أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

مطلق المقدمة إلاّ أن المقدمة إذا كانت عبادة لا بدّ من اعتبار الايصال فيها ، لأن ذلك معتبر في عباديتها لتوقف كونها عبادة على الايصال.

وحاصل الجواب : هو اختيار الشق الثاني ومنع مدخلية الايصال الخارجي في عبادية المقدمة ، بل المعتبر فيها إنما هو الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بذيها ، وهو الذي عبّرنا عنه بقصد التوسل بها إلى ذيها. والمفروض أنه قد حصل ذلك عند الاتيان بتلك المقدمة. وبعد تحقق صحتها عبادة لا تنقلب عمّا وقعت عليه من الصحة بما حصل له من البداء المذكور.

نعم ، يبقى إشكال آخر وهو ما نقله (١) عنه قدس‌سره من انكشاف فساد الشرط قضية للارتباطية ، وقد عرفت الجواب عنه.

وبه يتّضح الجواب أيضا عن الاشكال لو قلنا بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ذلك هو أن استكشاف عدم واجدية تلك المقدمة لما هو شرط صحة كونها شرطا في الصلاة الواجبة مثلا ، لا يوجب فسادها بمعنى كونها رافعة للحدث.

نعم في الموارد التي يتخيل المكلف وجوب الوضوء ومشروعيته في حقه كما في مورد تخيل سعة الوقت مع فرض كونه في الواقع ضيّقا ، يكون الوضوء باطلا بحيث إنه لا يترتب عليه ارتفاع الحدث كما حقق ذلك في محله.

وإن شئت فقل : إن شرط الايصال بناء على المقدمة الموصلة وشرط لحوق المركب بتمامه بناء على كون الوجوب شرطيا نفسيا ضمنيا إنما

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، ولعل الصحيح : نقلته ، راجع صفحة : ٢٣٦ ].

٢٤١

يكون دخيلا في سقوط الأمر بالوضوء ، بمعنى أن سقوط الأمر بالوضوء يتوقف على الاتيان بالصلاة ، كما أن سقوط الأمر بالجزء السابق يتوقف على الاتيان بالأجزاء اللاحقة. أما نفس الوضوء أو الجزء السابق فهو صحيح في نفسه على وجه لو لحقه الباقي لسقط الأمر المتعلق به ، وهذا المقدار من الصحة كاف في كون الوضوء محصّلا لارتفاع الحدث الذي هو شرط في صحة الصلاة الاخرى.

ولا يخفى أنا لو التزمنا بأن الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة ، وأنه عند عدم الايصال لا تكون المقدمة متصفة بالوجوب ، لم ينفع في تصحيحها دعوى المحبوبية الذاتية اللاحقة لها من غير جهة توقف الواجب النفسي عليها كما في الحاشية (١) ، وذلك لوضوح أن تلك المحبوبية إنما هي باعتبار المطلوبية النفسية ، والمفروض أن الآتي بها في هذا الحال لم يقصد تلك الجهة وإنما قصد خصوص جهة التوصل بها إلى ذي المقدمة ، فلاحظ (٢).

ولا يخفى أن النزاع في وجه الثواب بالاستحقاق أو بالتفضل ، يمكن فيه إبطال الاستحقاق نظير إجارة الأجير ، كما أنه يمكن إبطال التفضّل بمعنى كونه غير لازم على المولى ، وحينئذ لا بدّ من ادعاء كون النزاع لفظيا وأنّ المراد هو أنّ إثابة المطيع مستحسنة عقلا ، وما يستحسنه العقل ويستقبح تركه يكون لازما على الحكيم. ولا فرق بين كون الأمر نفسيا وكونه غيريا إلاّ في أنّ الغالب في النفسي كونه عبادة وأنه لا يسقط بدون

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٦٣.

(٢) هذا ما كنا حررناه سابقا وهو تطويل بلا طائل ، والآن لمّا وصل البحث بنا إلى هذه المواقع في شوال ١٣٨٢ كان خلاصة المذاكرة هو ما تجده في الورقتين [ منه قدس‌سره. ومراده قدس‌سره من الورقتين ما يبتدئ بقوله : ولا يخفى أن النزاع ... إلى آخر الحاشية ].

٢٤٢

قصد الأمر بخلاف الغيري ، ولأجل ذلك قلنا إن الأصل في الأوامر العبادية ، بمعنى أنه لا بدّ فيها من كونها بداعي الأمر ، ولا يكون ساقطا بدونه إلاّ بدليل يكون من قبيل ذهاب الموضوع.

وحينئذ يمكننا القول بأنّ عبادية الطهارة يكفي فيها الأمر الغيري. وقول شيخنا قدس‌سره (١) إنه دور ، عين إشكال العبادية في النفسيات ، غايته أنه لمّا كان الغالب في الغيريات هو التوصل كان اعتبار العبادية فيها محتاجا إلى دليل. وقول صاحب الكفاية (٢) إن الأمر النفسي هو منشأ العبادية ، والاكتفاء بقصد الأمر الغيري لأنه لا يدعو إلاّ إليه غير نافع ، لأن ذلك إنما يقال فيما لو اخذ الأمر النفسي وصفا لا فيما اخذ داعيا.

وأما ما أجاب به شيخنا قدس‌سره (٣) من أنّ قوام الغيرية لو كان هو الأمر النفسي كيف يمكن قصد الأمر بدونه ، فيمكن الجواب بالاكتفاء بالقصد الاجمالي. ولعلّ هذه الجهة أعني عدم توقف الصحة على قصد الأمر النفسي هي العمدة في [ ردّ ](٤) دعوى توقف العبادية على أمرها النفسي.

أما ما أجاب شيخنا قدس‌سره (٥) أوّلا من عدم جريانه في التيمم ، فيمكن الجواب عنه بأن التيمم يصح في كل مورد صحت الطهارة المائية فيه ولو في مقام الاستحباب النفسي ، استنادا لمثل قوله عليه‌السلام « أحد الطهورين » (٦).

وأما ما أفاده عليه ثانيا من الاندكاك عند الأمر الغيري ، ففيه أنه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٤.

(٢) كفاية الاصول : ١١١.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

(٤) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٥) أجود التقريرات ١ : ٢٥٤.

(٦) وسائل الشيعة ٣ : ٣٨١ / أبواب التيمم ب ٢١ ح ١.

٢٤٣

لا وجه للاندكاك بعد أن كان الأمر الغيري في طول الأمر النفسي ، بمعنى كانت المقدمة هي الطهارة التي يؤتى بها امتثالا لأمرها النفسي. مضافا إلى أنّا لو سلّمنا الاندكاك لم يكن مانعا ، لأن اتحاد الأمرين يوجب إعطاء كل منهما ما يفقده الآخر فيكون الأمر نفسيا عباديا ، فتأمل.

وأما ما أفاده ثالثا ، فهو العمدة في رد توقف العبادية على قصد الأمر النفسي ليكون حالها حال الظهر بالنسبة إلى العصر.

ثم إنه قدس‌سره (١) اختار كون المصحّح للعبادية هو أمرها النفسي الضمني الشرطي ، واورد عليه بأن الشرط خارج ، وأجبنا فيما سبق (٢) بأنّ التقيد داخل وفعل القيد الذي هو الوضوء يكون سببا فيه ، فيكون من الأفعال التوليدية ، ويكون نفس الوضوء واجبا باعتبار عنوانه الثانوي أعني تحصيله للتقيد. ولكنه لا يخلو عن تأمل ، لأن المعتبر في الأفعال التوليدية أن لا يتوسط الاختيار بينها وبين ما يتولد منها ، والمفروض هنا توسطه بأن يختار إيقاع الصلاة بعد فعل الطهارة. مضافا إلى أنّه يشكل ذلك بأنه لا يلتفت إليه الكثير فكيف نصحّح عملهم ، إلاّ أن نكتفي إجمالا بقصدهم الأمر الغيري.

ثم إنه بعد هذا البيان لا يبقى موقع للأمر الغيري ، حيث إنّ ذات الوضوء صار مأمورا به نفسيا شرطيا في ضمن الأمر بالمركب ، ويكون حاله حال الأجزاء ولا يعقل كونها مقدمة للمركب ، وسيأتي (٣) في مبحث مقدمة الواجب تحقيق ذلك ، وهل أن الأجزاء والشرائط داخلة في النزاع أو لا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

(٢) [ تقدم الإيراد والجواب عنه في الصفحة : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ وما بعدها ].

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣١٣.

٢٤٤

وأما ما أفاده قدس‌سره بقوله : بقي في المقام شيء ... الخ (١) فلا يخفى أنا لو وجهنا العبادية والثواب بالأمر الغيري المقدمي المتعلق بأفعال الوضوء المحصلة للطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة ، فلا إشكال في البطلان في الصورة المفروضة ، أعني ما لو لم يعقب تلك الأعمال بالصلاة التي جاء بها من أجلها ، بناء على اعتبار الايصال في متعلق الأمر الغيري. أما بناء على عدم ذلك فلا ينبغي الاشكال في الصحة.

وكذلك الحال لو قلنا بأن المصحّح للعبادية هو قصد أمرها النفسي الاستحبابي ، غايته أنه عند وجوب الصلاة المشروطة بها يكون امتثال ذلك الأمر النفسي مقدمة للصلاة ، ويكون المأمور به الغيري هو امتثال ذلك الأمر النفسي ، فهو يمتثل الأمر النفسي المتعلق بالكون على الطهارة ، لأجل أن نفس الكون على الطهارة شرط في صحة الصلاة ، فلو لم يأت بالصلاة لم يكن ذلك موجبا لبطلان العبادية. وأقصى ما في البين هو استكشاف أن تلك العبادة لم تكن على طبق الأمر الغيري ، نظير ما لو جاء بالظهر امتثالا لأمرها مقدمة لحصول شرط العصر وبدا له في الاتيان بالعصر ، في أنه لا أثر له إلاّ استكشاف أن الظهر لم تقع على صفة الوجوب الغيري بناء على اعتبار الايصال في الواجب الغيري.

وربما اشكل على ذلك بأنه من قبيل داعي الداعي والتخلف فيه مضرّ بالصحة ، فانّ داعيه على الاتيان بتلك الأفعال هو امتثال أمرها النفسي ، وداعيه على امتثال أمرها النفسي هو امتثال أمرها الغيري ، فاذا لم يحصل امتثال الأمر الغيري بناء على اعتبار الايصال لم يحصل امتثال أمرها النفسي.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٣.

٢٤٥

وفيه : ما لا يخفى ، فان امتثال الأمر النفسي حاصل وجدانا غايته أنه تخلف الداعي إليه وهو التوصل به إلى ذي المقدمة.

وأما بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ففيه تأمل ، لأنّ عدم الاتيان بالصلاة يكشف أن تلك الأفعال الوضوئية لم تقع على صفة الوجوب النفسي الضمني الشرطي الذي كان هو المصحّح لعباديتها ، لعدم كون تلك الأفعال حينئذ من قبيل الأفعال التوليدية بالنسبة إلى ما هو الواجب الذي هو نفس التقيد. مضافا إلى ما عرفت من الاشكال في أصل كونه من قبيل الأسباب التوليدية ، إذ المعتبر في الأسباب التوليدية أن لا يتوسط الاختيار بينها وبين ما يتولد منها ، والمفروض هنا أن نفس الوضوء لا يترتب عليه المسبب وهو تقيد الصلاة إلاّ بأن يختار المكلف إيقاع الصلاة بعده ، وهذا لا يضر بما هو المسلّم من كون شروط الصلاة من الاستقبال والتستر ونحوها من قبيل الأفعال التوليدية ، لأن الأفعال التوليدية في هذه المرحلة هي إيقاع الصلاة إلى القبلة أو إيقاعها مع الساتر أو إيقاعها مع الطهارة ، وذلك كله حاصل من اختيار المكلف إيقاع الصلاة في هذه المراحل ، ويترتب عليه كون الصلاة إلى القبلة وكونها مع الساتر وكونها مع الطهور بلا حاجة إلى اختيار جديد بعد اختيار إيقاع الصلاة في الموارد المذكورة ، ويترتب ذلك التقيد ترتبا قهريا بعد فرض إقدام المكلف على التستر وعلى التطهر من باب كونه ممّا يتوقف عليه الواجب ، وبعد تمامية المقدمة وتحققها في الخارج يكون إيقاع الصلاة في موردها موجبا قهرا لترتب اتصاف الصلاة بأنها إلى القبلة مثلا ترتبا قهريا ، بلا توسط اختيار بعد اختيار ايقاع الصلاة في المورد المذكور ، وحينئذ لا مانع من كون ذلك من قبيل الأسباب التوليدية.

٢٤٦

ثم إنّ لازم ما ذكرناه من التصحيح بالأمر الغيري مع الالتزام بكون الفعل في نفسه مستحبا هو اندكاك أحدهما بالآخر ، لأن هذه الأفعال بنفسها مركب للأمر النفسي ، وهي بنفسها مركب للأمر الغيري ، وقد دل الدليل على اعتبار العبادية في كل من الأمرين. ففي حال كونها مقدمة للصلاة الواجبة تكون واجبة ، فلو أتى بها المكلف بداعي الأمر الوجوبي الغيري تصح ، ولو أتى بها بداعي الاستحباب النفسي صحت ، لكن بما أشار إليه شيخنا قدس‌سره (١) من كون الذات هو ذات الطلب الاستحبابي لا بحدّه. ومع صحتها تصح الاتيان بالصلاة بعدها. وفي الحقيقة أن الذي هو المطلوب النفسي والمطلوب الغيري هو هذه الأفعال لكونها محققة للحكم الشرعي الوضعي أعني الطهارة. وهذا الحكم بعد تحققه يكون موجبا لصحة الصلاة.

وبعبارة أخرى : كون الانسان واجدا لهذا الحكم الشرعي الوضعي مستحب في نفسه وواجب غيري لكونه شرطا في صحة الصلاة ، وهو مقدور للقدرة على إيجاد موضوعه الذي هو تلك الأفعال ، فان أتى بها بداعي الاستحباب النفسي صحت وحصل شرط الصلاة قهرا وإن لم يحصل بذلك امتثاله. ولو أتى بها بداعي الأمر الغيري صحت أيضا وصح الاتيان بالصلاة بعدها ، وكانت امتثالا لذلك الأمر الغيري وإن لم تكن امتثالا لذلك الأمر الاستحبابي النفسي. وهكذا الحال فيما لو كانت الغاية مستحبة كالوضوء لقراءة القرآن ، بل وهكذا لو كانت هناك غاية مستحبة وغاية واجبة مضافا إلى كونها مستحبة نفسيا ، يكون الامتثال والثواب تابعا للأمر الذي قصده.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٨ ، ٢٦١.

٢٤٧

ويمكن أن يقال : إن مركب الاستحباب النفسي وإن كان هو نفس تلك الأفعال إلاّ أن مركب الأمر الغيري هو امتثال ذلك الأمر النفسي ، فعند الاجتماع لا اندكاك ، فان لم يقصد إلاّ الامر النفسي الاستحبابي صحت وحصل المأمور به الغيري قهرا ، وإن قصد الأمر الغيري لا يكون محصّله إلاّ أنه يمتثل الأمر النفسي ، ويكون امتثاله له بداعي الأمر الغيري ، وحينئذ يحصل الامتثالان ويترتب الثوابان ، لكن لو لم يقصد إلا امتثال الأمر الغيري لم يكن ذلك صحيحا ، لأن الذي يحصل به امتثال الأمر الغيري هو امتثال الأمر النفسي ، ولا يجدي في ذلك ما أفاده في الكفاية (١) من الاكتفاء بقصد أمرها الغيري لأنه لا يدعو إلاّ إلى متعلقه الذي هو امتثال الأمر النفسي ، لما عرفت من أن امتثال الأمر النفسي لا يكون إلاّ بقصده داعيا لا صفة ، فتأمل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١.

٢٤٨

[ الواجب التعييني والتخييري ]

قوله : إنما الاشكال في تصويره من جهة أن الارادة التي هي من الصفات النفسانية لا بدّ وأن يكون متعلقها أمرا معيّنا غير مبهم ، فلا يعقل تعلقها بما له البدل وما هو مردد بين الأمرين ، والوجوه التي يذب بها عن المدعى امور ... الخ (١).

حاصل هذه الامور : هو أن الواجب هل هو مصداق أحدهما ، أو أنه هو مفهوم أحدهما ، أو أنه القدر الجامع بين الأفراد ، أو أن الواجب هو كل واحد منها مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وهذا الأخير مبني على أن لكل واحد من تلك الأطراف ملاكا يخصّه ولكن اتفق أن تلك الملاكات كانت متزاحمة في مقام الاستيفاء. فمع استيفاء أحدها لا يمكن استيفاء الملاك الآخر ، إما لذهاب الموضوع كما في دفن الميت في قبال تغريقه ، أو قتل الكافر بالسيف في قبال قتله بالحجر ونحوه ، ولازمه عدم قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين. وإما لأن تلك الملاكات لها خصوصية توجب لغوية الثاني مع استيفاء أحدها وإن كان المكلف متمكنا من الجمع بين الفعلين إلاّ أنّه يكون الثاني منهما لغوا مع استيفاء أحدهما. لكن هذا النحو من تزاحم الملاكات لا يتعين أن تكون نتيجته عند التساوي هو الأمر بكل من الفعلين مشروطا بعدم الآخر ، بل يمكن أن يقال إن النتيجة هي كون المؤثر هو أحد الملاكين ، ويلزمه أن لا يكون في البين إلاّ أمر واحد متعلق بأحد الفعلين

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٤٩

الذي هو مصداق أحدهما أو مفهوم أحدهما ، فيكون حاله حال ما لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد معيّن وكان ذلك الملاك المعيّن قابلا للحصول عليه بأحد الفعلين.

نعم ، هناك نحو آخر لتزاحم الملاكين في عالم التشريع ، وهو ما إذا كان كل من الفعلين له ملاك خاص به غايته أنّ كونه ذا ملاك يكون مشروطا حدوثا وبقاء بعدم وجود الفعل الآخر ، وحينئذ يكون وجود أحد الفعلين موجبا لعدم الملاك في الآخر لا أنه موجب لسقوط الملاك فيه ، بل يكون وجود أحدهما كاشفا عن عدم الملاك في الآخر من أول الأمر ، ولازمه أنه لا يكون المكلف به إلاّ واحدا وأنه عند تركهما يكون مكلفا بكل منهما ، كما أنه عند فعلهما معا يكون غير مكلف بشيء منهما ، لأن وجود كل منهما كاشف عن عدم الملاك في الآخر ، وفي صورة الاتيان بأحدهما يكون المكلف به هو ذلك الذي أتى به ، لأنه يكون كاشفا عن عدم الملاك في الآخر. ولعل القول بأن المكلف به هو ما يختاره المكلف مأخوذ من هذه الطريقة الوعرة.

وكيف كان ، أن هذه الطريقة لا ترجع إلى كون الملاك واحدا لتكون نتيجتها هو التكليف بأحدهما مصداقا أو مفهوما. وحينئذ تنحصر طريقة تزاحم الملاكين بالطريقة الاولى وتكون نتيجتها هي الوجه الرابع.

وشيخنا قدس‌سره (١) أشكل عليه أوّلا : أنه خلاف ظاهر الأدلة ، وأنه فرض محض. وثانيا : أنه مبني على إمكان الترتب. وثالثا : ما عرفت من أن الملاك المزاحم بمساويه لا يصلح لأن يكون باعثا للمولى على الأمر بذي الملاك ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٢٥٠

وحينئذ يتولد من ذلك أن الملاك الباعث على الأمر هو أحد الملاكين فتكون النتيجة هي الأمر بأحد الفعلين.

قلت : ويمكن التأمل فيما افيد أوّلا ، بأنا ليس كلامنا إلاّ في مقام الثبوت والامكان ، وأما مقام الاستظهار والاثبات فهو مقام آخر.

وأما فيما افيد ثانيا ، فبأنا قد صحّحنا الترتب فليكن الوجوب التخييري مبنيا عليه. ولا يضرنا بقاء من يقول ببطلان الترتب في حيرة من تصحيح الوجوب التخييري بعد البناء على انحصار توجيهه بما عرفت من الوجه المبني على صحة الترتب.

ثم إنه يمكن القول بأن الاشتراط فيما نحن فيه أجنبي عن الترتب ، لأن الاشتراط فيه واقعي ، بخلاف باب الترتب فانه إنما يكون في مرحلة حسن الخطاب. وبالجملة أن اشتراط المهم بعصيان الأهم لا يوجب سقوط الأهم ، فالاتيان بالمهم لا يوجب سقوط الأهم ، بخلاف ما نحن فيه فان الاتيان بأحدهما يوجب سقوط الآخر. ولا ضير في اشتراط بقاء التكليف بشيء بعدم الاتيان بمتعلق الآخر بحيث يكون بقاء الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، على وجه يكون الاتيان بكل منهما مسقطا للأمر بالآخر وإن كان لازمه أنه لو تركهما معا كان معاقبا على كل منهما لكونه حينئذ مكلفا بكل منهما ، وحاصله : أنه يكون في بدو الأمر دائما مكلفا بهما معا لكونه في مورد عدم كل منهما.

ثم إنه لو أتى بهما معا يكون كل منهما مسقطا للآخر مع فرض أن كلا منهما يكون امتثالا للأمر المتعلق به ، على إشكال في ذلك لكونه واقعا في مرتبة سقوط أمره ، فتأمل.

وأما ما أفيد ثالثا ، فيمكن التأمل فيه بأن تزاحم الملاكين في مقام

٢٥١

الجعل والتشريع ـ كما فيما نحن فيه ـ إن كان أحدهما أهم وجب الحكم على طبقه وسقط الآخر ، وإن تساويا فهل يكون التزاحم موجبا لسقوطهما معا والحكم بحكم آخر ، مثل ما لو تزاحم الصلاح في الفعل مع الفساد فيه مع فرض التساوي فانه ينتج حكما ثالثا وهو الاباحة ، أو أنه يوجب سقوط التعين ويتولد أمر بأحدهما ولا يكون المؤثر إلاّ أحد الملاكين على سبيل الاهمال كما يظهر من شيخنا قدس‌سره في هذا المقام ، أو أنه لا يسقط شيء من الملاكين بل يؤثر كل منهما أثره من التكليف بالمتعلق ، لكن يكون كل من التكليفين مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر كما هي طريقته قدس‌سره في إصلاح تزاحم المتساويين في مقام الامتثال بجعل كل من الاطلاقين مشروطا بعدم امتثال الآخر كما صرح به قدس‌سره في باب الترتب (١) وكما صرح به في الواجب الكفائي (٢) بناء على تعدد الملاكات والأغراض ، فراجع.

وبالجملة : لا يبعد الجزم بأنه لا يمكن الانبعاث عن أحد الملاكين الداعيين على التكليف ، وإنما يعقل انبعاث الآمر عن كل منهما إلى التكليف مشروطا بقاء بعدم الاتيان بمتعلق الآخر.

ولكن الذي يهوّن الخطب هو بعد هذه الطريقة ، أعني طريقة تزاحم الملاكين في مقام الجعل والتشريع الناشئة عن دعوى اجتماع الملاكين ، ويكفي في الجزم بعدمه هو ما يلزمه من فعلية كل من الطرفين عند عدم كل منهما على وجه يستحق عند تركهما معا عقابين ، ولو فعلهما دفعة واحدة يكون وجود كل منهما مسقطا لملاك الآخر أو كاشفا عن عدم الملاك له.

ولأجل ذلك نقول : إن الظاهر أنه ليس في البين إلاّ ملاك واحد يقوم به

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧٢.

٢٥٢

مصداق أحد الفعلين لا على التعيين ، أو يقوم به القدر الجامع بينهما. أما قيامه بمفهوم أحدهما ليكون التكليف تابعا لما يقوم به الملاك فهو أمر غير معقول ، لعدم معقولية قيام الملاك بمفهوم أحد الشيئين.

وحينئذ تنحصر الأقوال أو الاحتمالات بأحد الوجهين ، أعني كون الواجب وذي الملاك هو مصداق أحدهما ، أو كونه القدر الجامع بينهما ولا ريب في تعين الثاني ، إذ لا يعقل أن يكون الملاك الواحد ناشئا عن أحد أمرين متباينين على وجه تكون إحدى الخصوصيتين على البدل دخيلة فيه ، فيتعين الوجه الثاني. نعم حيث كان ذلك الجامع ممّا لا تصل إليه الأفهام العرفية توصّل الشارع المقدس في إيصال المكلفين إلى مقصوده بطريقة العطف بأو. وهذه الطريقة هي المائز بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي.

قوله : والمكلف قادر على إتيان الفعلين معا ... الخ (١).

قد تقدم (٢) أنه ربما يكون غير قادر على الجمع بينهما كما في قتل الكافر ودفن الميت.

قوله : فالفرق هو أن التزاحم هنا في الملاك وهناك في الخطاب ... الخ (٣).

تحقق توضيحه في محله (٤) وأن هذا راجع إلى باب التعارض وذلك إلى باب التزاحم ، ويعبّر عن الأوّل بالتزاحم الآمري وعن الثاني بالتزاحم المأموري.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في صفحة : ٢٤٩.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٤) لاحظ المجلّد الثالث من هذا الكتاب : ١٦٤ ، ١٧١.

٢٥٣

قوله : وكذا تعلق الارادة التشريعية [ بالكلي ، كالصلاة الغير المقيدة بزمان ومكان ] ... إلخ (١).

سيأتي (٢) إن شاء الله تعالى في بحث تعلق الأمر بالطبائع أن ما هو متعلق الارادة التكوينية هو بعينه يكون متعلقا للارادة التشريعية.

ومن الغريب ما في الحاشية (٣) من أن المعلوم بالاجمال هو إحدى الخصوصيتين لا القدر الجامع ، فراجعها وتأمل.

والحاصل : أن ما هو المنكشف في باب العلم الاجمالي إنما هو القدر المشترك لا واقع المصداق ، ولأجل ذلك نقول إنه لا ينجز إلاّ القدر المشترك دون الخصوصيات الخاصة الخارجة عن القدر المشترك. نعم إن ما وقع عليه العلم واقعا هو إحدى الخصوصيتين وهذا لا يعلمه العالم ، فهو من هذه الجهة نظير ما لو ضربت أحد الشخصين ، فانّ ما وقع عليه الضرب هو إحدى الخصوصيتين لا القدر الجامع.

والخلاصة : أنّ العلم الاجمالي إن نظرنا إلى من وقع عليه العلم واقعا يكون حاله حال من وقع عليه الضرب واقعا في كونه إحدى الخصوصيتين ، وإن نظرنا إلى ما انكشف لدينا بذلك العلم الاجمالي فهو لا يكون إلاّ القدر الجامع بينهما ، فلا يكون المعلوم بالعلم الاجمالي إلاّ القدر الجامع ، ويكون كل واحد من الخصوصيتين مجهولا لدينا ، ولأجل ذلك نقول إن العلم الاجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي بالنسبة إلى القدر الجامع والشك البدوي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٦ [ هذا المتن هو الصحيح المطابق للنسخة القديمة غير المحشاة لفظا وللحديثة مضمونا ، ولكن في الأصل سها قلم المصنف قدس‌سره ورسم العبارة هكذا : وكذا تعلق الإرادة التشريعية التي تتعلق بفعل الغير ... إلخ ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٠٧.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٢٥٤

بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين.

قوله : فالتخيير العقلي يحتاج إلى مقدمة ثالثة وهو وجود الجامع العرفي غير المتحقق في المقام (١).

هذا مسلّم ، ولكن ليس المراد من القول بالقدر الجامع هو كون التخيير عقليا ، بل المراد هو ما عرفت من الجامع الملاكي الذي توصل الشارع إلى إيصال العرف إليه بالتعبير بما هو مفاد لفظة « أو » ونحوها. ويكون هذا المقدار هو الفارق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي. نعم يبقى الكلام في الأمر الصوري في مثل قوله : صم أو أعتق أو أطعم ، وأنّ هذا الأمر هل تعلق بالقدر الجامع أو تعلق بأحدها على البدل. وهو أمر سهل ، فانّ أرباب هذا القول لا يريدون أن يقولوا إن مثل قوله « صم » قد تعلق بالقدر الجامع ، بل يقولون إنه إنما تعلق بنفس الصوم ، غايته أن قرينة العطف بأو تدل أنه تعلق لا على التعيين بل على نحو البدلية. ولعل هذا هو مراد القائلين بأن الواجب هو أحدها على البدل ، وحينئذ لا يكون النزاع إلاّ لفظيا.

وقد حررت عنه قدس‌سره في بيان الايراد على هذا الوجه ما هذا لفظه : إن ما حررناه في تحرير هذا الوجه من امتناع صدور الواحد عن الكثير وان كان حقا ، إلاّ أنه لا ينتج كون الوجوب متعلقا بالقدر الجامع بين العدلين ، إذ أقصى ما في ذلك أن يكون كل من العدلين مشاركا للآخر في كونه محصّلا للغرض الباعث على الأمر ، اعني المصلحة التي تنشأ عنها الأحكام الشرعية وأن اشتراكهما في ذلك كاشف عن اشتراكهما في قدر جامع يكون كل منهما مؤثرا ذلك الأثر بواسطة ذلك الجامع ، إلاّ أن ذلك لا يستلزم كون

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٥٥

الوجوب متعلقا بذلك الجامع ، لما عرفت غير مرة من أن الأغراض والمصالح التي هي ملاكات الأحكام مما يكون متعلقات تلك الأحكام بالنسبة إليها من قبيل المقدمات الاعدادية دون الأسباب التوليدية ، غير داخلة تحت الارادة والاختيار ، فلا يصح أن تقع متعلقا للارادة التشريعية ، وحينئذ فمجرد اشتراك العدلين في كون كل منهما محصّلا للغرض والملاك الباعث على الأمر لا يوجب رجوع التخيير بينهما إلى التخيير العقلي ، لعدم صحة تعلق الأمر بذلك الغرض كي يكون ذلك الغرض هو الجامع بينهما وهو المتعلق للوجوب الوارد صورة على كل واحد منهما.

ولو اريد من ذلك أن الوجوب متعلق بالقدر الجامع بين العدلين وليس هو نفس الغرض ، بل القدر الجامع بينهما المستكشف من اشتراكهما في محصلية الغرض ، ولا حاجة إلى معرفته تفصيلا بنفسه بل يكفي معرفته إجمالا بواسطة أثره ، فلا يكون الجامع المدعى كونه متعلقا للأمر هو نفس الغرض كي يرد عليه أن الأغراض لا يصح أن تتعلق بها الارادة التشريعية ، بل يكون الجامع بينهما هو ذلك المستكشف من وحدة أثرهما ، وذلك الجامع هو الذي تعلق به الطلب.

ففيه : أن الجامع الذي يتعلق به الطلب لا بدّ أن يكون جامعا قريبا عرفيا بحيث يعرفه العرف ، دون العقلي الصرف الذي لا نقول به إلاّ من جهة إلجاء البرهان العقلي القائل بامتناع صدور الواحد بما هو واحد عن الاثنين بما هما اثنان.

والحاصل : أنه لا بدّ في كون الجامع متعلقا للتكليف من كونه مقدورا داخلا تحت إرادة العبد واختياره ، ومن كونه قريبا عرفيا. فان كان المراد أن الجامع هو الغرض ، ورد عليه أنه فاقد لكلا الشرطين ، وإن كان المراد أن

٢٥٦

الجامع هو محصّل الغرض ، ورد عليه أنه فاقد للشرط الثاني ، انتهى.

قلت : لا ريب أن المراد هو الثاني ، بمعنى أن الأمر إنما يرد على ما يكون محصّلا للملاك ، والمفروض أن محصّل الملاك هو القدر الجامع بين العدلين ، فتكون الخصوصية البدلية أجنبية عن مورد الأمر ، ويكون مورد الأمر هو القدر الجامع. وفي مقام الثبوت يكون الوجوب أو الأمر متعلقا بذلك القدر الجامع.

نعم في مقام الاثبات وإعلام المكلفين بهذا الوجوب لمّا لم يكن ذلك الجامع عرفيا توصل الشارع إلى تفهيمهم بالأمر به بالأمر بكل واحد من العدلين على سبيل البدل ، وبهذه الواسطة كان التخيير شرعيا ليصلوا بذلك إلى الواجب الحقيقي ، وإلاّ فلو كان ذلك الجامع ممّا تناله المعرفة العرفية وتعلق الأمر به ابتداء كان التخيير عقليا. وحينئذ يكون روح التخيير الشرعي راجعا بجعل العقل إلى التخيير العقلي. فان كان المراد هو الاكتفاء بهذا الأمر الصوري الذي التجأ الشارع إليه لأجل التوصل إلى إيصال عرف المكلفين إلى ما هو مطلوبه الحقيقي فهو حق لا ريب فيه ، لكن بعد البرهان على أن الخصوصية أجنبية عن ملاك الحكم وأن ما هو المحصّل للملاك هو القدر الجامع ، نضطر إلى القول بأن الجامع هو القدر الجامع بينهما وان كنا عاجزين عن التعبير عنه بعنوانه ، ولأجل ذلك قلنا إنا بعد الاطلاع على حقيقة الواقع حسبما قرره البرهان العقلي يكون النزاع حينئذ أشبه بالنزاعات اللفظية.

والتحقيق : أن هذا النزاع ليس من قبيل النزاعات اللفظية بل إنه نزاع جوهري ، حيث إن صاحب الكفاية قدس‌سره (١) القائل بالقدر الجامع يقول إن الأمر

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٠ ـ ١٤١.

٢٥٧

وارد على نفس ذلك القدر الجامع وان لم نعرفه بنفسه لكفاية معرفته بآثاره. وحينئذ يكون التخيير بين أفراد ذلك القدر الجامع تخييرا عقليا.

وشيخنا قدس‌سره (١) وإن التزم بذلك القدر الجامع إلاّ أنه حيث كان ذلك القدر الجامع غير معروف لدى العرف ولا نعرفه إلاّ بذلك البرهان الذي لا يعرفه إلاّ الأوحدي من أهل الفلسفة ، لم يتمكن الشارع من ايراد وجوبه على نفس ذلك القدر الجامع ، بل إنه قد اضطر إلى أن يورده على أفراده على البدل ، فلا يكون الواجب في عالم اللوح المحفوظ إلاّ نفس تلك الأفراد على البدل ، فلا يكون التخيير إلاّ شرعيا ، هذا.

ولكن المطلب بعد محتاج إلى تأمل ، فانّ الذي ينبغي للمكلف على مسلك الكفاية عند إتيانه باحدى خصال الكفارة كالعتق مثلا أن يأتي به بداعي الأمر الواقعي المفروض كون متعلقه هو القدر الجامع. ولا يكفي الاتيان به بداعي الأمر المتعلق بالعتق لعدم كونه أمرا شرعيا ، بل هو على مسلك الكفاية في صورة الأمر. وهذا بخلاف مسلك شيخنا قدس‌سره فانه بناء عليه يكون اللازم في الصورة المفروضة هو قصد الأمر بالعتق لا الأمر المتعلق بالقدر الجامع ، لأن المفروض أن الأمر الشرعي لم يتعلق بذلك القدر الجامع.

اللهم إلاّ أن يقال : إنه لو قصد الأمر الواقعي المتعلق بالعتق بما أنه من خصال الكفارة صح على كلا المسلكين. أما على مسلك الكفاية فلأن الأمر المتعلق بالقدر الجامع متعلق ومنحل إلى الأمر بكل واحد من مصاديقه بمقدار ما في كل واحد منها من طبيعة القدر الجامع ، وأما على مسلك شيخنا قدس‌سره فلأن الأمر حسب الفرض تعلق بكل واحد من مصاديقه غايته أنه

__________________

(١) تقدم في صفحة : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، وراجع أجود التقريرات ١ : ٢٦٧.

٢٥٨

على البدل ، فتأمل.

ثم إنّه في الحاشية : أن امتناع صدور الواحد من الكثير إنما يختص بصدور الواحد الشخصي من الكثير ، وأما الواحد النوعي فلا مانع من صدور فرد منه من شيء وصدور فرد آخر منه من شيء آخر من دون أن يكون بينهما جامع حقيقي أصلا (١).

ولا يخفى أن ذلك لا يكون نقضا على القاعدة المذكورة ، لأن هذا الفرد الصادر من هذا الشيء مباين للفرد الصادر من شيء آخر ، فأين ذلك من صدور الشيء الواحد عن المتعدد. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لأن الملاك شيء واحد ، فلا بدّ أن يكون أحد العدلين الموجد له مشاركا للعدل الآخر الموجد له في قدر جامع ، وليس لنا فردان من الملاك ينوجد أحدهما بأحد العدلين وينوجد الآخر بالعدل الآخر.

وبالجملة : إن تباين الفردان من الملاك كانت المسألة من وادي تعدد الملاك بتعدد موجده ودخلت في تزاحم الملاكات ، وإن لم يتباين الفردان بل لم يكن لنا إلاّ ملاك واحد من جميع الجهات يوجده هذا العدل تارة ويوجده ذلك العدل الآخر اخرى ، لم يكن لنا بدّ من إرجاع العدلين إلى قدر جامع يكون هذا القدر الجامع هو المؤثر في كلا الحالين.

قوله : ولا بأس في افتراقهما في بعض الامور ... الخ (٢).

لا يخفى أن التعبدية والتوصلية ليست من صفات الارادة التشريعية ، وإنما هي من صفات متعلقها ، لما حقق في باب التعبدي والتوصلي (٣) من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٦٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٦٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٦٦ ، راجع أيضا صفحة : ٤٥١ ـ ٤٥٣ من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

٢٥٩

عدم الاختلاف بينهما بالهوية الذي هو حاصل الوجه الثاني من وجوه الفرق بين التعبدي والتوصلي ، وأن هذا الفرق من ناحية الأمر ، وقد تقدم إبطاله وأن الاختلاف بينهما في المتعلق على التفصيل المذكور في محله من كون ذلك من قبيل التقييد الشرعي أو التقييد العقلي الناشئ عن أخصية الغرض أو من قبيل تعدد الأمر.

وأما ما أفاده قدس‌سره من أن الارادة التكوينية لا تتعلق إلاّ بالشخص ، ففيه تأمل ، فانها وإن كانت علة لوجود ما تعلقت به إلاّ أن متعلقها إنما هو الطبيعة على ما هي عليه من سعة أو ضيق. نعم بعد تأثيرها وجود ذلك المعلول لا بدّ أن يكون الوجود شخصا خاصا ، فهي لا تختلف عن الارادة الشرعية في عدم التعلق إلاّ بالطبيعة.

قوله : فان الغرض المترتب على كل واحد من الفعلين إذا كان أمرا واحدا كما هو ظاهر العطف بكلمة « أو » ... الخ (١).

إن كلمة « أو » تعطي مدخلية الخصوصية الخاصة لكل من الفعلين ، ولكن لا في التأثير في غرض واحد وملاك واحد لاستحالة ذلك ، فالعطف بلفظة « أو » كاشف عن تعدد الغرض والملاك. ولو فرضنا أنه لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد يقوم به الجامع بينهما لكن لم يكن الجامع عرفيا تعيّن على الآمر الأمر بكل واحد منهما على البدل بما هو مفاد لفظة « أو » ، وحينئذ لا تكون لفظة « أو » على ظاهرها من مدخلية الخصوصية البدلية ، بل لا يكون ذكر الخصوصية البدلية حينئذ إلاّ لمجرد التوصل في الحصول على الجامع.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٢٦٠