أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٣

خارجا لا أنه عين فعلها ، فأقصى ما في البين هو كون الصلاة بنفسها مطلوبة الوجود بواسطة تعلق الأمر بها ، كما أنها مطلوبة الوجود أيضا بواسطة انطباق ترك تركها الذي هو المطلوب بالنهي عن تركها ، وهو أعني ترك تركها منطبق على وجودها ، فيجتمع في وجودها الطلبان ، أما إذا لم يكن في البين إلاّ مجرد الأمر بفعلها ولم يصدر من الشارع النهي عن تركها الذي هو عبارة عن طلب ترك تركها فلا يكون الطلب الثاني متحققا ، وليس الطلب الأول عين الطلب الثاني ولا أنه ملازم له ، ولعل هذا هو المراد مما أفاده بقوله في هذا التحرير : إن محل الكلام إنّما هو ... إلخ ، حيث إن التفرقة بين المقامين عبارة اخرى عن هذا التفصيل الذي حررناه.

وحاصل مراده قدس‌سره : هو أن الحاكم في مقام جعل الوجوب للقراءة مثلا لا نظر له إلى تركها ، ولو سئل عن تركها وأنه ما حكمه فلعله فعلا لا يحكم عليه بشيء ، وهكذا الحال بالنسبة إلى ترك ذلك الترك ، فانه في مقام جعل الوجوب للقراءة ليس له نظر إلى جعل حكم لتركها ولا لترك تركها سواء كان ذلك الحكم القابل للجعل لترك الترك هو عين الوجوب الذي جعله للقراءة أو مثله أو يخالفه ، ثم بعد هذا لو صدر منه قوله يحرم عليك ترك القراءة بناء على أن مفاد الحرمة والنهي هو طلب الترك ، وهذا أعني طلب الترك يكون قد علّقه بالترك ، فيكون الحاصل هو طلب [ ترك ](١) ترك القراءة ، كان اللازم علينا النظر في هذا القول منه هل هو تأكيد لقوله الأول أعني قوله تجب القراءة ، فلا يكون في البين حكم جديد كي نقول إنه متحد مع الحكم الأول ، بل يكون كأنه قال مرة ثانية تجب القراءة غير أنه

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

١٠١

بعبارة اخرى ، أو أن هذا القول الثاني صدر منه تأسيسا لحكم جديد وهو جعل الطلب وإيراده على ترك ترك القراءة ، وحينئذ يكون هذا الحكم غير الأول وليس هو عينه بل ولا ملازمه. نعم إن هذا الحكم يجتمع مع الحكم الأول في نفس القراءة فتكون واجبة باعتبار نفسها حيث إنها قد امر بها كما أنها واجبة باعتبار كونها مصداقا لترك تركها ، وهذا الوجه الثاني لقوله الثاني في غاية البعد ، فانه وإن كان الأصل يقتضي التأسيسية إلاّ أن التأسيس لا أثر له ، حيث إنه لا أثر حينئذ لقوله الثاني إلاّ الالزام بفعل القراءة ، وهو حاصل بقوله الأول أعني إيجاب القراءة.

لا يقال : إن قوله الثاني وهو قوله : يحرم عليك ترك القراءة ، لو حملناه على التأسيس لا يكون عبثا بلا فائدة ، لأنه إذا حرم ترك القراءة فقد حرم كل فعل مضاد للقراءة ، سواء كان ذلك الفعل بالنسبة إلى القراءة من الضدين اللذين لا ثالث لهما أو كان لهما ثالث ، وإنما يحرم ذلك الفعل لكونه مصداقا لترك القراءة المفروض حرمته ، فلو كان ذلك الفعل عبادة بأن ترك القراءة واشتغل بالصلاة كانت تلك الصلاة فاسدة.

لأنا نقول : إن حرمة ترك القراءة لا توجب حرمة الفعل الذي أوجده في حال ترك القراءة لعدم الاتحاد ، وإنما هو من مجرد المقارنة لو كان لهما ثالث أو الملازمة إن لم يكن لهما ثالث ، ولا تسري الحرمة إلى المقارن ولا إلى الملازم ، فان سريان الحكم إلى المقارن هو عين شبهة الكعبي (١) فلاحظ.

وحينئذ يكون المتعين في القول الثاني هو الوجه الأول أعني التأكيد لقوله الأوّل ، لكن هذا لا يوجب أن يكون لقوله الأول أعني قوله : تجب

__________________

(١) لمزيد الاطلاع عن هذه الشبهة راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٠ ، والفصول الغروية : ٨٨ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٣٣.

١٠٢

القراءة اقتضاء لأزيد من وجوب القراءة ، بأن يكون مقتضيا لطلب ترك ترك القراءة ، سواء كان ذلك الاقتضاء المدعى من قبيل الاتحاد والعينية أو كان من قبيل التلازم والاثنينية ، بل ينبغي الجزم بعدم ذلك.

أما الاتحاد فلأن محصّله هو كون الثاني مؤكدا للأوّل كما عرفت ، وهذا أعني التأكيد إنما يكون فيما لو افيد بجملة اخرى بعد الجملة الاولى ، ولا يعقل تحقق هذا التأكيد للجملة الاولى بنفس الجملة الاولى.

وأما دعوى الاثنينية والتلازم فقد التزم بها شيخنا قدس‌سره (١) ، لكن لا يبعد المنع عنها لعدم الملازمة بين الحكمين. مضافا إلى أن هذا الملازم الثاني لا فائدة فيه ، لما عرفت من كون نتيجته اجتماع الوجوبين على نفس القراءة وليس ذلك من قبيل وجوب المقدمة اللازم لوجوب ذيها ، فان ذلك وإن لم يكن يستتبع عقابا ولا ثوابا إلاّ أنه وجوب آخر متعلق بعمل آخر ، فلا بأس بالقول بكونه لازما للأول الذي هو وجوب ذي المقدمة ، وهذا بخلاف الوجوب الثاني الوارد على القراءة بواسطة النهي عن تركها فانه لا يكون إلاّ لغوا صرفا.

والخلاصة : هي أن الحكمين بعد فرض كونهما حكمين لا يعقل اتحادهما ، وأقصى ما في البين هو اجتماعهما ، ولو كانا مثلين كان أحدهما مؤكدا للآخر لاندكاك أحدهما بالآخر. نعم يمكن إبراز الحكم الواحد بعبارتين ، ولكن ذلك كله إنما يتأتى فيما لو صدر كلتا العبارتين ، أما لو لم يكن في البين إلاّ العبارة الاولى فهي خارجة عن ذلك ، إذ ليس في البين حكمان ولا عبارتان.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧.

١٠٣

نعم ، لو أبدلنا الترك بالنقيض وقلنا إن وجود الصلاة هو نقيض عدمها وإذا تعلق النهي بهذا النقيض الذي هو عدم الصلاة كان مفاده هو طلب نقيض ذلك العدم ، فيكون المطلوب بالنهي هو نقيض العدم الذي هو نقيض وجود الصلاة ، فيكون المطلوب به هو نقيض نقيض الصلاة ، ومن الواضح أن نقيض نقيض الصلاة هو نفس الصلاة ، فيكون هذا النهي عين ذلك الأمر لا أنه حكم آخر ، فلاحظ وتدبر. هذا كله في الوجوب المتعلق بالفعل.

أما لو كان الوجوب متعلقا بالترك كما لو قال يجب ترك الغيبة مثلا بناء على أن الوجوب هو عبارة عن طلب متعلقه ، سواء كان المتعلق هو الفعل كما في وجوب الصلاة أو كان هو الترك كما في وجوب ترك الغيبة فهذا الوجوب المتعلق بترك الغيبة هو عين النهي المتعلق بالغيبة بناء على أن مفاد النهي هو طلب ترك المتعلق ، فيكون مفاد النهي عن الغيبة هو طلب ترك الغيبة ، وهو عين مفاد وجوب ترك الغيبة الذي هو عبارة عن طلب ترك الغيبة ، فكان أحدهما عين الآخر ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد وهو طلب ترك الغيبة ، يعبّر عنه تارة بوجوب ترك الغيبة واخرى بحرمة الغيبة والنهي عنها.

قوله : بداهة أن الآمر بالشيء ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به ... إلخ (١).

لا يخفى أنا إذا جوّزنا غفلة الآمر عن ترك الترك كان لازم ذلك هو القول بأن الأمر بالشيء لا يلزمه طلب ترك تركه ، وحينئذ فكيف يصح لنا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٦.

١٠٤

أن ندعي أن الأمر بالشيء يدل على طلب ترك تركه بالالتزام.

اللهمّ إلاّ أن نقول : إن الأمر بالشيء يلزمه طلب ترك تركه قهرا على الآمر وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك اللازم ، كما قيل في باب المقدمة من أن الأمر بالشيء يلزمه الأمر بما يتوقف عليه وجود ذلك الشيء ، وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك التوقف.

وهكذا الحال فيما لو أخذنا النهي بمعنى الردع والزجر نقول إن الأمر بالشيء يلزمه قهرا المنع والردع عن تركه ، وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى تركه ، وحينئذ يكون الأمر بالشيء دالاّ بالدلالة الالتزامية على المنع عن ضده العام الذي هو تركه ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بكون هذا اللزوم بيّنا بالمعنى الأخص ، أو نقول بكونه بينا بالمعنى الأعم ، أو نقول بأنه لزوم غير بيّن ، لكن كل ذلك فرع عما ذكرناه من أن النهي عن ترك ذلك الشيء المأمور به لازم قهري للأمر به وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك.

إلاّ أن هذا المقدار من النهي القهري لا يمكن عدّه من الأحكام الشرعية بحيث يكون ترك ذلك المأمور به من جملة المحرمات الشرعية على وجه يكون وجوب الشيء منحلا إلى حكم صريح أوّلي وهو وجوب الشيء المذكور ، والآخر ثانوي لازم قهري للأوّل وهو تحريم تركه ، بحيث إنه لو تركه يكون مستحقا لعقابين ، أحدهما على عدم الاتيان بالواجب ، والآخر على الاتيان بما هو حرام شرعا وهو ترك ذلك الواجب.

وهنا أمر ينبغي الالتفات إليه وهو أنا لو سلّمنا أن الأمر بأحد النقيضين يلزمه النهي عن النقيض الآخر ، فلم لا نقول بأن النهي عن أحد النقيضين يلزمه الأمر بالنقيض الآخر ، سواء قلنا بأن النهي من مقولة الردع أو قلنا بأنه من مقولة طلب الترك.

١٠٥

أما الأوّل فلأن النهي عن شرب الخمر بمعنى الردع عنه يلزمه الأمر بنقيضه الذي هو ترك الشرب. وأما الثاني فلأن النهي عن شرب الخمر بمعنى طلب تركه يلزمه الأمر بتركه ، على حذو ما قلنا في أن الأمر بالشيء يلزمه النهي عن نقيضه. ويزيد الطين بلة لو سرينا هذا التلازم إلى الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بدعوى أن (١) أحدهما وإن لم يكن نقيضا صريحا للآخر إلاّ أنه ملازم لما هو النقيض كما افيد ذلك في ص ٢١١ (٢) وحينئذ يتحرج الموقف في الضدين اللذين لهما ثالث ، فانهما راجعان إلى الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، فان كل واحد من الأضداد الوجودية وإن لم يكن بالقياس إلى الضد المأمور به من الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، إلاّ أن الجامع بين جميع الأضداد الوجودية بالنسبة إلى ذلك الضد المأمور به من الضدين اللذين ليس لهما ثالث.

وما أفاده شيخنا قدس‌سره (٣) من الجواب عنه ـ أوّلا : بأن الجامع هو مفهوم أحد الأضداد ، وهو أمر انتزاعي لا واقعية له إلاّ نفس كل واحد من الأضداد الخاصة على البدل. وثانيا : بأنه لو سلّمنا كونه متأصلا لم تكن مناقضته لما هو المأمور به سارية إلى كل واحد من أفراده ـ لا يخلو من تأمل كما حررناه فيما علّقناه في هذا المقام على تحريراتنا ، فراجعه بما حرره عليه قدس‌سره بقلمه الشريف (٤).

والحاصل : أن الأمر بفعل خاص كالازالة موجب لكون ذلك الفعل

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة : عدم ، حذفناه للمناسبة ].

(٢) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٩ من الطبعة الحديثة.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٩.

(٤) مخطوط لم يطبع بعد.

١٠٦

الخاص واقعا تحت الطلب ، فيكون لازم ذلك هو النهي عن نقيضه وعمّا هو ملازم لنقيضه ، أعني ضده الذي هو مطلق الفعل الجامع بين جميع الأفعال المقابلة للازالة حتى السكون ، وذلك الضد الذي هو مطلق الفعل غير الازالة يكون ضدا للازالة ، وهما لا ثالث لهما ، فيكون ذلك الضد الذي هو مطلق الفعل منهيا عنه ، فيسري النهي إلى كل واحد من مصاديقه ، كما هو الشأن في كل نهي متعلق بالطبيعة. والتفكيك بين الكلي بكونه منهيا عنه لكونه هو بمنزلة النقيض لما هو المأمور به والمصداق لذلك الكلي بكونه غير منهي عنه لعدم كونه بمنزلة النقيض لما هو المأمور به ، وإن كان صحيحا بالقياس إلى خصوصية المصداق ، بمعنى خروج الخصوصية عن ملاك النهي ، إلاّ أن ذلك المصداق باعتبار كونه متحدا مع نفس الكلي ـ أعني مطلق الفعل المعاند للمأمور به ـ يكون منهيا عنه ، لكونه بذلك الاعتبار أعني اعتبار اتحاده مع ذلك الكلي عين ذلك الكلي. والخصوصية اللاحقة وإن كانت ضدا أيضا للازالة ، وكانت هذه الضدية بين الازالة وذلك الخاص من قبيل ما يكون لهما ثالث ، إلاّ أن اجتماع الخصوصية مع الطبيعة من قبيل المقتضي واللامقتضي ، هذا حاصل ما كنّا حررناه.

ولكن لا يخفى أن وجود الطبيعة المعاند للازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها ـ أعني عدم الازالة ـ إنما هو الطبيعة بتمام أفرادها ، فان تمام أفراد ما عدا الازالة يكون هو الضد لها ، ويكون تمام أفراد ما عدا الازالة مع الازالة نفسها من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لكونه أعني جميع ما عدا الازالة هو المتحد مع نقيض الازالة أعني عدمها ، ويكون ذلك الجميع هو المنهي عنه بواسطة الأمر بالازالة ، ومن الواضح أن جميع تلك الأفراد

١٠٧

لا ينطبق على الحصة الموجودة في الصلاة أو على الفرد الخاص من أفراد ذلك الجميع.

والحاصل : أن الوجود المساوق لعدم الازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها الذي يكون الأمر بالازالة ملازما للنهي عنه إنما هو تمام أفراد ما عدا الازالة ، فان هذا التمام بالنسبة إلى الازالة هو الذي يكون مع الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لا الفرد من تلك الطبيعة الكلية المعبّر عنها بما عدا الازالة ، فتأمل.

والحاصل : أن نقيض المأمور به أعني عدمه إذا لم يكن له ما يتحقق به ويتحد معه خارجا إلاّ وجود ضده كما في الحركة والسكون كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وكان الأمر بالحركة يلزمه النهي عن السكون لكون السكون حينئذ متحدا مع عدم الحركة ، لأن عدم الحركة ليس له ما يتحقق معه إلاّ السكون ، أما الازالة بالنسبة إلى طبيعة ما عداها فليسا من هذا القبيل إلاّ إذا اخذ طبيعة ما عدا الازالة بمعنى جميع ما عدا الازالة ، فان ذلك أعني جميع أفراد ما عدا الازالة ليس لعدم الازالة ما يتحقق به غير تمام تلك الأفراد ، فيكون تمام تلك الأفراد بالنسبة إلى الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، أما أحد تلك الافراد أو طبيعة تلك الافراد أعني طبيعة ما عدا الازالة بمعنى صرف الطبيعة أعني الكلي الطبيعي من الأفعال المقابلة للازالة فليس تقابله للازالة من تقابل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل هما من الضدين اللذين لهما ثالث ، أما مفهوم أحد تلك الأفعال فواضح ، وكذلك صرف الطبيعة من تلك الأفعال فانه ينطبق على بعضها ، وليس مقابلة ذلك البعض مع الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل هي من قبيل

١٠٨

الضدين اللذين لهما ثالث ، وهو صرف الطبيعة الحالة في البعض الآخر فتأمّل (١).

والخلاصة : هي أن من يقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر ، لا يقول به فيما لو كان اللازم أعم من الملزوم كما في باب الازالة وترك الصلاة ، فان ترك الصلاة لازم أعم من فعل الازالة لتحققه بالنوم مثلا فلا يسري الحكم من الازالة إلى ترك الصلاة من جهة التلازم ، نعم فيما لو كان المتلازمان متساويين سرى الحكم من أحدهما إلى الآخر ، كما في ترك أحد الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كما لو أمره بالاجتماع فان وجوبه يسري إلى ملازمه الذي هو ترك الافتراق ، كما أن الحكم من ترك الافتراق يسري إلى ملازمه المساوي الذي هو الاجتماع ، فكأنهم قاسوا التلازم بحسب الوجود على التلازم في الصدق كما في الإنسان والناطق فان الحكم من أحدهما يسري إلى الآخر ، بخلاف ما لو كان أحدهما أعم مطلقا من الآخر فلا يسري الحكم من الإنسان إلى ما هو أعم منه الذي هو الحيوان ، ومن هذه الجهة انفتح باب الاشكال في الضدين اللذين لهما ثالث كما في الازالة والصلاة ، بأن لا نأخذ المقابل للازالة نفس الصلاة بل نأخذ مقابلها ما عدا الازالة ، فيكون هذا الضد الذي هو ما عدا الازالة بالنسبة إلى نفس الإزالة من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فيكون الوجوب الطارئ على الازالة

__________________

(١) وينبغي الضرب على ما حررناه أخيرا من قولنا : « و [ لكن ] لا يخفى أن وجود الطبيعة المعاند للازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها أعني عدم الازالة إنما هو الطبيعة بتمام أفرادها ـ إلى قولنا ـ وهو صرف الطبيعة الحالة في البعض الآخر فتأمل ».

فان صرف طبيعة ما عدا الازلة متحد مع عدم الازالة ، فمع حرمة عدم الازالة يكون صرف الطبيعة حراما ، وحيث إن صرف الطبيعة صار حراما ، وهو منطبق على هذا الفرد الذي هو الصلاة ، كان ذلك موجبا لحرمة الصلاة ، ولو انطبق على النوم كان النوم حراما أيضا. [ منه قدس‌سره ].

١٠٩

ساريا إلى ترك ما عدا الازالة ، فيكون ترك ما عدا الازالة واجبا ، ومن جملة ما عدا الازالة نفس الصلاة فيكون تركها واجبا ، كما وجب ترك الافتراق عند وجوب الاجتماع.

وملخص الجواب عن ذلك هو أن يقال : إنا لا نقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر ، وإنما نقول بوجوب ترك الضد الذي لا ثالث معه ، لا من جهة الملازمة بل من جهة ما ذكرناه في حرمة الضد العام الذي هو الترك ، لا من جهة العينية بل من جهة الملازمة بين وجوب الفعل وحرمة (١) تركه ، فان التلازم من قبيل التلازم بالمعنى الأخص ، والانتقال من حرمة ترك الفعل إلى حرمة ضده الذي لا ثالث له من قبيل التلازم بالمعنى الأعم ، وهذا المقدار من التلازم ليس بمتحقق بين حرمة ترك الفعل وبين حرمة طبيعة ما عدا الفعل.

ولا يخفى أن هذا التلازم المدعى في الضد العام بمعنى الترك إن كان هو بين نفس الفعل وتركه فلا يخفى المنع منه ، ولأجل ذلك قال : بداهة أن الآمر بالشيء ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به (٢). وإن كان بين وجوب الفعل وحرمته فكذلك ، وأقصى ما في البين هو أن يدعى أن من أوجد وجوب الفعل يلزمه تحريم تركه ، وبناء على ذلك كان من الممكن إنكار العينية في الضد العام بمعنى الترك ، بل من الممكن إنكار الملازمة في ذلك. ومنه يتضح الوجه في إنكار التلازم في الضدين اللذين لا ثالث لهما فضلا عما لو كان لهما ثالث ، حتى لو أرجعناه إلى ما عدا المأمور به ليكونا من قبيل ما لا ثالث لهما ، فتأمّل.

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة : ترك ، حذفناه للمناسبة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٦.

١١٠

ثم لا يخفى أنا لو تمّ لنا هذا أعني إلحاق أحد الأضداد الوجودية بالضدين اللذين لا ثالث لهما ، ولو تمّ ما افيد من إلحاق الضدين اللذين لا ثالث لهما بالنقيضين ، وتمّ ما افيد من أن الأمر بأحد النقيضين يلزمه النهي عن الآخر ، وتمّ ما ذكرناه من إلحاق النهي بالايجاب بحيث قلنا إن النهي عن الشيء يلزمه الأمر بنقيضه ، كانت شبهة الكعبي (١) قوية ، لأن النهي عن شرب الخمر مثلا يلزمه حينئذ إيجاب نقيضه الذي هو تركه وأحد الأضداد الوجودية من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وقد ألحقناهما بالنقيضين وقلنا إن حرمة أحدهما يلزمها إيجاب الآخر ، فتأمل. وهكذا الحال في وجوب أحد الضدين كالازالة يلزمه حرمة تركه وحرمة أضداده الوجودية.

وقد أورد المقرر في الحاشية (٢) على التقرير بما هذا لفظه : ثم لا يخفى أنه على تقدير تسليم الدلالة الالتزامية في الضد الخاص فيما إذا لم يكن للضدين ثالث لا بدّ من تسليم الدلالة فيما إذا كان للضدين ثالث أيضا ضرورة أن ملاك الدلالة على النهي إنما هو استلزام وجود الشيء لعدم ضده ، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد ، وأما استلزام عدم الشيء لوجود ضده المختص بما إذا لم يكن للضدين ثالث فهو أجبني عن الملاك المزبور بالكلية ... الخ (٣).

وفيه : ما لا يخفى ، فان ملاك الاستلزام المدعى إنما هو الثاني دون

__________________

(١) تقدّم ذكر بعض مصادرها في الصفحة : ١٠٢.

(٢) من أول الشروع إلى هنا لم تكن هذه الحاشية واصلة إلينا ، وإنما وصلت إلينا عند وصول البحث إلى هذه الموارد ٨ / ربيع الثاني / ١٣٦٨ [ منه قدس‌سره ].

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٨.

١١١

الأوّل ، لأنّ المدعى إنما هو إلحاق الضدين [ اللذين ](١) ليس لهما ثالث بالنقيضين بواسطة كونهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فيكون (٢) أحدهما بمنزلة النقيض للآخر ، وحيث قد تحقق أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن نقيضه كان الأمر بأحد هذين الضدين دالاّ على النهي عن ضده الآخر لكون ذلك الضد الآخر متحدا مع نقيض الضد المأمور به ، بحيث كان السكون ـ مثلا ـ الذي هو ضد الحركة المأمور بها متحدا مع عدم الحركة الذي هو نقيض الحركة المأمور بها ، فكان عدم الحركة المأمور بها الذي هو نقيض المأمور به مستلزما لوجود السكون ، فكان نقيض المأمور به مستلزما لوجود ضده الآخر ، لفرض أنه لا ثالث لهما.

وأما الاستلزام الأوّل أعني استلزام وجود المأمور به أعني الحركة لعدم الضد الآخر الذي هو السكون ، فليس هو ملاك استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده الآخر المفروض عدم الثالث لهما ، بل إنما ذلك الاستلزام هو عبارة اخرى عن دعوى المقدمية ، أعني استلزام وجود أحد الضدين المأمور به لعدم الآخر ، لأن وجود ذلك موقوف على عدم ذاك ، وليس ذلك هو الملاك فيما نحن فيه ، بل الملاك فيه هو ما عرفت من كون وجود الضد ملازما لنقيض المأمور به ، كي يكون حاله حال النقيض في أن الأمر به مستلزم للنهي عن نقيضه.

والحاصل : أن الدعوى إنما هي أن ضد المأمور به إذا لم يكن لهما ثالث يكون نقيض ذلك المأمور به أعني عدم المأمور به المفروض كونه منهيا عنه ملازما ومتحدا مع وجوده ، فيكون منهيا عنه لاتحاده مع عدم

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) [ في الأصل هنا زيادة : عدم ، حذفناه للمناسبة ].

١١٢

المأمور به ونقيضه المنهي عنه ، وهذا هو الملاك في النهي المستفاد من الأمر بأحد الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان ملاكه إنما هو اتحاد نقيض المأمور به بما هو ضده ، فيكون الملاك هو ملازمة عدم أحدهما المفروض كونه مأمورا به لوجود الآخر ، وهذا بخلاف ملازمة وجود أحدهما المأمور به مع عدم الآخر ، فانه ليس هو ملاك إلحاق الضدين اللذين لا ثالث لهما بالنقيضين ، بل هو ملاك النهي عن الضد الخاص للمأمور به ، لتوقف وجوده على عدمه ، فيكون عدمه مقدمة لوجود الضد الآخر المأمور به ، فإذا وجبت الحركة وجب عدم السكون لكون عدمه مقدمة لوجود المأمور به أعني الحركة ، وإذا وجبت الازالة وجب ترك الصلاة لكون تركها مقدمة لوجود الازالة ، أو لكون وجود المأمور به أعني الحركة أو الازالة ملازما لعدم ضده أعني السكون أو الصلاة ، ومن الواضح أن كلا من هذين الوجهين لا دخل له بمحط كلمات شيخنا قدس‌سره من الالحاق بالنقيضين ، وإن كان أقصى ما يحصل من الالحاق هو تسرية الحرمة من نقيض المأمور به إلى ملازمه الذي هو السكون ، نظير تسرية الوجوب من الواجب الذي هو الحركة إلى ملازمه الذي هو عدم السكون ، فتأمل.

والانصاف : أن شيخنا قدس‌سره بقياسه الضدين اللذين لا ثالث لهما على المتناقضين ، وتطرقه المسألة من ناحية حرمة نقيض المأمور به إلى ضده الوحيد دون غير الوحيد قد طوّل المسافة ، فان جل غرض المستدل هو تسرية الوجوب من أحد الضدين إلى ملازمه في الوجود الذي هو عدم الآخر ، وجوابه هو المنع عن تسرية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر.

نعم ، لو كان المراد هو ملازمة وجود الضد غير المأمور به مع عدم الضد المأمور به واتحاده معه ، بحيث إنه لا يتحقق عدم المأمور به إلاّ مع

١١٣

وجود ذلك الضد الآخر ، لكان راجعا إلى الأوّل ، وكان ذلك هو ملاك الالحاق المذكور ، لكنه حينئذ كان مختصا بالضدين اللذين لا ثالث لهما حيث إن ما يكون لهما ثالث لا يكون وجود غير المأمور به متحدا مع نقيض المأمور به على وجه يكون عدم ذلك المأمور به متحدا معه في الخارج.

قوله : بداهة أنه عند وجود أحد الضدين يستحيل وجود المقتضي للضد الآخر ، فعدمه مستند إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود الضد ... الخ (١).

لا يخفى أن هذا كله يدور على مطلب واحد وهو استحالة اجتماع المقتضيين ، فان هذا هو الذي أخذه قدس‌سره برهانا على منع المانعية من الطرفين ، بضميمة أن المانع إنما يكون مانعا إذا كان المقتضي للممنوع موجودا ، فلا يكون وجود أحد الضدين مانعا من الآخر ، لأنه حينئذ إنما يكون مانعا إذا كان مقتضي الآخر موجودا ، فيلزم منه أن يكون مقتضي الضد المعدوم الذي هو الممنوع مجتمعا مع مقتضي الضد الموجود الذي هو المانع ، وقد تحقق امتناع اجتماع المقتضيين.

ويمكن التأمل في ذلك أوّلا : باجتماع الارادتين من شخصين. وثانيا : بتأتي الاشكال في جميع الموانع ولو في غير الضدين ، فان المانع لا يعقل اجتماعه مع الممنوع لتنافيهما ، فيكون هذا التنافي موجبا للتنافي بين مقتضاهما ، فلا يعقل اجتماع مقتضي الممنوع مع ما هو مقتضي المانع ، فعند وجود مقتضي المانع يكون مقتضي الممنوع معدوما ، وعند انعدام مقتضي الممنوع لا يكون المانع مانعا.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٢ ـ ١٣.

١١٤

ويمكن أن يقال : إن اجتماع مقتضي المانع مع ما هو مقتضي الممنوع لا مانع منه إذا لم تكن المانعية إلاّ من طرف واحد ، كما في مقتضي الاحراق وهو النار ومقتضي الرطوبة وهو الماء أو مقتضي الماء ، فانه لا مانع من اجتماعهما إذا فرضنا أن ما يقتضيه الماء وهو الرطوبة مانع مما تقتضيه النار وهو الاحتراق دون العكس ، فان الاحتراق الذي هو الممنوع ليس بمانع عن الرطوبة ، وهذا بخلاف ما لو كان التمانع من الطرفين فان اجتماع المقتضيين محال كاجتماع المتمانعين.

ولكنه أيضا لا مانع من اجتماع المقتضيين للضدين ، فان أقصى ما فيه أن يقع التزاحم بين المقتضيين ، فيكون المؤثر ما هو الأقوى منهما ، وإن تساويا لم يؤثر شيء منهما ، كما هو الحال في باب تزاحم الأمرين اللذين تعلق أحدهما بأحد الضدين وتعلق الآخر بالضد الآخر ، غايته أنه عند تزاحم الأوامر مع عدم وجود الأقوى يكون المكلف مخيّرا بين المتعلقين لا أنه يسقط الأمران معا على وجه يجوز له تركهما ، وسيأتي في كلام شيخنا قدس‌سره ما يدل على ذلك ، وذلك قوله في مقام الرد على المحقق الخونساري : ثم إنه كان من الواجب على المحقق الخونساري أن يمنع استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر ... إلخ (١).

أما ما تضمنته الحاشية من قوله في تصحيح اجتماع المقتضيين : لأن كلا من المقتضيين إنما يقتضي أثره في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر ... الخ (٢).

ففيه : أنه لا ريب في أن كلا من المقتضيين إنما يقتضي أثر نفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٢.

١١٥

ولا دخل له بأثر المقتضي الآخر ، ولكن الاشكال إنما جاء من اجتماعهما ، ومع تنافر أثرهما لا يمكن اجتماعهما إلاّ بنحو يكون أحدهما غالبا على الآخر ، وهذه جهة اخرى تصحح اجتماعهما ، إلاّ أن ذلك يخرج الأثرين عن التمانع ويوجب كون التمانع واقعا في المقتضيين ، بمعنى أن المانع هو غلبة المقتضي الغالب وذلك يوجب كون المانع هو وجود المقتضي الغالب. وإن شئت فلاحظ الأمر بالازالة والأمر بالصلاة ، فان كلا منهما وإن كان لا يقتضي إلاّ متعلق نفسه لكن لا يمكن اجتماع الأمرين ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال أن الأولى في الجواب هو إخراج باب متعلقات التكاليف عن حيّز هذه القواعد ، فانها أفعال اختيارية وينحصر المقتضي فيها بارادة المكلف ، ولا مانع ولا ممنوع في ذلك فتأمل. وأما غير الأفعال الاختيارية من الموانع والممنوعات التكوينية فيجاب عن مانعية أحد الضدين فيها لوجود الآخر بالاستحالة من ناحية كون المانع سابقا في الرتبة على الممنوع ، فيؤدي ذلك إلى تقدم كل منهما رتبة على نفسه. فراجع ما حررناه مفصلا في تحريراتنا (١).

ويمكن أن يقال : إن هذه الدعاوي لعله لا أساس لها ، حتى دعوى كون العلة مؤلفة من المقتضي والشرط وعدم المانع حتى في التكوينيات إذ لا مؤثر في الكون إلاّ إرادته تعالى ، وليس هناك مانعية ولا ممنوعية. ولو سلّمنا أنه تعالى أودع في الموجودات قوى بها يكون بعضها مؤثرا في بعض ، كان لنا أن نقول : وحينئذ تقع المسألة في حيّز تزاحم العلل وتقدم ما هو الأقوى ، حتى في مثل النار واحتراق الحطب ، فكما أن النار علة

__________________

(١) صفحة : ٣٢١ [ منه قدس‌سره ] ويقصد به تحريراته المخطوطة.

١١٦

لاحتراق الحطب فكذلك الماء علة في عدم احتراقه ، وحينئذ يكون المقدم هو الأقوى ، وعند وجود الأقوى يمتنع تأثير الضعيف ، فلو قلنا بالمانعية فانما هي قوة المقتضي على المقتضي الآخر ، لا أن وجود المعلول في هذا يكون مانعا من وجود المعلول في الآخر ، وشيخنا قدس‌سره (١) وإن ذكر مثل هذا في الضدين إلاّ أنه جار في كل مقتض ومانع ، بل قد عرفت أنه لا محصل للمانعية إلاّ قوة هذا المقتضي على المقتضي الآخر.

قوله : إلاّ أن لازمه إنكار أصل التوقف والمقدمية في المقام لا إنكار لزوم الدور ... إلخ (٢).

إن قيل : إن حاصل ما أفاده قدس‌سره في المنع عن كون فعل أحد الضدين مقدمة لترك الآخر ، وكون ترك أحدهما مقدمة لفعل الآخر ، أن المقدمية المذكورة تتوقف على المانعية ، وهي أعني المانعية متوقفة على تحقق المقتضي وهو محال ، فتكون المقدمية المذكورة محالا ، والمراد بالمقتضي هنا هو الارادة المتعلقة بالفعل المدعى كون ترك ضده مقدمة له أو كون فعل ضده مقدمة لتركه ، فيلزم من ذلك أن تكون المقدمية متوقفة على إرادة ذي المقدمة ، وهو نظير ما عن المعالم بل أسوأ منه.

وتوضيح ذلك : أنه بناء على ما تقدم من توقف كون الشيء شرطا أو مانعا على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ربما يتوهم أنه نظير ما في المعالم (٣) من توقف وجوب المقدمة (٤) على تحقق إرادة ذيها ، حيث إنه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٤.

(٣) معالم الدين : ٧١.

(٤) [ في الأصل : توقف الوجوب ، والمناسب ما أثبتناه ].

١١٧

يلزم على ذلك أن تكون المقدمية متوقفة على تحقق الشرطية والمانعية وهما موقوفان على تحقق المقتضي الذي هو إرادة المأمور به. والحاصل أنه بناء على كون الارادة هي المقتضي لوجود المأمور به يكون كل مقدمة من مقدماته من قبيل الشرط والمانع ، وقد ذكرتم أن كلا من شرطية الشرط ومانعية المانع موقوف على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ، فتكون المقدمية موقوفة على تحقق إرادة المأمور به.

ومنشأ هذا التوهم هو تخيل كون جميع المقدمات من قبيل شروط تأثير الارادة أو موانع تأثيرها ، فيلزم مما ذكر من توقف الشرطية والمانعية على تحقق المقتضي الذي هو الارادة أن تكون المقدمية متوقفة على تحقق الارادة ، وهو عين ما في المعالم بل هو أسوأ منه ، حيث إن ما في المعالم هو توقف وجوب المقدمة على إرادة ذيها ، وهذا اللازم عبارة عن توقف نفس المقدمية على إرادة ذيها فضلا عن وجوبها.

قلنا في الجواب : إن حاصل هذا التوهم أنه مبني على مقدمتين : الأولى : أن إرادة المأمور به من قبيل المقتضي. الثانية : أن جميع ما تقدم في مقدمة الواجب من المقدمات من قبيل الشرط أو المانع بالنسبة إلى تأثير المقتضي المذكور ، وبضميمة ما افيد من توقف شرطية الشرط ومانعية المانع على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ، ينتج من ذلك أن مقدمية جميع المقدمات متوقفة على تحقق الارادة وتعلقها بالفعل المأمور به.

والمقدمة الأولى وإن كانت مسلّمة في الجملة إلاّ أن عمدة الاشتباه إنما نشأ عن المقدمة الثانية ، فانها إنما نشأت عن الخلط بين ما هو محل الكلام في باب الضد من الشرط والمانع الواقعين في رتبة الارادة ، ولهما الدخل في تأثيرها في رشحها في متعلقها ، وبين سائر المقدمات التي تكون

١١٨

تحت الارادة كشرط المأمور به وسببه ومقدمته الاعدادية ، ونحو ذلك من المقدمات التي يتوقف عليها نفس المأمور به لا رشح الارادة فيه ، فان جميع هذه المقدمات لا يعقل أن تكون واقعة في رتبة إرادة ذي المقدمة على وجه يكون وجودها من قبيل الشرط في تأثير تلك الارادة ، أو من قبيل الدافع لرشحه كي يقال إن مقدميتها الناشئة عن كونها شرطا أو مانعا متوقفة على تحقق تلك الارادة ، بل يكون جميع ما ذكر من المقدمات واقعا تحت الارادة المذكورة ، بمعنى أن الارادة بعد تعلقها ابتداء بنفس الفعل المأمور به تتعلق ثانيا بتلك المقدمات ، أو أن الارادة لمّا تعلّقت بنفس الفعل المأمور به تترشح منها إرادة ثانية متولدة من الارادة الاولى تكون متعلقة بتلك المقدمات التي يتوقف عليها وجود ذلك الفعل المأمور به.

ومن الواضح أن هذه المقدمات لا يعقل أن تكون شرطا في رشح الارادة أو مانعة من رشحها في متعلقها ، لما عرفت من كونها هي المتعلق لتلك الارادة وأنها واقعة تحتها ، فلا يعقل أن يكون وجودها شرطا في رشحها أو مانعا من رشحها.

والحاصل : أن الشرط والمانع اللذين ذكرنا في هذا المقام أن مقدميتهما متوقفة على تحقق الارادة مرتبطان بنفس الارادة وواقعان في درجتها ، ولا دخل لهما بناحية المراد الذي هو تحت الارادة إلاّ باعتبار كونهما لهما الدخل في نفس الارادة التي هي فوقه ، والمقدمات المذكورة في مقدمة الواجب التي ذكرنا أن مقدميتها وكذلك وجوبها غير متوقف على تحقق الارادة إنما ترتبط بنفس المراد ، لكونها واقعة في درجته من كونها تحت الارادة ، ولا ربط لهذه المقدمات بنفس الارادة إلاّ باعتبار كونها تحتها ، باعتبار كونها مرتبطة بما هو متعلقها من حيث توقفه عليها ، فلا

١١٩

يعقل أن تكون مقدميتها التي هي عبارة عن توقف التمكن من المراد عليها موقوفة على نفس الارادة ، لما عرفت من عدم الربط بين هذه المقدمات وبين الارادة.

وإن شئت فقل : إن توقف الفعل على شرط تأثير الارادة المتعلقة به وعلى عدم الدافع لرشح تلك الارادة إنما نشأ من كون رشح تلك الارادة متوقفا على ذلك ، فلا يتحقق التوقف المذكور ولا يكون فعليا إلاّ إذا كانت الارادة المذكورة موجودة ، أما توقف الفعل على باقي المقدمات فلم يكن ناشئا عن كونها لها الدخل في رشح الارادة المتعلقة به أو دفع ذلك الرشح بل إنما يكون ناشئا عن الارتباط الذاتي أو الشرعي بين تلك المقدمات وبين ذيها على وجه يكون وجودها موجبا للتمكن من إيجاد ذيها ، ويكون عدمها موجبا لعدمه ، وهذا الارتباط متحقق بين المقدمات المذكورة ، كانت هناك إرادة متعلقة به أو لم تكن ، لعدم دخله في الارادة أصلا.

ولا يخفى أنه بناء على هذا التقرير لو سلّمنا صحة ما ادعي من كون عدم أحد الضدين بالنسبة الى وجود الضد الآخر الذي هو المأمور به من قبيل عدم المانع لما كان ذلك من المقدمات الواجبة ، لكون ذلك حينئذ من متممات تأثير الارادة المتعلقة بالمأمور به غير القابلة لأن تقع تحت الارادة ومن الواضح أن كل ما هو في مرتبة الارادة لا يعقل أن يتعلق به الوجوب الشرعي ، لكونه عبارة عن الباعث لارادة المكلف نحو المأمور به ، فلا بدّ أن يكون متعلقه مما يمكن أن تتعلق به إرادة المكلف بحيث يكون واقعا تحتها ، ليكون تعلق الأمر به باعثا لتعلق إرادة المكلف به ، أما ما لا يعقل كونه واقعا تحت الارادة على وجه لا يمكن تعلقها به فلا يعقل أن يقع متعلقا للأمر ، من دون فرق في ذلك بين الأمر النفسي والأمر الغيري.

١٢٠