أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

بمعنى أن تقيد الصلاة بالساتر مثلا واجب ، ولكن ذلك مختص بحال التمكن من الساتر ، بخلاف مثل أصل الطهور ، بل جعل بعضهم بعض القيود ذكريا مثل الطهارة من الخبث وسمّوه شرطا ذكريا ، إلى غير ذلك من موارد الاختصاص لبعض القيود.

لكن هذه الطريقة لا تأتي في مثل الزمان ، فانّ ما دل على تقييد الصلاة بالزمان الكذائي لا يمكن تقييده بصورة التمكن من ذلك القيد أعني نفس الزمان ، فان ذلك عبارة اخرى عن أنه يجب على المكلف أن يقيد صلاته بالزمان الخاص عند تمكنه من ذلك الزمان الخاص ، أعني عند وجود ذلك الزمان الخاص ، فيكون انحصار هذا التقييد بصورة التمكن من هذا القيد من قبيل تحصيل الحاصل.

وتوضيح ذلك : أنّ تقييد الصلاة بالساتر إنما يكون لطرد فاقد القيد وهو الصلاة عاريا ، وحينئذ يمكننا أن نقول إن طرد الفاقد تارة يكون مطلقا سواء كان متمكنا من التستر أو كان غير متمكن منه ، ولازمه سقوط الصلاة عند عدم التمكن منه ، واخرى يكون طرد ذلك الفاقد أعني الصلاة عاريا مختصا بما إذا كان متمكنا من الساتر ، أما لو كان غير متمكن منه فلا يكون الفاقد للساتر ـ أعني الصلاة عاريا ـ مطرودا في ذلك الحال.

وإذا أجرينا هذه العملية في الزمان الخاص كما بين الطلوعين في صلاة الصبح ، فكانت الصلاة الواجبة مقيدة بذلك الزمان ، وكانت الصلاة الخارجة عن ذلك الزمان كالصلاة بعد طلوع الشمس مطرودة عن هذا الأمر ، فان كان التقييد مطلقا شاملا لحال وجود الزمان ولحال انقضائه صحت القضية ، وكان لازمها هو عدم صحة الصلاة في الخارج عن ذلك الزمان ، وهو معنى الركنية الذي يكون لازمه أنّ القضاء لو ثبت كان بالأمر

٤٠١

الجديد. وإن كان ذلك التقييد مقيدا بحال التمكن الذي هو حال وجود الزمان ، كان طرده للفاقد الذي هو الصلاة في خارج الوقت مختصا بحال وجود الزمان ، ومحصله أنك في حال وجود الزمان لا تصلّ في خارجه. ومن الواضح أن هذه الصلاة الفاقدة للزمان لا يمكن إيجادها في الزمان ، فيكون طردها في ذلك الحال تحصيلا للحاصل.

والفرق بين كون القيدية مطلقة وكونها مقيدة بحال التمكن ، أن الخارج عن الزمان في حال وجود الزمان وإن كان منطردا بنفسه ، لكن بعد خروج الزمان يكون منطردا بواسطة إطلاق التقييد ، وهذا بخلاف ما لو كانت القيدية مختصة بحال التمكن أعني حال وجود الزمان الذي هو بين الطلوعين ، فانّ أثر القيدية ينحصر حينئذ بحال وجود الزمان ، إذ لا قيدية في حال خروجه. ومن الواضح أن أثر القيدية هو طرد الخالي ، والمفروض أن الخالي في ذلك الزمان منطرد بنفسه ، فلا تكون القيدية المنحصرة في ذلك الحال إلاّ من قبيل تحصيل الحاصل.

لا يخفى أن صاحب الكفاية (١) في البحث عن إجزاء الأمر الظاهري لم يتعرض فيه إلاّ لصورة انكشاف الخلاف انكشافا قطعيا ، دون ما لو انكشف الخلاف بحكم ظاهري آخر مثل تبدل الرأي وتبدل التقليد. ثم إنه في صورة انكشاف الخلاف القطعي تعرض لما إذا كان الحكم الظاهري مأخوذا من الأصل ، مثل قاعدة الطهارة والحل واستصحابهما بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة والحل ، فجعل هذه الاصول حاكمة على الأدلة الأولية وموسعة لدائرة الشرط فتكون مجزية ، ولا يكون انكشاف الخلاف إلاّ من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦.

٤٠٢

قبيل التبدل من حينه ، بخلاف ما لو كان الجاري في ذلك من الأمارات فانه لا يجزي إلاّ على القول بالسببية. وبعد فتح باب السببية تقع المقابلة بين مصلحة الواقع والمصلحة الآتية من قبل الامارة ، ويجري حينئذ ما تقدم ذكره في الأوامر الاضطرارية ، وحينئذ ينفتح باب الاجزاء في بعض الصور وإن كان ظاهر الأدلة هو الاجزاء. هذا كله فيما يجري في متعلقات التكاليف.

ولا يخفى أنه لا ينحصر بالشبهات الموضوعية ، بل إنه يجري في الشبهات الحكمية ، كما لو جرت قاعدة الطهارة أو قاعدة الحل فيما يشك في طهارته أو حليته على نحو الشبهة الحكمية ، مثل بول الحمير ومثل لحم الارنب فيما لو صلى معه اعتمادا على قاعدة الطهارة أو قاعدة الحل ليكون اللباس طاهرا ومما يؤكل لحمه.

وأما الشبهات الحكمية كما لو قام الأصل أو الطريق على وجوب الجمعة ثم انكشف الخلاف ، فانه لا يجزي إلاّ على السببية المعتزلية.

قال في الكفاية : المقام الثاني : في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه. والتحقيق : أن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه ـ إلى قوله ـ وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا ، كما هو لسان الأمارات فلا يجزي ... إلخ (١).

أما شيخنا قدس‌سره (٢) فقد قسّم انكشاف الخلاف في الأمر الظاهري إلى قسمين : الأوّل ما كان بطريق القطع وهو الصورة الثالثة في كلامه ، والثاني ما كان بطريق الظن وهو الصورة الرابعة. أما الاولى فقد حكم فيها بعدم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٦ وما بعدها.

٤٠٣

الاجزاء فيما لو كان في مورد الشبهة الحكمية إلاّ على سببية المعتزلة ، بخلاف ما لو قلنا بالسببية التي ذكرها الشيخ. أما موارد الشبهات الموضوعية فان كان الجاري هو الأمارة فكذلك يعني عدم الاجزاء ، إلاّ إذا قلنا بالسببية على رأي المعتزلة ، حيث إن القول بها في الشبهات الموضوعية لا مانع منه لعدم الاجماع على خلافه. نعم إنه خلاف ظاهر الأدلة الواردة في حجية الامارات ، من دون فرق بين الجاري في الشبهات الموضوعية والجاري في الشبهات الحكمية. وأما لو كان الجاري هو الاصول مثل قاعدة الطهارة وقاعدة الحل والاستصحاب ، فالظاهر هو عدم الاجزاء.

ثم نقل مطلب الكفاية وأورد عليه بايرادات خمسة :

أوّلا : أن الحكومة عند صاحب الكفاية (١) منحصرة بالشرح ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ثانيا : لا بدّ أن يكون الحكم الظاهري موجودا عنده في درجة الحكم الواقعي ، ليكون دليل الأصل حاكما على دليل الشرط.

ثالثا : الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنها ليست موجبة لتعميم الشرط واقعا ، لأنها ليست واقعية بل هي ظاهرية ، فيكون حكمها منحصرا به ، فلا تتصرف في الواقع.

رابعا : أن الحكومة المدعاة ليست إلاّ من جهة جعل الحكم الظاهري وذلك موجود في جميع موارد الحكم الظاهري حتى في مورد الامارة.

خامسا : أن الحكومة لو كانت واقعية لكان اللازم ترتيب جميع آثار الطهارة مثلا ، فلا يكون ملاقيه نجسا.

__________________

(١) راجع كفاية الاصول : ٤٣٨ ، ٤٢٩.

٤٠٤

وخلاصة البحث : هي أنه لا يمكن تنزيل ما أفاده في الكفاية على كون مفاد قاعدة الطهارة وقاعدة الحل واستصحابهما هو جعل الحكم على المشكوك ، أما أولا : فلأنه مناف لمسلكه في الاستصحاب (١). وثانيا : أن لازمه هو كون النجاسة مشروطة بالعلم بها أو بالعلم بموضوعها ، ولعل ذلك غير معقول في الشبهة الحكمية ، إذ لا يتصور الشك في الطهارة حينئذ. وثالثا : أن لازمه عدم الاعادة في من توضأ بمشكوك الطهارة ثم علم بنجاسته. ورابعا : أنّ لازمه هو عدم تنجس الملاقي للبول في حال الشك وإن انكشف بعد ذلك أنه بول. وخامسا : أن الطهارة والحل التي هي شرط في اللباس إن كانت بالعنوان الاولي لم يجز الاعتماد على قاعدة [ الطهارة والحل ](٢) في جواز الصلاة فيه ، ولذلك لا يجوز الصلاة في جلد الأرنب عند الاضطرار إلى أكل لحمه ، وجازت الصلاة مع جلد الغنم عند حرمة أكله لأجل كونه مضرا ، وإن كان الشرط هو الأعم من الأولية والثانوية كان محتاجا إلى دليل على التوسعة المذكورة ، ومجرد دليل قاعدة الطهارة لا يدل على التعميم ، كما أن دليل حلية لحم الأرنب عند الاضطرار لا يدل على التعميم المذكور.

وبعد سقوط هذا الوجه وهو كون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة في مورد الشك ، لا بدّ لنا من دعوى كون مفادها هو التنزيل ، ومن الواضح أن التنزيل يحتاج إلى منزّل ومنزّل عليه وإلى الوجه في التنزيل ، كما في باب التشبيه في احتياجه إلى المشبه والمشبه به وإلى وجه الشبه ، فنقول : إن المنزّل والمنزّل عليه في مثل قوله « كل مشكوك هو طاهر » إن كان

__________________

(١) راجع كفاية الاصول : ٣٩٢ ، ٣٩٨.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٤٠٥

هو المانع المشكوك الطهارة ، وأن المنزّل عليه هو الماء المعلوم الطهارة ، لا بدّ أن يكون الوجه في التنزيل هو الحكم في المنزّل عليه الذي هو الطهارة ، عاد محذور جعل الحكم في المشكوك.

فلا بدّ أن نقول : إن المنزّل هو المشكوك والمنزّل عليه هو الطاهر الواقعي ، ويكون المصحح لهذا التنزيل هو حكم الطاهر الواقعي من كونه شرطا في صحة الصلاة وجواز شربه مثلا ، وذلك عبارة اخرى عن أن المشكوك يكون محكوما بأنه تصح الصلاة فيه ، وذلك عبارة اخرى عن توسعة دليل شرط صحة الصلاة وأنه الأعم من الطاهر الواقعي والمشكوك في طهارته ، فلا يكون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة للمشكوك ، بل يكون مفادها هو ترتيب آثار الطهارة على ما هو مشكوك ، ومن جملتها كونه شرطا في صحة الصلاة ، وأنها معه تكون صحيحة ، من دون تعرض لاثبات الطهارة لا ظاهرا ولا واقعا ، وحينئذ يتم ما أفاده في الكفاية من توسعة دليل الشرط وأن الحكومة حكومة واقعية ، وأنه عند انكشاف الحال لا يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، بل يكون من قبيل التبدل من حينه.

ويمكن تأتّي هذا الوجه في الاستصحاب بعد البناء على كون اليقين في قوله « لا تنقض اليقين » من باب الطريقية لا الموضوعية ، ويكون محصّله هو أن الشارع نزّل مشكوك الطهارة بعد اليقين بها منزلة الطاهر الواقعي الذي هو المتيقن السابق ، فيجري حينئذ ما جرى في قاعدة الطهارة. لكن لازمه هو عدم الاعادة في الوضوء بالماء المشكوك الطهارة بعد تبين نجاسته ، وعدم تنجس ملاقيه إذا كانت الملاقاة في حال الشك.

وبعد بطلان هذا الوجه لا بدّ لنا من القول بأن أصالة الطهارة من قبيل الاصول الاحرازية ، ويكون حالها من هذه الجهة حال الأمارة وحال

٤٠٦

استصحاب الطهارة في عدم الاجزاء. أو نقول إن أصل الطهارة من قبيل الاصول الترخيصية غير الاحرازية نظير حديث الرفع (١) ، وحينئذ يتوجه الاشكال في الجمع بين هذا الترخيص وبين الحكم الواقعي لو كان هو النجاسة ، وقد تعرضنا لذلك في محله (٢) من مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وقلنا إن مرجع هذا الترخيص إلى جعل الشك حجة في المعذورية ، فلا يكون في البين ترخيص شرعي ، ولا يكون لازمه الاجزاء فيما لو انكشف الخلاف وزال الشك وحصل العلم بالنجاسة وانقطعت حجية الشك في المعذورية ، فراجع.

هذا كله (٣) بناء على ما ذكرناه في توجيه عدم إعادة الأفعال السابقة بقصور حجية الفتوى اللاحقة عن الشمول لتلك الأفعال السابقة.

ولكن شيخنا قدس‌سره (٤) لم يسلك هذه الطريقة ، بل وجّه عدم الاعادة بالاجماع الموجب للخروج عن قاعدة عدم الاجزاء ، وهذا أعني الاستناد إلى الاجماع أشار إليه في الكفاية ولكن في خصوص تبدل الرأي ، فانه قال فيه : فلا بدّ من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر ، كما نهض في الصلاة وغيرها مثل لا تعاد (٥) وحديث الرفع ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٢) في المجلّد السادس في الحاشية على فوائد الاصول ٣ : ١١٨ قوله : والسرّ في ذلك ...

(٣) [ لا يخفى أن هذا المطلب يرتبط بما سيأتي من بحث تبدل الحكم الظاهري في صفحة : ٤٢٢ وما بعدها ].

(٤) أجود التقريرات ١ : ٢٩٨.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨.

(٦) كفاية الاصول : ٤٧٠.

٤٠٧

أما حديث لا تعاد وحديث الرفع فقد تقدم (١) الكلام عليهما مفصلا. وأما الاجماع فقد أنكره الشيخ قدس‌سره على ما حكاه عنه في التقريرات ، فانه قال في الامور التي استدلوا بها على الاجزاء : الرابع ما يظهر من البعض (٢) من دعوى كونه ظاهر المذهب ، بل قد أدعى بعض من لا تحقيق له الاجماع بل الضرورة. وفيه : مع كونه معارضا بدعوى الاجماع من العميدي (٣) والعلاّمة (٤) على خلافه ، أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ، إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدمين والمتأخرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك كما ستطلع عليه مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع علمه بتركها منه ، إلى غير ذلك (٥).

وعلى كل حال أنّ شيخنا قدس‌سره قد استند في عدم الاعادة إلى الاجماع فقال : هذا كله فيما يقتضيه الأصل الأولي في المقام ، وإلاّ فربما يدعى الاجماع على الاجزاء إعادة وقضاء عند تبدل الحكم الظاهري اجتهادا أو تقليدا. ثم ذكر مقامات ثلاثة :

الأول : الأعمال العبادية.

الثاني : العقود ، كما لو عقد بالفارسية اجتهادا أو تقليدا لمن يقول بصحته ، ثم عدل إلى القول بالفساد أو رجع إلى من يفتي بالفساد مع تلف

__________________

(١) بل سيأتي في صفحة : ٤٢٥ وما بعدها.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٧١١.

(٣) منية اللبيب : ٣٦٤.

(٤) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢١٤.

(٥) مطارح الأنظار ١ : ١٦٩.

٤٠٨

المال الذي انتقل إليه أو إتلافه.

الثالث : هو ذاك لكن مع بقاء المتعلق.

وجعل الأول هو القدر المتيقن دخوله في الاجماع ، وشكك في الثاني ، وجزم في الثالث بخروجه عن الاجماع ـ ثم قال : ـ وفتوى جماعة بالاجزاء من جهة ذهابهم إلى كون الاجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية ، لا من جهة الاجماع (١).

ولأجل ذلك أفاد قدس‌سره في حاشيته على العروة في مسائل الاجتهاد والتقليد بما هذا لفظه : لو أدى التقليد اللاحق إلى فساد عقد أو إيقاع وكذا نجاسة شيء أو حرمته أو عدم ملكية مال ونحو ذلك ، فمع فعلية الابتلاء بمورده يقوى لزوم رعايته (٢).

ولا يخفى أنه بعد فرض كون مقتضى القاعدة هو بطلان العمل السابق ، وأن الموجب للخروج عن هذه القاعدة هو الاجماع ، فاللازم هو النظر في هذا الاجماع ، فما أحرزنا شمول الاجماع له كان اللازم هو الحكم بصحته ، وما شككنا في شمول الاجماع له يكون اللازم فيه هو الرجوع إلى القاعدة المذكورة. ومن الواضح أنه ليس لنا معقد إجماع كي نقول إنه شامل للعبادات ، وليس بشامل لما كان الموضوع فيه باقيا ، ونقف موقف التشكيك فيما يكون الموضوع تالفا.

وإن شئت فقل : بعد فرض الاجماع على صحة الأعمال السابقة ، لا يمكننا الجزم بخروج ما يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بدليل يدل على أنه لا بدّ من الحكم ببطلان العمل السابق الذي هو العقد بالفارسية مثلا ، وليس

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ٤٢ مسألة ٥٣.

٤٠٩

لنا مثل هذا ، فلا بدّ في الجزم بالحكم ببطلانه من قيام الاجماع على البطلان في هذه الصورة ، وإلاّ لم يحصل لنا الجزم بخروجه عن الاجماع الحاكم بالصحة. ولا ريب أنه لم يقم إجماع على بطلان العقد المذكور ، لما أفاده قدس‌سره بقوله : وفتوى جماعة بالاجزاء من جهة ذهابهم إلى كون الاجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية لا من جهة الاجماع ، انتهى (١).

اللهم إلاّ أن يقال : إن الاجماع على الصحة إنما هو من القائلين بأن القاعدة تقتضي عدم الاجزاء ، وحينئذ يمكن ادعاء الاجماع من هؤلاء على الفساد في المثال المزبور ، ولا يضره الفتوى بالصحة ممن قالوا بأن القاعدة تقتضي الاجزاء ، هذا كله.

مضافا إلى أن أصل الاجماع لم يتحقق كما عرفت من الشيخ قدس‌سره في التقريرات.

ولا يخفى أن هذه الطريقة ـ أعني دعوى قصور حجية الفتوى اللاحقة عن الأفعال السابقة ـ لو تمت فهي من أحسن ما يمكن فيه إثبات عدم الاعادة ، لا من باب الاجزاء ولا من باب التصويب ، بل من باب أن الحكم الظاهري الذي استند إليه المكلف في عمله السابق لم تقم حجة على خلافه.

ثم لو كان ذلك أعني قصور الحجية مشكوكا ، كان ذلك كافيا في المطلوب ، لعدم نهوض حجة حينئذ على بطلان العمل السابق ، ومعه لا حاجة إلى استصحاب حجية الفتوى السابقة.

ويمكن أن يدعى إجراء هذه الطريقة في تبدل رأي المجتهد في

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٠

عمله السابق لو جزم بعدم حجية رأيه الأخير في أعماله السابقة أو شك في ذلك ، حتى لو كان بناؤه على عدم وجوب جلسة الاستراحة ثم عثر على أمارة تدل على ذلك كخبر الواحد ، فلعله يمكنه أن يقول إن حجية هذا الخبر عليّ إنما هي من حين قيامه وعثوري عليه ، وحينئذ يمكنه أن يشكك في شمول هذه الحجية الجديدة لأعماله السابقة.

وعلى كل حال أنا لو فتحنا هذا الباب في الأعمال السابقة ، وقلنا ببقائها على الصحة ، إما لما ذكرناه وإما للاجماع على عدم الاعادة ، فان ذلك إنما يكون في العمل نفسه كما في الصلاة ، وكما في العقد بالفارسية بيعا أو نكاحا حتى مع فرض بقاء المبيع عند المشتري وعدم إتلافه ، وكذلك في صورة بقاء الزوجة بحالها لم يفصل بينها وبين الزوج موت أو طلاق أو فسخ.

نعم لو كان الاشكال من ناحية نفس الموضوع ، كما لو تزوج من رضع معها عشر رضعات اعتمادا على فتوى مقلده القائل بأنه لا يحرم ، ثم بعد ذلك قلّد من يقول بالتحريم ، فليس له البقاء مع الزوجة المذكورة لأنها اخته من الرضاع ، وهي لا تكون زوجة له لا ابتداء ولا استدامة.

وما أشبه مسألتنا هذه بمسألة أن لكل قوم نكاحا ، وأنه لو أسلم الزوج والزوجة يبقيان على نكاحهما إذا كانت المخالفة من حيث العقد مثلا ، أما لو كانت المرأة زوجة أبيه مثلا ونحو ذلك من المحرمات الذاتية فلا يقره الاسلام عليها.

أما مسألة الذبيحة الموجودة التي كان ذبحها صحيحا على الفتوى السابقة وفاسدا على الفتوى اللاحقة ، فهل هي ملحقة بالنكاح بالفارسية أو هي ملحقة بنكاح من رضع معها عشر رضعات؟ بل يمكن التشكيك في من

٤١١

عقد عليها سابقا بالعقد بالفارسية ، فيقال إن ابتداء النكاح وإن كان صحيحا إلاّ أن استدامته لا بدّ أن يرجع فيه إلى الفتوى اللاحقة.

وبالجملة : أن هذه الفروع الثلاثة تتفاوت في الوضوح والخفاء.

والأول منها وهو نكاح من رضع معها عشر رضعات هو الذي يتضح فيه البطلان لو قلّد من يقول بأنه محرم ، ودون ذلك مسألة الذبيحة ، ودونهما مسألة عقد النكاح بالفارسية ، فلاحظ وتأمل.

ثم لا يخفى أن ما تقدم كان فيما لو كان العمل السابق صحيحا على الفتوى السابقة وفاسدا على الفتوى اللاحقة ، وهو الذي تعرض له في العروة في مسألة ٥٣ (١). وأما لو كان الأمر بالعكس بأن كان العمل السابق فاسدا على الفتوى السابقة وصحيحا على الفتوى اللاحقة ، فهو منشأ الاحتياط في العروة في مسألة ١٦ (٢). وينبغي أن يعلم أنه قال في العروة في مسألة ٧ : « عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل » (٣) ، وعلّق عليه شيخنا قدس‌سره ما هذا لفظه : إذا خالف الواقع أو كان عبادة ولم يتمكن من قصد القربة لتزلزله وجهله.

ثم قال في العروة في مسألة ١٦ : عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقا للواقع ، وأما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فان كان مطابقا لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحا ، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل ، انتهى.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ٤١.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ٢٠.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ١٣.

٤١٢

وينبغي توسعة المسألة للمعاملة مثل العقد بالفارسية ليستريح من إشكال التمكن من قصد القربة ، كما ينبغي توسعتها بفرضها لمن كان مقلدا لشخص ولكنه تخيّل أن فتواه هي الصحة ، ثم بعد العمل قلّد من يقول بالصحة وعلم أن مقلده السابق حينما أوقع العمل يقول بالبطلان ، ليستريح من الاشكال في أنه إذا لم يكن حين العمل مقلدا لذلك السابق لا تكون فتواه حجة عليه.

وعلى كل حال أن منشأ هذا الاحتياط هو احتمال قصور حجية فتوى الثاني عن الأفعال السابقة على تقليده ، فتبقى أعماله السابقة محكومة بالفساد طبقا لحجية الفتوى السابقة. ولو كان المستند هو الاجماع على عدم الاعادة فلا حاجة إلى الاحتياط المذكور ، وليس المنشأ في هذا الاحتياط هو احتمال السببية في حجية فتوى السابق كما نقله شيخنا قدس‌سره (١) في الأمر الثاني من التحرير ، فراجع.

وعلى كل حال لو كان قد صلّى بلا سورة في الوقت الذي كان مقلده يفتي بالبطلان ، ثم قلّد من يقول بالصحة ، وقلنا بقصور حجية الثانية عن العمل السابق ، أو قلنا بأن حجية الفتوى من باب السببية فتكون الثانية ناسخة للاولى ، كان لازم هذه الوجوه كلها هو الاعادة أو القضاء. ومن الواضح أن هذه المعادة لا يجب فيها أن تكون واجدة للسورة على طبق الفتوى السابقة ، بل لا بدّ أن تكون على طبق الفتوى اللاحقة ، وحينئذ فله أن يعيدها فاقدة للسورة لأن الثاني يقول بصحتها ، فتكون الجديدة عين الاولى فلما ذا هذه الاعادة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٠.

٤١٣

هذا ، ولكن بعد البناء على أن التقليد هو العمل على طبق الفتوى لا مجرد الالتزام نقول بعونه تعالى : إن هذا الشخص في عمله السابق ـ أعني الصلاة بلا جلسة الاستراحة مثلا أو العقد بالفارسية ـ لمّا لم يكن مستندا في عمله السابق إلى فتوى من كان مقلدا له في حال العمل ، كان عمله السابق بلا تقليد ، سواء كانت فتوى السابق هي الصحة أو كانت هي الفساد. فلو قلنا بأن حجية فتوى اللاحق قاصرة عن الشمول للأفعال السابقة ، لم يمكنه البناء على بطلان عمله السابق ولا البناء على صحته ، إذ لا يمكنه أخذ ذلك من السابق لأنه لم يقلده فيه ، ولا من اللاحق لأن فتواه قاصرة الحجية عمّا سبق ، ولكنه مع ذلك حيث إن الاعادة عمل فعلي يلزمه الرجوع فيه إلى مقلده الفعلي ، فلو أفتاه بعدم لزوم الاعادة كفاه وإن لم تكن فتواه بالصحة حجة على صحة الفعل السابق ، وهكذا الحال فيما لو أفتاه بالاعادة لزمه ذلك.

بقي الكلام في الامور الأربعة التي نبّه عليها قدس‌سره (١) وكلها قد اتضحت مما تقدم.

فالأول منها : هو أنه لا فرق في عدم الاجزاء بين الموضوعات والأحكام ، وما ذكرناه من إمكان التصويب في الأول مسلّم ، لعدم قيام الاجماع على خلافه في الموضوعات ، إلاّ أنه خلاف ظاهر الأدلة.

الثاني : أنه لا فرق بين حجية الفتوى على العامي وحجية الأمارة على المجتهد ، ودعوى كون الاولى من قبيل السببية لأنها لا يعتبر فيها عدم الظن بالخلاف ، ولذلك يجب الرجوع إلى الأعلم وإن كانت فتواه مخالفة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤١٤

للمشهور ، وذلك يوجب الظن بخلافها ، ممنوعة فان ذلك لا يوجب كونها من باب السببية ، ولا يشترط في حجية الأمارة على الطريقية أن لا يكون لنا ظن على خلافها.

الثالث : أنه لو قيل بالاجزاء فهو في الأحكام الشرعية لتوهم السببية فيها ، دون الأحكام العقلية كما في القطع والبراءة العقلية فانها لا يتأتى فيها احتمال السببية ، غايته أن العامل بالقطع ونحوه يكون معذورا إن لم يكن مقصرا ، ولو كان مقصرا كان عليه العقاب كما في الكفار القاطعين فانهم معاقبون لكونهم مقصرين ، هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره.

ولكن الاشكال في صغرى التقصير بالنسبة إلى البعض منهم وإن لم يكن البحث عنه مهمّا لنا ، لأن ذلك راجع إليه تعالى ، وليس له أثر عملي يتعلق بنا.

وقد ألحق قدس‌سره بالأحكام العقلية بعض صور تبدل الرأي فقال : ولا يتوهم القول به في الحكم العقلي أصلا ، سواء كان منشؤه القطع بالحكم الشرعي أو أحد الظنون الاجتهادية أو إجراء البراءة العقلية (١). ومراده بذلك ما لو اشتبه في دلالة الخبر مثلا ، بخلاف ما لو عمل بالعام ثم عثر على الخاص. ولكن لو كان ذلك هو المراد فهو لا يخلو عن إشكال ، لأنه لا يخرج عن تبدل الرأي ، وغالب التبدلات في الرأي من هذا القبيل ، ولا ريب أن كل حكم ظاهري يكون مقطوعا به ، ولا يجوز الجري على الحكم الظاهري ما لم يحصل القطع به ، فتأمل.

الرابع : فيما يعود إلى اختلاف الشخصين في الاجتهاد أو التقليد إذا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠١ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٥

كان أحدهما محلا لابتلاء الآخر ، ومنه اختلاف المتعاقدين ، وقد ذكره الشيخ قدس‌سره في المكاسب (١) قبل تعرضه للمقبوض بالعقد الفاسد. وذكره في العروة في مسائل التقليد في مسألة ٥٥ (٢) وذكره شيخنا قدس‌سره في الوسيلة فقال : الثانية لو اختلف طرفا العقد اجتهادا أو تقليدا في صحته بعد تحقق قصد الانشاء ممن يرى فساده ، يجب العمل بمقتضاه على من يرى صحته ، وليس له إلزام الآخر بذلك ، إلاّ إذا حكم به الحاكم الشرعي ، ولو حكم بفساده انفسخ بالنسبة إلى من يرى صحته (٣). وأشكل من ذلك مسألة الاقتداء ، وأشكل منه مسألة المباشرة عند الاختلاف في الطهارة والنجاسة (٤).

وقد تعرض بعض أعاظم العصر ( سلمه الله ) (٥) في درسه حسبما حرره عنه بعض تلامذته (٦) للوجوه الخمسة التي أوردها شيخنا قدس‌سره (٧) على الكفاية (٨) ، لكن الذي يظهر أنه أخذ هذه الوجوه من تقرير آخر لدرس شيخنا قدس‌سره غير هذين التقريرين المطبوعين ، ولعله من تقرير المرحوم الشيخ موسى قدس‌سره ، فانه وإن أمكن أخذه خلاصة الخمسة من أحد التقريرين المطبوعين إلاّ أنه في نقل الايراد الخامس أطال الكلام في بيانه ثم قال « انتهى » ، ثم شرع في الايراد عليه بقوله « أقول : عمدة الاشكال في باب

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ١ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) وسيلة النجاة : ي [ لا يخفى أن الصفحات الاولى منها رمز لها بالحروف دون الأرقام ].

(٤) إلى هنا تنتهي الزيادات التي أشار إليها قدس‌سره كما تقدم في صفحة : ٣٩٥.

(٥) وهو السيد البروجردي دام ظله [ منه قدس‌سره ].

(٦) بقوله [ في نهاية الاصول ١ : ١٤١ ] : وقد استشكل بعض أعاظم العصر ... الخ [ منه قدس‌سره ].

(٧) أجود التقريرات ١ : ٢٨٧ ـ ٢٩٠.

(٨) كفاية الاصول : ٨٦.

٤١٦

الاجزاء عبارة عن هذا الاشكال ».

وعمدة ما أجاب به عن هذه الاشكالات هو ما أجاب به عن هذا الاشكال وحاصله : هو دعوى الحكومة الواقعية ، وأن قوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف » (١) يدل على أنّ ما يؤتى به يصير منطبقا على العنوان المأمور به ، وأن ظهوره في ذلك أقوى من ظهور دليل شرطية الطهارة ، وأنه لا محصل للحكم الظاهري في المقام لفرض عدم الأثر له ، إذ المعذورية لا تكون إلاّ في مورد المخالفة للواقع ، وهي هنا لم تكن من المكلف وإنما جاءت من قبل الشارع الذي سوّغ له الصلاة مع ذلك الثوب ، فلاحظه إلى آخر صفحة : ١٤٠ (٢).

وقد تقدم (٣) أنه لا وجه للحكومة الواقعية ، وأن مجرد جعل الطهارة الظاهرية لا يوجب إلاّ التحكيم الظاهري وتسويغ الدخول في الصلاة ، وهذا كاف في فائدة جعل هذا الحكم الظاهري.

أما الايراد بالنقض بنجاسة الملاقي الذي جعله ثالث الايرادات فقد أجاب عنه بأن الحكم الظاهري إنما يثبت مع انحفاظ الشك ، وأما بعد زواله فينقلب الموضوع. فالملاقي يحكم بطهارته ما دام الشك ، وأما بعد زواله فيحكم بنجاسة كل من الملاقي والملاقى (٤). فلم لا تجري هذه النظرية في الصلاة ، فيقال إن الحكم الظاهري بصحتها استنادا إلى قاعدة الطهارة إنما يثبت ما دام الشك ، فاذا حصل العلم بالنجاسة يحكم ببطلان تلك الصلاة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٢) نهاية الاصول ١ : ١٥١.

(٣) في صفحة : ٣٧٨ وما بعدها.

(٤) نهاية الاصول ١ : ١٤٣.

٤١٧

فلاحظ.

أما الايراد بالنقض بالأمارة القائمة على الطهارة الذي جعله رابع الايرادات ، فهو وإن أجاب عنه باختلاف اللسان ، فلسان قاعدة الطهارة يجعل الطهارة ، ولسان الامارة عليها يحكي عن الواقع ، إلاّ أنه أطال الكلام ثم أخيرا التزم بورود النقض على صاحب الكفاية بالأمارة ، وأن الحكم الظاهري فيها يقتضي الاجزاء ، فلاحظه من صفحة ١٣٢ الى ١٣٩ (١).

ثم انه بعد الرد والبدل ، وبعد أجوبة اعتراضات ذكرها إلى صفحة ١٣٩ ، ومن ذلك المطالبة بملاك الشرط الفائت الذي هو الطهارة ، أجاب بعدم المانع من هذه الجهة ، لأن الغرض هو حصول الاطاعة وإن كان حصولها بفاقد الشرط ـ إلى أن قال : ـ وعلى هذا فيحتمل بحسب مقام الثبوت أن تكون الصلاة مع الطهارة مثلا مشتملة على ملاك غير ملزم ، ويكون المقصود من الأمر بها هو حصول عنوان الاطاعة لا حصول ملاكها ، وإلاّ لكان الأمر المتعلق بها ندبيا. ثم لمّا رأى المولى أن تحصيل الطهارة في بعض الأوقات موجب للعسر ، وأن مقصوده الأصلي أعني انطباق عنوان الاطاعة يترتب على إتيان الصلاة الفاقدة للطهارة أيضا إذا اتي بها بداعي الأمر ، صار هذا سببا لرفع اليد عن الطهارة لحصول الغرض الملزم بدونها ، والفرض أن ذات العمل أيضا لا يشتمل على ملاك ملزم. وهذا المعنى وإن كان صرف احتمال في مقام الثبوت ولكنه يكفي في رفع احتمال استحالة الاجزاء. وإذا أمكن في مقام الثبوت والمفروض دلالة أدلة الأحكام الظاهرية عليه في مقام الاثبات أيضا ، فلا مناص عن القول به فتدبر جيدا (٢). وهذا

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٤٣ ـ ١٥١.

(٢) نهاية الاصول ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

٤١٨

سنخ من سببية الشيخ قدس‌سره (١) جعله أقوى من السببية على طريقة المعتزلة.

ثم ذكر قدس‌سره تذنيبين ، التزم بالأول منهما باجزاء ما يفعله المكلف في مدة عمره من الصلوات الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط الواقعية وإن لم ينكشف عنده ذلك. وأنكر في ثانيهما الاجماع على بطلان التصويب ، وأن هذا الإجماع إنما هو إجماع المتكلمين لا الفقهاء فلا يكون حجة شرعية.

وفي الحقيقة هو ملتزم بالاجزاء والتصويب ، وهو ظاهر منه في أول البحث عند تصديه للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، فانه لم يخرج عنده من مقتضى التصويب إلاّ الأمارات القائمة على التكاليف الاستقلالية. ولم يظهر الوجه في استثنائها بعد فتح باب الكسر والانكسار وإنكار الاجماع على بطلان التصويب. نعم لا أثر للالتزام بالتصويب في ذلك ، إذ لا تترتب عليه إعادة ولا قضاء ، إلاّ فيما لو أدت الأمارة أو الأصل إلى عدم وجوب شيء ثم ثبت وجوبه ، وأنه ممّا يلزم فيه القضاء ، لكن القضاء حينئذ يكون لازما ولو قلنا بالتصويب ، لأن المدار فيه على عدم الاتيان بالفعل في وقته ، وإن كان المستند في عدم الاتيان في وقته هو الحكم الشرعي بعدم وجوبه.

أما ما يكون لسانه تبيين ما هو وظيفة الشاك في أجزاء الواجب وشرائطه وموانعه ، فقد التزم فيه بالاجزاء وسقوط الواقع وأن الحكم الفعلي هو ذلك الظاهري ، فراجع قوله : إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم ـ إلى قوله ـ بل الحكم الظاهري يكون فعليا في ظرف الشك ، ويكون العمل على طبقه مجزيا (٢) ، فراجعه إلى أواخر صفحة ١٢٩ (٣) تجد القول بالاجزاء والتصويب

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٤ وما بعدها.

(٢) نهاية الاصول ١ : ١٣٦.

(٣) نهاية الاصول ١ : ١٤١.

٤١٩

في هذا السنخ من الأحكام التي سمّاها غير استقلالية واضحا جليا.

والذي ينبغي إجراؤه هذه الطريقة في المعاملات كما أجراها في العبادات ، من دون فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية فتأمل. وكان عليه استثناء الخمسة التي تضمنها الاستثناء في حديث لا تعاد (١) ، ولعله يخصه بالنسيان. وإني في شك في نسبة هذه الامور إليه سلّمه الله ، وقد اعتذر المقرر في أول كتابه بقوله : وأقول أيضا معتذرا أنه لم يكن من عادتي ضبط كل درس بعد استفادته ... الخ (٢).

ويؤيد ذلك أنّه سلّمه الله لم يحرر شيئا على هذا التقرير من تقريظ كما هو مجرى عادة الأساتذة فيما يحرره ويطبعه عنهم تلامذتهم ، إلاّ أنّ في نفسي شيئا من ذلك ، فانّه سلّمه الله لو كان غير قائل بهذه التفاصيل لكان نسبته إليه جناية في النقل ، فان التلميذ ربما سها أو اشتبه في جملة أو في بعض تقاريب أصل مطلب استاذه ، لكن لا بهذه السعة على وجه يكون أصل هذه المطالب التي حررها من صفحة ١٢٠ الى صفحة ١٤١ (٣) كله لا أساس له عن الاستاذ ، فان ذلك بعيد في غاية البعد ، فلاحظ وتأمل.

فقد تلخص لك من جميع ما تقدم : أن جميع موارد الأحكام الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية مع انكشاف الخلاف كشفا قطعيا لا توجب الاجزاء. واللازم هو الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، من دون فرق في ذلك بين كون الحكم الظاهري ناشئا عن الاصول أو الأمارات

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهد ب ٧ ح ١.

(٢) نهاية الاصول ١ : ٨.

(٣) نهاية الاصول ١ : ١٣٢ ـ ١٥٢.

٤٢٠