أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

قوله : الرابع : أن كل واحد من الواجبين واجب تعيينا إلاّ أن أحدهما يسقط بفعل الآخر ـ إلى قوله : ـ فيكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ... الخ (١).

الظاهر أن هذا إشارة إلى ما في الكفاية (٢) ولكن صاحب الكفاية صرح بأن كل واحد منهما يكون واجبا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر ، وحينئذ يكون الوجوب التخييري الناشئ عن الملاكين مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني ، وبقول بعضهم إن مرجع التعييني إلى سدّ جميع أبواب العدم ، ومرجع التخييري إلى سدّ أبواب العدم إلاّ العدم المقارن لوجود العدل الآخر. كما أنه صرح بأنه ليس الواجب كل واحد منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، ولازمه أن لا يكون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر.

والخلاصة : أن كون الوجوب التخييري مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني ، وكون وجوب كل واحد منهما مشروطا بعدم الآخر ، وكون كل واحد منهما مسقطا لوجوب الآخر ، مبان مختلفة لا يكون أحدها راجعا إلى الآخر.

وتفصيل ذلك : أن التزاحم في الملاكات إذا كان مأموريا مثل إنقاذ أحد الغريقين ، كان خارجا عمّا نحن فيه من دعوى التخيير الشرعي ، وكان منتجا لحكم العقل بتقديم ما هو الأقوى ملاكا ، وإن لم يكن في البين ما هو الأقوى كان الخطاب بكل منهما مشروطا بحكم العقل بعدم الاتيان بالآخر ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٤ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الاصول : ١٤١.

٢٦١

على التفصيل المشروح في محله من مبحث التزاحم من مباحث الترتب (١).

وإن كان آمريا فالذي ينبغي أن نقدم له مقدمة ، وهي أن الوجوه المتصورة في التخيير الشرعي أربعة :

الأوّل : كون الواجب هو أحدهما مصداقا.

الثاني : كون كل منهما واجبا مع السقوط بفعل الآخر.

الثالث : كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر.

الرابع : مسلك الكفاية من كونه نحوا من الوجوب.

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إن تزاحم الملاكات آمريا يمكن أن يكون على صور :

الاولى : أن يكون الفعل في كل منهما رافعا لموضوع التكليف في الآخر ، مثل ما لو فرضنا أن هناك ملاكا يقتضي دفن الميت بالتراب وكان هناك ملاك آخر يقتضي إغراقه في الماء ، على وجه التباين بين الملاكين والمتعلقين ، ولا ريب في أن أحد هذين الفعلين بنفسه موجب لارتفاع موضوع التكليف المتعلق بالآخر.

الثانية : أن يكون أحد التكليفين موجبا لارتفاع موضوع التكليف بالآخر ، كما في تزاحم التكليفين المشروط كل منهما شرعا بالقدرة على وجه تكون القدرة دخيلة في ملاك كل من التكليفين ، فيكون كل من التكليفين رافعا لموضوع التكليف الآخر ولملاكه ولخطابه.

وفي كون كل من هاتين الصورتين من التزاحم الآمري أو التزاحم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣ ـ ٤٧ ، راجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ٢٥١ وما بعدها.

٢٦٢

المأموري كلام لعله نتعرض له في مباحث التزاحم (١) إن شاء الله تعالى.

ولكن لو قلنا بأنه آمري كان على الآمر أن يعيّن ما هو الأقوى ملاكا ، وإن لم يكن في البين ما هو الأقوى ، ففي الصورة الاولى يجعل التكليف على كل واحد منهما مشروطا في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، فتكون نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة المسقط لا نسبة شرط التكليف حدوثا كي يكون حدوث التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وفي هذه الصورة يمكن أن تأتي طريقة الكفاية من كون هذا الوجوب التخييري مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني.

أما في الصورة الثانية عند تساويهما فلا يمكن سلوك طريقة إسقاط كل منهما للآخر ، لأن لازم ذلك هو أنه قبل الاتيان بأحدهما يكون مكلفا بكل منهما ، فيجتمع التكليف بأحدهما مع التكليف بالآخر ، وذلك غير معقول في الصورة المفروضة ، لأن المفروض أن التكليف بكل منهما يكون رافعا لموضوع التكليف بالآخر. فيمتنع فيه سلوك هذه الطريقة ، كما أنه يمتنع فيه سلوك طريقة اشتراط التكليف بكل منهما بعدم الاتيان بالآخر ، وحينئذ ينحصر الأمر في ذلك بالالتزام بأن المكلف به هو مصداق أحدهما. وعلى أيّ حال لا تتأتى فيه طريقة الكفاية من وجوب كل منهما مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، لأن لازمه هو أن يجب كل منهما قبل فعل الآخر ، وقد عرفت محالية ذلك. وبالجملة يكون حال هذه الطريقة حال طريقة المسقطية.

والظاهر تأتّي طريقة كون الواجب هو أحدهما المصداقي في كل من

__________________

(١) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ٢٤٧ وما بعدها.

٢٦٣

الصورتين ، فانّ الشارع بعد أن اطلع على حال الفعلين وأن كل واحد منهما رافع لموضوع الآخر ، أو أنّ الجمع بينهما غير مقدور للمكلف مع فرض كون كل منهما ذا ملاك مستقل ، يكون الممكن التحصيل هو أحد الملاكين فيأمر بأحد الفعلين مصداقا.

والذي يهوّن الخطب هو أن واجباتنا التخييرية لا تنطبق مع إحدى الصورتين ، إذ ليس فيها ما يكون أحد الفعلين رافعا لموضوع الآخر ، ولا ما يكون المكلف غير قادر على الجمع بينهما مع كون كل منهما في حد نفسه واجبا تعيينا.

ولكن لا ينبغي الريب في أن التزاحم فيهما آمري وأن الشارع إن رأى أنّ أحدهما أرجح ملاكا من الآخر عيّنه ، وإلاّ أوجبهما معا مع سقوط كل منهما بفعل الآخر ، أو مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، أو جعل الواجب أحدهما المصداقي. هذا في مقام الثبوت.

وأما في مقام الاثبات فلو ورد ما ظاهره طلب كل منهما تعيينا وجب حمله على هذه الوجوه الثلاثة ، وذلك في الصورة الاولى واضح ، ولا مجال فيها لترجيح المكلف أحدهما على الآخر بأقوائية الملاك. والظاهر أنّ الثانية كذلك ، لأن قوله اغتسل إن قدرت وقوله توضأ إن قدرت لو اتفق أن المكلف غير قادر على الجمع بينهما ، يحصل التعارض بينهما نظير تعارض العموم من وجه. فان انتهت المسألة إلى التساقط لا يمكنه رفع اليد عن كلا الفعلين للعلم بأنه لا بدّ له من فعل أحدهما فيتخير بينهما ، لكن ليس له أن يرجح بأقوائية الملاك ، إذ ليس ذلك له بعد فرض علمه بأن المتحقق في حقه أحد الملاكين لا كلاهما ، إذ ليس له إلاّ قدرة واحدة وهي لا تولّد إلاّ ملاكا واحدا ، فالمتوجه اليه هو أحد التكليفين لا كلاهما ، وهو لا يقدر على

٢٦٤

الجمع بينهما ليختار أقواهما ملاكا.

والخلاصة هي : أن الصورة الاولى من باب التضاد الدائمي ، وهي راجعة إلى باب التعارض ولازمه التزاحم الآمري ، ومقتضاه أنه لو كان أحد الملاكين أقوى عيّنه الشارع ، وإلاّ علّق الطلب بكل منهما مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، أو علق الوجوب بأحدهما المصداقي.

وأما الصورة الثانية : فهي من التضاد الاتفاقي الناشئ عن اتفاق عدم قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين ، ومقتضاه كونه من باب التزاحم المأموري ، لكن لمّا كان كل من الملاكين مشروطا بالقدرة واتفق عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما كان كل من التكليفين رافعا لموضوع الآخر ، ومقتضاه كون التزاحم آمريا ، إلاّ أن يمنع من كون التكليف بأحدهما رافعا للقدرة على الآخر ، ويدعى أنّ كلا منهما مقدور في حد نفسه فيكون التكليف به متوجها ، غايته أن المكلف لا يقدر على امتثالها ، فيكون اللازم على المكلف هو الترجيح بالأهمية ، وإلاّ حكم عقله بالتخيير بينهما.

أما لو قلنا بأن التزاحم في هاتين الصورتين مأموري فلا مجال فيه للترجيح بأقوائية الملاك ، بل يتعين التخيير العقلي في ذلك بقول مطلق ما لم يكن في البين تقدم زماني كما حرر في محله (١) ، لأن المفروض كون الملاك في كل منهما متوقفا على عدم الآخر. وهذه المرحلة من الترجيح ليست من أشغال المكلف ، بل هي من أشغال الشارع كما عرفت في التزاحم الآمري.

الصورة الثالثة : أن يكون استيفاء أحد الملاكين بأحد الفعلين موجبا

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٣٦ ـ ٤٣ ، راجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ٢١٩ وما بعدها.

٢٦٥

لارتفاع ملاك الآخر ، لا من جهة عدم القدرة على الفعلين ، بل إن طبع الملاكين كان هكذا على وجه لو استوفى أحدهما بفعله يرتفع الملاك في الآخر ، وان كان المكلف متمكنا من الاتيان بالفعل الآخر إلاّ أنه يكون حينئذ خاليا من الملاك.

الصورة الرابعة : هي هذه الصورة ولكن يكون الملاك في كل منهما مشروطا حدوثا بعدم وجود الآخر. والتزاحم في هاتين الصورتين يكون آمريا محضا ، وتكون نسبة أحد الفعلين إلى التكليف بالآخر من قبيل المسقط على الاولى منهما ، ومن قبيل كون عدمه شرطا في التكليف بالآخر على الثاني منهما. وحينئذ فالمولى إن رأى أن أحد الملاكين أقوى من الآخر عيّنه ، وإلاّ خيّر بينهما بمعنى أنه يوجبهما معا ويجعل الاتيان بأحدهما مسقطا للتكليف بالآخر في الصورة الاولى ، أو يجعل عدم كل منهما شرطا في أصل توجه التكليف بالآخر في الصورة الثانية.

وهل يتأتى فيها مسلك الكفاية من الاختلاف بالهوية؟ الظاهر أن الكلام هنا عين ما تقدم ، لكن العمدة في معقولية الاختلاف بالهوية ، إلاّ أن يكون المراد بذلك هو ما ذكرناه (١) في الطلب الاستحبابي من كونه مقرونا بالترخيص في الترك ، ويكون الحال في الطلب التخييري أنه طلب بكل معنى الكلمة ، غير أنه ينضم إليه جعل ثان وهو الترخيص في الترك المقارن لوجود العدل الآخر.

وأما دعوى كون الواجب هو كل واحد منهما مع السقوط بفعل الآخر ، فان كان المراد بالسقوط بفعل الآخر حكم العقل بالسقوط بفعل

__________________

(١) راجع صفحة : ٣٥٠ وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

٢٦٦

الآخر ، توجه عليه أنه حينئذ لا وجه لحكم الشارع بوجوب كل منهما ، لأن السقوط إن كان لعدم استيفاء الملاك منه ، فلا وجه لايجاب الشارع كلا منهما ، وإن كان الاستيفاء ممكنا فلا وجه للسقوط حينئذ. وإليه إشارة بما في الكفاية : ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما ... (١).

وإن كان المراد هو حكم الشارع بسقوط كل منهما مع فعل الآخر هو ترخيصه في ترك أحدهما عند فعل الآخر ، رجع إلى ما في الكفاية بعد شرحه بما عرفت من احتياج الوجوب التخييري إلى جعلين : جعل الطلب بكل منهما ، وجعل الترخيص في الترك عند فعل أحدهما ، أو إلى اشتراط بقاء الوجوب لكل منهما بعدم الاتيان [ بالآخر ](٢) فتكون نسبة كل منهما إلى وجوب الآخر نسبة المسقط ، لكون بقاء الوجوب لكل منهما مشروطا بعدم الآخر.

وبالجملة : أن القول بكون الواجب هو كل منهما مع السقوط بفعل الآخر راجع إلى ما أفاده في الكفاية ، وهما راجعان إلى القول بكون بقاء الوجوب لكل منهما مشروطا بعدم الآخر. والأقوال الثلاثة راجعة إلى القول بأن الواجب هو كل واحد منهما مع الترخيص الشرعي بتركه عند فعل الآخر فما يظهر من حاشية العلاّمة الاصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية (٣) من جعل هذا الأخير قولا آخر غير ما في الكفاية ، وغير القول بكون الواجب هو أحدهما مع السقوط بفعل الآخر كما جرى عليه في الحاشية (٤) من جعله

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤١.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) نهاية الدراية ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٤) أجود التقريرات ١ ( الهامش ١ ) : ٢٦٥.

٢٦٧

وجها سادسا ، لا يخلو عن تأمل. وأما الايراد عليه بأنّ لازمه تعدد العقاب فهو لازم لباقي الأقوال ما عدا القول بكون الواجب هو أحدهما المصداقي أو كونه هو القدر الجامع.

والخلاصة : هي أنّ هذه العبائر الأربع أعني :

وجوب كل منهما مع السقوط بفعل الآخر.

وجوب كل منهما مع ترخيص الشارع بفعل الآخر.

وجوب كل منهما بنحو لا يجوز تركه إلاّ إلى بدله ( مسلك الكفاية ).

وجوب كل منهما مشروطا في مرحلة البقاء بترك الآخر.

كلها راجعة إلى مفاد واحد ، وتأتي كلها في الصورة الاولى من هاتين الصورتين. وأما الصورة الثانية منهما فلا يتأتى فيها إلاّ جعل الوجوب في كل منهما مشروطا في مرحلة الحدوث بعدم الآخر ، ولازمه هو أنه قبل فعل أحدهما يكون الظاهر أنهما معا واجبان لكن لو أتى بأحدهما انكشف عدم وجوب الآخر من أول الأمر ، ولو بقي مستمرا على عدم كل منهما إلى أن فات وقتهما كان مستحقا للعقابين. كما أنه كذلك ـ أعني مستحقا للعقابين ـ في الصورة الاولى من هاتين الصورتين ، بل إن الأمر كذلك في جميع الصور الأربع ، فانّ لازمها هو تعدد العقاب عند ترك الفعلين معا حتى فات الوقت ما لم ينزل بعضها على كون الواجب هو أحدهما المصداقي ، أما عند فعلهما دفعة واحدة فهو غير متصور في الاوليين من الأربع ، نعم هو متصور في الأخريين منها.

وقد يقال : إن لازم الأخيرة منها أعني الرابعة أن لا يتصف شيء منهما بالوجوب ، كما أن لازم الثالثة هو كون كل منهما مقرونا بمسقطه. ولكن هذا الاشكال إنما يتوجه فيما لو أمكن الاتيان بجميع الأعدال في آن

٢٦٨

واحد ، إلاّ أنّ ما عرفناه من واجباتنا التخييرية لا يمكن فيه اجتماع الأعدال في آن واحد.

وتوضيح الحال في ذلك هو أن يقال : إنه لا يخفى على المتتبع في الواجبات التخييرية أنه لا يوجد فيها ما هو من قبيل الصورة الاولى ولا ما هو من قبيل الصورة الثانية ، فلو قلنا بتعدد الملاك فيما هو المعروف من واجباتنا التخييرية يكون المتعين هو الصورة الثالثة أو الرابعة ، ولازمها هو عدم وقوع كل من العدلين على صفة الوجوب لو أتى بهما دفعة واحدة. أما في الثالثة فلاجتماع كل منهما مع مسقطه أو مع المسوّغ لتركه. وأما في الرابعة فلاجتماع كل منهما مع ما يوجب عدم تعلق الوجوب به ، بعد فرض سقوط القول بأن الواجب في الصورتين هو أحدهما المصداقي على نحو نكرة صاحب الفصول (١) من جهة أن اجتماع الملاكين قاض بوجوب كل منهما ، إما مع سقوطه بفعل الآخر ، وإما مع كون عدم أحدهما شرطا في وجوب الآخر. ولا وجه مع اجتماع الملاكين لكون الواجب هو أحدهما المصداقي.

اللهم إلاّ أن يقال : إن الشارع بعد اطلاعه على حال هذين الملاكين وأنهما لا يمكن استيفاؤهما معا لكون استيفاء أحدهما رافعا للآخر أو كون استيفاء أحدهما موجبا لعدم الآخر من رأس ، يمكنه أن يجعل الوجوب على أحد العدلين مصداقا ، فعند الاتيان بهما معا دفعة واحدة يكون الواجب هو أحدهما المصداقي والآخر لغوا ، لا أن كلا منهما يكون لغوا ، لأن لغوية كل منهما إنما تتم لو قلنا بأن الواجب كل منهما مع السقوط بفعل

__________________

(١) راجع الفصول الغروية : ١٦٣ ، ١٠٢.

٢٦٩

الآخر ، أو مع عدم الاتيان بالآخر.

ولكن هذا الاشكال إنما يتوجه على القولين المذكورين إذا كان في واجباتنا التخييرية ما يمكن اجتماع الأعدال فيه دفعة واحدة ، وقد عرفت أنها ليست كذلك حسب التتبع. نعم لو فرضنا أن بعضها قابل للاجتماع الدفعي تعين القول فيه بأن الواجب في خصوص ذلك البعض هو أحدهما المصداقي بعد فرض تعدد الملاك. أما لو أنكرنا تعدد الملاك وقلنا بوحدته تعيّن القول بأن الواجب هو القدر الجامع بينهما ، وأن تعلق الطلب به يكون على نحو مطلوبية صرف الوجود من الطبيعة الحاصل بأول وجود من ذلك القدر الجامع ، وعند اجتماع الفردين دفعة واحدة يكون الجميع واجبا بوجوب واحد.

هذا كله لو كان المسقط للملاك في الصورة الثالثة أو الموجب لعدمه في الصورة الرابعة هو مجرد وجود أحد العدلين ، فانه يتوجه فيه الاشكال بأنه عند الاجتماع دفعة يكون كل منهما مقرونا بمسقطه أو مقرونا بما يكشف عن عدم وجوبه. أما لو لم نقل بذلك ، بل قلنا إن المؤثر في السقوط أو في عدم الحدوث هو سبق أحد العدلين ، فلا يكون الاجتماع الدفعي إلاّ من قبيل اجتماع الواجبات المتعددة في آن ، كما سيأتي (١) نظير هذا التوجيه في الواجب الكفائي إن شاء الله تعالى.

والخلاصة هي : أن عمدة همّنا في الواجبات التخييرية أمران ، الأوّل : ما يذكرونه من أنه عند ترك كل منهما يتحقق في حقه وجوب كل منهما ويعاقب على ترك كل منهما ، وعند فعل كل منهما لا يكون الواجب

__________________

(١) في صفحة : ٣٠٠ وما بعدها.

٢٧٠

شيء منهما. والأمر الثاني : أنه عند الشك في مثل العتق والصيام بوجوبهما التخييري بأن وجوبهما على التعيين أو أنه على التخيير ، يكون المرجع بعد فعل أحدهما هو البراءة أو الاشتغال؟

فنقول بعونه تعالى : أما لو كان الملاك واحدا فالمتعين هو وجوب القدر الجامع أو مفهوم أحدهما أو مصداق أحدهما ، ولا يتأتى فيه الاحتمالات الأخر. ويكون الواجب هو أحدهما ، سواء تركهما معا أو فعلهما معا أو أتى بواحد منهما. أما مسألة الشك فانه بعد الاتيان بأحدهما يكون محصله هل أنه مكلف بواحد أو أنه مكلف باثنين ، ومقتضى البراءة هو الأوّل.

أما لو كان الملاك متعددا ففي الصورة الاولى وكذا في الثانية لا يتصور فيهما الاتيان بالعدلين معا ، لفرض عدم القدرة على ذلك ، فلا مورد فيهما لبيان أنه عند اجتماعهما هل يكون الواجب كل منهما. كما أنه لا مورد فيهما للشك بين التعيين والتخيير وأنه بعد الاتيان بأحدهما هل يكون المرجع هو البراءة من الآخر أو الاشتغال؟ لما عرفت من أن ذلك كله فرع إمكان الجمع ، والمفروض عدمه في الصورتين المزبورتين. وحينئذ فلا مانع من الالتزام في الصورة الاولى بأنه مكلف بكل منهما عند تركهما ، وأنه لو فعل أحدهما سقط الآخر ، بخلاف الصورة الثانية فانها لا يتأتى فيها احتمال التكليف بكل منهما مع السقوط بفعل الآخر ، بل ينحصر الأمر فيها بالتكليف بأحدهما المصداقي ، ولعله يمكن تأتّي أحدهما المفهومي ، أما القدر الجامع فهو لا يتصور فيها.

وأما الكلام على الصورة الثالثة والرابعة فلا ينبغي الريب في أنه عند تركهما معا يكون مكلفا بكل من العدلين ، ويكون معاقبا على ترك كل منهما. وعند الاتيان بكل منهما ينبغي القول بعدم اتصاف واحد منهما

٢٧١

بالوجوب كما شرحناه فيما مضى. أما صورة الشك لو أتى بأحدهما في وجوب الآخر فيختلف الحال في ذلك ، فعلى الثالثة تكون المسألة من قبيل الشك في المسقط ، ويكون المرجع حينئذ هو الاحتياط بالاتيان بالآخر. نعم على الرابعة تكون المسألة من قبيل الشك في التكليف ، ويكون المرجع حينئذ هو البراءة ، فلاحظ وتأمل.

قوله : إلاّ أنّ فرض وجود الغرضين كذلك من باب فرض أنياب الأغوال ، وظاهر الدليل يدفعه ... الخ (١).

يمكن التأمل في ذلك ، بأن تعدد الغرض والملاك وإن كان في حدّ نفسه بعيدا ، إلاّ أنا بعد ما انسدت علينا الوجوه في الواجبات التخييرية إلاّ هذا الوجه تعيّن لنا الالتزام به ، كما أنه حينئذ لا بأس بارتكاب خلاف الظاهر في مفاد لفظة « أو » بالحمل على كونه نتيجة لمفاد « ان » الشرطية. أما الوجه الثالث من كون ذلك من الترتب من الطرفين وصاحب الكفاية لا يقول به ، فيمكن الجواب عنه بأن صاحب الكفاية (٢) إنما منع من الترتب المعروف من جهة أن تعليق الأمر بالصلاة على عدم الاتيان بالازالة لا يسقط الأمر بالازالة عن البعث إليها والتحريك نحوها ، فلم يخرج بذلك الترتب عن البعث إلى الضدين أعني الازالة والصلاة. وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان اشتراط وجوب أحد الفعلين في مقام التشريع بعدم وجود الآخر يوجب عدم وجوب الآخر عند وجوده ، فلا ينتهي إلى الأمر بالجمع بينهما ، بل أقصى ما فيه هو أنه عند عدم فعل كل منهما يكون كل منهما فعليا ، لكنه لا ينقلب عن كونه مشروطا ، فان تحقق الشرط لا يخرج المشروط عن كونه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الاصول : ١٣٤.

٢٧٢

مشروطا إلى كونه مطلقا ليكون ذلك منتهيا إلى الأمر بالجمع بينهما.

ولا يخفى أنه يتوجه الاشكال على شيخنا قدس‌سره بأنه يجوّز الترتب فلم لم يجوّزه في هذا المقام.

وقد أجاب عنه قدس‌سره بقوله : بل إن القول بالاشتراط في التزاحم الخطابي غير مستلزم للقول به في المقام ، فان الملاكين فيما نحن فيه متزاحمان في الملاكية ، ومن الواضح أن الملاك المزاحم لا يصلح لأن يكون داعيا إلى التكليف ... الخ (١).

ويمكن التأمل فيه بأن الآمر يكون في سعيه وإيجاد أمره الناشئ عن باعثية الملاك إلى تشريع الأمر على طبقه كحال المأمور في سعيه وايجاده الفعل المأمور به فيما لو كان أحد الأمرين أهم من الآخر في سعيه نحو الأهم وتركه المهم ، وحكم عقله بالتخيير في السعي إلى كل واحد منهما بأن يقول عقله : « افعل هذا إن لم تفعل ذاك » أو « افعل ذاك إن لم تفعل هذا » فكذلك الحال في التزاحم الأمري ، فانه يمكن للشارع أن يتخلص عن تزاحم الملاكين بالأمر بكل من المتعلقين مشروطا بعدم الآخر ، كما يمكنه أن يتخلص عن التزاحم المذكور بالأمر بأحد المتعلقين مصداقا أو مفهوما أو بالقدر الجامع بينهما.

ولا يخفى أن لازم كون كل منهما مشروطا بعدم الآخر أنه لو أتى بهما معا لم يكن أحدهما واجبا ، ولو تركهما فهو وإن كان موجبا لفعلية كل منهما واستحقاق العقابين ، إلاّ أنه لا يوجب التكليف بالجمع ، لأن وجود شرط الوجوب لا يخرجه عن الاشتراط إلى الاطلاق ، والمفروض أن لزوم وجوب الجمع إنما هو لو كان كل منهما مطلقا ، بخلاف ما لو كان كل منهما

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٣

مشروطا بعدم الاتيان بالآخر كما حقق ذلك في مبحث الترتب (١).

ثم لا يخفى أن المفاهيم بأنفسها غير قابلة لتعلق الحكم بها أيا كان الحكم ، وإنما تتعلق بها الأحكام باعتبار واقعها الذي تحكي عنه تلك المفاهيم ، ولأجل ذلك تراهم يقولون إنّ الشخص إذا قال للمشتري « بعتك أحد هذين العبدين » وقصد مفهوم أحدهما كان غلطا ، لأن المفهوم لا يقع عليه البيع. ولو قصد واقع أحدهما لم يكن غلطا ، ولكنه يكون البيع باطلا لجهالة المبيع ، فلو كانت المعاملة لا يعتبر ذلك فيها كما لو صالحه على أحدهما ، أو أوصى بعتق أحدهما بأن نقول إنه لا يعتبر في الوصية في عتق عبده أن يكون العبد معلوما بأن يقول « اعتقوا عني أحد عبيدي » صحّ ذلك واستخرج بالقرعة. هذا كله لو كان المبيع هو واقع أحدهما المحكي بقوله « أحدهما » فربما يعبّر عن ذلك بأن المبيع هو مصداق أحدهما ، فانه لا بأس به إذا كان المقصود هو واقع أحدهما.

أما لو كان المقصود هو هذا المصداق أو هذا فلعله لا يكون إلاّ غلطا صرفا إن كان التردد في المصداق عبارة عن التردد في البيع الذي يوقعه بين كونه بيع هذا أو كونه بيع ذاك.

وإن شئت فقل : إن المعقول هو إيقاع البيع على شيء وهو العبد الواحد المردد بين عبيده ويكون الترديد فيما وقع عليه البيع. ولكن لو كان الترديد في نفس البيع بأن يكون حاصل قوله « بعتك أحد هذين العبدين » : أني إما بعتك هذا العبد أو أني بعتك هذا العبد ، فيكون الترديد في نفس الحكم الذي يوقعه وهل هو بيع هذا العبد أو هو بيع ذلك العبد ، فلا ريب أن ذلك من أغلط الأغلاط.

__________________

(١) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ٣٧١ وما بعدها.

٢٧٤

وهكذا الحال في الوصية بأن قال لوصيه : « اعتق أحد عبيدي » فانه إن كان من الترديد في الموصى به وأنه هل هو عتق زيد أو عتق عمرو بالقاء التخيير إلى الوصي صحّ ذلك. وان كان من قبيل التردد في الوصية وهي أن الموصي يقول لوصية : « أوصيتك بعتق زيد أو أوصيتك بعتق عمرو » كان من الأغلاط.

وهكذا الحال في باب الأمر ، فانك لو أمرت عبدك بأحد الفعلين من القيام أو الكتابة ، فان قصدت مفهوم أحدهما كان غلطا لأنه لا يعقل تعلق الوجوب بالمفهوم ، وإن قصدت الوجوب وجعلته لكن لم تعيّن الواجب وجعلت متعلقه هو أحد الفعلين صحّ ذلك ، وكان العبد هو المختار في فعل أيهما. وإن قصدت أني أوجبت عليك القيام أو أوجبت عليك الكتابة كان ذلك غلطا صرفا.

وهكذا الحال في إرادة الآمر إذا جعلناها بمعنى البعث والتحريك ، فان الترديد إن كان في متعلق ذلك البعث والتحريك فلا مانع منه ، وإن كان الترديد في نفس البعث وأنّ الآمر إما أن يبعث عبده إلى هذا الفعل وإما أن يبعثه إلى ذلك الفعل كان ذلك غلطا صرفا. وهذا بخلاف الارادة التكوينية المتعلقة بالقراءة أو بالكتابة ، فان الترديد هناك يكون في نفس الارادة وهو غير معقول ، ولا يعقل وقوع الترديد في خصوص المتعلق من دون تردد في الارادة.

وهكذا الحال في الفعل الخارجي ومتعلقه مثل الضرب على زيد أو عمرو ، فالحال فيه أسوأ من الارادة التكوينية ، فلا وجه لقياس متعلق الأحكام الوضعية والارادة الآمرية والبعث والتحريك على متعلق الارادة التكوينية أو متعلق الارادة الخارجية ، فلا حاجة إلى الجواب عن هذا القياس

٢٧٥

بأن الأحكام من قبيل الامور الاعتبارية ، فيصح قيامها في عالم الاعتبار بأحد الأمرين ، بخلاف الارادة التكوينية والأفعال الخارجية ، فإنّ ذلك وإن صحّ في مثل الوجوب والملكية ونحوها من الأحكام الوضعية التي هي من الامور الاعتبارية ، إلاّ أنه لا يصح في البعث والتحريك ، فلاحظ وتدبر.

ثم إنّ ما ذكروه في بيع أحد العبدين من بطلان البيع لجهالة المبيع لا ينتقض ببيع الصاع من الصبرة ، لأن ذلك ليس من بيع أحد الصياع ، بل هو بيع صاع كلي في الذمة ، نظير ما لو باعه صاعا من حنطة البلاد الفلانية ، غايته أن دائرة ذلك الكلي في الذمة تتسع وتتضيق باعتبار المضاف إليه إلى أن تصل النوبة إلى صاع الحنطة من هذه الصبرة ، فيكون من قبيل الكلي في المعيّن وله آثاره. بخلاف ما لو نزّلناه على أحد الصوع الموجودة في هذه وصحّحناه وأغضينا النظر عن الجهالة بأن كان ذلك بطريق الصلح ، فإنّ له آثاره وهي الاشاعة ، لكنهم نزّلوا قوله « بعتك صاعا من هذه الصبرة » على الأوّل ، بخلاف ما لو افرزت الصوع وباعه واحدا منها أو صالحه عليه فانهم نزّلوه على بيع أحد الصوع ، فتترتب عليه آثاره من البطلان لو كان بطريق البيع.

والذي تلخص : هو أنّ الترديد إن كان في متعلق [ البيع ](١) كأن يقول « بعتك شيئا وهو إما هذا العبد وإما ذلك العبد » كان ذلك معقولا ، وإن كان باطلا من جهة جهالة المبيع بحيث لو أبدلناه لكان صحيحا ، بخلاف ما لو كان الترديد في نفس البيع بأن يقول « إني إما بعتك هذا العبد واما بعتك هذا العبد » كان غلطا وغير معقول. ولعله إليه يرجع ما يذكرونه من أنه لو كان المراد من أحدهما هو المفهوم كان معقولا ، ولو كان المراد هو مصداق

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٢٧٦

أحدهما كان غير معقول ، بأن يكون المراد هو أنه لا شبهة في أن البيع لا يقع على نفس المفهوم وإنما يقع على ما يحكيه ، ولكن إن وقع البيع على المحكي بمفهوم أحدهما بواسطة كونه مصداقا لأحدهما فكأن أحدهما طبيعة من الطبائع ، ويكون وقوع البيع على ما يحكيه مفهوم الطبيعة بواسطة ما فيه من كونه حصة من تلك الطبيعة كان ذلك معقولا. وإن جعلنا الطبيعة منظارا للمصداق وأوقعنا البيع على هذا المصداق أو على ذلك المصداق كان ذلك غير معقول ، لأنه حينئذ يكون لنا بيعان أحدهما واقع ابتداء على هذا العبد والبيع الآخر واقع على ذلك العبد. ونحن لمّا نقول بعتك أحد هذين العبدين نكون قد أوقعنا أحد البيعين ، وذلك غير معقول.

ولعل قولنا « بعتك هذا العبد أو هذا العبد » ظاهر في الوجه الثاني ، وهو وقوع البيع ابتداء على المصداق المردد ، الذي عرفت أنه يوجب التردد في نفس البيع بين كونه بيع هذا العبد أو كونه بيع ذلك العبد ، بخلاف قولنا « بعتك أحدهما » فانه ظاهر في الوجه الأوّل وهو وقوع البيع على هذا العبد أو على ذلك العبد بواسطة عنوان « أحدهما » المنطبق على كل منهما على البدل ، ويكون المبيع هو طبيعة أحدهما ، فلا يكون من التردد في البيع ، بل يكون من التردد في متعلقه الذي هو المبيع.

قوله : وأما الوجه الثالث فيرد عليه : أن مفهوم أحد الشيئين ـ إلى قوله : ـ لكنه قد عرفت إمكان تعلق التكليف بواقع أحدهما ، فتوسيط العنوان الانتزاعي يكون لغوا ... إلخ (١).

الذي حررته عنه قدس‌سره في بيان هذا الوجه ما هذا لفظه : ولا يرد عليه أن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٧

مفهوم أحدهما من المفاهيم الانتزاعية غير الصالحة لتعلق الطلب بها ، لأن المفاهيم الانتزاعية على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : ما كان محض صورة خيالية لا واقعية لها إلاّ في عالم المخيلة مثل أنياب الأغوال. ولا ريب في عدم معقولية تعلق الطلب بمثله.

النحو الثاني : ما يكون منتزعا من أمر واقعي مثل التقدم والتأخر ونحوهما ممّا ينتزع عن أمر واقعي ، وهو كون أحد الشيئين قبل الآخر زمانا أو مكانا. ولا ريب في صحة تعلق الطلب بمثل هذا.

النحو الثالث : ما يكون متوسطا بين النحوين الأولين ، وذلك مثل مفهوم أحد الأمرين الصالح للانطباق على كل منهما ، فانه باعتبار عدم المصداق المخصوص يكون مشابها للنحو الأوّل ، وباعتبار صلاحيته للانطباق على كل واحد منهما على البدل يكون ملحقا بالثاني ، ولأجل ذلك يصح تعلق الطلب به كما يصح أن يقع متعلقا للحكم الوضعي ، كالعتق والطلاق ونحوهما مما يمكن أن يكون مورده أحد الأمرين أو الامور. فإذا صح كونه موردا للأحكام الوضعية صح كونه موردا للطلب الوجوبي وغيره من الأحكام التكليفية بطريق أولى ، انتهى.

قلت : يمكن الفرق بين ما هو مورد الأحكام الوضعية وبين ما نحن فيه ، فان الأوّل يمكن أن يدعى كونه من قبيل النكرة على رأي صاحب الفصول (١) بخلاف الثاني فانه ليس المراد به ذلك المعنى ، وإلاّ رجع إلى ما يختاره شيخنا قدس‌سره ، بل المراد به مفهوم أحدهما الصالح للانطباق على كل منهما. والفرق بينه وبين النكرة على رأى صاحب الفصول هو دخول

__________________

(١) راجع الفصول الغروية : ١٦٣ ، ١٠٢.

٢٧٨

الخصوصيات الشخصية بناء على كونه من قبيل النكرة ، وعدم دخولها بناء على كون المراد به هو مفهوم الأحد لا مصداقه. فيكون الفرق بينهما هو الفرق بين المفهوم والمصداق. وهذا هو الفارق بين القولين أعني مختار شيخنا قدس‌سره والقول الثالث. والذي هو مورد الأحكام الوضعية هو ناحية المصداق ، ولأجل ذلك يقولون بأن بيع أحد العبدين يكون من بيع المجهول ، ولو كان المراد به هو المفهوم الكلي لم يكن مجهولا لأنه كلي طبيعي منحصر بفردين ، فهو نظير بيع عبد كلي موصوف ، لكنهم يقولون إن البيع لا يقع على مفهوم أحدهما لأنه لا واقعية له ، ولا على مصداقه لأنه مجهول ، فراجع كلمات شيخنا قدس‌سره (١) وغيره في باب البيع.

ومن ذلك كله يظهر لك أن ما في الحاشية (٢) من اتحاد الوجه الأوّل مع هذا الوجه الثالث ، أشبه شيء بالخلط بين المصداق والمفهوم ، فان مرجع الوجه الأوّل إلى عالم المصداق ومرجع الوجه الثالث إلى عالم المفهوم ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر.

ثم إنا لو سلّمنا أن مفهوم أحد الشيئين من المفاهيم القابلة لتعلق الطلب بها ، إلاّ أنا نعلم قطعا أن هذا المفهوم أجنبي عن الملاك ، وإنما الذي هو منشأ الملاك والصلاح هو واقع أحدهما أو القدر المشترك الجامع بينهما ، فيدور الأمر بين الوجهين ، ويسقط الثالث ، والمتعين من الوجهين هو الثاني إن لم نقل بأن النزاع بين أرباب الوجهين المذكورين لفظي ، وإلاّ كان أحد الوجهين راجعا إلى الآخر.

__________________

(١) منية الطالب ٢ : ٣٨١.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ١ ) : ٢٦٨.

٢٧٩

قوله : لا إشكال في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر إذا اخذ الاقل بشرط لا ... الخ (١).

أفاد قدس‌سره فيما حررته عنه ما هذا لفظه : بشرط أن يكون ذلك أعني أخذ الأقل بشرط لا أمرا عرفيا يساعد عليه الذوق العرفي ليمكن حمل التخيير عليه ، ومنه التخيير بين القصر والاتمام كما نص عليه أغلب الفقهاء. أما مثل التسبيحة الواحدة والأكثر فمما لم تساعد عليه الأدلة ، ولأجل ذلك لم يفت به إلاّ البعض. ثم إن لازم ذلك أن يكون تحقق الامتثال بالأقل مراعى بالخروج عن العمل بدون إلحاق الأكثر ، لا أنه يتحقق بمجرد الفراغ من الأقل ، إذ لا يتحقق الأقل بشرط لا ما دام يمكنه إلحاق الأكثر.

قلت : يمكن تعيّن الأقل بالنية فيما يكون من العبادات ، فيتحقق الامتثال به من دون حاجة إلى دعوى المراعاة والخروج عن المحل ، سيما إذا قلنا بأنّ التخيير بدوي لا استمراري فتأمل ، لإمكان أن يقال إنا وإن قلنا بكون التخيير استمراريا إلاّ أنه في مسألة الأقل والأكثر لا بدّ أن يكون بدويا ، لأن العدول في الأثناء من أحد العدلين إلى الآخر يحتاج إلى تغيير ما وقع عمّا وقع عليه ، ولم يعلم جريان العدول في مثل ذلك لكونه على خلاف القاعدة.

وكيف كان ، فلا تكون المسألة حينئذ من باب التخيير بين الأقل والأكثر بل من باب المتباينين كما صرّح به شيخنا قدس‌سره فيما حرره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي قدس‌سره فراجع (٢). فلا يتوجه على شيخنا قدس‌سره ما في الحاشية (٣) من رجوع ذلك إلى المتباينين ، لأنه قدس‌سره قد صرح بنفسه بذلك ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٢) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٣٥.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٢٨٠