أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

وكأن هذا المحرر قد أغفله في الأصل فجعله إيرادا في الحاشية.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرره عن شيخنا قدس‌سره : بقي في المقام التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو مع ملاحظة الأقل لا بشرط لا يعقل ، ومع ملاحظته بشرط لا بمكان من الامكان ، ويخرج حينئذ عن الأقل والأكثر لمباينة الشيء بشرط لا مع الشيء بشرط شيء كما هو واضح (١).

وقد وقع التمثيل لذلك في الكفاية (٢) بالخط القصير والطويل ، واشترط عدم تخلل العدم ، ولم يعلم المراد من هذا الشرط ، فان الاشكال إنما هو من ناحية الامتثال ، وأنه عند تحقق حدّ الأقل يحصل به الامتثال فيكون الزائد لغوا. وهذا لا يدفعه عدم تخلل العدم والسكون ، وإنما يدفعه الأخذ بشرط لا. وهذا الأخذ كما يدفع الاشكال من ناحية الامتثال يدفعه أيضا من ناحية الملاك.

وحاصل الاشكال من ناحية الملاك بأنه بعد فرض كون الأقل حاصلا في ضمن الأكثر كيف يمكن أن يقال إن كلا من الأقل والأكثر مشتركان في ملاك واحد ، أو أن لكل منهما ملاكا مستقلا. ولا بدّ في الجواب عنه بأن الأقل بحدّه أعني بشرط لا لا يكون موجودا في ضمن الأكثر ، بل يكون مباينا له مباينة الشيء بشرط لا للشيء بشرط شيء.

وبه يندفع الاشكال من ناحية الامتثال ، لكنه يقع في محذور آخر وهو خروجه عن الأقل والأكثر ودخوله في التباين.

أما مسألة القصر والاتمام فيمكن القول فيها بالتباين الذاتي ، بدعوى أن ذات القصر مباينة لذات التمام ، لا من جهة كون القصر بشرط لا والتمام

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٣٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٢.

٢٨١

بشرط شيء ، بل إن التباين بينهما ذاتي نظير التباين بين صلاة المغرب وصلاة العشاء ، فانّ ذات صلاة المغرب مباينة لذات صلاة العشاء ، لا لمجرد أنّ المغرب مأخوذ بشرط عدم الركعة الرابعة والعشاء بشرط وجودها ، فتأمل. كيف يكون ذلك والسلام على الثانية في القصر وعلى الثالثة في المغرب جزء منهما ، إلاّ أن يقال : إن السلام جزء على كل حال غايته أنه مخير بين الركعتين والسلام أو الاربع والسلام ، فلاحظ.

والخلاصة : هي أنه لو كان الأقل والأكثر ممّا هو قابل للايجاد الدفعي فالظاهر أنه يسهل الأمر في التخيير بينهما كما في الخط الدفعي القالبي ، وأما التدريجيات فالذي ينبغي أوّلا هو شرح الأكثر ، ولا ريب أنه عبارة عن الماهية بشرط شيء ، ولا ريب أن مقابله إنما هو الأقل وهو الماهية بشرط لا ، أينما كان هذان المفهومان ، سواء كان في مقام الاخبار أو في مقام الانشاء ، ولا خصوصية في هذه المقابلة لما إذا وقعا موقع التخيير الشرعي. وإلاّ فان الماهية لا بشرط لو قوبلت بالماهية بشرط شيء لم يكن الثاني هو الأكثر والأوّل هو الأقل ، بل كان الثاني من قبيل التعيين والأوّل من قبيل التخيير ، لأن الماهية لا بشرط وإن كان قسميا ، تنطبق خارجا على الماهية بشرط شيء وعلى الماهية الفاقدة لذلك ، هذا.

مضافا إلى ما عرفت من تصريح شيخنا قدس‌سره حسبما حرره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (١).

وبالجملة : أن مفهوم الأقل والأكثر أينما وجدا لا يكونان إلاّ من قبيل المتباينين. ونحن وإن قلنا بأنّ الأقل موجود في ضمن الأكثر إلاّ أنه ليس

__________________

(١) تقدم في صفحة : ٢٨٠.

٢٨٢

الأقل بحدّه بل هو ذات الأقل ، وليس ذلك إلاّ الماهية لا بشرط ، فلاحظ.

ثم إنّه بعد أن رجع التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين الحدين نقول إن ذلك التخيير إن كان ناشئا عن ملاك واحد يقوم به كل من الحدين كان الوجوب في الحقيقة متعلقا بالقدر الجامع بين الحدين وهو الماهية لا بشرط القسمي ، فانها وإن كانت مباينة لكل من الحدين لحاظا إلاّ أنها وجودا قدر جامع بين الحدين. وإن كان ناشئا عن ملاكين ، ملاك يقوم به الماهية بحدها الأقلي ، وملاك آخر يقوم به الماهية بحدّها الأكثري ، وحينئذ يتأتى فيه ما قدّمناه (١) في التخيير الناشئ عن ملاكين.

ثم بعد هذا يقع الكلام في كيفية حصول المكلف على الحدّ الأوّل أو على الحد الثاني. وشيخنا قدس‌سره جعل ذلك مراعى بالخروج عن محل ذلك الواجب ، بأن يركع في مورد التخيير بين التسبيحات في قيام الركعة الثالثة أو الرابعة ، وكذلك رفع رأسه من الركوع بالنسبة إلى ذكر الركوع المفروض كون المكلف مخيرا فيه بين الأقل والأكثر. وذلك لا يخلو عن إشكال ، من جهة أن الماهية بحدها الأقلي لا يكفي فيها مجرد الاتيان بالذكر الواحد ورفع الرأس ، بل ان ذلك هو الماهية لا بشرط ، غايته أنه انطبق على ذلك الوجود المقرون بالعدم ، وإن كان دفع ذلك الاشكال واضحا ، لما عرفت من أن المراد بالأقل هو الأقل الخارجي ، وهو حاصل بوجود الذكر الواحد مع عدم إلحاق الزائد ، وليس المراد هو الأقل المفهومي ، فلاحظ.

وقد عرفت (٢) إمكان الحصول على كل من الحدين بالنية ، وأنه ربما نافاه كون التخيير استمراريا ، لأن مقتضاه إمكان قلب ما تقدم من الماهية

__________________

(١) في صفحة : ٢٦٨ وما بعدها.

(٢) في صفحة : ٢٧٨.

٢٨٣

بحدّها الأقلي إلى الماهية بحدّها الأكثري ، فيكون عدوله من القصر إلى الاتمام بعد أن صلى ركعة واحدة موجبا لتحويل تلك الركعة من كونها جزء الأقل الذي هو القصر إلى جزئية الأكثر الذي هو الاتمام. وهذا ليس بمحال لو دل الدليل على أن المكلف مسلّط على ذلك التبديل بواسطة دليل استمرارية التخيير ، كما أنه أعني استمرارية التخيير خوّلته حق العدول عمّا سبق من الصوم بالغائه والعدول إلى إطعام ستين مسكينا. وعلى كل من هذين الطريقين أعني طريق المراعاة وطريق النية يندفع الاشكال في الحصول على الامتثال بالأكثر ، من دون حاجة إلى الالتزام بعدم تخلل السكون ، فلاحظ وتدبر.

ولا يخفى أنّ طريقة الاختلاف في النية تأتي في ذي الملاك الواحد كما تأتي في ذي الملاكين ، وأما طريقة المراعاة فلعلها لا تأتي في ذي الملاك الواحد ، لأنّ الواجب حينئذ هو الجامع بين الحدين وهو الطبيعة لا بشرط ، وهي تحصل قهرا عند تحقق الأقل ، فلا يبقى فيه مجال للزيادة فلا بدّ فيه من سلوك طريقة الاختلاف بالنية.

إلاّ أن الذي يظهر من الكفاية هو سلوكه طريقة المراعاة ، وذلك قوله قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فانه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام (١) ، ومع ذلك أجراها في ذي الملاك الواحد وذي الملاكين ، وذلك قوله : فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢.

٢٨٤

كان هناك غرضان (١).

اللهم إلاّ أن يقال : إن الجامع ليس هو الطبيعة لا بشرط ، بل الجامع إنما هو القدر الجامع بين حدّ العدم وحدّ الوجود ، والعدم إنما يتحقق إذا لم يلحقه الزائد ، فترجع المسألة إلى المراعاة. لكن الجامع بين العدم والوجود غير معقول ، فلاحظ.

وهذا الثاني هو مراد الكفاية ، فانه ينفي كون الغرض مترتبا على الماهية لا بشرط ، وذلك قوله : نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد ، لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره (٢) فانّ الأقل بهذا المعنى هو عين الماهية لا بشرط.

والذي تلخص من جميع ما حررناه : هو أن الأقل لا يكون موجودا في ضمن الأكثر حتى في مرتبة ذاته ، أما في الدفعيات فواضح ، وأما التدريجيات فكذلك إن كان المائز هو النية ، بل وكذلك الحال على المراعاة والدخول في الأجزاء اللاحقة مع عدم إلحاق الزائد ، في قبال ما لو كان الانتقال بعد إلحاق الزائد فانه أيضا لا يكون ذات الأقل موجودا في ضمن الأكثر ، بل كانا متباينين ، وإن كان الجامع بينهما هو الماهية لا بشرط القسمي أو المقسمي. وإذا رجعت المسألة إلى تباين العدلين تأتّى فيها ما تقدم (٣) تفصيله في التخيير بين المتباينين من حيث وحدة الملاك وتعدده ، وكون الواجب هو أحدهما أو كل منهما مشروطا حدوثا أو بقاء بعدم الآخر ، فلاحظ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٣.

(٣) راجع صفحة : ٢٦٤ ، ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٢٨٥

[ الوجوب الكفائي ]

قوله ـ في الوجوب الكفائي ـ : وتوضيح الحال فيه يحتاج إلى بيان مقدمة ، وهي أن الغرض من المأمور به تارة يترتب على صرف وجود الطبيعة ، وأخرى على مطلق وجوده أينما سرى ... الخ (١).

لا يخفى أن ما مرّ (٢) في الواجب التخييري من وحدة الملاك تارة وتعدده اخرى مع فرض التزاحم بين الملاكات في مقام الاستيفاء الموجب لتزاحمها في مقام الجعل والتشريع متأت بعينه في الواجب الكفائي ، غير أنه في الواجب التخييري كان بالنسبة إلى فعل المكلف نفسه بمقابلته بفعله الآخر المعبّر عنه بعدله ، وفي الواجب الكفائي يكون ذلك بالنسبة إلى فعل أحد المكلفين بمقابلته بفعل المكلف الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ ملاك الواجب الكفائي مثل دفن الميت أو الصلاة عليه إن كان واحدا قائما بفعل واحد صادر من أحد المكلفين فقد تقدم (٣) في نحوه من الواجب التخييري التردد بين كون القائم بذلك الملاك هو مصداق أحد الفعلين وكون القائم به هو القدر الجامع بين الفعلين ، فكذلك نقول هنا : إنه بعد فرض وحدة الملاك يكون التردد بين كون القائم به هو فعل أحد المكلفين بما أنه مصداق أحدهم ، وكون القائم به هو فعل القدر الجامع بين المكلفين. وإن شئت فقل : إن القائم به هو أحد أفعالهم أو أن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧٠ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) في صفحة : ٢٤٩ وما بعدها.

(٣) في صفحة : ٢٥٥ وما بعدها.

٢٨٦

القائم به هو القدر الجامع بين أفعالهم ، وكما قلنا فيما تقدم من أنه لا بدّ من إرجاع الأوّل إلى الثاني ، نظرا إلى أن وحدة الأثر كاشفة عن وحدة المؤثر ، لا بدّ أن نقول هنا إن القدر الجامع هو المؤثر في الملاك لا أحدها المصداقي.

نعم بين المقامين فرق من جهة ثالثة ، وهي أنا في تلك المسألة لم نقل بورود الوجوب على القدر الجامع لعدم كونه معروفا لدى العرف ، ولأجل عدم كونه معروفا عندهم اضطررنا إلى القول بأن الوجوب وارد على مصداق أحدهما على البدل.

وفيما نحن فيه لا تأتي هذه الجهة ، لان الجامع بين أفراد الصلاة على الميت التي تقع من هذا المكلف ومن ذاك ، أمر واضح معروف لكل أحد ، وكذلك الجامع بين المكلفين أنفسهم ، بأن يكون الخطاب بالصلاة على الميت مثلا متوجها إلى القدر الجامع بين عامة المكلفين ، وهو المعبّر عنه في كلام شيخنا قدس‌سره (١) أن المكلف هو صرف الطبيعة لا كل واحد من أفرادها. وبناء على ذلك يكون المطلوب هو صلاة واحدة من صرف طبيعة المكلفين ، فان تركها الجميع عوقبوا جميعا ، لكنه على الظاهر عقاب واحد على عصيان واحد للتكليف بفعل واحد منبسط على عامة المكلفين ، لا عقابات متعددة على عصيانات متعددة ، ففرق بين ترك الجميع للصلاة على الميت وترك الجميع لصلاة الفجر من هذا اليوم مثلا ، ففي الأوّل لا يكون إلاّ عصيان واحد منبسط على الجميع ، وفي الثاني عصيانات متعددة حسب تعدد تكاليفهم وتعدد ملاكاتها.

ولو فعله الجميع دفعة واحدة مع فرض وحدة الفعل ، كما لو صلى

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧١.

٢٨٧

الجميع جماعة على ميت واحد وقلنا إن المجموع صلاة واحدة ، كان فعل الجميع إطاعة واحدة وامتثالا واحدا منبسطا على الجميع أيضا ، نظير ما لو اشترك الجميع برفع الحجر الواحد أو بدفع العدوّ عمّا يجب كفائيا دفعه عنه. وإن قلنا بأنها صلوات متعددة كان مقتضى وحدة الملاك ووحدة المكلف به هو الالتزام بكون واحد لا بعينه امتثالا ، وكون الباقي لغوا صرفا.

ويمكن أن يقال : إنه بعد أن كان المكلف هو صرف طبيعة المكلف الصادق على الواحد والكثير يكون الجميع امتثالا واحدا ، وإن كانت الأفعال متعددة ، فتأمل. هذا كله لو قلنا بوحدة الملاك.

أما لو قلنا بتعدد الملاكات وتزاحمها في مقام الجعل والتشريع ، وأن نتيجة ذلك التزاحم الآمري هو الوجوب على كل واحد مشروطا بعدم قيام الآخر به ، فانّ مقتضاه هو أنّهم لو تركوه جميعا كان كل واحد منهم عاصيا مستحقا للعقاب ، لأن نتيجة ذلك هو الوجوب التعيني على واحد منهم عند ترك غيره من المكلفين. ولو أقدموا جميعا على فعله دفعة واحدة كما لو صلّوا جميعا على الميت ، كان فعل كل واحد منهم مسقطا للوجوب على الباقي ، فيكون كل واحد قد فعله في مرتبة سقوطه عنه.

والحاصل : أن مقتضى القاعدة على هذا الوجه هو ما ذكرناه من أنه عند ترك الجميع يكون كل واحد منهم عاصيا ومستحقا للعقاب ، وأنه عند فعل الجميع يكون فعل كل واحد قد فعله في مرتبة سقوطه عنه بفعل الآخر. لكن لو ثبت أنهم جميعا يكونون مطيعين ممتثلين نقول إن ذلك كاشف عن أن السقوط بفعل الغير منوط باتمامه العمل ، بمعنى أنه لو شرع الغير في العمل وفرغ منه سقط التكليف عن الباقي ، بحيث كان إسقاط أحدها لملاك الآخر منوطا باتمام العمل ، فما دام لم يفرغ منه يكون ملاك

٢٨٨

كل بحاله ويكون التكليف باقيا ، فيكون كل واحد منهم قد فعله في ظرف بقاء التكليف ، فيكون كل واحد منهم ممتثلا ومطيعا. وبذلك يندفع ما أورده المحشي في الحاشية ، فراجع (١).

مضافا إلى ما سيأتي (٢) إن شاء الله تعالى من أنّ لنا أن نقول إن المسقط هو سبق أحدهما ، لا مجرد فعله ولو مقارنا مع الآخر.

وأما ما ذكره المحشي بقوله : فان كان الترك المفروض كونه شرطا في تعلق وجوبه بكل واحد منهم هو مطلق الترك ... الخ (٣) ففيه : أن الترك بنفسه ليس بشرط في توجه التكليف على وجه يكون ملاك التكليف متوقفا عليه ، وإلاّ لكان فعل أحدهم كاشفا عن عدم الملاك بالنسبة إلى الآخر لا أنه مسقط له ، وحينئذ لا بدّ أن نقول : إن الترك إنما يكون شرطا في بقاء التكليف بمعنى أنه يجب عينا على كل واحد أن يفعل ، لكن بقاء هذا الوجوب يكون مشروطا بعدم إقدام أحدهم ، فلو أقدم أحدهم سقط التكليف عن الباقي ، لا أنه باقدام أحدهم ينكشف عدم التكليف من أول الأمر في الباقين ، وحينئذ فتوجه التكليف وتنجزه في حق كل واحد منهم لا ينافي سقوطه عن الجميع لو أقدم البعض على الفعل ، فلا معنى حينئذ للقول بأنّ « اللازم عند تحقق ذلك ( يعني الترك في برهة من الزمان ) أن يجب على كل مكلف أن يأتي به ولو مع فرض إتيان غيره به ، وهو خلاف ما فرض من سقوطه بفعل واحد منهم ... الخ » (٤) فانك قد عرفت أن سقوطه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) راجع صفحة : ٣٠٠ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧٢.

(٤) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧٢.

٢٨٩

بفعل واحد منهم لا ينافي ثبوته في حق كل واحد منهم في ظرف تحقق تركه من كل واحد منهم. لكن لمّا كان الأغلب في الواجبات الكفائية هو وحدة الغرض والملاك كما في موارد الدفن والتغسيل بل في مثل الصلاة على الميت ، فان المطلوب والغرض هو أن يصلى على الميت وان لا يدفن بغير صلاة.

وهكذا الحال في جميع موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهما من الواجبات الكفائية ، مثل حفظ مال اليتيم والغائب ونحوها من الامور الحسبية هو حصول غاياتها ، فيكون الملاك واحدا ، ويكون المطلوب فعلا واحدا صادرا من واحد من المكلفين ، فلو قام به أحدهم سقط عن الباقين ، ولو لم يقم به أحد منهم كان الكل مسئولا عنه وهو معنى عقاب الكل ، أما أنه عقاب واحد منبسط على الكل ، أو أنه عقابات متعددة حسب تعددهم فذلك أمر آخر غير راجع إلينا. ومنه يعلم الحال فيما لو قام به الجميع.

أما لو تعدد الفعل منهم كما في مثل الصلاة على الميت ، فانه لا مانع من الالتزام بكون الكل ممتثلا امتثالا مستقلا ، بحيث تكون هناك امتثالات متعددة ، لا أنه امتثال واحد صادر من الكل. وهذا أيضا أمره سهل ، لأنه راجع إلى عالم الثواب والاطاعة.

قوله : ومثال ذلك فيما نحن فيه أنه لو فرضنا شخصين فاقدي الماء فوجدا في وقت الصلاة ماء لا يكفي لوضوئهما ... الخ (١).

لو لم يكن في البين إلاّ شخص واحد فلا إشكال على الظاهر في أنه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٩٠

يكون الوضوء واجبا عليه ، وبوجوب الوضوء عليه تجب عليه حيازة ذلك الماء من باب المقدمة ، وبذلك يكون تيممه منتقضا.

ولو انضم إليه شخص آخر مثله فحيث إنه قد اتفق أن الماء لا يكفي إلاّ لواحد منهما ، كان ذلك من باب اتفاق عدم إمكان الجمع بين التكليفين ، لكنه لا يوجب سقوط الملاك عن أحدهما ، بل يكون الملاك في كل منهما تاما ، غايته أنه لا يمكن أن يكون كل منهما مخاطبا بخطاب مطلق ، بمعنى أنه لا يصح أن يخاطب كل بالحيازة والوضوء خطابا مطلقا ، بل لا بدّ أن يكون الخطاب لكل منهما مشروطا بعدم سبق الآخر إلى ذلك ، من باب أن سبقه يكون مسقطا للخطاب في الآخر.

وحينئذ فقبل سبق أحدهما يكون كل منهما مخاطبا بذلك الخطاب المشروط ، وحيث إنه قبل السبق يكون الحكم والخطاب فعليا في حق كل منهما ، تكون فعلية ذلك الخطاب في حق كل منهما موجبة لانتقاض تيممه فيكون قد انتقض تيمم كل منهما. وحينئذ لو ترك كل منهما إلى أن خرج الوقت كان كل منهما عاصيا وقد انتقض تيممهما ، وهذا لا شبهة فيه.

كما أنه لو سبق أحدهما على وجه لم يكن مجال للآخر أن يحوز الماء لنفسه ، كان ذلك موجبا لانتقاض تيمم خصوص من سبق ، وكان من لم يكن له مجال للسبق على تيممه.

وإنما الاشكال فيما لو حصل المجال لكل منهما ومضت مدة على ذلك ثم سبق أحدهما إليه.

والذي ينبغي هو القول بأنه يكون كل منهما قد حصل في حقه فعلية وجوب الوضوء والحيازة ، وبذلك ينتقض تيمم كل منهما. نعم لو بعد ذلك حصل السبق من أحدهما لزمه الوضوء بذلك الماء ، وكان على الآخر اعادة

٢٩١

تيممه ، فهو نظير ما لو تمكن من الماء ومضت مدة على تمكنه منه ثم اتفق أن تلف ذلك الماء ، فان تأخر التلف لا يوجب انحفاظ تيممه ، بل يكون تيممه قد انتقض بذلك التمكن ، ويكون سقوط الوضوء عنه بعد التلف من قبيل السقوط بالعصيان.

ومن ذلك تظهر لك الخدشة فيما في الحاشية (١) من التفصيل بين صورتي سبق أحدهما وعدم سبقه ، إلاّ أن يكون المراد من السبق هو السبق على النحو الأوّل ، أعني ما لم يحصل للآخر مجال الحيازة.

نعم إن ما أفاده شيخنا قدس‌سره من التفكيك بين الجهات الثلاثة أعني انتقاض التيمم ووجوب الوضوء ووجوب الحيازة ، لعله قابل للتأمل المومأ إليه في الحاشية ، لأن الانتقاض فرع التمكن من استعمال الماء ، وهو محقق لوجوب الوضوء الملازم لوجوب الحيازة ، فراجع ما حررناه سابقا (٢) على ما نقلناه عن شيخنا قدس‌سره وتأمل.

فما يظهر من شيخنا قدس‌سره من توقف وجوب الوضوء على تحقق الحيازة قابل للتأمل ، لما عرفت من أن الحيازة واجبة مقدميا للوضوء كوجوب الشراء ونحوه. بل يمكن أن يقال : إن الوضوء لا يتوقف على الحيازة بل يكفي فيه إباحة الماء إباحة شرعية ، وحينئذ يصح وضوءه منه وإن لم ينو حيازته ولا تملكه كما لو كان الماء لشخص وأباحه للوضوء. ولعل إدخال الحيازة في المقام من جهة كون حيازة أحدهم تكون موجبة لمنع الآخرين بواسطة صيرورة الحائز مالكا للماء.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧٣.

(٢) [ لعله قدس‌سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة وتأتي الإشارة إليها في الصفحة : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ].

٢٩٢

وعلى أيّ حال أن التمكن من الوضوء لا يتوقف على فعلية الحيازة بل يكفي فيه التمكن من الحيازة ، نظير من تمكن من شراء الماء ، وحينئذ نقول إنهم لو بادروا إلى الحيازة فسبق أحدهم انكشف تمكنه وحده وعدم تمكن الباقين ، وبقاء الجميع على تيممه ما عدا السابق منهم. ولو تماهلوا ومضت مدة كان كل منهم متمكنا من حيازة الماء فيها انتقض تيمم الجميع ، ثم لو سبق بعد ذلك أحدهم وجب عليه الوضوء ووجبت على الباقي إعادة التيمم.

قال في الجواهر : ولو وجد جماعة ماء في المباح لا يكفي إلاّ أحدهم ففي المنتهى (١) انتقض تيممهم جميعا ، لصدق الوجدان على كل واحد. وينبغي تقييده بما إذا حصل التمكن من استعماله للجميع ، أما لو تبادروا إلى حيازته فسبق أحدهم انتقض تيممه خاصة. وإن لم يسبق بل تساوى الجميع لم ينتقض تيمم أحد منهم إلاّ مع بذل الشركاء نصيبهم لواحد. نعم لو كان معهم جنب وقلنا باختصاصه شرعا بحيث ليس لغيره المزاحمة له اختص النقض به ، فاطلاقه ذلك لا يخلو من تأمل (٢).

فتراه جعل المدار على التمكن من الاستعمال. أما تكلمه في الحيازة فانما هي من جهة أنه لو حازه أحدهم صار ملكا له ، وكان ذلك موجبا لسقوط الوضوء عن الآخرين ، سواء أراد ذلك الحائز الوضوء به أو أنه لم يرد ذلك. نعم إن كانت حيازته بعد مضي مدة يمكن فيه للغير حيازته انتقض تيمم ذلك الغير أيضا. ولو سبق على وجه لم يحصل للغير برهة يتمكن فيها من حيازته لم ينتقض تيمم ذلك الغير ، واختص الانتقاض بمن

__________________

(١) منتهى المطلب ٣ : ١٥٨.

(٢) جواهر الكلام ٥ : ٢٦٥.

٢٩٣

سبق على الوجه المذكور.

والذي حررته عن شيخنا قدس‌سره في هذه المسألة يظهر منه أن جلّ نظره قدس‌سره إلى حالة مسابقتهم إلى الحيازة ، وأن الحيازة في ذلك الحال واجبة بوجوب مستقل من باب المقدمة المفوّتة ، وهو أعني هذا الوجوب مشروط بعدم سبق الغير ، وإلاّ فلو سبق الغير سقط وجوب الحيازة عن الباقين لعدم بقاء الموضوع. أما وجوب الوضوء على كل واحد منهم فهو مشروط بأن يكون هو السابق ، لأن ذلك الحال أعني حال المسابقة ليس بحال وجدان الماء ، لأن المفروض هو المسابقة إلى وجدانه ، فلا يجب إلاّ حيث يتحقق الوجدان الفعلي ، ولا يتحقق الوجدان الفعلي إلاّ بالسبق ، فيكون وجوب الوضوء على كل واحد منهم مشروطا بأن يكون هو السابق. ولكنه قدس‌سره مع ذلك حكم بانتقاض تيمم الجميع ، لأن الانتقاض لا يتوقف على فعلية الوجدان الذي هو القدرة ، بل يكفي فيه إمكان القدرة. وهو محل تأمل ، لأن الظاهر أن الانتقاض تابع لفعلية الوجدان ، فراجع ما حررناه عنه قدس‌سره في هذا المقام وما حررته عليه هناك ، فتأمّل.

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : والحاصل أن الصور الثلاث التي تقدمت الاشارة إليها في الواجب التخييري متأتية بعينها في الواجب الكفائي ، غاية الأمر أنها في الواجب التخييري جارية في ناحية المكلف به ، وفي الواجب الكفائي جارية في ناحية المكلف ، حيث إن الغرض أعني ملاك التكليف قد يكون غرضا واحدا قائما بصدور الفعل عن أحد المكلفين ، فيكون المطلوب منه ذلك الفعل هو صرف طبيعة المكلف ، بحيث إذا صدر ذلك الفعل من أحد منهم حصل الغرض الذي هو ملاك الأمر ، ولا يبقى محل لأفعال الباقين.

٢٩٤

وقد يكون هناك أغراض وملاكات متعددة قائمة بفعل كل واحد من المكلفين ، ولكن تلك الأغراض والملاكات متزاحمة لا يمكن استيفاؤها أجمع ، وإنما يمكن استيفاء واحد منها ، فلا يمكن أن يكون المؤثر إلاّ واحدا منها ، فيكون ذلك موجبا لتعلق الطلب بفعل واحد من المكلفين ، فيكون المطلوب منه ذلك الفعل هو صرف طبيعة المكلف ، فاذا صدر الفعل من أحدهم لم يمكن استيفاء الأغراض الأخر ، فيعود إلى النحو الأوّل ، ويكون الوجوب في كلا النحوين كفائيا.

وقد يكون هناك أغراض متعددة حسب تعدد أفعال المكلفين بحسب تعددهم ، ولكن يكون فعل أحدهم مانعا من قدرة الآخر على الفعل ، كما لو كان جماعة متيممين وحصل فيما بينهم ماء مباح لا يكفي إلاّ لطهارة أحدهم.

وفي مثل هذه الصورة أعني ما لو كان من قبيل تعدد الملاك ولم يكن بينها تزاحم وتدافع ، وإنما يقع التدافع والتزاحم بين الخطابين في مقام الامتثال ، على وجه يكون امتثال أحد المكلفين لذلك الخطاب موجبا لسلب قدرة الآخرين على امتثاله ، فقهرا يكون كل من اولئك المكلفين مكلفا بذلك الفعل تكليفا عينيا ، ولكن يكون تكليف كل واحد منهم مشروطا بعدم صدور ذلك الفعل من الآخر ، فيتوافق في النتيجة مع الواجب الكفائي ، وإن كان أصل الوجوب عينيا كما ذكرنا من المثال بالمتيممين الواجدين لمقدار من الماء المباح الذي لا يكفي إلاّ لطهارة أحدهم ، فان كل واحد منهم يكون مكلفا تكليفا عينيا بحيازة ذلك الماء ولكنه مشروط بعدم سبق الآخر إلى حيازته ، وبعد أن يحوزه أحدهم يتوجه إليه الأمر بالوضوء ، فيكون توجه الأمر بالوضوء مشروطا بتحقق الحيازة منه لذلك الماء ،

٢٩٥

ويكون وجوب الحيازة عليه مشروطا بعدم سبق الآخر إلى حيازته ، لا أن وجوب الوضوء يكون مطلقا وتكون حيازة الماء مقدمة للوضوء فيكون وجوبها أيضا وجوبا مطلقا لكونه حينئذ تابعا لوجوب ذيها ، فان وجوب الوضوء إنما يتوجه إلى من كان واجدا للماء ، وواجدية كل واحد منهم للماء في هذه الصورة إنما تتحقق عند عدم حيازة الآخر له الذي هو شرط لوجوب الحيازة عليه ، فيكون وجوب الحيازة وجوبا مستقلا ، ويكون وجوبه مشروطا بعدم حيازة الآخر ، ويكون وجوب الوضوء مشروطا بحيازة ذلك الماء لأنه لا يتوجه إلاّ لمن حازه منهم ، انتهى.

قلت : لا يخفى أن هذا النحو الأخير الذي أفاده قدس‌سره أعني ما يكون فيه أحد التكليفين مشروطا بعدم حصول متعلق الآخر ، لا يمكن أن يتأتى فيما لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد ، سواء كان الملاك واحدا أصالة أو كان واحدا بواسطة تزاحم الملاكين.

أما أوّلا : فلأن مقتضى كون الملاك واحدا أن لا يكون منشأ إلاّ لخطاب واحد متعلق بأحد الفعلين على البدل في الواجب التخييري ، أو موجه إلى أحد المكلفين أو صرف طبيعة المكلف في الواجب الكفائي ، دون كون أحد الخطابين مقيدا بعدم حصول متعلق الآخر ، فانه وإن كان موافقا في النتيجة للخطاب التخييري أو الكفائي إلاّ أن ظاهر الواجب الكفائي والتخييري هو أن يكون ناشئا عن ملاك واحد ، وظاهر الخطاب المشروط بعدم حصول متعلق الآخر أن يكون هناك ملاكان وتكليفان ، ولأجل عدم إمكان امتثال كلا التكليفين كان أحدهما مشروطا بعدم حصول متعلق الآخر.

وأما ثانيا : فلأن مقتضى الخطاب المشروط بعدم حصول متعلق

٢٩٦

الآخر هو فعلية كلا الخطابين في مورد عدم حصول متعلق كل منهما ، وهذا لا يجتمع مع كون الملاك واحدا ، إذ الملاك الواحد لا يعقل أن يكون منشأ لخطابين فعليين في حال من الأحوال ، فلا بد أن يكون الخطاب المشروط بما ذكرنا ناشئا عن ملاكين غير متزاحمين ، وانما يكون التزاحم بين نفس الخطابين. وهذا مقتبس مما افاده قدس‌سره خارج مجلس الدرس.

وأما ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أن المكلف هو صرف طبيعة المكلف فلعله لا يخلو عن إشكال ، لأن صرف الطبيعة من المكلفين غير قابلة لأن يتوجه إليها الخطاب بل ولا التكليف.

وينبغي أن يعلم أن صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قد التزم هنا بأن كل واحد مكلف مع السقوط بفعل أحدهم ، لكنه في الواجب التخييري (٢) أنكر ذلك ومنعه ، وقد عرفت (٣) أن السقوط بفعل البعض هو عين ما سلكه من الاختلاف بالهوية ، وأن مرجع الجميع إلى الاشتراط بقاء بعدم سبق الآخر.

وأما ما أفاده في آخر العبارة بقوله : « وسقوط الغرض بفعل الكل كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد » فقد عرفت أنه مع وحدة الملاك والغرض كما هو المفروض يكون الجميع امتثالا واحدا ، لكون الجامع هو صرف الطبيعة الحاصل بأفعال الكل ، فلا حاجة إلى التعليل بكونه من توارد العلل المتعددة على معلول واحد. اللهم إلاّ أن يكون المراد أنه عند اجتماع العلل المتعددة على معلول واحد يكون المؤثر هو القدر الجامع بينها ، وهو هنا صرف الطبيعة. وظني أن هذا هو مراده قدس‌سره وإلاّ كان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) راجع صفحة : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢٩٧

نقضا لما تقدم منه في الواجب التخييري ، أعني قوله : وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، إلخ (١) فانّه كما لزمه هناك الالتزام بوجود الجامع فكذلك يلزمه هنا ، وليس هو هنا إلاّ صرف الطبيعة. ولا يخفى أن الجامع هنا أسهل منه هناك لكونه هنا عرفيا وهو صرف الطبيعة بخلافه هناك ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال يكون الواجب الكفائي الناشئ عن ملاك واحد مساويا لما يكون ناشئا عن تعدد الملاك في سقوطه عن الباقين لو فعله البعض منهم ، وفي استحقاق الجميع للعقاب لو تركه الكل ، وفي حصول الامتثال للجميع لو فعله الكل دفعة واحدة ، غايته أنه في ذي الملاك الواحد امتثال واحد وفي ذي الملاكات امتثالات متعددة ، لكن لازمه ما عرفت من كون كل واحد من المكلفين مكلفا بأمر واحد وهو صرف الطبيعة. ولعله لا يخلو من إشكال عدم المعقولية ، فلا بدّ أن ننزل الواجبات الكفائية على تعدد الملاك حتى فيما لو كان فعل أحدهم رافعا لموضوع فعل الآخرين كما في الدفن.

ولعل تخيل كون ذلك من قبيل ذي الملاك الواحد أو ذي الغرض الواحد قد نشأ من هذه الجهة ، أعني كون فعل أحدهم رافعا لموضوع الفعل الآخر ، فيتخيل المتخيل أن الملاك واحد ، فلاحظ وتدبر.

ولا يبعد أن ندعي أن أغلب الواجبات الكفائية من هذا السنخ ، أعني مما يكون فعل أحد المكلفين رافعا للموضوع من الآخرين ، حتى في مثل الصلاة على الميت ، إذ ليس المطلوب إلاّ صلاة واحدة على وجه لو قلنا بتشريع التكرار لم يكن إلاّ مستحبا لا واجبا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤١.

٢٩٨

والخلاصة : هي أنّ لنا في الواجب الكفائي آثارا ثلاثة : سقوطه بفعل البعض ، معاقبة الجميع عند تركهم ، امتثال الجميع عند فعلهم. وهذه الآثار يمكن الجمع بينها بما تقدم من تعدد الملاك ، أما مع وحدته فقد عرفت أنه لو أمكن لكان جامعا لهذه الآثار الثلاثة ، لكنه يتوقف على الالتزام بكون المطلوب هو صرف الطبيعة من كل واحد من المكلفين ، كما التزم به بعض أجلّة العصر فيما نقله عنه بعض مقرري بحثه ، لكن الايراد الذي أورده على صاحب الكفاية بقوله : إن الغرض من الواجب إن كان يحصل بفعل الواحد فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع ، وإن كان لا يحصل إلاّ بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد ... (١) وارد عليه ، فانه يقال على مسلكه إن صرف الطبيعة إن كان يحصل بفعل الواحد فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع. وكأنه لهذه الجهة قد التزم شيخنا قدس‌سره بأن المطلوب منه هو صرف طبيعة المكلف كما في هذا التحرير (٢) ، أو أن المطلوب منه هو أحد المكلفين على نحو نكرة الفصول (٣) كما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (٤). وجميع هذه الويلات جاءت من ناحية الالتزام بوحدة الملاك ، فلو منعناه والتزمنا بتعدده استرحنا منها ، فلاحظ وتدبر.

هذا ما كنا حررناه سابقا ، ولكن لتوضيح الحال ينبغي مقايسة الواجب الكفائي بالواجب التخييري ، ويجعل الكلام تارة في فرض تعدد الملاك واخرى في فرض وحدته ، فنقول بعونه تعالى : أما في صورة تعدده

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ٢٢٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧١.

(٣) راجع الفصول الغروية : ١٦٣ ، ١٠٢.

(٤) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٣٦.

٢٩٩

فقد عرفت إمكان تصويره بصور أربعة :

الاولى : ما لو كان كل من الفعلين من أحد المكلفين رافعا لموضوع الفعل من الباقين ، كما في دفن الميت.

والثانية : ما لو وقع التزاحم من جهة القدرة الشرعية ، كما لو لم يكن في البين إلا ماء واحد وقد ابتلي به جماعة من المتيممين.

الثالثة : ما لو كان سبق أحدهم رافعا لملاك الفعل من الآخرين.

الرابعة : ما لو كان سبق أحدهم موجبا لعدم حدوث الملاك في فعل الآخرين.

وفي الصورة الاولى يكون كل واحد منهم مكلفا ولكن يسقط التكليف عنه بفعل أحدهم ، على معنى أن كل واحد مكلف مع الترخيص بالترك عند سبق أحدهم ، فلو تركوه عوقبوا ، ولو فعله البعض سقط عن الباقين. ولا يتصور في ذلك قيام كل واحد إلاّ بالاشتراك في الدفن الواحد ، فلا تتأتى فيه شبهة أن فعل كل واحد مقرون بمسقطه ، لما عرفت من أن المسقط إنما هو السبق.

وأما الصورة الثانية فحكمها كذلك ، غير أن السبق هنا إن قلنا بأنه مسقط لقدرة الباقين كان ذلك موجبا لانتقاض تيمم الجميع. وإن قلنا بأنه كاشف عن عدم حدوث القدرة لهم لم يكن موجبا لانتقاض تيممهم كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك يظهر لك الحال في الصورة الثالثة والرابعة ، فيرجع الوجوب الكفائي فيهما إلى الوجوب العيني ، غير أن سبق أحدهم إلى الفعل يكون موجبا لسقوط التكليف عن الباقين على الصورة الثالثة ، ويكون كاشفا عن عدم حدوث التكليف لهم على الصورة الرابعة. ولو أتوا به دفعة واحدة

٣٠٠