد المضيق ، بل أقصى ما فيه أنه يوجب تأخير الموسع إلى ما بعد المضيق ، مع الاعتراف بأن الفرد الموجود من الموسع في وقت المضيق فرد للطبيعة المأمور بها.

وفيه تأمل ، لأن العقل بعد حكمه بعدم مطلوبية غير المقدور ، يكون حاكما بعدم مطلوبية ذلك الفرد المزاحم للمضيق ، لكونه غير مقدور له بواسطة سلب القدرة عنه إلى فعل المضيق.

وقد يقال : إنه لا تزاحم بين الموسع والمضيق ، نظير ما قالوه في عدم التزاحم بين المستحبات ، لعدم اشتمالها على تحتيم الفعل ، فكذا الحال فيما نحن فيه فان الفرد من الموسع المزاحم بالمضيق لمّا لم يكن فيه تحتيم ، لم يكن الأمر به مزاحما للأمر بالمضيق ، ولو بأن يقال إن الأمر بالطبيعة لا يكون مشتملا على النظر إلى الأفراد ، وإنما المنظور فيه هو صرف الطبيعة من حيث الوجود وهي مقدورة ، غاية الأمر أن الأمر بالمضيق

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، ولعل الصحيح : حصر الأمر بالقادر ].

١٤٠