بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

فأجاره وأكرمه وأحسن إليه ، فمدحه وأقام عنده ، ثم إنه لم يرله نصيبا في الجبلين : أجا وسلمى (١) ، فخاف أن لا يكون له منعة (٢) فتحول فنزل على خالد بن سدوس بن أصمع التيهاني ، فأغارت بنو جديلة على امرى ء القيس وهو في جوار خالد بن سدوس ، فذهبوا بإبله ، وكان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص ، فلما أتى امرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره (٣) ، فقال له : أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ، ففعل فركب خالد في أثر القوم حتى أدركهم ، فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري ، قالوا : ما هو لك بجار ، قال : بلى والله وهذه رواحله ، قالوا : كذلك؟ قال : نعم ، فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن وذهبوا بهن وبالابل! وقيل : بل انطوى خالد على الابل فذهب بها ، فأنشد امرؤ القيس هذه القصيدة.

وحجراته : نواحيه ، الواحدة : حجرة مثل جمرات وجمرة. وصيح في حجراته أي صياح الغارة. والرواحل جمع راحلة وهي الناقة التي تصلح لان يشد الرحل (٤) على ظهرها. ويقال للبعير راحلة. وانتصب « حديثا » بإضمار فعل أي هات حديثا أوحدثني حديثا ، ويروى « ولكن حديث » أي ولكن مرادي أو غرضي حديث ، فحذف المبتدا ، و « ما » ههنا يحتمل أن يكون إبهامية وهي التي إذا اقترنت بإسم نكرة زادته إبهاما وشياعا ، كقولك : « « أطني كتاباما » تريدأي كتاب كان ، ويحتمل أن يكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى : « فبما نقضهم ميثاقهم (٥) » وأما حديث الثاني فقد ينصب وقد يرفع ، فمن نصب أبدله عن حديث الاول ، ومن رفع جاز أن يجعل « ما » موصولة بمعنى « الذي » وصلتها الجملة ، أي الذي هو حديث الرواحل ، ثم حذف صدر الجملة كما حذف في « تماما على الذي أحسن (٦) » ويجوز أن يرفع بجعلها استفهامية (٧) بمعنى أي.

____________________

(١) أجأبوزن فعل أحد جبلى طئ وسلمى أحدهما ، راجع المراصد ١ : ٢٨ و ٢ : ٧٢٩.

(٢) المنعة بالتحريك العز والقوة.

(٣) وهو خالد بن سدوس.

(٤) في المصدر : تصلح أن ترحل أى يشد الرحل اه.

(٥) سورة النساء : ١٥٥. سورة المائدة : ١٣.

(٦) سورة الانعام : ١٥٤.

(٧) في المصدر : ويجوز أن يجعل (ما) استفهامية.

١٦١

ثم قال : « وهلم الخطب » هذا يقوي رواية من يروي عنه عليه‌السلام أنه لم يستشهد إلا بصدر البيت ، لانه قال : دع عنك ما مضى وهلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية ، فجعل « هلم ما نحن [ الآن ] فيه من أمر معاوية » قائما مقام قول امرئ القيس « ولكن حديثا ما حديث الرواحل » وهلم لفظ يستعمل لازما ومتعديا ، فاللازم بمعنى تعال ، وأما المتعدي فهي بمعنى هات ، تقول : هلم كذا وكذا ، قال الله تعالى : « هلم شهداءكم (١) » يقول : ولكن هات ذكر الخطب ، فحذف المضاف ، والخطب : الحادث الجليل يعني الاحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا له في الرئاسة ، قائما عند كثير من الناس مقامه ، صالحا لان يقع في مقابلته وأن يكون ندا له! ثم قال : « فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه » يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه ، فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له ، فضحك مما يحكم به الاوقات ويقتضيه تصرف الدهر وتقلبه وذلك ضحك تعجب واعتبار.

ثم قال : « ولا غرو والله » أي ولا عجب والله. ثم فسر ذلك فقال : « ياله خطبا يستفرغ العجب » أي يستنفده ويفنيه يقول : قد صار العجب لا عجب لان هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، وهذا من باب الاغراق والمبالغة [ في المبالغة ]. والاود : العوج.

ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال : « حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه » يعني ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما. و فوار الينبوع : ثقب البئر. قوله : « وجدحوا بيني وبينهم شربا » أي خلطوه ومزجوه و أفسدوه. والوبئ : ذو الوباء والمرض وهذا استعارة ، كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم وجعلوها مظنة الوباء والسقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسدويوبئ ، ثم قال : فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين وحصل لي التمكن من الامر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل ، كاللبن المحض الذي لا يخالطه شئ من الماء. « وإن تكن الاخرى » أي

____________________

(١) سورة الانعام : ١٥٠.

١٦٢

وإن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة ومت أو قتلت والامور على ماهي عليه من الفتنة ودولة الضلالة « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » والآية من القرآن العزيز (١).

وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام وكان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذاهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له : من يعني عليه‌السلام بقوله : « كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين »؟ ومن القوم الذين عناهم الاسدي بقوله : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به »؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟ فقال : يوم السقيفة ، فقلت : إن نفسي لا تتابعني (٢) أن أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول ودفع النصر! فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا أن أنسب الرسول إلى إهمال أمر الامامة وأن يترك الناس سدى (٣) مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث؟

ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون (٤) أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي ، أقام ملة وشرع شريعة واستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره ، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات و الذحول (٥) ولو بعد الازمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به و إن لم يكونوا رهطه الادنين ، والاسلام لم يحل طبائعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في

____________________

(١) من سورة فاطر : ٨.

(٢) في المصدر : لا تسامحنى.

(٣) السدى : المهمل.

(٤) أى يعتقدون.

(٥) الذحل : الثار.

١٦٣

أخلاقهم (١) ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وترالعرب (٢) وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وإذهاق الانفس وتقلد الضغائن ابن عمه الادنى وصهره وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ويتركه بعده وعنده ابنته وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ومحبة لهما ويعدل عنه في الامر بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه؟

ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للاراقة بعده؟ بل يكون هو عليه‌السلام الذي قتلهم وأشاط (٣) بدمائهم ، لانهم لا يعتصمون بعده بأمير يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للآكل وفريسة للمفترس (٤) ، يتخطفهم الناس ويبلغ فيهم الاغراض (٥) ، فأما إذا جعل السلطان فيهم والامر إليهم فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها (٦) ، ويرتدع الناس عنهم لاجلها ، ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم وأبقى (٧) في نفسوهم الاحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم واحدا منهم وجعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس وذوو الاحقاد والتراث (٨) من كل جهة يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد (٩) ، ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك وقام خاصته وخدمه وخوله (١٠) بأمره بعده لحقنت دماء أهل بيته

____________________

(١) في المصدر بعد ذلك : والغرائز بحالها.

(٢) وتر فلانا : أفزعه. أصابه بظلم أو مكروه.

(٣) أشاط فلانا : أهلكه.

(٤) المضغة : القطعة التى تمضغ من لحم وغيره. وفرس الاسد فريسته : دق عنقها ، اصطادها.

(٥) تخطف الشئ : اجتذبه وانتزعه. والغرض : الهدف الذى يرمى اليه.

(٦) صال عليه : سطا عليه وقهره.

(٧) في المصدر : وألقى.

(٨) وتره ترة : أنزعه. أصابه بمكروه.

(٩) شرده : طرده ونفره. وشرد شملهم : فرق جمعهم.

(١٠) الخول : العبيد والاماء وغيرهم من الحاشية.

١٦٤

ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك وابهة السلطنة وقوة الرئاسة وحرمة الامارة.

أفترى ذهب عن رسول الله هذا المعنى؟ أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده؟ وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه؟ أتقول : أنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس (١)؟! وأن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك الانصاري؟! يحكم الامراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع ، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه : ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ويأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل والقروح لم تتعرف (٢) والجروح لم تندمل (٣)؟

فقلت : لقد أحسنت فيما قلت إلا أنه لفظه عليه‌السلام يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : « ونحن الاعلون نسبا والاشدون بالرسول نوطا » فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك « وأنا المنصوص علي المخطوب باسمي » فقال رحمه الله : إنما أتاه من حيث تعلم لامن حيث تجهل ، ألاترى أنه سأله فقال : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ » فهو إنما سأل عن دفعهم عنه وهم أحق به من جهة اللحمة والقرابة ، ولم يكن الاسدي يتصور النص ولا يعتقده ولا يخطر بباله ، لانه لو كان هذا في نفسه لقال له « لم دفعك الناس عن هذا المقام وقد نص عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » ولم يقل هذا ، فإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة « كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به؟ » أي باعتبار الهاشمية والقربى ، فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الاسدي بعينه تمهيدا للجواب ، فقال : « إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غيرنا لانهم استأثروا علينا » ولو

____________________

(١) تكفف الناس : مديده اليهم يستعطى.

(٢) كذا في النسخ : وفي المصدر (لم تنقرف) والصحيح : لم تتقرف وتقرف الجرح : تقشر.

(٣) اندمل الجرح. تماثل وتراجع إلى البرء.

١٦٥

قال له : « أنا المنصوص علي (١) أو المخطوب باسمي في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » لما كان قد أجابه ، لانه ما سأله : هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا : هل نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال : « لم دفعكم قومكم من الامر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ » فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه ، وايضا فلو أخذ يصرح له بالنص ويعرفه تفاصيل باطن الامر لنفرعنه واتهمه ولم يقبل قوله ولم يتحدب (٢) إلى تصديقه ، فكان أولى الامور في حكم السياسة وتدبير الناموس (٣) أن يجيب بما لا نفرة منه ولا مطعن عليه فيه (٤).

أقول : إنما أطنبت بإيراد هذا الكلام لمتانته وقوته ، ولعمري إنه يكفي للمنصف التدبر فيه للعلم ببطلان قول أهل الخلاف ، والله الموفق والمعين.

أقول : أخبار النصوص عليه صلوات الله عليه مذكورة مسطورة في أكثر الابواب السابقة واللاحقة من هذا المجلد ، لا سيما في أبواب الآيات ، وأبواب المناقب والفضائل وباب ما اهدي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأميرالمؤمنين عليه‌السلام وباب جوامع معجزات أميرالمؤمنين عليه‌السلام وقد أوردتها أيضا في باب فضائل شهر رمضان ، وباب بدء خلق أرواح الائمة عليهم‌السلام ، وباب الركبان يوم القيامة ، وباب عصمة الامام ، وباب جوامع معجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

____________________

(١) في المصدر : أنا المنصوص عليه.

(٢) تحدب : تعطف. وفي المصدر : ولم ينجذب.

(٣) في المصدر : وتدبير الناس.

(٤) شرح النهج ٢ : ٧١٧ ٧٢٣.

١٦٦

٦٢

( باب )

* ( نادر فيما امتحن الله به أميرالمؤمنين صلوات الله عليه في ) *

* ( حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد وفاته ) *

١ ـ ل : أبي وابن الوليد معا ، عن سعد ، عن أحمد بن الحسين بن سعيد ، عن جعفر بن محمد النوفلي ، عن يعقوب بن الرائد قال : قال أبوعبدالله جعفر بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، قال : حدثنا يعقوب بن عبدالله الكوفي عن موسى بن عبيد ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن محمد بن الحنفية ، وعمرو بن أبي المقدام ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه‌السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أميرالمؤمنين إني اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ، قال : سل عما بدالك يا أخا اليهود ، قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عزوجل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر امته من بعده وأن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه (١) ويعمل به في امته من بعده ، وأن الله عزوجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الاوصياء في حياة الانبياء؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة؟ وإلى ما يصير آخر أمر الاوصياء إذا رضي محنتهم؟ فقال له علي عليه‌السلام : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به؟ قال : نعم ، قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أجبتك لتسلمن قال : نعم.

فقال له علي عليه‌السلام : إن الله عزوجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء في سبعة

____________________

(١) احتذى مثال فلان وعلى مثاله : اقتدى وتشبه به.

١٦٧

مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الانبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الاوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الانبياء عليهم‌السلام ، ثم يمتحن الاوصياء بعد وفاة الانبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالانبياء ، وقد أكمل لهم السعادة ، قال له رأس اليهود صدقت يا أميرالمؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من مرة؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة؟ وإلى ما يصير آخر أمرك؟ فأخذ علي عليه‌السلام بيده وقال : انهض بنا انبئك بذلك [ يا أخا اليهود ] فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أميرالمؤمنين؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم ، فقام إليه الاشتر فقال : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك فو الله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الارض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبينا سواه ، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا.

فجلس علي عليه‌السلام وأقبل على اليهودي فقال [ له ] : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعة مواطن ، فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعا (١) ، قال : وفيم وفيم يا أميرالمؤمنين؟ قال : أما أولهن فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه (٢) في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه (٣) واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس مقصين له [ ومبغضين ] ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم يحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الارض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله بما آتاه الله غيري (٤) وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل ثم

____________________

(١) أى وجدنى الله مطيعا له بنعمته على.

(٢) في المصدر : وأسعى في قضاء بين يديه.

(٣) نابذه : خالفه وفارقه عن عداوة.

(٤) في المصدر : بما أتاه غيرى اه.

١٦٨

أقبل أميرالمؤمنين عليه‌السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين (١).

فقال عليه‌السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة ، و إبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف (٢) فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل (٣) فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا لنفسي بأن اقتل دونه ، فمضى لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنافيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعة وابن عتبة (٤) كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع صاحبي رضي‌الله‌عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سنا وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عزوجل بيدي وليدا وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي واستشهد ابن

____________________

(١) تأتى هذه القطعة من الحديث في باب (أنه صلوات الله عليه سبق الناس في الاسلام اه) تحت الرقم ٧.

(٢) سيأتي في البيان أن المراد منه مغيرة بن شعبة الثقفى.

(٣) الفخذ : الحى والقبيلة.

(٤) يعنى شيبته بن ربيعة وعتبة بن ربيعة ووليد بن عتبة.

١٦٩

عمي في ذلك اليوم رحمة الله عليه ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال علي عليه‌السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا (١) من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعسكر بأصحابه في سد احد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، و بقيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضى المهاجرون والانصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عزوجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نيفا وسبعين جرحة منها هذه وهذه ثم ألقى رداءه وأمريده على جراحاته وكان مني في ذلك ما على الله عزوجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا ، بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن قريشا والعرب تجمعت وعقدت بينها عقدا وميثاقا لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنبأه بذلك ، فخندق (٢) على نفسه ومن معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوها إلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه

____________________

(١) في المصدر (قد استجابوا) وهو سهو ، والصحيح ما في المتن ، وسيأتى معناه في البيان.

(٢) أى حفر الخندق ، وهو حفير حول المدينة. والظاهر أنه معرب (كنده) كما قاله الفيروزآبادى.

١٧٠

مقدم ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا وضرب بيده إلى ذي الفقار فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقا علي من ابن عبدود ، فقتله الله عزوجل بيدي والعرب لا تعدلها (١) فارسا غيره ، وضربني هذه الضربة وأومأ بيده إلى هامته فهزم الله قريشا والعرب بذلك وبما كان مني [ فيهم ] من النكاية ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فإنا وردنا مع رسول الله مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار (٢) وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه ، حتى إذا احمرت الحدق ودعيت إلى النزال و أهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنة ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ثم التفت إلى أصحابه فقال أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لماتوجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عزوجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسنخ لهم في آخره سورة براءة لتقرأ عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجهه به ، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أورجل منك ، فأنبأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى

____________________

(١) كذا في النسخ والمصدر والمعنى أن العرب لا تعد للعرب فارسا غيره ولكن الظاهر : لا تعدله.

(٢) في المصدر : وهم في أمنع واد.

١٧١

مكة (١) ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهدد والوعيد ، ويبدي إلي البغضاء (٢) ، و يظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قدرأيتم ، ثم التفت عليه‌السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهن ربي عزوجل مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجدني فيها كلها بمنه مطيعا ليس لاحد فيها مثل الذي لي ، ولو شئت لو صفت ذلك ، ولكن الله عزوجل نهى عن التزكية ، فقالوا : يا أميرالمؤمنين صدقت والله لقد أعطاك الله عزوجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ، وأسعدك بأن جعلك أخاه : تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها والاحوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ومما ليس لاحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ومن شهدك بعده ، فأخبرنا يا أميرالمؤمنين ما امتحنك الله عزوجل به بعد نبينا فاحتملته وصبرت عليه ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منابه وظهورا منا عليه ، إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه.

فقال عليه‌السلام : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ونعمته صبورا ، أما أولهن يا أخا اليهود فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول الله ، هو رباني صغيرا وبوأني كبيرا ، وكفاني العيلة وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والوالد والاهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة (٣)

____________________

(١) في المصدر : إلى أهل مكة.

(٢) في المصدر و (د) : ويبدى لى البغضاء.

(٣) في المصدر : إلى ممالى الحق.

١٧٢

عند الله عزوجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مالم أكن أظن الجبال لوحملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع ، وسائر الناس من غير بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادردمعة ولا هائج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي ، وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابرا محتسبا ، ثم التفت عليه‌السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني في حياته على جميع امته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لامري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره إذا حضرته والامير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الامر في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا بعد وفاته ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا من أفناء العرب (١) ولا من الاوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته ولا أحدا ممن يراني بعين البغضاء ممن قدوترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والانصار و المسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئا مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر امته أن يمضي جيش اسامة ولا يختلف (٢)

____________________

(١) في المصدر : من أبناء العرب.

(٢) في هامش (د) : ولا يتخلف ظ.

١٧٣

عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعزفيه أبلغ الايعاز وأكدفيه أكثر التأكيد ، فلم ، أشعر بعد أن قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا برجال من بعث اسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا بمواضعهم (١) وخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا (٢) إلى حل عقدة عقدها الله عزوجل لي ورسوله (٣) في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوالانفسهم عقدا ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لاحد منابني عبدالمطلب أو مشاركة في رأي أو استقالة (٤) لما في أعناقهم من بيعتي ، فعلوا ذلك وأنا برسول الله مشغول وبتجهيزه عن سائر الاشياء مصدود (٥) ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح (٦) ما ورد على قلبي مع الذي أنافيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك و تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها ، ثم التفت عليه‌السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين فقال عليه‌السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يلقاني معتذرا في كل أيامه ويلزم غيره (٧) ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله! فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفوا هنيئا من غير أن احدث في الاسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثا في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلانا يقول فيها نعم وفلانا يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، و

____________________

(١) في المصدر : وأخلوا مواضعهم.

(٢) ركض : عدا مسرعا.

(٣) في المصدر و (د) : ولرسوله.

(٤) استقاله البيعة : طلب منه أن يحلها.

(٥) اى مصروف وممنوع.

(٦) قرحه : جرحه.

(٧) في المصدر : ويلوم غيره.

١٧٤

جماعة من خواص أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الاسلام يأتوني عودا وبدء (١) وعلانية وسرا فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا وصبرا قليلا لعل الله يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطمع في الامر بعده من ليس له بأهل ، فقال كل قوم : منا أمير! وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الامر ، فلما دنت وفاة القائم (٢) وانقضت أيامه صير الامر بعده لصاحبه فكانت هذه اخت اختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذامني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من مضى رحمه الله ومن بقي (٣) ممن أخره الله من اجتمع فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الاول صبرا واحتسابا و يقينا وإشفاقا من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باللين مرة وبالشدة اخرى و بالبذل مرة (٤) وبالسيف اخرى ، حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر و الفرار (٥) والشبع والري واللباس والوطاء والدثار (٦) ، ونحن أهل بيت محمد (ص) لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاءلنا ولا دثار علينا [ و ] يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، وتطوي (٧) الليالي والايام جوعا عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاء الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرباب النعم والاموال تألفا منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يحملها على الخطة (٨) التي لا خلاص لها منها

____________________

(١) يقال : رجع عودا على بدء أى لم يتم ذهأبه حتى وصله برجوعه.

(٢) أى القائم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) في المصدر : ممن مضى وممن بقى اه.

(٤) في المصدر : وبالنذر مرة.

(٥) الظاهر (والفر) كما يأتى في البيان.

(٦) الوطاء : بكسر الواو وفتحها خلاف الغطاء أى ما تفترشه. والدثار : الثوب الذى يستد فأبه من فوق الشعار ، ما يتغطى به النائم.

(٧) في المصدر : ونطوى.

(٨) الخطة : الامر المشكل الذى لا يهتدى اليه.

١٧٥

دون بلوغها أوفناء آجائها ، لاني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على أحد منزلتين : إما متبع مقاتل وإما مقتول إن [ لم ] يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم (١) أنني منه بمنزلة هارون من موسى محل به في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته ، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب أزيد (٢) لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم « وكان أمر الله قدرا مقدورا » ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ومن بحضرتك منهم بأني كنت أكثر عددا وأعز عشيرة وأمنع رجالا وأطوع أمرا وأوضح حجة وأكثر في هذا الدين مناقب وآثارا لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض محمد عليه‌السلام وإن ولاية الامة في يده وفي بيته لا في يد الاولى (٣) تناولوها ولا في بيوتهم ، ولاهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالامر من بعده من غيرهم في جميع الخصال ، ثم التفت عليه‌السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابي يناظره (٤) في ذلك غيري ولا يطمع في الامر بعده سواي ، فلما أن أتته (٥) منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، فكان من فعله أن ختم أمره

____________________

(١) في المصدر : وقد علم الله.

(٢) مفعول رأيت.

(٣) اولاء واولى : اسم موصول. وفي الاختصاص : لا في يد الذين تناولوها.

(٤) في (د) : لا يناظره.

(٥) في المصدر : فلما أتته.

١٧٦

بأن سمى قوما أنا سادسهم ولم يستوفي (١) بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها حاكما علينا! وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الامر فيهم إن لم ينفذوا أمره! وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري (٢) ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الامارة وبسط الايدي والالسن في الامر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه التمس مني شرطا أن اصيرها له بعدي! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عزوجل ووصية الرسول وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان! رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلا عمن دونهم ، لا يبدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال (٣) بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه ، ثم لم تطل الايام بالمستبد بالامر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها وأفظع (٤) وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما امض وأبلغ منها ، ولقد

____________________

(١) في المصدر : (ولم يسونى) وفي الاختصاص (ولم يساونى) وعلى كل فلا يخلو عن اجمال.

(٢) في الاختصاص : فاذا سألونى عن امرى اه.

(٣) في المصدر : وأجال.

(٤) في المصدر : و (د) : وأقطع.

١٧٧

أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عزوجل علي حقي ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعي من اختيها قبلها ورأيت الابقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدى ، ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عزوجل ، فأنزل الله فينا « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (١) » حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا. وما سكتني عن ابن عفان وحثني على الامساك إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الاباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الاقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك (٢) ، لم أنطق فيه بحرف من « لا » ولا « نعم » ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقاله الاموال والمرح في الارض (٣) ، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة فلما لم يجدوا عندي تعللوا الاعاليل ، ثم التفت عليه‌السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ فقالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك (٤) مني وثبوا بالمرأة علي وأنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب (٥)

____________________

(١) سورة الاحزاب : ٢٣.

(٢) أى حتى قتله الاباعد.

(٣) سيأتى معنى الجملة في البيان ، والمرح : الفرح والنشاط الوافر ، والتبختر.

(٤) أى في اعتقال الاموال والمرح في الارض.

(٥) قال في المراصد (١ : ٤٣٣) : الحوأب بالفتح ثم السكون وهمزة مفتوحة موضع في طريق البصرة.

١٧٨

وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم ، جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغيرفهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالاعذار والانذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي والترك لنقضهم عهد الله عزوجل في ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع ، وذكرت فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلا وتماديا وغيا ، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة ولهم الحسرة وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بدا ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك ، وأظهرته آخرا مثل الذي وسعني منه أولا من الاغضاء والامساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معينا لهم علي بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الاطراف وسفك الدماء وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال كعادة بني الاصفر ومن مضى من ملوك سبأ والامم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولا آخرا ، وأهملت (١) المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الامر إلا بعد ما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت ، وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ التمسوه بعد أن أعرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت عليها ، فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيدا ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.

فقال عليه‌السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فتحكيمهم ومحاربة ابن آكلة الاكباد وهو طليق ابن طليق ، معاند لله عزوجل ولرسوله والمؤمنين منذ بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن فتح [ الله ] عليه مكة عنوة ، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالامس أول من سلم علي بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض

____________________

(١) في المصدر : وقد أهملت.

١٧٩

في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إلي حقي وأقره في معدنه وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعا وفي أمانة حملناها حاكما كر على العاصي بن العاص (١) فاستماله فمال إليه! ثم أقبل به بعد إذ أطمعه مصر (٢)! وحرام عليه أن يأخذ من الفئ دون قسمه درهما و حرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم فمن بايعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثا علينا مغيرا في البلاد شرقا وغربا ويميناو شمالا ، والانباء تأتيني والاخبار ترد علي بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن اوليه البلاد التي هو بها لا داريه بما اوليه منها! وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عزوجل في توليته لي مخرجا وأصبت لنفسي في ذلك عذرا ، فأعلمت الرأي في ذلك وشاورت من أثق بنصيحته لله عزوجل ولرسوله ولي وللمؤمنين فكان رأيه في ابن آكلة الاكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن ادخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الاشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه! فلما لم أره يزداد فيما انتهك (٣) من محارم الله إلا تماديا شاورت من معي من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله البدريين والذين ارتضى الله عزوجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، انفذ إليه من كل موضع كتبي واوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم علي ويتمنى علي الاماني ، ويشترط علي شروطا لا يرضاها الله عزوجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواما من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أبرارا ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار؟ والله لقد رأيتنا مع النبي

____________________

(١) في الاختصاص : كر على العاصى ابن العاصى.

(٢) في المصدر والاختصاص : بعد أن أطمعه مصر.

(٣) في المصدر : فلما لم أره أن يزداد فيما انتهك. وفي اختصاص : فلما رأيته لم يزد فيما انتهك.

١٨٠