أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

الحكم بجواز البدار وتفويت تلك المصلحة اللازمة ، ولا يكون صلاح أوّل الوقت الذي هو صلاح استحبابي مقاوما لما يفوت من صلاح الجزء أو الشرط المفقود الذي هو صلاح وجوبي.

ولو سلّمنا مقاومته (١) لصلاح الفعل التام في آخر الوقت ، كان ذلك داخلا في الصورة الاولى ، مثلا لو فرضنا أن الصلاة عن قيام بمقدار عشرين درجة ، والصلاة من جلوس للمضطر بمقدار عشر درجات ، لكن لو وقعت هذه الثانية في أوّل الوقت كان صلاح أول الوقت بمقدار عشر درجات ، كانت الصلاة من جلوس للمضطر في أوّل الوقت بمقدار عشرين درجة ، فتكون وافية بتمام المصلحة الأولية ، وتكون داخلة في الصورة الاولى ، ولو كان صلاح الصلاة الجلوسية في أول الوقت أقل من الصلاة القيامية في آخر الوقت ، على وجه يكون الباقي لازم التحصيل كما هو المفروض في هذه الصورة ، لم يكن الصلاح في أول الوقت مسوّغا لتفويتها ، وذلك واضح ، ولعل قوله قدس‌سره فافهم إشارة إلى ذلك.

قوله قدس‌سره : فانه يقال هذا كذلك لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت (٢).

فانه لو أخر إلى أن ضاق الوقت ولم يرتفع عذره وفرضنا أنه بعد خروج الوقت يرتفع عذره ويتمكن من القضاء قائما ، تقع المزاحمة بين المحافظة على مصلحة الوقت فتفوته مصلحة القيام أو المحافظة على مصلحة القيام فتفوته مصلحة الوقت ، وكلاهما لزوميان ، فان تساويا تخير ، بأن كانت أصل مصلحة الصلاة عن قيام في الوقت بعشرين ومصلحتها في الوقت

__________________

(١) [ في الأصل : بأن كان لصلاح الفعل ... ].

(٢) كفاية الاصول : ٨٥.

٣٤١

بدون قيام بعشر ، ومصلحتها في خارج الوقت مع القيام بعشر أيضا. وإن كانت الاولى أكثر لزمه الاتيان بها في الوقت فاقدة للقيام ، وإن كانت الثانية أكثر لزمه التأخير والاتيان بها في خارج الوقت واجدة للقيام. فما دل على لزوم الاتيان بها في الوقت منزّل على الصورة الثانية ، وكان على المصنف توضيح ذلك ، لكنه يفهم من قوله : لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت ، إذ المفروض استكشاف اهميتها من الأمر بالوقت ، فلاحظ.

قوله قدس‌سره : ولا مانع عن البدار في الصورتين ... إلخ (١).

يمكن أن يقال : إنّه لا وجه للبدار في الصورة الاولى منهما إذا كان عالما بارتفاع العذر في آخر الوقت ، إذ لا يكون الأمر به إلاّ لغوا ، لأنّ المفروض وجوب الاعادة ، فتأمل.

وهذا الاشكال راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : فالأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب قضاء الواجد في خارج الوقت متناقضان (٢).

ولكن الجواب عنه يفهم مما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره في توجيه الأمر بالفاقد في الوقت مع كونه غير واف بتمام المصلحة ، على وجه يبقى من المصلحة اللازمة مقدار لا يمكن استيفاؤه في خارج الوقت ، من كون تلك المصلحة الفائتة مزاحمة بمصلحة الوقت على ما ذكرناه في شرح ذلك من أنه لو كانت مصلحة الوقت أرجح تعيّن الاتيان به فيه ، وإن كانت تلك أرجح تعيّن التأخير إلى خارج الوقت ، وإن تساويا تخير ، فيفهم من ذلك أنه لو أمكن استيفاء كل من المصلحتين وجبا معا ، بأن كان في كون الصلاة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٣ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٤٢

في الوقت مصلحة وفي كونها مع القيام مصلحة اخرى من دون تزاحم بينهما تعيّن الجمع ، وكذلك الحال لو اختلفت المرتبة بأن كان في الصلاة في الوقت مقدار من المصلحة وتزيد هذه المصلحة إذا كانت الصلاة عن قيام ، وهذا الأخير يسقط في حال تعذره ويلزم مراعاته بعد ارتفاع التعذر ولو بعد الوقت ، لكنّه لا يجوز له التأخير إلى ارتفاع العذر ، لأنه مفوّت لمصلحة الوقت ، وفي الحقيقة يكون المدار على لزوم تحصيل المصلحتين مع فرض إمكانه.

ويمكن أن يقال : إن الاتيان بالصلاة المشتملة على القيام خارج الوقت بعد الاتيان بها فاقدة للقيام في داخل الوقت لأجل مجرد استيفاء مصلحة القيام في الصلاة لا يكون من باب القضاء ، بل هو داخل في قول شيخنا قدس‌سره : وأما إيجاب الفعل في خارج الوقت بعنوان آخر غير القضاء ، فهو وإن كان ممكنا إلاّ أنّه أجنبي عمّا نحن فيه ، وهو البحث عن الوجوب بعنوان القضاء التابع لفوت الفريضة في الوقت. لكن قوله : ولا فرق فيما ذكرنا بين أن تكون هناك مصلحة لزومية أخرى قائمة بنفس القيد بما هو قيد ، أو تكون المصلحة اللزومية منحصرة في مصلحة نفس الفريضة ـ إلى قوله : ـ فاذا فرض سقوط الأمر بالفريضة لقيام مصلحتها بالفاقد ، فلا يمكن استيفاء مصلحة القيد أصلا ولو كانت لزومية (١) يدل على عدم دخول ذلك في قوله : وأما إيجاب الفعل في خارج الوقت بعنوان آخر ... الخ.

ثم لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره قد حصر صور الاضطرار بالصورة الاولى ، وهي كون الفاقد في حال الاضطرار واجدا لمصلحة الفعل الواجد في حال

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٨٤ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٤٣

الاختيار ، لكنه قد أورد على نفسه بأنّه لو كان الأمر كذلك كان حال المسألة حال السفر والحضر ، وكان لازمه هو جواز تعجيز الإنسان نفسه ، وهو مما لا إشكال في بطلانه. وأطال الكلام في هذا الاشكال وفي الجواب عنه.

وآخر ما تحصّل منه حسبما فهمته هو الاختلاف بكمال المصلحة ونقصانها فيكون للقيد المتعذر مدخلية في كمال المصلحة ، ولأجل ذلك لا يجوز له تعجيز نفسه لأنّه تفويت لكمال المصلحة ، وهو أعني الكمال لازم التحصيل عند الامكان. وحينئذ يتوجه الاشكال على الأمر بالفاقد لكونه مفوّتا لذلك الكمال.

ويجاب عنه : بأنّ الملحوظ فيه مصلحة الوقت. وبالأخرة ينتهي البحث إلى كون مصلحة الوقت مزاحمة بمصلحة القيد ، وحيث كانت مصلحة الوقت أهم تعيّن الأمر بالفاقد في الوقت وسقوط مصلحة القيد وسقوط القيد في ذلك الحال ، لكنه ساقط خطابا لا ملاكا ، فان كانت مصلحة ذلك القيد غير قابلة للاستيفاء ولو بتكرار الفعل خارج الوقت سقط الأمر بالقضاء ، وإلاّ كان القضاء لازما ، ويتعين عليه الفاقد في الوقت والاتيان [ بالواجد ](١) خارج الوقت.

ومنه يظهر التأمل فيما أفاده في الكفاية في هذه الصورة ـ أعني صورة بقاء شيء من المصلحة مع إمكان استيفائه خارج الوقت بعد ارتفاع العذر ـ من التخيير بين الاتيان بالفعل الفاقد في الوقت مع الاتيان بالواجد خارج الوقت ، أو الاقتصار على التأخير إلى خارج الوقت ، وذلك قوله : ولا مانع

__________________

(١) [ في الأصل : بالفاقد ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٤٤

عن البدار في الصورتين ، غاية الأمر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار (١).

ومن ذلك يظهر لك إمكان الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين توجه الأمر بالفاقد في الوقت وتوجه القضاء بالاتيان بالواجد في خارج الوقت ، وأن ذلك لا يكفي فيه مجرد تعدد المطلوب الطولي ، بأن يكون المطلوب الأولي هو واجد القيد ومع تعذره يكون المطلوب هو فاقدة ، فان ذلك وإن صحح الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين سقوط القيد عند التعذر ، إلاّ أنه لا يصحح الجمع بينهما مع توجه الأمر بالفاقد في فرض كونه متمكنا من القيد بعد الوقت ، إلاّ إذا ضممنا إليه أن في الوقت مصلحة يلزم استيفاؤها ، وبذلك يحصل الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين لزوم الفعل الفاقد في الوقت ، ثم إن أمكن استيفاء مصلحة القيد ولو بالفعل الواجد له عند ارتفاع العذر خارج الوقت وجب ذلك ، وبذلك يتم الجمع بين الأحكام الثلاثة ، أعني عدم جواز التعجيز ولزوم الفاقد في الوقت ولزوم الواجد بعد الوقت وارتفاع العذر.

وعلى ذلك تكون الصور العقلية ثلاثا :

الاولى : ما لو كان وافيا بتمام المصلحة ، فصوره الثلاثة [ هي ](٢) التي أفادها في الكفاية ، أعني كون مجرد الاضطرار ، أو التأخير إلى آخر الوقت وإن لم يرتفع العذر فيه ، أو عدم ارتفاع العذر في تمام الوقت ، موجبا لكون الفاقد وافيا بتمام المصلحة ، وهذه يسوغ فيها التعجيز ويسقط معها كل من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

(٢) [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].

٣٤٥

الاعادة والقضاء ، وجواز المبادرة منوط بأحد الصور الثلاثة المذكورة.

الثانية : ما لو بقي من مصلحة الواقع شيء لا يمكن تداركه ، وحينئذ يقع التزاحم بين مصلحة الوقت ومصلحة القيد المتعذر فعلا. والظاهر أنه آمري ، لأن كون الفعل في الوقت كذلك مما لا يعود إلى المكلف ، بل إن ذلك راجع إلى الشارع ، وهو بعد اطلاعه على ذلك يقدّم الأهم ، فان كان الوقت أهم أمر بالفعل فيه وسقط القضاء ، كما في الكثير من موارد الأمر الاضطراري ، وإن كان مصلحة القيد أهم أمر بالانتظار إلى ارتفاع العذر في خارج الوقت ، كما لو كان القيد هو الطهور على القول بوجوب الانتظار والقضاء خارج الوقت ، وإن تساوى المصلحتان خيّر بين الأداء والقضاء ، ولم أجد له مثالا ، ولعله لأجل أنه عند تساوي المصلحتين يكون المقدم مصلحة الوقت لأنه فعلي ومزاحمه غير مقدور فعلا للمكلف.

الثالثة : ما لو كان الباقي قابلا للاستيفاء في خارج الوقت ، ومقتضاها وجوب كلا الفعلين الفاقد في الوقت والواجد في خارجه ، كما في الطهور على القول بالجمع بين الأداء بلا طهور والقضاء مع الطهور ، وينبغي إخراج الباقي المستحب من الصورتين وإدخاله في الصورة الاولى ، ومقتضاه لزوم الاتيان بالفعل واستحباب الاعادة أو القضاء في خارج الوقت بعد ارتفاع العذر.

وعلى كل حال لا بأس في شرح ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله في هذا التحرير : ولا فرق فيما ذكرنا بين أن تكون هناك مصلحة لزومية أخرى قائمة بنفس القيد بما هو قيد ، أو تكون المصلحة اللزومية منحصرة في مصلحة نفس الفريضة ... إلخ (١) ، وبمثل ذلك صرح في تحرير المرحوم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٨٤ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٤٦

الشيخ محمّد علي (١).

فنقول بعونه تعالى في توضيح ذلك : إنه ربما كانت مصلحة الصلاة عشر درجات مثلا لكن يكون حصولها متوقفا على القيد عند التمكن منه ، وعند عدم التمكن منه لا تكون المصلحة المذكورة متوقفة على القيد ، ولازم ذلك هو التنويع نظير الحاضر والمسافر ، على وجه تكون صلاة المضطر مساوية لصلاة المختار في الملاك ، ولعله مخالف لذوق المتشرعة فانهم يرون النقصان الملاكي في صلاة المضطر عنها في صلاة المختار.

وربما كان القيد موجبا لزيادة في مصلحة الصلاة من العشر إلى اثنتي عشرة ، لكن تكون تلك الزيادة منوطة بالتمكن من القيد ، وعند عدم التمكن منه لا يكون إلاّ مصلحة العشر. وفي هاتين الصورتين يجوز التعجيز ، وتكون القدرة على القيد دخيلة في الأمر به خطابا وملاكا ، ويكون لزومه مشروطا بالقدرة الشرعية ، ولو تزاحم مع مثله كان من قبيل التزاحم بين المشروطين بالقدرة الشرعية ، فلا يكون الترجيح بالأهمية بل يكون الترجيح بالتقدم الزماني ونحوه. ولا يرد على هذه الصورة ما ورد على التي قبلها من كونها خلاف ذوق المتشرعة من التساوي.

نعم ، لو كانت تلك الزيادة غير منوطة بالقدرة على القيد ، غايته أن القدرة عليه تكون دخيلة في الأمر به خطابا لا ملاكا ، ويكون لزومه مشروطا بالقدرة العقلية ، ففي هذه الصورة لا يجوز التعجيز لأنه مفوّت لذلك الملاك الزائد ، وعند اتفاق حصول العجز عن القيد يقع التزاحم بين الوقت والقيد المذكور إن كانت تلك الزيادة غير قابلة للتلافي ، وقد عرفت الحكم فيه.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٤٥.

٣٤٧

وإن كانت قابلة للتلافي ولو باعادة الفعل واجدا للقيد خارج الوقت ، كان اللازم هو الاتيان به في الوقت فاقدا للقيد المذكور ، وإعادته بعد الوقت واجدا للقيد المذكور على ما عرفت التفصيل في ذلك.

وأما ما أفاده قدس‌سره في وجه عدم إمكان التلافي من كون ذلك القيد الموجب للزيادة قيدا في الفريضة ، فإذا سقط الأمر بالفريضة لم يبق مورد للقيد المزبور ، فهو خلف لما هو المفروض من إمكان التلافي ولو باعادة الفريضة ، وليس ذلك بمحال ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أنّ الصورة الاولى وهي ما لو كان الفاقد في الوقت وافيا بتمام المصلحة ، وكذلك الصورة الثانية وهي ما لو كان فاقدا لبعض المصلحة على وجه تكون القدرة على القيد دخيلة في ملاكه أعني ذلك المقدار الزائد ، تكون القدرة في كل منهما قدرة شرعية ، ولا تكون القدرة قدرة عقلية إلاّ في الصورة الثالثة.

وتشترك الصور الثلاث في أنّ البدار فيها منوط بالصور الثلاث التي أشار إليها في الكفاية (١) ، وأن الاولى منها وهي ما لو كان مجرد التعذر ولو في بعض الوقت من أوله موجبا لصحة الأمر بالفاقد ، لا مورد فيها لاستصحاب بقاء العذر ، وكذلك الثانية وهي ما لو كان الأمر المذكور مشروطا بالتأخير إلى آخر الوقت ولو مع العلم بعدم الارتفاع في تمام الوقت.

وينحصر مورد الاستصحاب المذكور في الصورة الثالثة ، وهي ما لو كان المصحح للأمر المذكور هو بقاء العذر في تمام الوقت ، وحينئذ لا بدّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

٣٤٨

من إحراز ذلك ، ومع عدم الاحراز يلزمه التأخير إلى أن يتضيق الوقت ، وطريق الاحراز هو العلم أو ما يقوم مقامه من اليأس العقلائي. وفي جريان استصحاب بقاء العذر إشكال ، والمعروف إجراؤه على حدّ إجرائه في جواز التأخير للقادر اعتمادا على استصحاب بقاء القدرة.

وخلاصة الاشكال هو ما عن الاستاذ العراقي قدس‌سره ، ونحن ننقل ما أفاده في هذه المسألة في رسالته روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي (١) قال : لو طرأ الاضطرار في الوقت وشك في بقائه إلى آخر الوقت ، فعلى القول بجواز البدار لاولي الأعذار حتى مع العلم بطروّ الاختيار في الوقت فلا إشكال ، وأما على القول بعدم الجواز إلاّ في ظرف بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت فقد يتوهم في المقام حينئذ بجواز الاقدام بالعمل ظاهرا بمقتضى الاستصحاب. ولكن فيه نظر ، إذ ذلك صحيح في فرض كون موضوع الجواز هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت بهذا العنوان ، وأما لو كان الموضوع هو الاضطرار عن الطبيعة الملازم لهذا الاضطرار الخاص عقلا ، فلا مجرى للاستصحاب المزبور كما لا يخفى ، وإلى ذلك نظر بعض الأعاظم في احتياطه بعدم الشروع بالعمل الاضطراري مع احتمال طروّ اختياره في الوقت ، كما أنه لا بأس باثبات عدم المشروعية بمقتضى استصحاب عدم طروّ الاضطرار على الطبيعة أو عدم اتصافها بكونها مضطرا إليها (٢).

ولعل مراده هو أن موضوع الحكم الاضطراري هو عدم القدرة على الطبيعة ، وفي الآن الأوّل لو كان عاجزا لا يكون عجزه المذكور محققا لعدم

__________________

(١) المطبوعة بعد وفاته ، التي فرغ منها ـ كما في آخرها ـ سنة ١٣٣٧ [ منه قدس‌سره ].

(٢) روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : ٧٨ ـ ٧٩.

٣٤٩

قدرته على الطبيعة ، لجواز ارتفاع العذر في الآن المتأخر ، فلا يصدق عليه في الآن الأوّل أنه غير قادر على الطبيعة لكونه قادرا عليها فيما يأتي ، وهذا مبني على أن من كان قادرا على الطبيعة في الأزمنة المتأخرة يكون فعلا قادرا عليها ، فلم يكن عدم قدرته على الطبيعة محرزا عنده في الزمان الأوّل كي يستصحبه فيما سيأتي.

وبعبارة أخرى أنه لمّا كان يحتمل أن يقدر على الطبيعة في الزمان الآتي لم يكن فعلا محرزا لعدم قدرته على الطبيعة.

نعم ، بقاء عجزه الفعلي إلى آخر الوقت ملازم لكونه فعلا غير قادر على الطبيعة ، فلا يكون استصحاب بقاء عجزه الفعلي إلاّ مثبتا.

وفيه : أن الفعل الآتي في الزمان المتأخر لا يكون محققا للقدرة فعلا كما حقق ذلك في إبطال الواجب المعلّق (١) ، فلا تكون القدرة على الطبيعة في الزمان الآتي منافية لعدم القدرة عليها فعلا ، لأنّ الطبيعة حينئذ يعني في الزمان الأوّل غير مقدورة قطعا ، وهذا المعنى أعني عدم القدرة فعلا على الطبيعة يكون هو مورد الاستصحاب.

وربما يقال : إن ذلك غير مبني على ما حقق في الواجب المعلق ، بل هو مبني على مطلب آخر ، وهو أن موضوع الحكم الاضطراري هو عدم القدرة على الطبيعة في تمام الزمان أعني ما بين الحدين ، وهذا المقدار من العجز وعدم القدرة على الطبيعة في الزمان الأوّل ليس هو موضوع الحكم المذكور ، فلا يكون استصحابه نافعا.

وبعبارة أخرى : أن موضوع الحكم هو عدم القدرة على الطبيعة في

__________________

(١) راجع ما تقدم في صفحة : ٤٩ وما بعدها ، وراجع أيضا صفحة : ٦٠.

٣٥٠

تمام الوقت ، وهو لأجل احتماله أنه يقدر عليها بعد ذلك لا يكون محرزا لذلك الموضوع.

وفيه : ما لا يخفى ، فان المتيقن وإن لم يكن هو عدم القدرة في تمام الوقت المعبّر عنه بما بين الحدين ، وإنما كان المتيقن هو عدم القدرة في الزمان الأول ، وليس هو تمام الموضوع ، وأن تمام الموضوع هو عدم القدرة في تمام الوقت ، إلاّ أن هذا المعنى أعني عدم القدرة في تمام الوقت نحرزه باستصحاب بقاء عدم قدرته إلى آخر الوقت ، ويكون ذلك أشبه شيء باحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، فانّ الموضوع حينئذ هو عدم القدرة المستمر من أول الزمان إلى آخره ، والمفروض أن عدمها في الزمان الأوّل محرز بالوجدان ، واستمرار ذلك العدم وبقاءه إلى آخر الوقت بالأصل.

ومن ذلك كلّه يتضح لك الاشكال أيضا فيما أفاده قدس‌سره أخيرا بقوله : كما أنه لا بأس باثبات عدم المشروعية بمقتضى استصحاب عدم طروّ الاضطرار على الطبيعة أو عدم اتصافها بكونها مضطرا إليها (١). ولعلّه مبني على الاكتفاء بمفاد ليس التامة في مورد ليس الناقصة ، أو على فرض كون الطبيعة قبل الوقت مقدورة له وعند دخول الوقت طرأه الاضطرار ، وكان يحتمل ارتفاعه فيما سيأتي من الآنات ، للشك حينئذ بكون ذلك الاضطرار الطارئ محققا لعدم القدرة في تمام الوقت ، فيكون المستصحب هو كونها مقدورة سابقا. لكنّك قد عرفت أن ذلك محقق للاضطرار وعدم القدرة ، فيكون المستصحب هو عدم القدرة الطارئ في الزمان الأوّل ، ويكون اليقين

__________________

(١) روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : ٧٩.

٣٥١

السابق المتعلق بالقدرة عليها فيما قبل الوقت منتقضا باليقين بعدم القدرة الطارئ في الزمان الأوّل ، فلا يجري في حقه استصحاب القدرة الثابتة قبل الوقت كي يكون معارضا لاستصحاب عدمها الثابت في الزمان الأوّل من دخوله أو حاكما عليه.

وبالجملة : أن المسوّغ للبدار في المقام هو كون الطبيعة غير مقدورة في آخر الوقت ، كما أن المسوّغ للتأخير هو كونها مقدورة في آخر الوقت ، وكما أن استصحاب بقاء القدرة على الطبيعة إلى آخر الوقت يسوّغ التأخير لمن كان قادرا فعلا ، فكذلك استصحاب بقاء عدم القدرة على الطبيعة إلى آخر الوقت يسوّغ البدار والاتيان فعلا بوظيفة من كان عاجزا في آخر الوقت ، هذا.

ولكنه في المقالة (١) ذكر هذا الاشكال بعنوان توهم فقال : وتوهم عدم جريان الاستصحاب في المقام إذ المدار حينئذ على الاضطرار عن الطبيعة ، وبقاء الاضطرار إلى آخر الوقت من لوازمه عقلا فيكون من الاصول المثبتة غير الجارية أصلا ، مدفوع بأن في ظرف اضطراره في أوّل الوقت يصدق الاضطرار عن الطبيعة ، إلى قوله : فيستصحب هذا المعنى ، ثم قال : فان قلت (٢).

وحاصل الاعتراض أنه إذا صدق الاضطرار في أول الوقت كان عموم الاضطرار شاملا له ، فأيّ حاجة إلى إثبات الاضطرار في آخر الوقت.

وأجاب عنه بقوله : قلت : وجه الاختصاص بالاضطرار الباقي هو انصراف العمومات إلى الاضطرار عن الجامع بين الأفراد التدريجية ـ إلى أن

__________________

(١) المطبوعة في حياته سنة ١٣٥٨ [ منه قدس‌سره ].

(٢) مقالات الاصول ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣٥٢

قال : ـ وما عرفت من الاضطرار المتيقن سابقا المصحح للاستصحاب هو الاضطرار عن الطبيعة دفعيا ، غاية الأمر يثبت تدريجية اضطراره ببقاء الاضطرار إلى آخر الوقت ولو بالاستصحاب ، وحينئذ لا قصور للاستصحاب في شموله للمقام وإثباته موضوع الحكم كما هو واضح (١).

قلت : لو كان موضوع الحكم هو العجز عن الأفراد الطولية فاستصحاب بقاء عجزه عن الأفراد العرضية إلى آخر الوقت لا يثبت به موضوع الحكم في الآن ـ أعني كونه في الآن الأوّل عاجزا عن الأفراد المتاخرة ـ إلاّ بالأصل المثبت.

إلاّ أن يقال كما في تحريرات الآملي (٢) إنه فعلا عاجز عنها لعدم حصول زمانها ، وإن كان هو قادرا عليها في زمانها الآتي. إلاّ أن ذلك خلاف مسلكه في الواجب المعلق (٣) ، فلا بدّ أن نقول : إن موضوع البدار هو كونه عاجزا في الزمان الآتي ، وباستمرار عجزه الفعلي إلى الزمان الآتي بالاستصحاب يتنقح هذا الموضوع ، وهو كونه في الزمان الآتي عاجزا ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، فان الموضوع هو العجز الفعلي وبقاؤه إلى الزمان الآتي ، والعجز الفعلي محرز بالوجدان ، وبقاؤه إلى الزمان الآتي بالأصل ، فلاحظ وتأمل.

تتمة : أنك قد عرفت (٤) الصور الثلاث المتصورة عقلا في الأوامر الاضطرارية ، وأنه لا إعادة ولا قضاء في الاولى منها ولا في الثانية ، وإنما

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٢٧١.

(٢) بدائع الأفكار : ٢٦٩.

(٣) [ الظاهر أن المراد بذلك ما ذكره المحقق قدس‌سره العراقي من أن الواجب المعلّق مقدور بالواسطة وممكن وقوعها قبل تحقيق ظرفه الزماني ، فراجع نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٣٠٥ وما بعدها ، وبدائع الأفكار : ٣٥٣ وما بعدها ].

(٤) في صفحة : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

٣٥٣

يتصور القضاء أو الاعادة لو سوّغنا البدار فيها ، وحينئذ فعند توجه الأمر الاضطراري وامتثاله لو تردد بين الصور الثلاث يكون المرجع في الاعادة والقضاء هو البراءة ، ولا مجال لاستصحاب بقاء المصلحة ، لأنّ مجرد بقاء المصلحة وعدم وفاء المأتي به بتمامها لا يولد الأمر بالاعادة ولا بالقضاء ، بل لا بدّ في ذلك من كون الباقي قابلا للتدارك. هذا مضافا إلى أنّ مجرد بقاء شيء من المصلحة لا أثر له ما لم يتبعه الحكم الشرعي بوجوب التدارك. وبالجملة : أن لازم بقاء المصلحة هو حكم الشارع بلزوم التدارك ، لا أنه موضوع لذلك الحكم الشرعي كي يكون ترتبه عليه مصححا لاستصحابه ، فتأمل.

ولا يخفى أنّ الاشكال الجاري في استصحاب بقاء الاضطرار في مسألتنا يجري في استصحاب القدرة ، فيما لو كان في أول الوقت قادرا على القيام مثلا ولكنّه يحتمل أنه يطرئه العجز عن القيام في أواخر الوقت ، فانا قد قلنا إنه يلزمه المبادرة خوف الفوت ، ولكن هل يمكنه عدم المبادرة استنادا إلى استصحاب بقاء قدرته على القيام إلى آخر الوقت؟ الظاهر أنه لا مانع من ذلك ، وهل ذلك إلاّ من قبيل الاعتماد على بقاء حياته وقدرته على الاتمام في تحقق نية الاتمام منه ، إلاّ إذا كان في مورد يكون الاستصحاب المذكور فيه موهونا كما في موارد الزحام على وجه لا يحصل معه نية الاتمام لوهن الاستصحاب المذكور ، لقوة احتمال طروّ المزاحم له في مكانه الموجب لعدم التمكن من إتمام صلاته ، سيما إذا قلنا إن مدرك الاستصحاب هو السيرة العقلائية ، حيث إن العقلاء لا يعتمدون على الاستصحاب في أمثال هذه المقامات ، بل يمكننا القول باسقاطه حتى على

٣٥٤

تقدير أن يكون مدركه هو الأدلة السمعية مثل « لا تنقض اليقين بالشك » (١) بدعوى انصراف مثل هذه الأدلة عن الصورة المزبورة ، فلاحظ وتدبر.

تكميل : قال بعض أعاظم العصر ( سلمه الله تعالى ) حسبما حرر عنه في درسه بعد أن نقل حاصل ما في الكفاية (٢) من الصور الأربع في مقام الثبوت للأوامر الاضطرارية قال : أقول : مراجعة التكاليف الاضطرارية الثابتة في شريعتنا ترشدك إلى أن ما ذكره طاب ثراه لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطرارية ، لكون ما ذكره مبتنيا على أن يكون لنا أمران مستقلان : أحدهما واقعي أولي والآخر اضطراري ثانوي ـ إلى أن قال : ـ وإنّما المتحقق في التكاليف الاضطرارية الثابتة في شرعنا أن يتوجه أمر واحد من الشارع متعلقا بطبيعة واحدة مثل الصلاة متوجها إلى جميع المكلفين ، غاية الأمر أن الأدلة الشرعية دلت على اختلاف أفراد هذه الطبيعة باختلاف الحالات الطارئة على المكلفين ، وأن كل واحد قد وجب عليه إيجاد هذه الطبيعة في ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله ، إلى آخر ما أفاده (٣).

لا يخفى أن الأوامر الاضطرارية ذات عرض عريض ، وليست جميعها كذلك بمعنى كون المأمور به واحدا وهو الطبيعة الجامعة ، ويكون تعيين الأفراد بحسب حال المكلفين راجعا إلى تعيين الشارع ، بل الظاهر أن المطلوب الأولي هو الجامع لجميع القيود والأجزاء ، وأن وجوب الباقي بعد سقوط بعض الأجزاء أو بعض القيود لأجل التعذر يحتاج إلى دليل ، مثل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) كفاية الاصول : ٨٤.

(٣) نهاية الاصول ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٣٥٥

قاعدة الميسور وقاعدة ما لا يدرك أو استصحاب الوجوب الثابت على الباقي ، ونحو ذلك من أدلة وجوب الباقي بعد تعذر ما تعذر. نعم بعض هذه الموارد ورد النص به ، مثل تبدل الطهارة المائية إلى الترابية وتبدل المسح على البشرة بالمسح على الجبيرة ونحو ذلك.

وبالجملة : ليس المقام من قبيل تعدد العناوين ليكون من قبيل السفر والحضر ، بل هو من قبيل البدلية والتشريع الثانوي ، فلا بد من النظر في هذا التشريع الثانوي وهل تكون قضيته سقوط التشريع الأولي بتاتا حتى بعد ارتفاع العذر ، أو أنه لا يكون إلاّ من قبيل وظيفة الوقت مع بقاء التشريع الأولي بحاله ، غايته أنه ساقط خطابا لا ملاكا ، ولازمه الجري على طبقه بعد ارتفاع العذر ، وما التزم به من جواز التبديل بقوله : فاذا اقتضى الدليل فردية الصلاة مع التيمم مثلا لطبيعة الصلاة في حال الاضطرار أخذ الفقيه بمقتضاه وجعله دليلا على كونها في عرض سائر الأفراد من كل جهة ، حتى أن للمكلف أن يجعل نفسه موضوعا لهذا الفرد الاضطراري بأن يوجد الاضطرار لنفسه اختيارا ، نظير الحاضر الذي يسافر في حال الاختيار ... إلخ (١) لو تم في مسألة التيمم فهو لا يتم في الكثير من موارد الاضطرار ، وما أظنه في فقهه يفتح الباب في ذلك على مصراعيه ، فلاحظ وتدبر.

قوله : أما المسألة الاولى فالحق فيها الاجزاء ، لأنّ القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها ... إلخ (٢).

الذي ينبغي في هذه المسألة تقديم مقدمات :

الاولى : الفرق بين كون الشيء من قبيل الواجب في ضمن الواجب

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٣١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٥٦

كما قيل بذلك في وجوب المتابعة في الائتمام ، أو ترك الارتماس في الصوم ، أو الجهر بالقراءة في الصلاة ، أو الحرام في الواجب كحرمة ترك المتابعة أو الارتماس ونحو ذلك ، وبين كونه قيدا فيه كالتستر والاستقبال في الصلاة ، فالثاني يكون تركه موجبا للفساد ، بخلاف الأوّل فان تركه عمدا لا يوجب إلاّ عصيان التكليف الثاني وعدم إمكان تلافيه. ولعل الفرق بين كون التقييد على نحو تعدد المطلوب أو على نحو وحدته يكون راجعا إلى ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه في الموقتات (١).

الثانية : أن التقييد بعد ثبوته قابل للتقييد والاطلاق ، فيمكن أن يكون تقييد الصلاة بالاجهار في قراءتها مثلا مختصا بكونها ليليّة ، كما يمكن أن يكون تقيدها بذلك مطلقا شاملا لليل والنهار ، ومن جملة ما يمكن إطلاق التقييد بالقياس إليه أو تقييده به هو التمكن من القيد ، كما في تقييد الصلاة بالطهور الأعم من الترابية والمائية ، فانه يكون مطلقا شاملا لصورة التمكن منه وعدم التمكن ، بخلاف تقيدها بخصوص الطهارة المائية فانه يكون مختصا بحال التمكن منه.

الثالثة : أن لازم كون التقييد مطلقا شاملا لصورة عدم التمكن منه هو سقوط التكليف بذلك المقيد في حال عدم التمكن من ذلك القيد خطابا لا ملاكا ، فان كان تعذره مستوعبا للوقت سقط التكليف بذلك المقيد في الوقت ، ويبقى القضاء موكولا إلى دليله ، ولا دخل لذلك بمسألة الاجزاء عن القضاء وعدم الاجزاء عنه ، ولازم كون التقييد بذلك القيد الكذائي مقيدا بحال التمكن منه هو لزوم سقوط التقييد في خصوص حال عدم التمكن

__________________

(١) الظاهر أن مقصوده قدس‌سره بحث الموسع والمضيق ، وقد تقدم ذلك ، راجع الصفحة : ٣٠٩ من هذا المجلّد.

٣٥٧

من القيد خطابا وملاكا ، لكون وجوب ذلك القيد حينئذ مشروطا بالقدرة الشرعية الموجب لسقوطه عند تعذره خطابا وملاكا ، ويبقى التكليف بذات المقيد بحاله لسقوط تقيده بذلك القيد في ذلك الحال ، ويكون أقل تكليف مما هو مشروط بالقدرة العقلية إذا كان مزاحما لذلك القيد رافعا لوجوب ذلك القيد خطابا وملاكا كما حررناه (١) في مسألة ما لو وجب صرف ماء الوضوء على النفس المحترمة أو على تطهير البدن أو الساتر ، فانه يقدم على تقييد الصلاة بالطهارة المائية ، لكونه مسقطا للتكليف به خطابا وملاكا ، والاشكال على تطهير البدن أو الساتر بأنه أيضا مشروط بالقدرة الشرعية نظرا إلى أن قيديته مختصة بحال التمكن ، لا بدّ من الجواب عنه بما سيتضح (٢) إن شاء الله تعالى عند التعرض للاشكال على ذلك بأن لازمه تجويز تفويت القدرة في هذا النحو من القيود.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : إنا إذا فرضنا أن الواجب الأولي علينا هو الصلاة مع القيام ، وفرضنا أن مصلحة الصلاة القيامية بعشرين درجة ، وفرضنا تعذر القيام علينا ، لزمنا النظر في كيفية وجوب ذلك القيام علينا ، وما مقدار مدخليته في تلك المصلحة وذلك الوجوب الوارد على الصلاة قائما.

فتارة يكون للقيام من تلك العشرين خمس درجات من دون أن يكون له دخل في الخمس عشرة الباقية ، بمعنى أن وفاء الصلاة بها لا تتوقف على القيام بل تكون وافية بها وإن تركنا القيام عمدا ، فلا يكون استيفاء الصلاة لمصلحتها متوقفا على وجود القيام ، نعم إن استيفاء مصلحة

__________________

(١) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ١٧٩ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ٣٦٤ وما بعدها.

٣٥٨

القيام متوقف على الاتيان بالصلاة ليتحقق القيام ، وإلاّ فان القيام بنفسه مع قطع النظر عن كونه واقعا في الصلاة لا مصلحة فيه أصلا. وكيف كان نقول : إن في هذه الصورة يكون القيام من قبيل الواجب في واجب ، ويخرج عمّا نحن فيه من الكلام في إجزاء الأمر الاضطراري.

وثانية : تكون له المدخلية في مصلحة الصلاة مدخلية مطلقة على وجه يكون وفاء الصلاة بتلك المصلحة متوقفا على القيام ، وأنها مع فقد القيام لا تفي بشيء من ذلك الصلاح أصلا ، سواء كان فقده عمدا أو كان اضطرارا حتى لو كان ذلك الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت.

وفي هذه الصورة يكون تقييد الصلاة به تقييدا مطلقا شاملا لحال تعذر القيد ، ويكون لازمه سقوط الأمر بذات المقيد خطابا لا ملاكا ، ويكون حال مدخلية القيام في ذلك على نحو الركنية في المطلوب ، وبذلك يخرج عمّا نحن فيه من الاجزاء أيضا ، إذ لا أمر بالفاقد كي يتكلم عنه أنه يكون الأمر الاضطراري به مجزيا عن الأمر الأولي أو لا يكون مجزيا عنه ، كما أنه لا محل للكلام في هذه الصورة عن جواز البدار وعدمه.

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أن هذا المكلف بعد ارتفاع ذلك العذر عنه بعد خروج الوقت هل عليه القضاء أو لا؟ وتلك جهة أخرى تابعة لدليل القضاء خارجة عمّا نحن فيه من الاجزاء.

وثالثة : تكون مدخليته في مصلحتها مقيدة بحال التمكن منه ولو في آخر الوقت ، على وجه يكون التمكن منه في آخر الوقت موجبا لعدم وفائها بمصلحتها لو أتى بها في أول الوقت ، ولا تكون الصلاة وافية بمصلحتها إلاّ إذا لم يتمكن منه في تمام الوقت.

وفي هذه الصورة يكون تقييد الصلاة به مختصا بخصوص ما لو كان

٣٥٩

هو أعني القيام متمكنا منه ولو في آخر الوقت ، ولا تكون قيديته ساقطة إلاّ إذا لم يتمكن في تمام الوقت ، ولا تكون الصلاة الفاقدة له مجزية ووافية بتمام مصلحتها إلاّ إذا لم يكن القيام ممكنا في تمام الوقت ، ولا يتوجه الأمر الاضطراري بالصلاة الفاقدة للقيام إلاّ فيما إذا لم يكن القيام ممكنا في تمام الوقت.

وفي هذه الصورة يجب تأخير الصلاة الفاقدة إلى آخر الوقت ولا يجوز البدار قبل آخر الوقت ، وحينئذ تكون تلك الصلاة الواقعة في آخر الوقت الفاقدة للقيام لتعذره في تمام الوقت وافية بتمام المصلحة ومجزية عن القضاء ، ولا مورد للكلام في إجزائها عن الاعادة ، لأن المفروض عدم بقاء شيء من الوقت يمكنه فيه إيقاع الصلاة كي يقع الكلام في إجزائها عن الاعادة ، لما عرفت من عدم مشروعية البدار في هذه الصورة. نعم لو تخيل ضيق الوقت وأتى بها ثم انكشف سعته وارتفاع العذر في آخره ، أو اعتقد وقطع بعدم زوال العذر (١) إلى آخر الوقت ، أو اعتمد في ذلك على استصحاب بقاء العذر ، فانه حينئذ يجوز له البدار اعتمادا على قطعه أو على الاستصحاب ، لكن بعد إقدامه تبين زوال العذر في آخر الوقت ، فان ذلك يدخله الكلام عن الاعادة ، لكن لا من حيث الأمر الاضطراري بل من حيث الأمر الظاهري ، فان حاصل ذلك أنه تخيل بقاء العذر إلى آخر الوقت وأن قيدية القيام ساقطة عنه ، فتبين فساد ما تخيله وعدم مطابقته للواقع ، وأنه في الواقع كان القيام قيدا في صلاته ، فيكون الكلام في إجزاء تلك الصلاة من ناحية أنه تخيل عدم قيدية القيام فتبين كونه قيدا.

__________________

(١) [ في الأصل : « بعد زوال العذر » والصحيح ما أثبتناه ].

٣٦٠