أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

وهناك قيود أخر في الدواء تكون لها المدخلية في كونه وافيا بتلك المصلحة وتكون قيودا في الواجب.

فالزمان الذي هو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ربما كان دخيلا في مصلحة صلاة الصبح على وجه لو لم يدخل الوقت المذكور لم تكن الصلاة ذات مصلحة ، ثم بعد أن دخل الوقت المذكور وصارت الصلاة المذكورة ذات مصلحة وتعلق الوجوب بها يكون قيامها بتلك المصلحة الباعثة على وجوبها مشروطا بكونها واقعة في الوقت المذكور ، على وجه لو لم تقع في ذلك الوقت ووقعت في خارجه لم تكن وافية بتلك المصلحة وعلى ذلك يكون الوقت المذكور شرطا في كل من الوجوب والواجب.

وفي تحقق هذه الصورة بل في إمكانها إشكال ، حيث إن ما هو شرط الطلب لا يعقل أن يكون بنفسه متعلق ذلك الطلب ، فلا بد في أخذه في الواجب من كونه بنحو آخر غير أصل وجوده أعني كونه ظرفا له ، مثل إذا وجد الوقت الذي هو ما بين الطلوعين فصلّ فيه ، على وجه يكون قيد الوجوب هو أصل وجود الوقت وقيد الواجب هو وقوعه في ذلك الوقت.

وربما لم يكن وفاء الصلاة بتلك المصلحة منوطا بتقيدها بذلك القيد على وجه لو وقعت في خارج ذلك الوقت لكانت وافية بالمصلحة الحاصلة بواسطة دخول الوقت التي كانت باعثة على إيجابها ، وحينئذ يكون الوقت شرطا في الوجوب ولا يكون شرطا في الواجب.

وربما كان الأمر بالعكس بأن كانت المصلحة في الصلاة غير متوقفة على دخول الوقت بل كانت ذات الصلاة مشتملة على المصلحة ولو قبل دخول الوقت ، لكن وفاؤها بتلك المصلحة متوقف على تقيدها بالوقت ، وحينئذ يكون الوقت قيدا في الواجب لا في الوجوب. وهنا مفرق الطريق

٤١

بين مسلك شيخنا قدس‌سره وصاحب الفصول قدس‌سره (١) ، فشيخنا قدس‌سره يرى أن الوقت وإن لم يكن يتوقف عليه الوجوب ملاكا إلا أنه لمّا كان ذلك القيد أعني الوقت المذكور غير مقدور للمكلف يكون ذلك الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالقيد المذكور متوقفا عليه خطابا ، بخلاف مسلك صاحب الفصول فانه يلتزم في هذه الصورة باطلاق الوجوب ملاكا وخطابا ، ويكون المقيد هو الواجب ، فيكون الوجوب عنده حاليا مع كون الواجب استقباليا ، وهو ما يسميه بالواجب المعلّق ، بخلاف الواجب المشروط المنحصر بالصورة الاولى والثانية.

وشيخنا قدس‌سره يرى أن الوجوب في الصور الثلاث مشروط ، غير أنّه في الاولى والثانية يكون الوجوب مقيدا بالزمان خطابا وملاكا ، وفي الثالثة يكون الوجوب مقيدا بالزمان خطابا لا ملاكا. وفي هذه الصورة الثالثة مسلك آخر غير مسلك شيخنا وصاحب الفصول ، وهو مسلك صاحب الكفاية (٢) بتخريج المسألة على الوجوب المشروط بشرط متأخر.

وعلى الزمان فقس بقية القيود غير الاختيارية ، مثل وجوب الصلاة عند حدوث الآية ونحو ذلك من القيود غير الاختيارية ، وطبّق عليها الصور الثلاث وخذ النتائج على حذو أخذها فيما لو كان القيد هو الزمان.

وهكذا الحال في القيود الاختيارية مثل وجوب الاستغفار عند القيام ، لكن بالنسبة إلى الصورتين الاوليين ، أما الثالثة الأخيرة فلا خلاف فيها بين شيخنا قدس‌سره وصاحب الفصول وصاحب الكفاية ، بل يكون الوجوب حينئذ مطلقا بالقياس إلى وجود القيد وعدمه ، ويكون هذا الاطلاق قاضيا بوجوب

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٠٣.

٤٢

القيام ليحصل على الواجب المطلق الذي هو الاستغفار في حال القيام ، ولا داعي عنده لجعله مقيدا بوجود القيد ولو خطابا.

ومع جميع ذلك يظهر لك أنه لا مانع من كون ما هو شرط الوجوب شرطا للواجب ، لكن بالمعنى المزبور أعني كون شرطيته للواجب بمعنى كون الفعل مظروفا له مثلا. كما أنه قد ظهر لك أنه لا مانع من الالتزام بان كل ما يوجب تقييد الهيئة يكون موجبا لتقيد المادة كما عن الشيخ قدس‌سره في المسألة الآتية (١).

ومحصّل ذلك : هو أنّ ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب بالمعنى المذكور ، أعني أن تقيد مفاد الهيئة الذي هو الوجوب يكون موجبا لتقيد المادة بذلك القيد ، والسر في ذلك هو أن الفعل الواجب يكون متفرعا عن الوجوب ، والوجوب متفرع عن الشرط ، فلا يكون الفعل الواجب إلاّ متفرعا عن وجود الشرط ، بمعنى أن الفعل الواجب بما أنه واجب لا يتحقق إلا بعد تحقق الشرط ، فصحّ أن يقال ولو تسامحا إن ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب ، لا بمعنى أن تقييد الوجوب بشيء يكون موجبا لتقييد الواجب بذلك الشيء على وجه يكون ذلك الشيء داخلا تحت الوجوب ، بل بمعنى أن ما يكون الوجوب واقعا تلوه يكون الواجب واقعا تلوه أيضا. والأمر في ذلك سهل ، وإنما أردنا التوفيق بين هاتين الجملتين أعني قولهم إن ما يؤخذ شرطا في الوجوب يستحيل إدخاله شرطا في الواجب ، وقولهم أيضا إن ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب

__________________

(١) [ لعل المراد بها مسألة دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو إلى المادة ، حيث استدل الشيخ قدس‌سره بأن تقييد الهيئة موجب لسقوط إطلاق المادة ، فراجع أجود التقريرات ١ : ٢٣٩ ، وراجع صفحة : ١٤٤ من هذا المجلّد ].

٤٣

فلاحظ وتأمل. وسيتعرض لذلك شيخنا قدس‌سره فيما سيأتي من الخاتمة (١).

ثم لا يخفى أن الصورة الثالثة وهي ما لو كان الصلاح في الفعل المقيد بالقيد غير الاختياري غير متوقف على وجود القيد ، وكان وفاء الفعل بذلك الصلاح متوقفا على تقييده بذلك القيد ، لا بدّ أن يكون من قبيل كون التقييد داخلا والقيد خارجا عن حيز الأمر ، ولكن ذلك لا يغني عن أخذ وجود القيد شرطا في توجه التكليف بذلك المقيد ، فيكون وجوب المقيد مشروطا بوجود ذلك القيد ، غايته أنه مشروط بذلك خطابا لا ملاكا ، هذا على مسلك الاستاذ قدس‌سره.

وأما على مسلك صاحب الفصول فقد عرفت أنه يلتزم بفعلية الوجوب مع كون الواجب استقباليا. ولا يستشكل من ناحية القدرة ، لأن الفعل المقيد مقدور في زمانه. وكذلك على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره فانه يلتزم بكون الوجوب فعليا أيضا مع كونه مشروطا بالزمان المتأخر ، لأن ذلك عنده من قبيل الشرط المتأخر وهو جائز عنده. ولكن المحشي على صفحة ١٣٣ (٢) أورد على شيخنا أنه لا مانع من تعلق التكليف الفعلي بالفعل المقيد من حيث إنه مقيد مع فرض كونه مشروطا بالزمان ، فيكون ذلك من الواجب المعلق المشروط بشرط متأخر.

ولا يخفى أن هذين المطلبين أعني الوجوب المعلق والشرط المتأخر هما عمدة نقطة التقاطع بين مسلك شيخنا قدس‌سره ومسلكيهما ، وسيأتي (٣) إن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣٢ وما بعدها.

(٢) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٩٧ ـ ١٩٨ من الطبعة الحديثة.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٠١ وما بعدها ، ٣٢٨ وما بعدها.

٤٤

شاء الله من شيخنا قدس‌سره إقامة البراهين على محالية كل منهما. وسواء تمت هذه البراهين أو لم تتم فالكلام عليها مع شيخنا قدس‌سره في مواقفهما الآتية. فتوجيه الايراد على ما أفاده شيخنا قدس‌سره هنا من الالتزام باشتراط الزمان خطابا لا ملاكا ، من قبيل تعجيل الايراد لغير أوانه. فراجع الحاشية المذكورة تجد أن عمدة ما فيها هو تخريج المسألة على الواجب المعلّق والواجب المشروط بالشرط المتأخر والالتزام بكل منهما.

ومنه يظهر لك الحال في مسألة وجوب الاستقبال في الصلاة ، فان الداخل تحت الوجوب وإن كان هو تقيد الصلاة بكونها إلى القبلة لا نفس القبلة ، لكن ذلك لا يخرج ذلك التكليف عن كونه مشروطا بوجود القبلة ، غايته أنه مشروط به خطابا لا ملاكا. بل يمكن القطع بأنه مشروط به ملاكا أيضا ، لأنا لا نعلم أنه لو فرض محالا والعياذ بالله انعدام القبلة من الوجود يكون التوجه إليها باقيا على ما هو عليه من الصلاح ، بل يكاد يحصل القطع بأن صلاح التوجه إليها في الصلاة وغيرها متفرع عن وجودها ، وحينئذ يكون وجوب التوجه إليها في الصلاة من قبيل الصورة الاولى أعني كون شرط التكليف شرطا في المكلف به ، غايته كما عرفت سابقا أن ما هو شرط التكليف خطابا وملاكا هو نفس وجود القبلة ، وما هو شرط المكلف به هو كون التوجه في الصلاة إليها ، فلم يكن ما هو شرط التكليف بعينه هو شرط المكلف به تخلصا من المحذور السابق.

ومن ذلك كله يظهر لك التأمل فيما في الحاشية على صفحة ١٣٣ (١)

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٩٧ ـ ١٩٨ من الطبعة الحديثة.

٤٥

وكأنه قد بنى على عدم إمكان الجمع بين تقييد الوجوب بوجود القبلة وتقييد الواجب بها ، ولأجل ذلك نراه قد منع من أخذه قيدا في الوجوب ، بدعوى أن أخذه قيدا فيه يوجب عدم تقييد المأمور به بالقبلة. فأورد عليه بأن لازمه جواز التوجه إلى غير القبلة ، ولا بدّ حينئذ من رجوعه إلى المادة ، وأخرجه من التكليف بغير المقدور ، لأن الواجب هو التقيد لا القيد.

وقد عرفت أنه لا ينبغي الريب في وجوب التوجه إلى القبلة ، وأن هذا أعني التوجه المعبّر عنه بالاستقبال قيد في الصلاة ، وأنه لا بدّ في مثل هذا التكليف المربوط بموضوع خارجي من كونه مشروطا بذلك الموضوع الخارجي ، غايته أن الاشتراط تارة يكون خطابا وملاكا واخرى يكون خطابا فقط. والظاهر أن الاشتراط في مثل الاستقبال يكون خطابا وملاكا ، فأين هذه الجهات من كون الواجب هو التقيد وأن القيد خارج ، إذ لا ريب أنه كذلك في أمثال هذه الموارد مما يكون القيد مربوطا بموضوع خارجي بمعنى أن نفس الموضوع الخارجي لا يكون داخلا تحت التكليف.

وقوله ـ في الحاشية المشار إليها ـ : ومن ذلك يظهر أن أخذ القيد الخارج عن الاختيار أو الداخل تحته مفروض الوجود وإن كان يلازم اشتراط التكليف به ، إلاّ أنه لا ينافي تعلق التكليف بالمقيد بما هو مقيد ... الخ (١).

مسلّم ، إلاّ أن ذلك التكليف المتعلق بالمقيد بما هو مقيد لا يكون فعليا قبل وجود ذلك الشرط بل يكون مشروطا بوجود ذلك ، وهذا أعني الاشتراط هو غاية ما يرومه شيخنا الاستاذ قدس‌سره في قبال صاحب الفصول

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٩٧ ـ ١٩٨.

٤٦

الذي يدعي فعلية التكليف مع كون متعلقه فعلا استقباليا ، وحينئذ فلا محصل لقول المحشي : فتحصل أن كل قيد خارج عن اختيار المكلف فتحققه في الخارج وإن كان شرطا في فعلية التكليف الوجوبي لا محالة إلاّ أنه لا يستلزم عدم تعلق الوجوب بالمقيد بما هو كذلك بعد فرض كونه مقدورا في ظرف حصول قيده ... الخ ، فانه بعد فرض كون القيد شرطا في الوجوب المتعلق بالمقيد بما هو مقيد لا يكون ذلك الوجوب فعليا إلاّ بعد وجود القيد ، بل لا يكون قبل وجوده إلاّ مشروطا بوجوده ، ولازم ذلك أن الوجوب فعلا لا يتعلق بالمقيد بما أنه مقيد ، بل إنما يتعلق به بعد وجود القيد ، أما قبله فلا وجوب أصلا.

أما الجملة الأخيرة وهي كون الفعل مقدورا في ظرف حصول قيده فذلك مطلب آخر يتمسك به صاحب الفصول القائل بأن الوجوب فعلي وإن كان الواجب استقباليا ، فانه يشكل عليه بأنّ المقيد فعلا غير مقدور فكيف يتعلق به الوجوب الفعلي ، فيجيب عنه بأنه مقدور في ظرفه الذي هو ظرف حصول القيد.

وسواء صحت هذه الجملة في الجواب عن هذا الاشكال أو لم تصحّ فليست هي نافعة في تصحيح الفعلية بعد الاعتراف بأن القيد قد اخذ في الوجوب مفروض الوجود الموجب لعدم فعلية الوجوب قبل حصول القيد. فلا وجه لما فرّعه على ذلك بقوله : فلا مانع في تعلق الوجوب الفعلي بالأمر المتأخر المقيد بقيد غير مقدور ... الخ ، كيف والمانع من الفعلية هو أخذ القيد مفروض الوجود. نعم إنّه بملاك عدم القدرة فيكون تقييد الوجوب به خطابا لا ملاكا ، إلاّ أن ذلك لا يوجب فعلية الوجوب قبل

٤٧

حصول ذلك القيد الذي اخذ فيه مفروض الوجود.

ومن ذلك تعرف التأمل على الحاشيتين على صفحة ١٣٥ (١) ، نعم يمكن الالتزام بفعلية الوجوب قبل حصول شرطه الذي هو القيد وجعل ذلك من قبيل الشرط المتأخر كما هو الظاهر من الحاشية الثانية ، فلاحظ قوله : إلاّ أنه لا يقتضي كونه شرطا مقارنا له ... الخ ، فانه ظاهر في بناء المسألة على الشرط المتأخر. وأصرح من ذلك ما تضمنته الحاشية الاولى.

وهذه إحدى مشكلات الواجب المعلّق ، فانه وإن فرض الشرط المتأخر فلم يجعل نفس الزمان المتأخر شرطا في التكليف بل جعل الشرط فيه هو العنوان المنتزع من تأخره ، إلاّ أنه لمّا كان ملتزما بكون الواجب مقيدا بالزمان المتأخر يتوجه عليه أنه إن دخل الزمان تحت الطلب فلازمه جرّ الزمان ، وإن لم يدخل تحت الطلب فلا بدّ من أخذه فيه مفروض الوجود ، وحينئذ يستحيل وجود الطلب قبله إلاّ على الالتزام بالشرط المتأخر.

ثم لا يخفى أن جميع هذه الحواشي من صفحة ١٣٣ إلى صفحة ١٤٢ (٢) بل إلى ما بعد ذلك يبتني الغالب منها على الالتزام بالشرط المتأخر ، وأن الواجب المعلّق الذي ابتكره صاحب الفصول هو من قبيل الشرط المتأخر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (٣) أن صاحب الفصول إنما ابتكر الواجب المعلّق فرارا من الشرط المتأخر ، فانه يدعي كون الشرط هو العنوان المنتزع وهو من الشرط المقارن ، فلا وجه لما في الحاشية الاولى

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٢٠٠ من الطبعة الحديثة.

(٢) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٩٧ ـ ٢٠٩ من الطبعة الحديثة.

(٣) في صفحة : ٥٨ ، ٦٦ ـ ٦٧ ، ٨١.

٤٨

وغيرها صفحة ١٣٦ (١) من أن الوجوب المشروط بشرط متأخر إذا كان متعلقه أمرا استقباليا هو الذي سماه صاحب الفصول بالوجوب التعليقي.

نعم ، يرد على صاحب الفصول قدس‌سره ما عرفت الاشارة إليه ويأتي إن شاء الله تعالى (٢) توضيحه أنه لم يتخلص من محاذير الشرط المتأخر مع أنه يريد الفرار من تلك المحاذير.

وخلاصة البحث هي : أن قيد الوجوب يتوقف عليه الملاك ، فلا بدّ أن يؤخذ مفروض الوجود ، ولا يكون داخلا تحت الأمر ، سواء كان خارجا عن الاختيار أو كان داخلا تحت الاختيار ، وهذا بخلاف قيد الواجب فانه لا يتوقف عليه ملاك الوجوب ، ولا يصح أخذه مفروض الوجود ، ولا بدّ أن يكون تحت الطلب ، ولا بدّ أن يكون اختياريا. أما لو كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، ويكون له المدخلية في الوجوب خطابا وإن لم يكن له الدخل فيه ملاكا ، وهذا على رأي شيخنا قدس‌سره ، لكن صاحب الفصول يخرّج ذلك على الواجب المعلّق ، وصاحب الكفاية يخرّجه على المشروط بشرط متأخر.

أما دعوى إمكان تقييد الواجب بأمر غير اختياري على نحو يكون القيد خارجا والتقييد داخلا فهو لا يرد على شيخنا قدس‌سره ، لأن الذي منعه إنما هو تعلق الوجوب المطلق بالمقيد بقيد غير اختياري ، وهذا لا يكون الوجوب فيه مطلقا بل يكون مشروطا بذلك القيد الخارج. نعم إن ذلك القيد يكون قيدا في كل من الوجوب والواجب ، وهو محال ، لأن مقتضى

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٢٠١ من الطبعة الحديثة.

(٢) في صفحة : ٥٨ ـ ٥٩ ، ٦٥ ـ ٦٦.

٤٩

الأول هو تقدمه على الوجوب ومقتضى الثاني هو تأخره عنه ، لكن الذي صحّح ذلك هنا هو أن نفس القيد خارج عن المأمور به ، والذي هو داخل فيه هو تقيده به ، وذلك لا يستدعي تأخر نفس القيد رتبة عن الوجوب ، وإنّما أقصى ما فيه هو كون تقيد الواجب به متأخرا عن الوجوب لا أن نفس ذلك القيد متأخر عن الوجوب ، فلا يكون ذلك منافيا لكونه شرطا في الوجوب القاضي بتقدمه رتبة على الوجوب.

وخلاصة الفرق بين ما يكون زمانه متأخرا مثل وجوب صلاة الفجر المتوجه في أول الليل ، وبين ما يكون متوقفا على طي المسافة المتوقفة على مقدار من الزمان كالأمر لمن كان بالنجف مثلا بالكون في مسجد الكوفة ، فالأول لا محيص فيه لنا من أخذ نفس الزمان فيه شرطا وإن كان بالنسبة إلى الخطاب فقط ، بخلاف الثاني فانه وإن تأخر عن زمان توجه التكليف إلاّ أنه عند توجه التكليف به إلى المكلف يكون المكلف قادرا عليه ولو بالقدرة على طي المسافة إليه ، فان الشخص الموجود في النجف قادر الآن على الكون في مسجد الكوفة ، وذلك بأن يسعى ويقطع المسافة إليه. نعم إن الكون في المسجد الآن غير مقدور له ، فلا يصح أن يكلف بالكون الآن في مسجد الكوفة ، لأن الكون الآن في مسجد الكوفة غير مقدور له أصلا.

فصار الحاصل أن الفعل المتوقف على طي مسافة بمقدار ساعة مثلا كما لا يصح التكليف به فعلا مقيدا بما بعد تلك الساعة ، كذلك لا يصح التكليف به فعلا مقيدا بكونه واقعا في هذا الآن ، بل إن هذا أردأ من الأول ، إذ يصح في الأول أن يتوجه إليه التكليف مشروطا بمضي ذلك الزمان

٥٠

فيكون الزمان الآتي شرطا في التكليف ، بخلاف الثاني فانه لا يصحّحه الاشتراط ، إذ لا يصح أن يتوجه الآن إلى النجفي تكليف فعلي بالكون الآن في مسجد الكوفة ، لأن مرجع ذلك إلى التكليف بايجاد الكون المذكور بلا طي مسافة ، وهو محال ولو كان مشروطا بألف شرط.

ويمكن أن يقال : إن ما ذكروه في مسألة نية القطع في باب الصوم ونية القاطع ، وأنه في الأول مبطل للصوم بخلاف الثاني إلاّ من جهة لزوم نية الاتمام ، مبني على هذا ، أعني أخذ الزمان المتأخر قيدا ، أو أنه من باب توقف المقدمة عليه ، فان الصائم لو كان في أول النهار مثلا ونوى أنه يقطع صومه في آخره ولكنه عدل عن ذلك قبل الوصول إلى الآخر فانه يكون من باب نية القاطع أعني نية الافطار ، وهي لا توجب شيئا إلاّ باعتبار لزوم نية الاتمام ، بخلاف ما لو نوى الأكل وكان الأكل متوقفا على إحضار الطعام ومدّ يده إليه والتناول منه إلى أن يوصله إلى حلقه ، ولكنه لما وضع يده على الطعام وأوصله إلى فمه عدل من ذلك ولفظ الطعام من فمه ويده. فهو في هذا المقدار من الزمان غير ناو للصوم الذي هو ترك الأكل بل كان ناويا للاكل ، فقد مضى عليه ذلك الآن وهو غير ناو فيه لترك الأكل ، وهو بنفسه موجب للافطار ، بخلاف الصورة الاولى فانه فيها لم يمض عليه زمان كان غير ناو فيه لترك الأكل ، فلا بأس فيه إلاّ من ناحية أنه يلزمه نية الاتمام ، بخلاف الصورة المفروضة فانك قد عرفت أنه فيها قد مضى عليه زمان لم يكن ناويا فيه للصوم الذي هو الترك أو الامساك.

نعم بناء على ذلك لا يكون الأكل غالبا مفطرا ، لأنه يكون بعد نية الأكل ، وهي المفطرة دونه لأنه قد جاء بعدها ، لكن بناء على ذلك ينبغي أن

٥١

يقال إنه إذا عدل لا كفارة عليه لأنه لم يأكل ، وإن وجب عليه القضاء لأنه قد أبطل صومه. وقد نقول بوجوب الكفارة أيضا بناء على أنه يستفاد من أدلتها ترتبها على ترك الصوم عمدا وإن لم يحصل منه الأكل.

قوله : وأما إذا كان مقيدا بقيد غير اختياري فلا شبهة في تعلق الارادة التكوينية به أيضا ، لكن لا بوصف الفعلية والتحريك بل بوصف التقديرية والاناطة نظير القضايا الحقيقية ... الخ (١).

الانصاف أن إدخال التعليق على الارادة التكوينية التي هي كسائر الأفعال الخارجية على وجه يكون التعليق فيها نظير التعليق في الأحكام الشرعية في غاية الاشكال ، فانّ المعلق على مجيء الزمان الفلاني لو كان حكما مثل إذا دخل الوقت وجبت الصلاة ، أو مثل إذا جاء زيد فكتابي ملك لك أو أنت حر ونحو ذلك ممّا لا إشكال فيه ، سواء قلنا إنه من قبيل جعل المسبّب عند تحقق السبب أو قلنا إنه من قبيل جعل السببية. أما لو كان المعلّق على الزمان الفلاني أو على مجيء زيد هو قيامي أو خروجي من الدار أو إرادتي للكون في مسجد الكوفة ونحو ذلك ، فلا إشكال في عدم كونه من ذلك القبيل ، بل إنّ مرجع ذلك إلى الاخبار بالقيام أو بالخروج أو بارادة الكون في مسجد الكوفة على تقدير تحقق المعلق عليه.

نعم ، يمكن أن يكون من قبيل جعل السببية والملازمة كما لو أخذت على نفسك أن تعتق عبدك عند مجيء زيد بنحو شرط السبب بأن تقول له إن جاء زيد أعتقتك أو إني أعتقك إن جاء زيد ، فانّ مرجع ذلك إلى التعهد بالملازمة بين مجيء زيد وبين صدور العتق منك لعبدك عند مجيئه ، فلو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠٤.

٥٢

كان ذلك التعهد لازم الوفاء كان يلزمك أن تعتق عبدك عند مجيء زيد. وعلى أيّ حال لا يكون في البين شيء قبل حصول المعلق عليه ، وهذا هو مراد شيخنا قدس‌سره من تعليق الارادة التكوينية (١) ، سواء قال إذا دخل الوقت الفلاني فأنا عند ذاك تتعلق إرادتي بالكون في مسجد الكوفة ، أو لم يكن في البين قول أصلا سوى أنه تصور أنّ الكون في المسجد يكون ذا مصلحة موافقة له عند دخول الوقت الفلاني ، فانه حينئذ يتصور أنه تتعلق به إرادته عند دخول الوقت الفلاني لا أن تكون هناك إرادة تعليقية ، فلا يرد عليه حينئذ ما تضمنته الحاشية رقم (١) على صفحة ١٣٨ (٢).

ولكن هذا إنما يدفع الجزء الثاني من الاشكال أعني تصوير كون الارادة التكوينية حالية وكون المراد بها مقيدا بوقت استقبالي خاص ، فانه بهذا البيان يتضح لك أنه قبل حضور ذلك الوقت لا يكون في البين إرادة من الفاعل لا فعلية ولا تعليقية ، ولكن يلتزم الفاعل بالاتيان بالمقدمات لأنه يعلم أنه سوف يريد ذلك الفعل ، فيكون ترك مقدماته مفوّتا عليه ما يكون موافقا لغرضه وتتعلق بعد ذلك به إرادته.

أما الجزء الأول من الايراد الذي حرّره في الكفاية (٣) جوابا عن السيد الاصفهاني قدس‌سره الذي أورد على الفصول بأنه لا يعقل فعلية الارادة التكوينية وتأخر المراد عنها زمانا ، فقد أورد عليه صاحب الكفاية بجريان ذلك أعني

__________________

(١) بمعنى أنه قبل حصول المعلّق عليه لا يكون في البين إرادة بل ولا الشوق ، فانّ تصوره لمصلحة شرب الماء على تقدير العطش لا يولّد في حقه إرادة فعلية متعلقة بشرب الماء ، بل ولا ينقدح في نفسه الشوق إلى شرب الماء على تقدير العطش. [ منه قدس‌سره ].

(٢) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٢٠٤ من الطبعة الحديثة.

(٣) كفاية الاصول : ١٠٢.

٥٣

انفصال المراد زمانا عن الارادة فيما لو كان المراد نفس الكون في مسجد الكوفة المفروض أنه يتوقف على السير إليها المحتاج إلى مضي مقدار من الزمان ، فانّ إرادته لذلك السير تكون ناشئة عن تعلق إرادته بالكون في المسجد ، وقد انفصل عن الارادة بمقدار الزمان الذي تحتاجه تلك المقدمات.

وهذا النقض مأخوذ من كلمات صاحب الفصول قدس‌سره فانه قال : ومن هذا النوع ( يعني الواجب المعلق الذي يكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا ) كل واجب مطلق توقف وجوده على مقدمات مقدورة غير حاصلة ، فانه يجب قبل وجوب المقدمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه ، وإلاّ لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أو التكليف بما لا يطاق ، وكلاهما ضروري الفساد (١).

وعلى أي حال لا بدّ في الجواب عن هذا النقض بأن يقال : إنه لم تتعلق إرادته بالكون إلاّ بعد الفراغ عن المقدمات ، ويكون إقدامه على تلك المقدمات ناشئا عن حبه وشوقه إلى الكون وإن لم تتم إرادته إلاّ بعد الفراغ عن تلك المقدمات.

ولا يبعد أن يكون النزاع لفظيا في هذا المقدار من الحب والشوق الباعث على المقدمات ، فالسيد قدس‌سره لا يقول إنه عين الارادة بل هو من مقدماتها ، وصاحب الكفاية قدس‌سره يقول إنه عين الارادة غايته أنها لا تؤثر في تحقق المراد لأنه لم يحن وقته بعد فيما لو كان المراد موقتا ، أو لأنه لمّا كان تحقق المراد متوقفا على تلك المقدمات كان تأثيرها متوقفا على الفراغ منها.

ولا يخفى أنه لو كانت تلك الارادة الموجودة قبل الشروع في

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٠.

٥٤

المقدمات هي المؤثرة لم يكن محتاجا إلى إرادة جديدة ، إلاّ أن يدعى أنها باقية مستمرة إلى الفراغ من المقدمات بل إلى حصول المراد.

ويمكن أن يكون هذا النزاع جوهريا منشؤه النزاع في اتحاد الطلب والارادة وتغايرهما ، فمثل شيخنا قدس‌سره (١) يقول إن في النفس قبل الفعل امورا أربعة : تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق إليه وطلبه بمعنى حملة النفس عليه. وغيره يقول إن الطلب هو نفس الارادة التي هي نفس الشوق. وعلى الأول يكون الأمر الاستقبالي فاقدا للجزء الرابع بخلافه على الثاني فانه لا يفقد شيئا ، لأنهم يقولون إن الطلب عين الارادة وهي عبارة عن نفس الشوق المؤكد ، وهو حاصل في الفعل المستقبلي كما هو بعينه وبمرتبته حاصل في الفعل الحالي.

وكيف كان ، فالذي أخاله أن محل النزاع أعني إمكان كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا لا دخل له بمسألة إمكان تعلق الارادة التكوينية فعلا بفعل يكون متأخرا عنها زمانا. فسواء قلنا بامكان تأخر المراد زمانا عن إرادتنا التكوينية أو قلنا بعدم إمكانه فذلك لا دخل له بالارادة الشرعية الآمرية ، فان الارادة التشريعية التي نتكلم عنها وأنها عين الوجوب ليست هي من سنخ إراداتنا التكوينية ولا من سنخ الشوق المؤكد ، بل هي من سنخ الأحكام الشرعية ، لأنها عين الوجوب الذي عرفت شرحه فيما تقدم (٢) وأن له شبها بالأحكام الوضعية المنجعلة بالجعل.

فان قلنا إنه عبارة عن البعث والتحريك ، أو قلنا إنه أعني الوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٥ وما بعدها.

(٢) راجع ما تقدم في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، في صيغة الأمر صفحة : ٣٣٩ وما بعدها ، وصفحة : ٣٤٩ وما بعدها.

٥٥

منتزع من البعث والتحريك ، أو قلنا إنه يلزمه ذلك وإن لم يكن هو عينه ، أو اتفق أنه قد ابرز بقالب البعث والتحريك أعني صيغة افعل وما يؤدي مؤداها من البعث والتحريك وإن كان بصورة الجملة الخبرية مثل قوله تعالى : ( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ )(١) فلا ينبغي الريب في عدم معقولية البعث الفعلي إلى ما يكون زمانه بعد ذلك.

وإن قلنا بأنه أعني الوجوب اعتبار صرف محصله هو كون العبد ملزما بالفعل وأنه على عاتقه ونحو ذلك من التعبيرات ، فعلى الظاهر أنه لا مانع من تحققه قبل زمان الفعل الواجب. ولعل من هذا القبيل ما لو استؤجر فعلا على عمل يكون زمانه بعد زمان عقد الاجارة. وليس المراد التنظير من ناحية الملكية كي يجاب عنه بما عن شيخنا قدس‌سره (٢) بامكان حصول الملكية مع تأخر المملوك ، بل المراد التنظير من ناحية كون الفعل على عاتق الأجير فعلا مع كون زمانه متأخرا عن صيرورته على عاتقه.

ولكن مع ذلك كله نقول إن الوجوب ولو كان مجردا عن البعث والتحريك لو كان متعلقا بفعل مقيد بالزمان المتأخر كان من اللازم كونه مشروطا بذلك الزمان ، إما بنحو الشرط المتأخر كما هو مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) ، وإما بنحو يكون الشرط هو العنوان المنتزع من وجود ذلك الزمان المتأخر كما هو مسلك صاحب الفصول قدس‌سره (٤). والبحث في الأول في محله من الكلام على الشرط المتأخر ، وفي الثاني هو الذي ينبغي أن

__________________

(١) الصف ٦١ : ١١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢١٠.

(٣) كفاية الاصول : ١٠٣.

(٤) الفصول الغروية : ٨٠.

٥٦

يتكلم عليه في هذا المقام ، وسيأتي (١) الكلام عليه مفصلا في حواشي صفحة ١٢٠ (٢) إن شاء الله تعالى.

وحاصل ما سيأتي وخلاصته : هو أنّا لو سلّمنا كون الشرط هو العنوان المنتزع من وجود الزمان المتأخر ، وأن الوجوب فعلي ومتعلقه هو الفعل المقيد بالزمان الآتي ، فنفس الزمان الآتي لا يعقل دخوله تحت الوجوب الفعلي حتى لو أخذنا الوجوب عبارة عن كون الفعل على عاتق المكلف وجرّدناه عن التحريك والبعث فانه لا يمكن كون الزمان الآتي ملقى على عاتق المكلف ، وإلاّ كان اللازم كون جرّ الزمان الآتي إلى الآن الفعلي على عاتق المكلف وذلك واضح البطلان.

وإذا قلنا بخروجه عن حيّز الوجوب الفعلي لزمنا القول بأن الزمان الآتي قد أخذ في هذا الوجوب الفعلي مفروض الحصول ، فيكون الزمان الآتي بنفسه شرطا في الوجوب ، فلا يكون الوجوب متحققا إلاّ بعد حصول ذلك الزمان ، فلا يتم القول باطلاق الوجوب الحالي إلاّ إذا جعلنا ذلك الشرط من الشرط المتأخر ليخرج عن حيّز الوجوب ، ويكون الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان الآتي فعليا في هذا الزمان ، هذا.

ولكن يرد النقض بالفعل المستأجر عليه لو كان مستقبلا مع كون الاجارة في الحال ، فانها توجب كون ذلك الفعل المقيد بالزمان المستقبل على عاتق الأجير فعلا مع أن قيده وهو الزمان المستقبل لا يمكن الالتزام بكونه داخلا في التعهد الاجاري.

ومنشأ هذا الاشكال هو تخيل كون الوجوب التكليفي من سنخ الوضع

__________________

(١) في صفحة : ٦٠ وما بعدها.

(٢) من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

٥٧

الصرف ، أعني كون الفعل ملقى على عاتق المكلف ، فانه حينئذ يكون حاله حال باب الاجارة وسائر التعهدات الحالية المتعلقة بفعل استقبالي. ولا ينبغي الريب في فساد هذا التخيل ، فان الوجوب وإن جردناه من البعث والتحريك الفعليين إلاّ أنه يغاير التعهد الصرف بواسطة كون الوجوب تكليفا بالاتيان بالفعل الذي تعلق به الوجوب ، فان كان الوجوب فعليا كان مقتضاه لزوم الاتيان فعلا بذلك الفعل المقيد بالزمان المستقبل ، ولا يكون ذلك إلاّ بجر الزمان ، إلاّ باخراج القيد عن حيز الوجوب وأخذه فيه مفروض الوجود ليكون الوجوب مشروطا بوجوده. وهذا بخلاف التعهد الصرف فانه وإن تبعه وجوب الوفاء بما تعهد به إلاّ أنّ الوفاء بذلك يحصل بالاتيان بالفعل في ظرفه المستقبل ، بحيث إنه لو جاء به قبل ذلك كان على خلاف ذلك التعهد.

والخلاصة : هي أن الوجوب الفعلي لا يلتئم مع كون الواجب مقيدا بالزمان المستقبل ، بخلاف التعهد الفعلي فانه يلتئم مع كون الفعل الذي تعهد به مقيدا بالزمان المستقبل.

ثم لا يخفى أن صاحب الفصول قد فرّ من الشرط المتأخر إلى حيلة كون الشرط هو العنوان المنتزع ، وقد وقع في محذور الشرط المتأخر وهو تأثير اللاحق في السابق. وهذا المحذور جار في العنوان المنتزع فانه معلول لوجود الزمان المتأخر ، فكيف يتحقق هذا العنوان المنتزع فعلا مع أنه معلول لما هو المتأخر ، إلاّ أن ندعي أن العلة في هذا العنوان المنتزع ليس هو وجود الزمان المتأخر بل العلة فيه هو تقدم الطلب.

وبعبارة اخرى : أن العنوان المنتزع ليس هو تأخر الزمان عن الطلب بل هو سبق الطلب على الزمان المتأخر. وإن شئت فقل : إن العنوان المنتزع هو عبارة عن الاضافة المتقومة بين المكلف وبين الزمان الآتي ، فان كان

٥٨

لحوق اللاحق له المدخلية في انتزاع هذه الاضافة استحال تحققها قبل تحقق ذلك اللاحق ، وإن قلنا إن قوامها هو سبق السابق أمكن القول بتحققها قبل لحوق اللاحق.

والظاهر هو الأول ، فلا يكون في أخذ العنوان المنتزع تخلصا من محذور الشرط المتأخر. وقد شرحنا ذلك في مبحث الفضولي على القول بكون الاجازة كاشفة عن تحقق الشرط أعني العنوان المنتزع وهو كون العقد بحيث تلحقه الاجازة فراجع (١). وسيأتي (٢) الكلام عليه مفصلا في مباحث الشرط المتأخر في حواشي صفحة ١٨٦ (٣) وما بعدها إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : لا مخلص عن إشكال دخول الزمان المتأخر تحت الطلب إلاّ بدعوى أن نفس ذلك الزمان وإن لم يكن شرطا في الطلب ، بل كان الشرط فيه هو العنوان المنتزع ، إلاّ أن نفس الزمان المتأخر لا يدخل تحت الطلب لأنه بمنزلة ما لو كان بنفسه شرطا ، حيث إن نفس ذلك الزمان يكون سابقا في الرتبة على الشرط الذي هو العنوان المنتزع. وهذا العنوان المنتزع سابق في الرتبة على نفس الطلب لكونه شرطا فيه ، فكما لا يعقل دخول هذا الشرط أعني العنوان المنتزع تحت الطلب لكونه سابقا في الرتبة على الطلب ، فكذلك لا يعقل دخول نفس الزمان تحت الطلب لكونه سابقا في الرتبة على ما هو سابق على الطلب.

وهذه الدعوى عبارة اخرى عن الالتزام بكون الزمان المتأخر علة في المتقدم الذي هو العنوان المنتزع ، فيعود محذور الشرط المتأخر وهو تأثير

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) في صفحة : ١٢ وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

(٣) من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

٥٩

اللاحق في السابق. وإن شئت فقل : إن الشرط لو كان هو العنوان المنتزع من الزمان المتأخر وكان هذا العنوان متوقفا على الزمان المتأخر ، رجع الأمر بالأخرة إلى توقف الطلب على نفس ذلك الزمان المتأخر ، فلاحظ وتأمل.

قوله : مع الغفلة من أن المانع هو استحالة تعلق التكليف بغير المقدور ... الخ (١).

قد يشكل على الواجب المعلق بعدم القدرة ، وبأن الفعل المتأخر لا تتعلق به الارادة الفاعلية فعلا ، فلا وجه لتعلق الطلب به ، إما لأن الارادة التشريعية يجري فيها ما يجري في الارادة التكوينية ، فكما أن الارادة التكوينية من العبد لا تتعلق بما هو متأخر زمانا فكذلك الارادة الشرعية ، أو نقول إن الغرض من الارادة الشرعية إنما يكون هو تحريك إرادة العبد ، فلو كان تعلق إرادة العبد بالفعل المتأخر محالا لكونه غير مقدور كانت الارادة الشرعية ممتنعة.

وحينئذ فلا يكون المنشأ في امتناع تعلق كل من الارادة الشرعية والارادة التكوينية من العبد إلاّ كون الفعل المتأخر غير مقدور ، فيمكن حينئذ أن يجاب عن ذلك بما في الكفاية (٢) من كون الفعل مقدورا في وقته ولا يعتبر في الفعل الواجب أن يكون مقدورا حين الأمر بل حين الامتثال.

وقد أخذنا في تحريراتنا هذا الجواب وشرحناه بما لا مزيد عليه ، وحاصله : أن كلا من القدرة والمقدور متأخر. وقد اطلع شيخنا قدس‌سره على ذلك التحرير وتفضّل بأن كتب عليه الجواب عنه بخطه الشريف بما فيه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الاصول : ١٠٣.

٦٠