أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

كما في موارد اليد أو البينة ، ومن دون فرق أيضا بين كون الأصل من قبيل قاعدة الطهارة أو الحل أو الاستصحاب أو قاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز أو البراءة ، كما لو قلنا بها في مورد الشك في كون اللباس مما يؤكل لحمه ، إلى غير ذلك من موارد الاصول الاحرازية أو غير الاحرازية.

وقيام الدليل على عدم الاعادة في بعض تلك الموارد كما في الصلاة في النجس أو مع فوات بعض الأجزاء ، لا يكون من باب الاجزاء بل من باب سقوط شرطية ذلك الشرط أو جزئية ذلك الجزء. وما لم يدل دليل على عدم لزوم الاعادة كان مقتضى القاعدة هو البطلان ، ولزوم الاعادة لو انكشف الخلاف في الوقت والقضاء لو لم ينكشف إلاّ في خارجه.

ولو استمر الجهل ولم ينكشف الخلاف حتى مات ذلك المكلف بقي مشغول الذمة وإن لم يكن معاقبا بل كان معذورا في ذلك ، فعلى وليه أو وارثه القضاء عنه. وما ذلك إلاّ من قبيل من شك بعد خروج الوقت في الاتيان بالصلاة في وقتها وأجرى قاعدة الحيلولة مع فرض كونه في الواقع لم يأت بالصلاة في وقتها ، وبقي على ذلك حتى مات ، فان على وليه أو وارثه القضاء عنه ، فكذلك لو أجرى قاعدة التجاوز أو الفراغ في موارد الشك في الركوع بعد التجاوز مع أنّه في الواقع لم يركع وبقي على ذلك حتى مات ، فان على وليه القضاء عنه لو اطلع على ذلك. وهكذا الحال فيما لو كان المستند في ذلك الأمر الظاهري هو الأمارات كالبينة.

وما أفاده في الكفاية (١) وأتعب نفسه فيه من بيان الحكم بناء على السببية غير مجد ، فان هذه السببية التي أفادها هنا هي سببية المعتزلة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦.

٤٢١

المستلزمة للتصويب الذي لا نقول به ، وأين هي من السببية التي قالها الشيخ قدس‌سره (١) من المصلحة السلوكية التي لا تؤثر على المصلحة الواقعية.

وحينئذ يتضح لك أن ما أفاده في الكفاية (٢) من جريان الصور الخمس التي ذكرها في الأمر الاضطراري مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان السببية بالمعنى الذي يقوله المعتزلة توجب قلب الواقع ، ولا محصّل لبقاء شيء من مصلحة الواقع ، إذ أنه بناء عليها يقع الكسر والانكسار في المصلحتين. فان كانت مصلحة الواقع هي الغالبة لم يعقل أن يجعل الشارع تلك الأمارة حجة ، وإن كانت مصلحة الأمارة هي الغالبة لم يأمر الشارع إلاّ بمقتضاها ولا يأمر بالواقع. وبالجملة : أن التزاحم بين المصلحتين لا يكون إلاّ آمريا ، ولا تكون نتيجته إلاّ وحدة الأمر إما على طبق الواقع وإما على طبق الامارة.

هذا كله فيما لو انكشف الخلاف انكشافا قطعيا في موارد الشبهات الموضوعية. أما الشبهات الحكمية فقد قدّمنا (٣) ندرة انكشاف الخلاف فيها انكشافا قطعيا ، لكن لو اتفق كما لو بنى على عدم نجاسة ماء البئر ثم بعد العلم قام الإجماع القطعي على النجاسة مثلا ، فانه لو فرض ذلك فانه لا ينبغي الاشكال في عدم الاجزاء أيضا بعد البناء على أن الحكم الظاهري سواء كان من أمارة أو أصل أيّ أصل من الاصول لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه.

ومنه يظهر الحكم في موارد الانكشاف غير القطعي ، ونعني بذلك أن يتبدل الحكم الظاهري وينتقل المكلف من حكم ظاهري إلى حكم ظاهري

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٤ وما بعدها.

(٢) كفاية الاصول : ٨٦.

(٣) في صفحة : ٣٧٦.

٤٢٢

آخر ، يكون مقتضى الثاني هو بطلان العمل السابق الذي وقع على طبق الأول ، سواء كان ذلك في الشبهات الموضوعية ، أو كان في الشبهات الحكمية ويعبّر عنه بتبدل الرأي والعدول ، أو كان في تبدل التقليد.

كما أنه لا فرق في الأولين بين أن يكون الانتقال من أمارة إلى أمارة اخرى على خلافها ، أو من أصل إلى أصل آخر كما لو بنى على قاعدة الطهارة في هذا الماء ثم بعد العمل علم أنه كان نجسا سابقا وقد شك في تطهيره ، أو كان من قبيل الانتقال من أصل إلى أمارة ، أو كان من قبيل الانتقال من أمارة إلى أصل ، كما لو شهدت البينة ثم بعد العمل شهدت اخرى بضدّها ، أو عدلت الاولى عمّا شهدت به ، فرجع بعد ذلك إلى استصحاب النجاسة ، إلى غير ذلك من موجبات الانتقال من حكم ظاهري إلى آخر ، فان الحكم في جميع ذلك هو عدم الاجزاء ، ولزوم الاعادة فيما لو كان مقتضى الحكم الظاهري الثاني هو فساد العمل السابق الذي وقع على طبق الحكم الظاهري الأول ، من دون فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعية أو الشبهات الحكمية.

والظاهر أن الانتقال من تقليد لآخر يكون حكمه كذلك ، وإن كان الأول أوضح خصوصا في الشبهات الحكمية التي هي موارد تبدل رأي المجتهد ، فانه عند تبدل رأيه يرتفع قطعه بالحكم الظاهري الأول ، فهو الآن يرى رأيه السابق غير حجة ، وأن ذلك الحكم الظاهري السابق كان خطأ ، بخلاف فتوى المجتهد الثاني فانها لا تمسّ كرامة حجية فتوى المجتهد الأول في ظرفها ، على تأمل في هذا الفرق ، لأن الحكم الظاهري السابق في تبدل الرأي الذي كان على طبق الرأي السابق أيضا لا تمسّ كرامة حجيته

٤٢٣

في ظرفه ، نعم تنقطع حجيته فعلا بالرأي اللاحق كما تنقطع حجية فتوى المجتهد السابق بفتوى المجتهد اللاحق.

وعلى كل حال فالظاهر أنّ حال تبدل التقليد كحال تبدل الرأي في اقتضائه فساد الأعمال السابقة ولزوم إعادتها ، إلاّ أن يقال إن فتوى المجتهد اللاحق وإن كانت شاملة للأفعال السابقة إلاّ أن دليل حجيتها قاصر عن الشمول للأفعال السابقة ، والقدر المتيقن من دليل حجيتها إنما هو الأفعال المتأخرة عن تقليده. أو نقول إن دليل حجيتها وإن كان في حد نفسه شاملا للأفعال السابقة ، إلاّ أن الاجماع على عدم الاعادة في ذلك كاشف عن اختصاص حجيتها بالأفعال المتأخرة عنها.

وحينئذ لو تم أحد هذين الأمرين من دعوى قصور دليل الحجية أو دعوى الاجماع المذكور ، لم يكن عدم الاعادة من باب الاجزاء كما أنه ليس من باب التصويب ، بل من باب عدم قيام الحجة على فساد الأعمال السابقة.

وبذلك التوجيه يمكن أن يكون عمل العامي المقلد لمن عدل رأيه على خلاف عمل ذلك المجتهد ، فان على المجتهد إعادة الأعمال السابقة لعدم قصور حجية رأيه الجديد ، وليس على ذلك العامي إعادتها لقصور دليل حجية هذا الرأي الجديد عن الشمول للأفعال السابقة عليه.

ويتضح ذلك في لزوم عمل المجتهد برأيه وعمل العامي بقول المجتهد ، فان الأول إنما يكون حجة على نفس ذلك المجتهد باعتبار كونه كاشفا له عن الواقع ، ومن الواضح أن ذلك لا يفرق فيه بين السابق واللاحق ، بخلاف الثاني فانه إنما يكون حجة على العامي باعتبار الاسترشاد والدلالة على الطريق ، وهذا إنما يكون فيما يأتي من الأعمال دون ما سبق.

٤٢٤

ودخول ما سبق باعتبار الاعادة وأنها فعل لاحق ممنوع ، من جهة أن اقتضاء الاعادة فرع كون الحجية شاملة للفعل السابق ليكون بحسبها محكوما بالفساد لتجب إعادته.

قال في الكفاية في باب الاجتهاد فيما إذا اضمحل الاجتهاد السابق : وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بد من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر كما نهض في الصلاة وغيرها مثل حديث لا تعاد (١) وحديث الرفع (٢) ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي. وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح ... الخ (٣).

وحيث إن الكلام إنما هو في تبدل الرأي في الشبهات الحكمية كما لو بنى على عدم جزئية السورة ثم رجع عن ذلك ، ففي جريان حديث لا تعاد في مثل ذلك إشكال تعرض له شيخنا قدس‌سره في محله (٤) ، والمتحصل منه هو عدم جريان حديث لا تعاد في موارد الجهل بالحكم. ولا يخفى أن لازم جريان حديث لا تعاد في الجزء المتروك جهلا بالحكم يوجب اختصاص جزئيته بصورة العلم بها ، فيتأتى فيه إشكال أخذ العلم بالحكم في موضوعه. ويدفع الاشكال بأن ذلك من قبيل متمم الجعل. وفيه تأمل ، إلاّ أن يخرّج على الوجوب النفسي وأن العلم به يوجب الجزئية ، فتأمل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٣) كفاية الاصول : ٤٧٠.

(٤) كتاب الصلاة ٣ : ٥ وما بعدها.

٤٢٥

أما حديث الرفع فلم أتوفق لما هو المراد من إجرائه واقتضائه الاجزاء بمعنى عدم الاعادة أو القضاء (١) فان كان المراد هو إجراءه في الاعادة فلا يخفى ما فيه ، وإن كان المراد من إجرائه هو إجراءه في القضاء بناء على أنه بأمر جديد ، ففيه أنه بعد قيام الدليل على بطلان العمل السابق لا يبقى مجال للشك في لزوم القضاء بعد فرض كون ذلك الفعل الواجب مما يدخله القضاء. وإن كان المراد من إجرائه هو إجراءه في أصل العمل ، بمعنى أن ذلك المجتهد كان رأيه على عدم وجوب السورة استنادا إلى حديث الرفع ثم عدل عن ذلك لقيام الدليل على وجوبها ، ففيه : أن هذا من فروع كون الحكومة حكومة واقعية ، وقد تقدم (٢) المنع من ذلك ، وأن مثل حديث الرفع لا يرفع الجزئية رفعا واقعيا على وجه يكون حاكما على دليل الجزئية واقعا حكومة واقعية ، وإنما أقصى ما فيه هو المعذورية والرفع الظاهري ، وذلك لا يقتضي الاجزاء وعدم الاعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف أو قيام الدليل على الجزئية ، هذا.

مضافا إلى أن ذلك سيأتي في آخر المبحث (٣) فلا يمكن حمل هذه العبارة عليه مضافا إلى كونه خلاف الظاهر منها ، فان الظاهر منها هو بعد أن اضمحل الاجتهاد السابق يكون مقتضى القاعدة هي الاعادة ، إلاّ إذا نهض دليل على صحة العمل السابق مثل حديث لا تعاد وحديث الرفع ، فيكون حديث الرفع جاريا بعد أن تبدل الرأي لا أنه كان جاريا قبل ذلك وكان

__________________

(١) نقل الشيخ فيما حكي عنه في التقريرات [ مطارح الأنظار ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦ ] عن بعضهم الاحتجاج للاجزاء بالبراءة. وأورد عليه بأنه بعد الانكشاف ووجود الأمر الواقعي لا وجه لأصالة البراءة [ منه قدس‌سره ].

(٢) لاحظ ما تقدم في صفحة : ٣٧٥ وما بعدها.

(٣) كفاية الاصول : ٤٧١.

٤٢٦

جريانه هو المعدول عنه.

ويمكن أن يقال : إن جريان حديث الرفع بعد أن تبدل رأيه من عدم الجزئية إلى الجزئية ، لكن الجزئية ولو ثبتت عنده بالدليل الذي قام عنده أخيرا إلاّ أن حديث الرفع لما كان رافعا للجزئية في حال الجهل يكون رافعا للجزئية ، لأنه إنما ترك ذلك الجزء في حال الجهل بجزئيته ، فلا يرد عليه حينئذ إلاّ ما تقدم من أن هذه الحكومة لا تكون إلاّ ظاهرية ، فلا يكون حديث الرفع جاريا مع فرض قيام الدليل على الجزئية.

ويمكن دفع هذا الاشكال بأن يقال : إن الجزئية وإن ثبتت بالدليل إلاّ أنه لم يثبت كونها جزءا بقول مطلق حتى في حال الجهل ، فتكون الجزئية حينئذ في حال الجهل مشكوكة ، فيجري فيها حديث الرفع في ذلك الحال. اللهم إلاّ أن يكون الثابت هو الجزئية المطلقة حتى في حال الجهل.

ولعل المراد من إجراء حديث الرفع هو إجراؤه في حال التبدل ، لكن ليس لأجل الجهل السابق بل لأجل الجهل الحالي ، حيث إنه فعلا شاك في حجية رأيه في أعماله السابقة ، فهو فعلا شاك في أن الجزئية ثابتة لأعماله السابقة ، فتكون الجزئية بالنسبة إلى أعماله السابقة مرفوعة عنه ، ولو كان ذلك هو المراد كان الجواب منحصرا بدعوى إطلاق دليل الحجية ، وإلاّ لكنا في غنى عن البراءة باستصحاب حجية الرأي السابق.

وأما الاجماع فهو على الظاهر في خصوص تبدل التقليد ، أما تبدل الرأي فلم يعلم تحقق الاجماع فيه ، بل يمكن تطرق الوهن إلى الأول أيضا. وإن شئت فراجع ما نقله في تقريرات درس الشيخ قدس‌سره في مقام ذكر أدلة الاجزاء وعدم الاعادة بقوله : الرابع : ما يظهر من البعض (١) من دعوى

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٧١١.

٤٢٧

كونه ظاهر المذهب ، بل قد ادعى بعض من لا تحقيق له الاجماع بل الضرورة. وفيه مع كونه معارضا بدعوى الاجماع من العميدي (١) والعلاّمة (٢) على خلافه ، أن ذلك ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ، إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدمين والمتأخرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك كما ستطلع عليه ، مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع علمه بتركها منه ، إلى غير ذلك. وبالجملة : فعلى تقدير كون الطرق الظاهرية طرقا إلى الواقع لا وجه للقول بالاجزاء إلاّ بواسطة دليل خارج ، وقد عرفت انتفاء ما يصلح لذلك (٣).

ومراده بما حكاه عن العميدي ما ذكره في أوائل هذه الهداية (٤) من لزوم الاعادة وعدم ترتيب الأحكام المترتبة على الأمارة السابقة وفاقا للنهاية (٥) والتهذيب (٦) والمختصر (٧) وشروحه (٨) وشرح المنهاج (٩) على ما حكاه سيد المفاتيح (١٠) عنهم ، بل وفي محكي النهاية الاجماع عليه (١١) ، بل

__________________

(١) منية اللبيب : ٣٦٤.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢١٤.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ١٦٩.

(٤) مطارح الأنظار ١ : ١٥٥.

(٥) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٦) تهذيب الوصول : ٢٨٨.

(٧) شرح المختصر للعضدي : ٤٧٣.

(٨) منها : الشرح المتقدم ، بيان المختصر : ٣٢٧.

(٩) راجع مناهج العقول ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(١٠) مفاتيح الاصول : ٥٨٢.

(١١) حكاه عنه في مفاتيح الاصول : ٥٨٢ ، راجع نهاية الوصول : ٢١٤.

٤٢٨

وادعى العميدي قدس‌سره الاتفاق على ذلك ، قال في نكاح امراة خالعها زوجها في المرة الثالثة معتقدا أن الخلع فسخ لا طلاق ثم تبدل اجتهاده واعتقد كونه طلاقا ما هذا لفظه : فان كان قد حكم بصحة ذلك النكاح حاكم قبل تغير اجتهاده بقي النكاح على حاله ، وإن لم يحكم به حاكم لزمه مفارقتها اتفاقا (١).

قلت : وفي قوله قدس‌سره : « فان كان قد حكم بصحة ذلك النكاح حاكم ... الخ » إشارة إلى مطلب ، وهو أن النزاع في الشبهات الحكمية لو حصل فيه حكم حاكم نفذ ذلك الحكم حتى لو تبدل رأي ذلك المدعي أو قلّد بعد ذلك من يقول بالخلاف ، بل يمكن أن يقال : إن ذلك الحكم لا يمكن نقضه حتى لو أن ذلك الحاكم بنفسه قد عدل عن تلك الفتوى التي حكم على طبقها ، والسر في ذلك هو أن الحكم ناقض للفتوى ، بخلاف الفتوى فانها لا تنقض الحكم. وفي آخر عبارة الفصول (٢) في هذا المقام تعرض لان الحكم لا تنقضه الفتوى اتفاقا.

ثم إنه لو ثبت الاجماع المذكور فهل يكون هذا الاجماع مثل حديث لا تعاد في اقتضائه عدم الجزئية في حال الجهل ، أو أنه يكون دالا على أنّ حجية الدليل الثاني مقصورة على الأفعال الواقعة بعده دون الأفعال السابقة.

ولا يخفى بعد الأول ، سواء قلنا إنه من قبيل سقوط الجزئية في حال الجهل ، أو قلنا إنه من قبيل الاكتفاء بالفاقد ولو من جهة عدم التمكن ـ مع الاتيان به عن جهل ـ من استيفاء المصلحة القائمة بالفعل الواجد.

__________________

(١) منية اللبيب : ٣٦٤.

(٢) الفصول الغروية : ٤١٠.

٤٢٩

فالأولى هو الوجه الثاني ، أعني كون حجية الدليل الثاني مقصورة على الأفعال المتأخرة عنه ، خصوصا في مثل تبدل التقليد ، فيكون عدم إعادة الأفعال السابقة من باب عدم قيام الحجة على فسادها ، فان الفتوى الثانية وإن كان مدلولها عاما لكل فعل ، إلاّ أنه من الممكن أن تكون حجيتها مقصورة على ما تأخر عنها.

ثم إنه في الكفاية (١) نقل عن الفصول التفصيل بين الأحكام ومتعلقاتها ، فيكون الرجوع مؤثرا في الأول دون الثاني.

لكن الظاهر من مراجعة الفصول (٢) بعد التأمل أنه يفصّل بين العمل الذي وقع على طبق الفتوى السابقة ، مثل ما لو صلى تاركا للسورة أو في شعر الأرانب بانيا على الجواز ثم رجع ، فانه لا يعيد ذلك العمل الذي وقع على طبق الفتوى السابقة ، ومن ذلك ما لو حكم اعتمادا على فتواه ثم رجع عن الفتوى ، فان هذا الحكم لا ينتقض بالرجوع ، وهكذا الحال فيما لو أفتى بصحة العقد الفارسي وعقد عقد نكاح أو بيع بالفارسي ثم عدل فانه لا يعيد العقد ، وحاصل ذلك هو أن العمل الواقع على طبق الفتوى السابقة لا يلزم إعادته فلا ينقضه الرجوع.

بخلاف ما إذا لم يكن في البين عمل قابل للحكم بالفساد والاعادة ، بل لم يكن فيما تقدم إلاّ صرف الفتوى مع فرض بقاء الموضوع ، كما لو أفتى بطهارة عرق الجنب من الحرام ثم عدل عن ذلك ، فانّ هذا العرق وإن كان محكوما بالطهارة قبل الرجوع إلاّ أنه محكوم بالنجاسة بعد الرجوع ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٠.

(٢) الفصول الغروية : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

٤٣٠

وهكذا الحال فيما لو لاقاه بيده مثلا قبل الرجوع ، فانّ يده قبل الرجوع وإن كانت محكوما بطهارتها إلاّ أنها بعده محكوم عليها بالنجاسة.

وهكذا الحال لو كان يفتي بحلية حيوان خاص وقابليته للتذكية ثم بعد أن ذكاه رجع ، فان ذلك الحيوان وإن كان محكوما بالحلية عنده قبل الرجوع إلاّ أنه بعد الرجوع يكون عنده محرما لا تؤثر فيه التذكية.

بل وهكذا الحال فيما لو كان يفتي بعدم تحريم العشر رضعات فعقد على من كان قد رضع معها كذلك ثم بعد العقد عدل ، فان هذا العقد بعد الرجوع يكون باطلا لا أثر له ، لا بمعنى أنه يلزم تجديده كما في العقد بالفارسية ، بل بمعنى أنه لا يؤثر أثرا أصلا ، وأن تلك المرأة لا يصح كونها زوجة له.

وبالجملة : ليس وقوع ذلك العقد عملا بتلك الفتوى السابقة ليكون حاله حال العقد بالفارسية ، لما هو واضح من أن الفتوى السابقة إنما تعلقت بحلية ذات العشر رضعات ، وأن ذلك الرضاع لا يؤثر في تحريمها ، وذلك لا دخل له بصحة العقد وفساده وإن كان لا أثر له على تقدير التحريم.

وبالجملة : أن العمل السابق تارة يكون هو عبارة عن العمل بنفس الفتوى ابتداء ، واخرى لا يكون عملا بنفس الفتوى ، بل أقصى ما في البين أن تكون الفتوى واردة على موضوع ذلك العمل ، ويكون ورود العمل على ذلك الموضوع متفرعا عن ورود تلك الفتوى عليه ، على وجه يكون العدول عن تلك الفتوى غير مقتض لاعادته إذ لا إعادة له. وهذا بخلاف ما لو أفتى بحلية الأرنب وصلى في وبره ثم عدل إلى الحرمة ، فانّ عدوله إليها قاض بلزوم إعادة الصلاة ، لكنها لا تعاد لما ذكره من عدم تحمل

٤٣١

الاجتهادين أو العسر والحرج والهرج والمرج. ففي الأول لا ينتقض العمل السابق ، وفي الثاني ينهدم الحكم السابق ويتبعه العمل الواقع بملاحظته. وفي الحقيقة أن العدول عن الفتوى هادم لها ، لكن العمل الصادر على طبقها لو كانت له إعادة لا يحكم ببطلانه ولا باعادته ، بخلاف العمل التابع للفتوى ، الذي لا إعادة له فانه يبطل بعده تبعا لموضوعه ، إذ لا يمكن بقاء الزوجية مع كونها محرمة عليه فعلا بمقتضى الفتوى الثانية.

هذا حاصل ما يمكن أن يستفاد من تفصيل صاحب الفصول ، غايته أنه سمى الأول بكون الواقعة مما يتعين في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى ، وسمى الثاني بكون الواقعة ممّا لا يتعين أخذها بمقتضى الفتوى. وهذه التسمية لا دخل لها بالتفصيل بين الحكم ومتعلقه.

ولا يخفى أنه نقل في تقريرات الشيخ قدس‌سره (١) كلام صاحب الفصول بطوله واستفاد منه أنه يريد التفصيل بين ما يعتبر فيه التقليد ، وما لا يعتبر بل يكفي في الحكم بصحته مجرد مطابقته للواقع وإن لم يكن عن تقليد.

والظاهر أن باقي كلام الفصول أجنبي عن ذلك ، وإنما عمدة نظره إلى التفصيل بين وقوع العمل الذي قد أفتى المفتي بصحته ، وبين ما إذا لم يكن في البين إلاّ موضوع خارجي كان قد أفتى بحليته ، ثم بعد ذلك أفتى بحرمته ، فانه ينهدم بالفتوى اللاحقة الأساس السابق. وأما الأعمال السابقة مثل الذبح والعقد والملاقاة فليست هي موردا للفتوى السابقة في شيء ، وإنما هي أعمال تعلقت بذلك الموضوع حينما كان حكمه الظاهري بحسب الفتوى السابقة هي الحلية أو الطهارة ، فإذا انهدم الحكم الظاهري السابق لم

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ١٦٩ ـ ١٧٢.

٤٣٢

يبق أثر لتلك الأعمال. نعم يرد على الفصول أنه لا دليل على عدم الاعادة والاجزاء في القسم الأول أيضا ، فتأمل.

ثم إن صاحب الكفاية (١) أفاد أنه بناء على السببية لا بدّ من الالتزام بالاجزاء.

ولا يخفى أن ذلك إنما هو على سببية المعتزلة ، وأما على السببية التي يقولها الشيخ قدس‌سره (٢) من المصلحة السلوكية فقد عرفت (٣) أنها لا تقتضي الاجزاء.

ثم إن لصاحب الكفاية قدس‌سره (٤) كلاما في الاجازة لبيع الفضولي في تحقيق الكشف الحكمي ، وأن ذلك من قبيل انقلاب العقد السابق من حين الاجازة من كونه غير نافذ في ظرفه إلى كونه نافذا في ظرفه أيضا. ودفع إشكال التناقض بالاختلاف بحسب الزمان.

ولا يخفى أنه يمكن إلزامه هنا بنظير ذلك بناء على سببية المعتزلة ، فيقال إن العمل السابق من حين وقوعه إلى حين تبدل الرأي صحيح واقعا ومن حين تبدل الرأي ينقلب ذلك العمل من حين وقوعه أيضا من الفساد إلى الصحة.

ثم إنه قدس‌سره (٥) تعرض لما إذا كان المستند في صحة العمل السابق على تبدل الرأي هو الاستصحاب أو البراءة الشرعية ، فالتزم بالصحة وعدم الاعادة. وهذا مبني على مسلكه من كون حكومة هذه الاصول على الأدلة الأولية

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦ ، ٤٧١.

(٢) فرائد الاصول ١ : ١١٤ وما بعدها.

(٣) في صفحة : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٤) حاشية كتاب المكاسب : ٦١.

(٥) كفاية الاصول : ٤٧١.

٤٣٣

حكومة واقعية ، وقد تقدم (١) الكلام على ذلك مفصلا.

أما ما وجهنا به كلامه في طليعة هذا البحث (٢) من جعل حديث الرفع حاكما بصحة العمل السابق مع فرض تبدل الرأي إلى ثبوت الفساد ، فليس مبنيا على الحكومة الواقعية ، بل إنه يلتئم مع الحكومة الظاهرية بأن نقول : القدر المتيقن ممّا دل عليه دليل جزئية السورة هو جزئيتها في حال العلم ، أما حال الجهل فتكون الجزئية مشكوكة ، وحيث كان ترك السورة فيما سبق ناشئا عن الجهل بجزئيتها كانت جزئيتها من تلك الصلاة مشكوكة لنا فعلا ، فتكون مرفوعة بحديث الرفع ، ويكون هذا الرفع رفعا ظاهريا لكونه منوطا بالشك في الجزئية في حال الجهل ، فلو كانت السورة في الواقع جزءا في حال الجهل لم تكن حكومة دليل الرفع على ما يدل على جزئيتها في حال الجهل إلاّ حكومة ظاهرية ، وحيث إنّا الآن شاكون في الجزئية السابقة لكونها في حال الجهل فلا مانع من جريان البراءة في تلك الجزئية ، وتكون تلك الصلوات السابقة محكومة ظاهرا بالصحة فلا يلزم إعادتها ، وإن تبدل رأينا في أصل المسألة وهي وجوب السورة وأفتينا بلزومها وكونها جزءا من الصلاة ، إلاّ أنّ المتيقن من ذلك هو خصوص حالة العلم بتلك الجزئية.

أما حالة الجهل بتلك الجزئية فالمرجع فيه هو البراءة من الجزئية في حال الجهل ، سواء كان ذلك الترك سابقا على هذا الرأي أو كان متأخرا عنه ، كما لو كان المقلد لهذا الشخص قد ترك السورة بعد تقليده متخيلا عدم وجوبها عنده ، بل وكما لو أن ذلك المجتهد نفسه قد نسي هذا الحكم أعني

__________________

(١) في صفحة : ٣٧٧ وما بعدها.

(٢) في صفحة : ٤٢٧.

٤٣٤

الوجوب وترك السورة ، فانه حينئذ جاهل بجزئيتها ، فتكون مرفوعة في حقه ولا يلزمه الاعادة ، وإن كان ذلك الترك واقعا بعد فتواه بالوجوب.

قوله : فان تقدم الحجة الفعلية ورفعه لحجية المدرك السابق إما بالحكومة أو الورود ، وعلى كل تقدير فلم يكن المحكوم ولا المورود حجة مجعولة شرعا ... الخ (١).

لا يخفى أنه لو تم ذلك لكان تبدل الرأي في الاجزاء أردأ من انكشاف الخلاف قطعيا ، لأن ذلك أعني انكشاف الخلاف القطعي لا يوجب الخلل في الحكم الظاهري السابق ، وأنّ أقصى ما فيه هو تبين كونه مخالفا للواقع كما عرفت ، بخلاف تبدل الرأي بأن عمل على العام ثم بعده عثر على المخصص ، فانه لو قلنا بأن ذلك العام لم يكن حجة في ظرفه يكون موجبا للخلل في الحكم الظاهري على طبقه.

فلا بدّ من القول بأن حجية الخاص مقصورة على حال العثور عليه ، فلا يكون موجبا للخلل في الحكم الظاهري السابق الذي كان على طبق العام ، ولكن لمّا كان مقتضى الخاص هو فساد العمل السابق كان اللازم هو الاعادة من جهة ذلك الخاص ، لا من جهة الخلل في ناحية الحكم الظاهري السابق ، ولا من جهة انكشاف الخلاف في ذلك الحكم الظاهري انكشافا قطعيا ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده قدس‌سره من قوله : لأن المفروض عدم الاتيان لا بالواقع ولا بما يكون مسقطا له وبدلا عنه ... الخ (٢) فان ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٩١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٣ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٣٥

لو اقتصرنا عليه لأمكن الجواب عنه بأن ذلك المأتي به لمّا كان في ظرفه على طبق الحجة الفعلية ، كان في ظرفه بدلا عن الواقع وكان مسقطا له. لكن العمدة هو ما عرفت من قضية الخاص الذي عثر عليه بعد ذلك من فساد العمل السابق مع فرض سقوط العام بعد العثور عن الحجية.

وأما التمسك للاجزاء بحديث لا تعاد أو بحديث رفع الجزئية في حال الجهل لو فرضنا عدم إطلاق لدليل الخاص على وجه يشمل حال الجهل كما في الكفاية في مبحث الاجتهاد والتقليد (١) ، فلا يخلو من إشكال تقييد الحكم بالجزئية بالعلم بها ، وهكذا الحال في الاستدلال على الاجزاء بالاجماع ، فانه مضافا إلى عدم تحققه في المقام ، وإنما القدر المسلّم منه هو في تبدل التقليد ، أنّ نتيجته هي كون الجزئية مختصة بحال العلم بها ، بخلاف الاجماع في مسألة تبدل التقليد ، لامكان كشفه عن قصور حجية فتوى المجتهد الثاني عن شمول الأفعال السابقة الواقعة على طبق فتوى المجتهد السابق وهذا بخلاف الرأي الثاني للمجتهد الواحد ، فانّ حجيته لا تقصر عن الشمول لأفعاله السابقة الواقعة على طبق رأيه الأول.

تنبيه :

لا يخفى أن موارد العدول لا تنحصر بالاطلاع على ما يكون مقدما على الدليل السابق كما في العثور على الخاص بعد العمل بالعام ، بل إن أغلب موارد العدول من قبيل التبدل في الرأي من دون عثور على دليل لم يكن قد عثر عليه ، فانّ المجتهد ربما كان يجري قاعدة التجاوز مثلا في الركن كما يجريها في غير الركن عند العلم الاجمالي بفوت أحدهما ، وبعد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٠.

٤٣٦

التساقط يرجع إلى مقتضى الأصل وهو يقتضي الاعادة ، لكن ربما يعدل عن ذلك التعارض وينقدح في ذهنه أن قاعدة التجاوز في مثل الفرض لا تجري في غير الركن ، فيكون الجاري هو قاعدة التجاوز في الركن فقط ، وفي غير الركن تجري أصالة عدم الاتيان به. وهكذا الحال في أغلب موارد التصادم بين القواعد.

بل ربما جرى مثل ذلك في تعارض الأخبار ، بأن يبني على أن الشهرة الفتوائية مرجحة ثم يعدل عن ذلك ، إلى غير ذلك من موجبات العدول غير الراجعة إلى العثور على شيء لم يكن قد عثر عليه ، وجميع ما يقع فيه الخلاف بين المجتهدين من هذا القبيل.

وفي مثل هذه الموارد يكون العدول من قبيل تبين الخلل في نفس الحكم الظاهري السابق ، ويكون من قبيل ما لو عمل على طبق قطعه ثم قطع بخطإ قطعه السابق ، فيكون شبيها بالشك الساري ، ومن الواضح أنه لا مجال لتوهم الاجزاء في هذا النحو من تبدل الرأي ، فلاحظ وتأمل.

قوله : إذا نسخ الوجوب ـ إلى قوله : ـ لكون الأحكام كلها بسائط ... الخ (١).

تقدم (٢) أن الاستحباب مؤلف من طلب الفعل مع ضم حكم آخر إليه وهو تجويز الترك ، وحينئذ لو تعلق النسخ بذلك الحكم الآخر الذي هو تجويز الترك لكان مقتضاه بقاء مجرد الطلب ، وحينئذ يكون مقتضيا للوجوب ، فيكون الحاصل بعد نسخ الجهة الزائدة هو بقاء الوجوب.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٣.

(٢) راجع في صفحة : ٣٥٠ وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

٤٣٧

والمراد هو انقلاب الطلب عمّا كان فيه ممّا تضمنته الجهة الزائدة إلى ضد تلك الجهة الزائدة. وإن شئت فقل : إن الباقي هو مطلق الطلب ، وهو بنفسه يقتضي الوجوب والتحتم. ويمكن أن تأتي هذه الطريقة في الكراهة.

أما الوجوب وكذلك الحرمة فليس هو مثل الاستحباب في دعوى التركب الخارجي من حكمين ، ولا من قبيل المركب من الجنس والفصل كي يقال ببقاء الجنس متقوما بفصل آخر كما في حاشية العلاّمة الاصفهاني (١) كما في قطع الشجرة وإسقاط نموها وبقائها جسما مطلقا ، ولا من قبيل الاختلاف في الشدة والضعف كي يتأتى فيه دعوى بقاء المرتبة الثانية كما في تحرير الآملي لدرس الاستاذ العراقي قدس‌سره (٢) ، بل إنه بسيط صرف فلاحظ ، هذا.

ولكن نحن وإن قلنا فيما تقدم إن الاستحباب مركب من طلب الفعل وتجويز الترك ، إلاّ أنّ ذلك إنما هو في مقام الانشاء بالصيغة ، فلا يتم الاستحباب إلاّ بإنشاءين : إنشاء الطلب وإنشاء تجويز الترك. لكن التحقيق أنه في مقام الثبوت بسيط في قبال الوجوب.

وبالجملة : أن هذه الأحكام ـ أعني الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة ـ في مقام الثبوت لا تكون إلاّ من سنخ الأحكام الوضعية التي قوامها الجعل والاعتبار ، وهي في هذه المرحلة بسائط يباين البعض منها البعض الآخر ، وهذا البعث وذاك الجواز للترك لا يكون هو حقيقة الاستحباب ، بل هو تفهيم أو مجرد تعبير وإعلام ، وليس شيء من ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٤.

(٢) بدائع الأفكار : ١٩٧.

٤٣٨

براجع إلى الأحكام الشرعية. والنسخ إنما يقع على نفس الحكم المجعول أعني الاستحباب ، ولا دخل له بمرتبة الاعلام ولا بمرتبة البعث والزجر.

قوله : فلا معنى للبحث عن جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ... الخ (١).

هذا بالنظر إلى القضية الحقيقية ، وأما بالنظر إلى القضية الخارجية فقد أفاد قدس‌سره أن الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم.

وقد يقال : إن الشرط لا يتصور في القضية الخارجية وإلاّ لكانت حقيقية.

لكن مراد شيخنا قدس‌سره أن الشرط في القضية الخارجية يكون من قبيل الداعي في جعل الحكم المطلق وتوجيهه إلى المكلف ، مثلا لو كانت المصلحة في وجوب الحج منوطة بالاستطاعة ، فتارة يأخذها شرطا في التكليف ويقول حج إن استطعت ، وهذه قضية حقيقية. واخرى يكون الآمر عالما بأن هذا الشخص واجد للاستطاعة فيوجّه الوجوب إليه حينئذ مطلقا من دون أن يأخذ الاستطاعة شرطا فيه ويخاطبه بقوله « حج » وهذه هي القضية الخارجية ، ولا يكون الشرط فيها راجعا إلى المجعول ، بل يكون راجعا إلى الجعل ، فيكون من مقدمات جعل التكليف من قبل الآمر ، ويكون المدار فيه على علم الآمر بوجوده.

ثم إن القضية الحقيقية لمّا كانت عبارة عن جعل الملازمة لم يكن معنى محصل للقول فيها بأنه يجوز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط. وما في الحاشية (٢) من أنه لا يجوز الأمر مع علم الآمر بعدم اتفاق وجود الشرط

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٤.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٠٤.

٤٣٩

لكونه لغوا ، أجنبي عمّا تعرض له شيخنا قدس‌سره من أن الشرط من قبيل الموضوع ، ويستحيل تحقق الحكم بدون تحقق موضوعه.

نعم ، إن جعل الوجوب فعلا مشروطا بشرط بنحو القضية الحقيقية مع فرض علمه بأنّ هذا الشرط لا يتفق حصوله ، لا بدّ فيه من فائدة ولو مثل توطين النفس ، كما في النسخ قبل وقت العمل.

والحاصل : أن الكلام إن كان في شرط الجعل باعتبار كون جعل الحكم من الأفعال الاختيارية للحاكم ، فلا بدّ فيها من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فلا ينبغي الريب في أن هذا النحو من الشروط يكون المدار فيه على علم الآمر لا على وجوده الواقعي ، ويستحيل حينئذ صدور الحكم وجعله من جانب الشارع مع علمه بأن شرطه غير موجود.

وإن كان الكلام في شرط المجعول الذي هو الحكم مثل الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فهذا أمر لا دخل لوجوده في جعل أصل القضية الحقيقية ، وإنما له الدخل في فعلية الحكم المجعول ، بمعنى أن الشارع جعل الوجوب على تقدير الاستطاعة ، فلا يكون الوجوب فعليا إلاّ عند الاستطاعة ، وحينئذ لا يكون في البين أمر جديد ، وإنما هو تحقق ما جعله الشارع ، فلا يكون معنى محصّل للقول بأن الآمر يأمر مع علمه بعدم الشرط.

ومن ذلك يتضح لك التأمل فيما أفاده في الكفاية من قوله : نعم لو كان المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر ... الخ (١) ، فانك قد عرفت أن تحقق الشرط في الخارج ليس

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٧.

٤٤٠