أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

ورابعة : تكون مدخليته مقيدة بحال التمكن كالثالثة ، لكن لا يكون سقوطها مقيدا بما إذا لم يتمكن منه في تمام الوقت ، بل في أيّ حال كان غير متمكن منه كانت قيديته ساقطة وإن كان متمكنا منه بعد ذلك الحال ، ففي الحال التي لم يتمكن فيها منه تكون الصلاة وافية بتمام مصلحتها ومجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، وإن كان متمكنا منه بعد تلك الحال.

وفي هذه الصورة يجوز له البدار في أول الوقت ، بل يستحب لفضيلة أول الوقت ، وإن كان عالما بانه بعد ذلك يتمكن من القيام.

فقد تلخص لك : أنه حيث يوجد الأمر الاضطراري بالفاقد يكون ذلك الفاقد واجدا لتمام المصلحة ، لا أنه واجد لبعضها ويبقى بعضها. نعم يفقد مصلحة نفس ذلك المفقود التي هي غير مربوطة بمصلحة أصل الفعل ، بمعنى أن مصلحة أصل الفعل لا تكون متوقفة على وجوده ، لأن توقفها عليه خلف لما فرضناه من سقوط قيديته التي يتوقف على سقوطها توجه الأمر الاضطراري بالفاقد.

لكن سيأتي إن شاء الله (١) الاشكال في توجه الأمر الاضطراري مع فرض التمكن في آخر الوقت ، من جهة أن فيه تفويت مصلحة المفقود.

وينبغي أن يعلم أن ما فرضناه في الصور الثلاث من كون المفقود ذا مصلحة في حد نفسه مضافا إلى توقف صلاح الفعل عليه مطلقا أو في حال التمكن منه ، وإن كان غير بعيد بالنظر إلى أن ما يعتبر في الواجب من أجزاء وشرائط ينبسط عليها الوجوب ، وكل واحد منها يناله حظ من ذلك الوجوب ، وهو المعبّر عنه بالوجوب الضمني الذي لا يكون إلاّ عن صلاح

__________________

(١) راجع ما يأتي في صفحة : ٣٧١ وما بعدها.

٣٦١

ولو ضمنا أيضا ، والارتباطية عبارة عن توقف الصلاح في كل من تلك الاجزاء والشرائط على وجود البواقي ، ولكن مع ذلك يمكن فرض خلافه بأن لا يكون لذلك المفقود مصلحة في حد نفسه ، ولا يكون في البين سوى توقف مصلحة الواجب عليه إما مطلقا أو في خصوص حال التمكن منه.

لا يقال : يمكن أن لا يكون لذلك المفقود مصلحة في حد نفسه ، لكن يمكن أن يكون في تقيد الواجب به مصلحة ، فذلك الفعل الواجب تكون مصلحته بعشر درجات مثلا ، لكن تقيده بذلك القيد يكون موجبا لكون صلاح الفعل الواجب بدرجة خمس عشرة ، فيكون الفعل الفاقد لذلك القيد في حال تعذر ذلك القيد وافيا ببعض مصلحته وهي العشرة ، وتبقى الخمسة من مصلحة ذلك الفعل.

لأنا نقول : إنا ننقل الكلام في هذه الصورة إلى التقيد نفسه ونقول : إن مصلحة الفعل نفسه وهي العشرة إن كانت غير متوقفة عليه كان واجبا مستقلا وهي الصورة الاولى ، وإن كانت متوقفة عليه مطلقا كان ركنا وهي الصورة الثانية ، وإن كانت متوقفة عليه في خصوص حال التمكن منه كان اعتباره ساقطا في حال التعذر ، وهي الصورة الثالثة إن كان المسقط تعذره في تمام الوقت ، أو الرابعة إن كان تعذره في حال مسقطا لاعتباره في تلك الحال.

لا يقال : لا نفرض القيد ذا مصلحة ولا نفرض التقيد به ذا مصلحة ، بل نفرض أن المصلحة كلها لنفس ذات الفعل ، ولكن نقول إنه يمكن أن يكون حال هذا القيد حال صفة العبد كالكتابة مثلا في كونها موجبة لزيادة ثمنه وإن لم تقابل هي بشيء من الثمن ، بأن لا يكون للقيام ولا لتقيد الصلاة به شيء من المصلحة ، لكنه يمكن أن يكون موجبا لزيادة مصلحة الصلاة

٣٦٢

التي هي عشرة مثلا إلى خمس عشرة ، فتكون الصلاة الفاقدة للقيام في حال تعذره غير وافية بتمام مصلحتها التي هي الخمس عشرة ، بل يبقى من مصلحتها شيء وهو الخمسة ، فيلزم الاعادة أو القضاء بعد ارتفاع العذر تحصيلا لذلك الباقي.

لأنا نقول : إن تلك العشرة من مصلحة الصلاة إن لم تكن مربوطة بالخمس الاخرى ، بمعنى أن تلك العشرة يمكن الحصول عليها وإن لم تحصل تلك الخمسة الآتية لها من ناحية القيام ، كان القيام واجبا مستقلا وذلك هو الصورة الاولى.

وإن كانت تلك العشرة مربوطة بالخمسة الاخرى على وجه يتوقف حصول تلك العشرة على حصول تلك الخمسة ، كان فقدها القيام ولو لأجل تعذره في تمام الوقت موجبا لعدم حصول تلك العشرة ، وسقط التكليف بالصلاة في حال تعذر القيام ولو في تمام الوقت ، وذلك هو الصورة الثانية.

وإن كان ارتباط العشرة بتلك الخمسة مختصا بحال التمكن من القيام ولو في آخر الوقت ، كانت الصلاة الفاقدة للقيام لتعذره في تمام الوقت وافية بالعشرة ، وسقط ما يوجب تلك الخمسة وهو القيام وكانت مجزية عن القضاء ، وذلك هو الصورة الثالثة.

وإن كان ارتباطها بتلك الخمسة مختصا بحال التمكن ، ولم تكن مرتبطة بها في حال تعذره ولو في أول الوقت ، كانت الصلاة الفاقدة للقيام في حال تعذره وافية بالعشرة ، بمعنى أنها لم تكن مقيدة في ذلك الحال فتكون مجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، لحصول امتثال الأمر بالصلاة بالاتيان بتلك الصلاة ، ولا يمكن الحكم بلزوم الاعادة إلاّ بأمر جديد يكون متعلقا بايجاد الصلاة ثانيا ، لأن الأمر الأوّل في حال الاتيان بتلك الصلاة

٣٦٣

السابقة لم يكن مقيدا بالقيام ، يعني أن الأمر الواقعي الأولي الذي كان متعلقا بالصلاة مع القيام قد ارتفعت قيدية القيام من متعلقه ، وتبدل متعلقه من المقيد بالقيام إلى المجرد من ذلك القيد ، والمفروض أنه قد سقط بامتثاله ، فلو أراد الشارع تحصيل تلك المصلحة الباقية ـ أعني الخمسة المذكورة ـ كان عليه تجديد الأمر متعلقا بالصلاة مع القيام.

لكن سيأتي (١) أنه لا يمكن توجه الأمر بالفاقد في حال تعذره مع فرض تمكنه منه في باقي الوقت ، إلاّ إذا لم يكن لذلك القيد مدخلية في المصلحة أصلا ، وكان غاية ملاك قيديته هو توقف مصلحة الصلاة على وجوده ، وكان ذلك التوقف مختصا بحال التمكن منه ، دون حال عدم التمكن ، ولو كان عالما بأنه يتمكن منه في باقي الوقت.

ثم إنك قد عرفت أن لازم الصورة الثانية هو كون القدرة على ذلك القيد شرطا عقليا في التكليف بالمأمور به المقيد بذلك القيد ، المفروض كونه قيدا حتى في حال تعذره ، فيكون التكليف بذلك المقيد في حال تعذر قيده المذكور ساقطا خطابا لا ملاكا ، بخلاف الثالثة والرابعة فان لازمهما كون القدرة على ذلك القيد شرطا شرعيا في اعتباره في المأمور به.

ولا يخفى أن لازم كون القدرة شرطا شرعيا في التقييد هو مدخليتها في ملاك ذلك التقييد ، فيكون عدمها موجبا لسقوط التقييد المذكور خطابا وملاكا ، ومقتضى ذلك هو جواز تفويت تلك القدرة ، لأن ذلك من قبيل إخراج المكلف نفسه من موضوع إلى موضوع آخر كالحضر والسفر ، لكن ذلك أعني جواز التفويت إنما يكون فيما إذا لم يكن لذلك القيد في حدّ

__________________

(١) في صفحة : ٣٧١ وما بعدها.

٣٦٤

نفسه مصلحة خاصة زائدة على توقف مصلحة ذات الواجب على وجوده عند القدرة عليه ، أو لم يكن لتقيده به مصلحة خاصة ، أو لم يكن هو أعني القيد موجبا لزيادة مصلحة نفس الواجب ، ففي صورة انتفاء هذه الجهات الثلاث لا يكون التفويت ممنوعا عنه.

أما إذا تحقق أحدها بأن كان لنفس القيد مصلحة خاصة ، أو كان لتقيد الواجب به مصلحة خاصة ، أو كان هو موجبا لزيادة مصلحة الواجب نفسه كما عرفت تفصيل الكلام في هذه الصور ، فانه لا يجوز تفويت القدرة في واحدة منها ، فان أصل مصلحة الواجب وإن نالها المكلف عند الاتيان بالفعل فاقدا لذلك القيد بعد تعذره عليه بسوء اختياره ، وكان ذلك الفعل مجزيا له عن الاعادة والقضاء ، إلاّ أنه قد عصى وفعل محرما بتفويته تلك الجهة الزائدة من المصلحة التي هي حسب الفروض غير مشروطة بالقدرة الشرعية ، فان الذي كان مشروطا بالقدرة الشرعية هو مدخلية وجود ذلك القيد في أصل مصلحة ذلك الواجب ، بمعنى أن قيديته لذلك الواجب وتوقف صحته على وجوده كان هو المشروط بالقدرة الشرعية ، دون مصلحة نفس ذلك القيد أو المصلحة الزائدة لذلك الواجب من ناحية تقيده به أو وجوده فيه ، فان هذه الجهات الزائدة من المصلحة لم تكن مشروطة بالقدرة الشرعية فلا يسوغ تفويتها ، وإن كان لو فوّتها المكلف على نفسه وعجّز نفسه عن ذلك القيد كان الواجب الفاقد لذلك القيد بعد أن عجّز نفسه عنه صحيحا. وبذلك يندفع الاشكال على ذلك بأنه مناف لذوق المتشرعة ، حيث إنهم يرون العاجز الذي صار تكليفه الاضطراري متعلقا بالفاقد محروما عن مقدار من المصلحة فاتته بذلك الاضطرار.

نعم ، يبقى إشكال آخر وهو أن لازم ذلك هو تساوي هذه القيود في

٣٦٥

الاشتراط بالقدرة الشرعية ، فما هو الوجه في تقديم بعضها على بعض مثل تقديم الطهارة من الخبث على الطهارة المائية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (١) الجواب عنه.

ثم لا يخفى أنهم جوّزوا كما في العروة البدار مع احتمال زوال العذر في آخر الوقت في مسألة التيمم ، ومنعوه في مسألة الجبيرة ومسألة اللباس ومسألة القيام ، فراجع العروة في هذه المسائل (٢) ، وقد عرفت أن مقتضى الاستصحاب الجواز في جميع هذه الصور ، ومع قطع النظر عن الاستصحاب فمقتضى القاعدة المنع في الجميع ، والتفرقة بكون الطهارة المائية مشروطة بالقدرة العقلية (٣) فلا يجب الاحتياط فيها عند الشك في تحقق القدرة بخلاف البواقي ، قد عرفت الاشكال فيه وأن القدرة في الجميع بالنسبة إلى التقييد شرعية ، وإمكان استواء الجميع في احتمال الصلاح في نفس القيد الراجع إلى القدرة العقلية من هذه الناحية.

وينبغي مراجعة العروة في مسألة ١٣ فان شيخنا قدس‌سره في الحاشية (٤) فرّق بين إراقة الماء وبين نقض الوضوء ، فجوّز الثاني ومنع من الأوّل ، ولم يتضح الوجه في ذلك. والظاهر أنه لا نص في المنع من الاراقة كما صرح به في الحدائق (٥) في آخر الفرع الخامس فيما لو أخلّ بالطلب.

__________________

(١) سيأتي في هذه الحاشية التعرض لذلك ، وينبغي مراجعة المجلّد الثالث من هذا الكتاب في صفحة : ١٧٩ وما بعدها ، وكذا صفحة : ٢٧٣ وما بعدها.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ٢١٦ مسألة ٣ ، وراجع أيضا ١ : ٤٨٤ مسألة ٣٢ ، و ٢ : ٣٥٥ مسألة ٤٦ ، و ٢ : ٤٨٧ مسألة ٢٢.

(٣) [ الظاهر أنه من سهو القلم ، والصحيح : بالقدرة الشرعية ].

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٦٨ مسألة ١٣.

(٥) الحدائق الناضرة ٤ : ٢٢٨.

٣٦٦

وينبغي أيضا مراجعة جميع المسائل التي حررها في المسوّغ السادس فيما يرجع إلى مزاحمة الطهارة من الخبث مع الطهارة المائية ، فانه قدّم الاولى على الثانية لكون الثانية لها البدل دون الاولى ، وأضاف إليه قوله : مع أنه منصوص في بعض صوره (١).

أما كون الثانية لها البدل دون الاولى فيمكن منعه ، لما عرفت في محله من رجوع البدلية إلى اشتراط القدرة الشرعية ، وقد عرفت هنا أن الطهارة من الخبث مشروطة شرعا بالقدرة أيضا. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنهما وإن اشتركا في كونهما مشروطين بالقدرة الشرعية إلاّ أن أحدهما لمّا جعل له الشارع [ البدل ](٢) كان المستفاد من ذلك الجعل هو قيام ذلك البدل بمقدار من مصلحة المفقود ، وذلك المقدار كاف في التقديم في مقام المزاحمة وإسقاط التخيير بينهما ، لكن سيأتي إن شاء الله تعالى في باب التزاحم (٣) المنع من ذلك.

وأما النص ، ففيه تأمل فان صاحب الحدائق (٤) صرح في الفرع الثاني عشر بأنّ المسألة لا نص فيها. نعم إن صاحب الجواهر قدس‌سره بعد أن استدل للمسألة بما عرفت من البدلية والاجماع قال ما لفظه : وقد يشهد له مع ذلك أيضا ما في خبر أبي عبيدة « سئل الصادق عليه‌السلام عن المرأة ترى الطهر في السفر وليس معها ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال : إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي » الحديث (٥) لتقديمه إزالة

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٧٨ ـ ١٨١.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) في المجلّد الثالث من هذا الكتاب في صفحة : ١٨١.

(٤) الحدائق الناضرة ٤ : ٢٣٥.

(٥) وسائل الشيعة ٢ : ٣١٢ / أبواب الحيض ب ٢١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

٣٦٧

النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها لو لاها (١) وفي دلالتها تأمل لعدم تعرضها للوضوء.

وما ذكره في مسألة ٢٣ (٢) من مزاحمة تقليل النجاسة للطهارة المائية وتقديم الثانية على التقليل لم يظهر وجهه ، مع تصريحه بلزوم التقليل في باب أحكام النجاسات (٣).

ثم إن تقديم تطهير البدن على تطهير الثوب والطهارة المائية لم يظهر وجهه ، وكذا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من قوله في الحاشية : بل هو المتعين على ما هو الأقوى من وجوب الصلاة عاريا مع الانحصار (٤) فان كل واحد من هذه الجهات مشروط بالقدرة شرعا ، فكما أن الطهارة المائية مشروطة شرعا بالتمكن ، فكذلك تطهير البدن من الخبث ، وكذلك تطهير الثوب منه مشروط شرعا بالقدرة ، سواء قلنا إن بدله هو الصلاة عاريا أو الصلاة مع النجس.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن الصلاة عاريا بدل شرعي ، بخلاف الصلاة مع النجس فانه من باب سقوط شرطية طهارة اللباس ، من دون أن يكون الصلاة مع النجس بدلا ، فتأمّل.

لكن يبقى الاشكال في مسألة ٢٥ (٥) ، لأنّ كلا من الصلاة عاريا ومع التيمم من باب البدلية حينئذ ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إن الصلاة عاريا إنما تكون

__________________

(١) جواهر الكلام ٥ : ١١٧.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٨٠.

(٣) [ الظاهر أنه من سهو القلم ، والصحيح : أنه في بحث الصلاة في النجس ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ مسألة ٩ ].

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٨١.

(٥) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٨٢.

٣٦٨

بدلا عن اللباس الطاهر لا عن أصل الساتر ، فتأمل.

وخلاصة المبحث وزبدة المخاض : أن ملخص ما أفاده شيخنا قدس‌سره هو أن تشريع الأمر الاضطراري في صورة كون العذر مستوعبا لتمام الوقت ملازم لامور ثلاثة ، لا ينفك عنها ولا تنفك هي بعضها عن بعض :

الأوّل : سقوط قيدية المتعذر واختصاصها بحال التمكن ولو في بعض الوقت ، فتكون القيدية المزبورة مشروطة بالقدرة الشرعية ولو في آخر الوقت ، وأنه عند تعذره في تمام الوقت لا يكون ذلك المتعذر قيدا.

الثاني : كون مصلحة ذلك الفاقد غير متوقفة في حال تعذر المفقود على ذلك المفقود ، فيكون ذلك الفاقد وافيا بتمام مصلحته.

الثالث : كون ذلك الفاقد المأتي به مجزيا عن القضاء ، أما الاعادة فليست هي محل كلامه قدس‌سره وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى (١).

وملخص ما يمكن أن يتوجه عليه امور ثلاثة أيضا :

الأوّل : أن دعوى كون الفاقد وافيا بتمام المصلحة مما لا تساعد عليه أذهان المتشرعة ، لأنهم يرون العاجز عن القيام في تمام الوقت مثلا محروما عن مصلحة الصلاة القيامية وإن كان معذورا عندهم ، بل ربما عبّروا عن ذلك بعدم مساعدة التوفيق ونحو ذلك مما يدل على أنهم يرونه غير نائل لتلك المصلحة.

الثاني : أن لازم ذلك هو جواز تفويت القدرة بالنسبة إلى تلك الأجزاء أو الشرائط.

الثالث : أنه بناء على ذلك لا وجه لتقديم مثل الطهارة من الخبث

__________________

(١) ستأتي الإشارة إليه في صفحة : ٣٩٦.

٣٦٩

على الطهارة المائية.

أما الأخير فقد عرفت الجواب عنه بمسألة البدلية. نعم يرد عليه كون تزاحم القيود والأجزاء من قبيل تزاحم المشروطات بالقدرة الشرعية ، وهو خلاف مسلكه قدس‌سره (١) في تزاحمها ، بل يراه من تزاحم المشروطات بالقدرة العقلية.

وأما الأوّل والثاني فهما إنما يتوجهان فيما لم يكن لذلك المفقود أثر أصلا سوى توقف مصلحة الواجب على وجوده ، أما إذا كان له مقدار من الصلاح فلا ورود لهما. ويمكن فرض ذلك بأحد امور ثلاثة :

الأول : كونه في حد نفسه ذا مصلحة ضمنية كما أنه ذو وجوب ضمني ، مضافا إلى أنه تتوقف مصلحة الواجب على وجوده الذي عرفت أنه محصل الارتباطية.

الثاني : كون تقيد الصلاة به ذا مصلحة وإن لم يكن هو بذاته ذا مصلحة ، ولعل ما يقولون من كون التقييد داخلا وكون القيد خارجا راجع إلى هذه الصورة.

لثالث : كونه موجبا لزيادة المصلحة في ذات الواجب وإن لم يكن هو ولا التقيد به ذا مصلحة ، فيكون حاله في ذلك حال وصف العبد المبيع بالكتابة في كونه موجبا لزيادة ثمن العبد ، وإن لم يقابل بشيء من الثمن.

وهذه الجهات من المصالح هي التي تفوت المكلف عند تعذر ذلك

__________________

(١) يظهر من أجود التقريرات ٢ : ٤٩ أن أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعا ، ولكن يظهر مما ذكره قدس‌سره في أجود التقريرات ٢ : ٤٣ ـ ٤٤ أن مثل القيام مشروط بالقدرة العقلية. وقد أشار إلى هذا التنافي المحقّق الخوئي قدس‌سره في هامش الأجود ، كما أشار إليه المصنف قدس‌سره في المجلّد الثالث من هذا الكتاب صفحة : ٢٥١.

٣٧٠

القيد ، وهي المنشأ فيما عليه أذهان المتشرعة ، وهي المنشأ أيضا في عدم جواز تفويت القدرة عليه ، لعدم كونها مشروطة شرعا بالقدرة الشرعية ، وإن كان توقف أصل مصلحة الواجب على ذلك القيد الذي هو روح التقييد وملاكه مشروطا بالقدرة شرعا. نعم لو كانت مصلحة القيد مشروطة أيضا بالقدرة الشرعية كأصل التقييد عاد الاشكال الثاني والاشكال الثالث.

ثم بعد ذلك يتوجه الاشكال على الأمر بالفاقد في الوقت لكونه موجبا لتفويت مصلحة القيد ، فلا بدّ حينئذ من إيقاع التزاحم بين مصلحة الوقت ومصلحة نفس القيد إن كانت مصلحة القيد غير قابلة للاستيفاء بعد استيفاء مصلحة الوقت ، وإن كانت قابلة للاستيفاء كان اللازم هو توجه الأمرين ، الأمر بالفاقد في الوقت والأمر بالواجد بعد الوقت على ما مرّ (١) تفصيل الكلام فيه ، فلاحظ.

هذا كله فيما لو كان العذر مستوعبا لتمام الوقت ، بحيث كان المكلف عاجزا عن القيام مثلا في تمام الوقت المضروب للصلاة ، أما لو كان متمكنا في بعضه بأن كان في أوّل الوقت عاجزا لكنه يقدر عليه بعد ذلك ولو في آخر الوقت ، فان كان ذلك أجنبيا عن المصلحة بالمرة ، ولم يكن له أثر إلاّ توقف مصلحة الصلاة على وجوده ، من دون أن يكون لنفسه مصلحة خاصة ولا لتقيد الصلاة به ولا أنه موجب للزيادة في مصلحتها ، فان كان توقف مصلحة الصلاة عليه توقفا مطلقا حتى لو لم يكن مقدورا في تمام الوقت سقط الأمر بالصلاة كما عرفت فيما تقدم (٢).

وإن كان توقف مصلحة الصلاة عليه مختصا بما لو تمكن منه ولو في

__________________

(١) لاحظ ما تقدم في صفحة : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) في صفحة : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

٣٧١

آخر الوقت لم تسقط قيديته إلاّ في صورة تعذره بتمام الوقت ، وكان الاتيان بها فاقدة له فيما لو كان متعذرا في تمام الوقت مجزيا عن القضاء ، وكانت حينئذ وافية بتمام مصلحتها ، وخرجت المسألة عن محل الكلام في الاجزاء عن الاعادة ، لعدم تصور الاعادة حينئذ إلاّ فيما لو اعتقد بقاء العذر أو اعتمد على الاستصحاب ثم انكشف الخلاف ، فانه يدخله الكلام حينئذ في الاجزاء عن الاعادة ، لكن لا من جهة الأمر الاضطراري بل من جهة الأمر الظاهري.

وإن كان توقف مصلحة الصلاة عليه مختصا بحال التمكن دون حال التعذر ـ وإن كان ذلك التعذر في بعض الوقت مع فرض التمكن منه في البعض الآخر ـ كانت قيديته في حال التعذر ساقطة ، وكانت الصلاة الفاقدة له في ذلك الحال مجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، وكانت وافية بتمام مصلحتها وإن كان يعلم أنه يتمكن منه بعد ذلك. وفي هذه الصورة يكون جواز البدار حكما واقعيا ، وتكون تلك الصلاة المأتي [ بها ](١) فاقدة لذلك القيد في حال تعذره وافية بتمام المصلحة الواقعية ، وإن كان عند الاتيان بها عالما بأنه بعد ذلك يرتفع تعذره ويتمكن من الحصول على ذلك القيد في باقي الوقت ، ويكون حال تعذر القيد وحال التمكن منه من قبيل اختلاف الموضوع نظير الحضر والسفر ، ويكون تفويت القدرة على ذلك القيد سائغا غير ممنوع عنه عقلا ولا شرعا ، ويكون أقل تكليف مشروط بالقدرة العقلية مقدما على تحصيل ذلك القيد ، لكونه رافعا للقدرة عليه وموجبا لسقوط لزوم تقييد الصلاة.

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٧٢

ولا يتوجه عليه ما تقدم (١) ذكره من أن ذوق المتشرعة لا يساعد على كون الفاقد مساويا للواجد ، لأنهم بعد اطلاعهم على أن الشارع قد أمره بالفاقد في حال تعذره حتى في صورة العلم بأنّه يتمكن من القيد بعد ذلك ، يستكشفون قهرا أن ذلك الفاقد واجد لتمام المصلحة التي ينالها عند التمكن من القيد. لكن فعلا لم أعثر على مثال يكون الأمر الاضطراري فيه من هذا القبيل ، بمعنى أنه يتوجه في حال تعذر القيد مع فرض العلم بارتفاع التعذر بعد ذلك في باقي الوقت ، حتى في مثل الطهارة المائية ، فانهم لا يسوّغون البدار فيها لمن كان عالما بأنه يتمكن من الماء في باقي الوقت وإن سوّغوه في صورة الاحتمال ، هذا كله فيما لا يكون لذلك القيد مصلحة أصلا ، ولم يكن له أثر إلاّ مجرد توقف مصلحة الصلاة على وجوده.

أما لو كان له مصلحة في حد نفسه بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدمة من المصلحة الضمنية أو المصلحة في التقيد به أو المصلحة الزائدة في الفعل بسببه ، بأن كانت مصلحة الصلاة الواجدة له في حال التمكن بدرجة عشرين ، وكان خمسة منها لاحقة لذات القيد أو لتقيده ، أو أنها تزيد في مصلحة الصلاة بسببه ، فانا وإن فرضنا أن مصلحة الصلاة التي هي خمس عشرة لا تكون متوقفة على وجوده في حال تعذره في أوّل الوقت حتى مع فرض التمكن منه في باقي الوقت ، وكان لازمه أنه لو أتى بالصلاة في ذلك الوقت تكون مسقطة لأمرها ووافية بمصلحة نفسها ، وأنه لا مجال لاعادتها بعد ذلك إلاّ بأمر جديد ، إلاّ أن ذلك كله إنما يتم لو توجه الأمر الاضطراري

__________________

(١) في صفحة : ٣٦٩.

٣٧٣

إليه في ذلك الحال ، لكنه لا يمكن صدور مثل ذلك الأمر من الشارع ، لكونه مفوّتا لذلك المقدار من المصلحة أعني الخمس درجات.

نعم ، لو كان التعذر مستوعبا لتمام الوقت كان توجه الأمر الاضطراري إليه في محله ، نظرا إلى أن مصلحة الوقت أهم من المصلحة التي تفوته من ناحية القيام التي يحصل عليها في خارج الوقت ، فيكون ذلك الأمر كاشفا عن أهمية مصلحة التقييد بالوقت على مصلحة القيام في خارج الوقت ، على إشكال في ذلك فيما لو كان الاستناد في سقوط قيدية مثل القيام إلى الأدلة العامة مثل العسر والحرج ، منشؤه أن الحرج في مثل ذلك يكون في التقييد بالقيام أو التقييد بالوقت ، فتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنا إذا فرضنا أن وفاء الصلاة بمصلحتها الخمس عشرة في حال تعذر القيام ولو في أوّل الوقت لا يكون متوقفا على وجوده ، لم تكن مصلحة القيام التي هي الخمسة في ذلك الحال إلاّ من قبيل الواجب في واجب ، الذي لا يكون تعذره بل مجرد تركه ولو عمدا موجبا لعدم صحة الأمر بذلك الفاقد.

اللهم إلاّ أن يقال : إنا نلتزم في مسألة الواجب في ضمن الواجب أنه عند تعذره مع فرض التمكن منه بعد ذلك يسقط الخطاب بأصل الواجب في حال التعذر ، لكونه مفوّتا لمصلحة ذلك الواجب الضمني ، لكنه لو أتى به في ذلك الحال كان صحيحا ووافيا بملاك نفسه. نعم إن ذلك الخطاب غير ساقط في حال تركه عمدا ، لأنه لا يكون ذلك الخطاب حينئذ هو المفوّت بل المفوّت هو الترك العمدي.

وفيما نحن فيه أيضا نلتزم بذلك ، بمعنى أنا نلتزم بسقوط الخطاب بالباقي وبقائه ملاكا ، وأنه لو جاء به لكان صحيحا ووافيا بملاكه ، إلاّ أن

٣٧٤

الشأن في ثبوت أصل هذه الصورة ، إذ لا طريق لنا إلى استكشافها إلاّ من توجه الأمر الاضطراري في حال تعذر القيد مع فرض التمكن منه في باقي الوقت ، مع فرض قيام الدليل أيضا على أنه لو كان في حال يمكنه فيه ذلك القيد لا يجوز له تفويت تلك القدرة ، فان هذين الدليلين لو اجتمعا تستنتج منهما النتيجة المزبورة ، بخلاف ما لو انفرد الأوّل عن الثاني فانه يمكن أن ينزّل على ما تقدم ذكره من عدم مدخلية للقيد في المصلحة ، وأنه لا أثر له إلاّ توقف مصلحة الواجب عليه في حال التمكن منه ، وأن قيديته ساقطة في حال تعذره ولو مع التمكن منه في باقي الوقت.

على أنك قد عرفت أن هذا المقدار أيضا مجرد فرض لا واقعية له ، وأن الأوامر الاضطرارية المشرّعة فيما عثرت عليه كلها مقيدة بالتعذر في تمام الوقت ، وأنه لا يسوغ البدار في شيء منها لمن كان يعلم أنه يتمكن من القيد في باقي الوقت ولو في آخره.

قوله : وأما المسألة الثالثة فادعى جماعة فيها الاجماع على عدم الاجزاء ، وجعلوا الاجزاء وعدمه من فروع مسألة التصويب والتخطئة وهو الحق ... الخ (١).

لا يخفى أن الأمر الظاهري ذو مراتب ، فأعلاها ما يستفاد من الأمارات ، ثم الاصول الاحرازية ، ثم الاصول التنزيلية ، ثم الاصول التي يكون مفادها جعل الحكم في مورد الشك ، سواء كان ذلك الحكم على طبق أحد طرفي الشك كما في قاعدة البناء على الأكثر أو قاعدة الطهارة ، أو كان حكما آخر كما لو حكم بالاباحة الظاهرية أو التخيير الشرعي الظاهري

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٨٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٧٥

في موارد الدوران بين المحذورين ، ثم الاصول التي لا تعرض لها لأزيد من الوظيفة المقررة للشاك في مقام العمل ، كما في موارد الاحتياط الشرعي كالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وكما في البراءة الشرعية. وهذه الأوامر الظاهرية بأسرها تارة يكون مجراها هو الشبهة الحكمية ، واخرى يكون مجراها هو الشبهة الموضوعية.

ثم إن التبدل في الأمر الظاهري تارة يكون من جهة الانكشاف القطعي على خلافه ، وأخرى يكون من جهة الانكشاف الظني ، إلاّ أن الانكشاف القطعي في الأوامر الظاهرية الجارية في الشبهة الحكمية قليل جدا ، بل لا أستحضر له فعلا مثالا إلاّ ما قد يقال من الإجماع المحصل إذا فرض تحققه للمجتهد بعد العمل بالأمارة التي كان مقتضاها مخالفا لذلك الاجماع ، بخلاف ما يكون من الأحكام الظاهرية جاريا في الشبهات الموضوعية ، فان الانكشاف القطعي فيها كثير جدا ، كما لو عمل على طبق أصالة الطهارة في اللباس مثلا ثم علم بعد ذلك بأنه نجس ، كما يمكن الانكشاف الظني فيها أيضا ، كما لو عمل بمقتضى اليد من الملكية أو تذكية ما في يد المسلم ثم قامت البينة على الخلاف.

ثم لا يخفى أن معنى انكشاف الخلاف القطعي في الأوامر الظاهرية ليس معناه انكشاف الخطأ في ذلك الأمر الظاهري ، بحيث ينكشف قطعيا أن ذلك الأمر الظاهري كان خطأ ، كما في موارد القطع بالطهارة مثلا ثم يتبدل إلى القطع بالنجاسة ، فان هذا المعنى بعد فرض كونه حكما ظاهريا واردا في مورده لا يعقل ، بل المراد به أنه ينكشف أن الواقع كان على خلاف ذلك الحكم الظاهري ، بمعنى أن ذلك الحكم الظاهري لم يكن مطابقا للواقع بل كان الواقع على خلافه ، أما نفس ذلك الحكم الظاهري فلم يكن

٣٧٦

في حد نفسه خطأ ، بل لا يمكن التفوّه بذلك بعد فرض كونه حكما شرعيا صدر في ظرفه في محلّه.

والحاصل : أن معنى انكشاف الخطأ في ذلك الحكم الظاهري ليس إلاّ عبارة عمّا افيد من التخطئة ، وأن لله تعالى في كل واقعة حكما واقعيا يصيبه من يصيبه ويخطأه من يخطأه ، بمعنى أن الحكم الظاهري لا يغيّر الواقع بل يكون الواقع محفوظا ، ولأجل انحفاظ ذلك الحكم الواقعي نقول إن العمل على طبق ذلك الحكم الظاهري لا يكون مجزيا عن الواقع لو انكشف أن الواقع كان على خلاف مقتضى ذلك الحكم الظاهري.

ولا يخفى أن صاحب الكفاية قدس‌سره (١) لم يحرر هذه الأقسام ، بل جعل محط التقسيم هو كون الحكم الظاهري جاريا في إثبات أصل التكليف كما لو أدى إلى وجوب صلاة الجمعة ، أو أنه يكون جاريا في إثبات موضوع التكليف يعني متعلقه ، وجعل هذا الأخير على قسمين : الأصل العملي والأمارة ، وحكم في الأوّل أعني الأصل العملي بالاجزاء ، بناء على أن مفاده هو تحقيق ما هو موضوع التكليف ، ولم يتعرض في ذلك لكونه جاريا في الشبهة الموضوعية ، كما لو شك في الطهارة أو الحل على نحو الشبهة الموضوعية ، أو كونه جاريا في الشبهة الحكمية كما في الشك في الطهارة أو الحل على نحو الشبهة الحكمية ، كمن شك في نجاسة بول الحمار أو شك في حلية لحم الأرنب واعتمد على قاعدة الطهارة والحل وصلى مع كل منهما ، بناء على أن القاعدتين غير مختصتين بالشبهات الموضوعية بل هما تجريان في الشبهات الحكمية ، فلنجعل الكلام معه قدس‌سره في أخس هذه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦ ـ ٨٧.

٣٧٧

الصور ، وهو ما لو اعتمد في الشبهة الموضوعية بالنجاسة على أصالة الطهارة ثم انكشف بعد العمل نجاسة ذلك الثوب مثلا انكشافا قطعيا ، فقد حكم في ذلك بالاجزاء.

وكلامه في ذلك يدور على امور ثلاثة : الأوّل : أن مفاد أصالة الطهارة هو تحقيق الشرط. الثاني : أنها تكون حاكمة على ما يدل على اشتراط الطهارة في اللباس ، ومبينة لأنّ الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية. الثالث : أنه عند تبين نجاسة ذلك الثوب لا يكون من قبيل تبين الخلاف وأنه لم يكن واجدا لذلك الشرط ، بل يكون من قبيل تبدل الموضوع ، ويكون العلم بنجاسة ذلك الثوب رافعا للشرط من حين التبين لا من أوّل الأمر.

ولا يخفى أن هذه الجهات تكون في بادئ النظر كالمتناقضة ، فان مقتضى الثالث هو كون الحكم الظاهري الثابت بقاعدة الطهارة حكما واقعيا وأن التبدل إلى النجاسة وفقدان الشرط يكون من قبيل تبدل الموضوع ، وهذا لا يلتئم مع ما في الأمر الثاني من أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية.

وربما يقال في توجيه أصل ما أفاده قدس‌سره من الإجزاء : إنه مبني على كون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة الواقعية لما هو مشكوكها ، فان الطهارة بعد فرض كونها من الأحكام الشرعية كان من الممكن جعلها لما هو المشكوك كما كان من الممكن جعلها للشيء بعنوانه الأولي كالماء مثلا ، وبناء على ذلك تكون طهارة المشكوك حكما واقعيا ، غايته أنها ثابتة للشيء بعنوان كونه مشكوكا لا بعنوانه الأولي ، وحينئذ تكون محققة لما هو الشرط ، ويكون ما دل على اشتراط الطهارة شاملا للطهارة الثابتة للشيء

٣٧٨

بعنوانه الأولي وللشيء بعنوانه الثانوي ، ويكون العلم الطارئ بالنجاسة من قبيل التبدل من موضوع إلى آخر ، فلا يتصور فيه انكشاف الخلاف ، ويكون مقتضاه الاجزاء قطعا.

ولكن لا يخفى عليك أن حمل كلامه قدس‌سره على ذلك مما يقطع بخلافه وأنه لا يريده لا سيما بعد قوله : بل واستصحابهما في وجه قوي (١) ، فان كون الطهارة في ذلك واقعية لو سلّمنا قوله بها في قاعدة الطهارة إلاّ أن قوله بها في استصحابها مما يقطع بعدم إمكان نسبته إليه ، إلاّ أن يدعى أن مفاد استصحاب الطهارة هو أيضا جعل الطهارة للمشكوك ، غايته أنه الشك المسبوق باليقين لا مطلق الشك. وفيه أوّلا : أنه حينئذ لا وجه لحكومة مثل استصحاب النجاسة على قاعدة الطهارة ، إلاّ أن يلتزم في ذلك بطريقة التخصيص. وثانيا : لا يتأتى في استصحاب الموضوعات مثل الحياة والسواد والبياض ونحو ذلك ، إذ لا معنى للجعل في ذلك إلاّ بأن يلتزم بأن المجعول هو الآثار الشرعية لتلك الموضوعات عند الشك في بقاء تلك الموضوعات. وثالثا : أن ذلك خلاف ما صرح (٢) به هو وغيره من مفاد دليل الاستصحاب.

وبالجملة : أن شأنه قدس‌سره أجلّ من أن يحمل كلامه على ذلك. هذا مع تصريحه بكون الطهارة ظاهرية بقوله : وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية (٣) ، مضافا إلى أن كلامه لو كان مبنيا على ذلك لجعل الانقلاب في الطهارة والنجاسة لا في خصوص واجدية الشرط ، هذا أوّلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٢ ، ٣٩٨.

(٣) كفاية الاصول : ٨٦.

٣٧٩

وثانيا : أن الطهارة المذكورة لو قلنا بكونها حكما ظاهريا ، كان الجمع بينها وبين النجاسة الواقعية لو صادف كون مجراها بولا في الواقع هو الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية كل على مشربه ، أما لو كانت حكما واقعيا ثابتة لما هو معنون بعنوان كونه مشكوكا يتوجه سؤال الجمع بينها وبين النجاسة الواقعية الثابتة للبول المذكور ، وأقصى ما يمكن أن يقال إن النجاسة الواقعية ثابتة للبول المعلوم البولية ، أو أن النجاسة الواقعية ثابتة لما هو معلوم النجاسة ، والطهارة الثابتة للمشكوك يكون موضوعها هو المشكوك البولية أو المشكوك النجاسة. ولا يخفى أن ذلك مما لا يمكن الالتزام به ، ولئن التزمنا به في خصوص الطهارة والنجاسة فلا يمكننا الالتزام به في جميع مجاري الاصول حتى الاستصحاب وغيره.

ولو قيل إن النجاسة في ذلك تكون حكما اقتضائيا ، كان محصّله أن البولية لا تكون مؤثرة في النجاسة الفعلية في مقام الشك ، بل يكون المؤثر هو عنوان الشك ويكون الحكم الواقعي هو الطهارة ، فيكون ذلك راجعا إلى الالتزام المذكور أعني تقيد مثل النجاسة والطهارة الواقعيين بالعلم بالموضوع أو العلم بنفس النجاسة والطهارة ، فان مرجع الحكم الاقتضائي إلى أن الحكم الواقعي يكون على طبق العنوان الثانوي ، والعنوان الأوّلي لا يؤثر أثره نظير ما لو كان شرب الماء مباحا في حد نفسه ومحرما باعتبار كونه مضرا مثلا ، بل نظير حرمة الالقاء في التهلكة أو الضرر أو قتل المسلم مع فرض وجوبه جهادا أو دفاعا عن النفس ونحو ذلك ، وحينئذ يرجع الأمر بالأخرة إلى انحصار النجاسة الواقعية بما هو غير مشكوك ، ولازمه عدم تصور الشك في النجاسة حينئذ ليكون مجرى قاعدة الطهارة ، وحينئذ لا يكون جريان القاعدة في الشبهات الحكمية معقولا.

٣٨٠