أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

المقدمات فيه بل لزوم تحصيلها ، أما الثاني فواضح ، لأن المفروض تحقق وجوب ذي المقدمة. وأما الأول فلما عرفت من أن المسلّم من جريان قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا هو ما إذا تحقق الوجوب ، وقد تحقق في هذا القسم الرابع.

ولكن يمكن أن يقال : إن ذلك أعني لزوم حفظ القدرة في زمان الواجب إنما يلتزم به فيما لو كانت القدرة شرطا عقليا ، أما لو كانت شرطا شرعيا فلا مانع من تفويتها ولو في زمان الواجب ، لأنه من قبيل تبديل الموضوع وإخراج نفسه من موضوع إلى آخر ، كما في السفر في نهار رمضان قبل الزوال ، فتأمل.

ثم إن الظاهر أن الاستطاعة عبارة اخرى عن القدرة بمنطقة أوسع ، فلا يتصور فرض للصورة الثالثة وهي القدرة قبل زمان الاستطاعة.

وحاصل البحث وخلاصته هو : أن المقدمة المفوتة إن دل الدليل الشرعي على وجوبها قبل وجوب ذيها من نص أو اجماع أو قرينة ولو مثل لزوم لغوية وجوب ذلك الواجب لو لا إيجابها قبلناه ، وصحّحنا ذلك الوجوب الشرعي الوارد على تلك المقدمة بأنه من قبيل متمم الجعل ، أما لو بقينا نحن وتلك المقدمة المفوتة فلا يمكننا الحكم بوجوبها شرعا بدعوى أنه يلزم الشارع أن يوجبها حفظا للملاك ، لأن ملاك وجوب تلك المقدمة شرعا ليس هو مجرد وجود الملاك الآتي الكاشف عنه الوجوب الآتي الذي سيرد على ذي المقدمة ، بل لا بد أن يكون ذلك الملاك الآتي عند الشارع بدرجة من الاهمية على وجه يلزمه المحافظة عليه بايجاب تلك المقدمة ، وهذا أمر علمه عند الشارع لا عندنا.

١٢١

كما أنا لا يمكننا الحكم بوجوب تلك المقدمة عقلا من باب المحافظة على الملاك الشرعي في التكليف الآتي المتعلق بذي المقدمة ، لما عرفت من أن العقل لا يحكم علينا بلزوم المحافظة على ملاكات التكاليف الشرعية ، بل إنّ ذلك إنما هو وظيفة الشارع خاصة.

وأما استكشاف ذلك الوجوب الشرعي الوارد على تلك المقدمة من حكم العقل بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما يظهر من الكلمات في هذا التحرير ، ففيه :

أوّلا : أن هذا الحكم العقلي على تقدير تسليمه إنما هو في المرحلة المتأخرة عن ثبوت التكليف ، فان هذا الحكم العقلي راجع إلى بيان أن من فوّت تلك المقدمة مستحق للعقاب لكونه عاصيا بسوء اختياره ، وأن هذا الامتناع الناشئ عن تقصيره في المقدمة لا يكون موجبا للمعذورية. وأين هذا الحكم العقلي الراجع إلى تسجيل العصيان واستحقاق العقاب على ذلك المكلف من كونه كاشفا عن حكم شرعي ، وهو وجوب تلك المقدمة شرعا الذي هو المنشأ في تسجيل ذلك العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

وثانيا : أن ذلك لو تم لجرى في كل مقدمة يكون التقصير من ناحيتها موجبا لسلب القدرة على الواجب النفسي.

وثالثا وهو العمدة : أن هذه القاعدة لم يرد بها نص ولم يقم عليها إجماع ، أعني أنها ليست بثابتة شرعا ، وإنما هي من باب حكم العقل باستحقاق العقاب. ونحن في شك من هذه الحكومة العقلية فيما نحن فيه أعني ما لو لم يحصل فعلا شرط الوجوب ، وأن المكلف لو ترك مقدمة في ذلك الحال يكون بنظر العقل مستحقا للعقاب ، ويكون هذا التعذر الناشئ

١٢٢

عن ترك تلك المقدمة قبل حصول شرط وجوب ذيها يكون موجبا لاستحقاق العقاب ، وأن حكم ذلك المكلف من حيث استحقاق العقاب حكم ما لو كان متمكنا من الفعل في وقته وتركه اختيارا. نعم لو كان ذلك التفويت بعد حصول شرط الوجوب لكان من الممكن إلحاقه بالعاصي المتعارف ، أما لو كان ذلك التفويت أو التقصير في تحصيل القدرة قبل تحقق شرط وجوب ذي المقدمة كما هو المدعى فنحن في شك من كونه بحكم العاصي خصوصا فيما يكون القدرة فيه شرطا شرعيا.

والحاصل : أنه ليس لنا إلاّ حكم واحد عقلي وهو لزوم الاطاعة والمنع من المعصية ، وأما حكم العقل بلزوم الاستعداد للاطاعة وهو المعبّر عنه بلزوم تحصيل القدرة وحرمة تفويتها في الظرف الذي لا أمر فيه ولا نهي ، وإنما كل ما في البين أنه يتوجه إليه التكليف فيما بعد ، فذاك مما يمكن منعه وأن العقل لا حكومة له في ذلك.

وأما مسألة الهوي من الشاهق فالظاهر أنه عصيان واحد لتكليف واحد وهو إلقاء النفس في التهلكة أو إتلاف النفس ، فانه منهي عنه وقد فعله بأول إخلاء نفسه من الشاهق ، فليس في البين تكاليف متعدّدة يكون امتثالها ممتنعا بواسطة سوء الاختيار بتقصيره في إزالة القدرة على امتثالها في وقتها من أول ما ألقى نفسه من ذلك الشاهق.

ولو سلّمنا ذلك وأنّ في البين تكاليف متعددة لقلنا إنّ إخلاء النفس من ذلك الشاهق لمّا كان هو المقدمة المفوّتة ، وكان قد دلّ الدليل على حرمته ولو بعموم ( لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(١) كان ذلك ممّا

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٥.

١٢٣

قدمناه (١) من أنه لو ثبت بالدليل الشرعي التكليف بتلك المقدمة لكان مقبولا موجّها بكونه من قبيل متمم الجعل.

وأما المثال الذي افيد من حكم العقلاء بلوم تارك حمل الماء لقاطع المفازة فهو مسلّم ، إلاّ أن ذلك لمّا كان من قبيل متمم الجعل بمعنى أن ذلك الشخص القاطع لتلك المفازة تكون له ارادة لشرب الماء مشروطة بالعطش في تلك المفازة ، وملاك تلك الارادة هو حفظ نفسه من التلف ، كانت إرادته المتعلقة بحمل الماء معه من قبيل إرادة تلك المقدمة المفوّتة في كونها متممة لغرضه من الأمر المشروط بما سيأتي من الزمان الآتي ، فيكون أقصى ما في هذا البرهان هو أن الشارع لا بد أن تتعلق إرادته بتلك المقدمة. وأين هذا من المدعى وهو أن عقل العبد يلزمه بالاتيان بتلك المقدمة محافظة على إرادة الشارع الآتية فيما بعد ذلك.

والحاصل : أن هذا برهان على أن الشارع لا بدّ أن تتعلق إرادته بالمقدمة المزبورة من باب متمم الجعل ، لأنه يعلم أنه عند حصول الشرط فيما يأتي من الزمان لا يتمكن من الأمر بها وإرادتها من المكلف لفرض أنه غير قادر حينئذ ، وأين هذا من أنه لو لم يأمر الشارع بتلك المقدمة كان العقل حاكما بها تنفيذا للإرادة الشرعية الآتية.

ثم لا يخفى أن هذا الوجوب الوارد على المقدمة قبل زمان وجوب ذيها الذي نعبّر عنه بمتمم الجعل الذي قلنا إنه موقوف على ثبوته شرعا ، لا بد أن يكون مشروطا بتوجه الوجوب النفسي إليه فيما بعد ، لكنه ليس من قبيل الشرط المتأخر لأن الشرط إنما هو العنوان المنتزع من تلك النسبة

__________________

(١) في صفحة : ١٢١ ( قوله : وحاصل البحث ... ).

١٢٤

الاستقبالية ، أعني كونه بحيث يتوجه إليه التكليف النفسي فيما بعد وهذا النحو من العناوين الانتزاعية لا يتوقف على وجود المنتزع منه ، بل هو كما عرفت فيما تقدم (١) في بعض مباحث الشرط المتأخر من لوازم تحقق النسبة الخبرية الاستقبالية ، فانّ من يكلّف فيما بعد بتكليف ينطبق عليه فعلا أنه مكلف في الاستقبال. ولا تنافي بين كون الحمل فعليا والمحمول هو حاصل النسبة الاستقبالية ، فان من يقوم غدا ينطبق عليه فعلا أنه قائم في غد انطباقا حقيقيا على أن يكون « الآن » قيدا وظرفا للنسبة الحملية التطبيقية و « الغد » قيدا وظرفا للنسبة الوقوعية ، على ما حرر في المشتق (٢) من أن الاستقبال لو اخذ ظرفا للحدث أعني باعتبار نسبته الوقوعية يكون حمل العنوان المأخوذ منه منطبقا فعلا على الذات انطباقا حقيقيا.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة في أخذ العنوان المنتزع ممّا هو متأخر شرطا فيما هو متقدم جارية في كل ما نضطر إليه من هذا القبيل ، مثل ما سيأتي (٣) في كيفية وجوب الصوم بناء على كون الامساك في الجزء الأول من النهار مشروطا وجوبه ببقاء الشرائط في الجزء الأخير منه ، إذ لا محيص لنا حينئذ من أن نقول إن الشرط هو كون المكلف يبقى على حالته إلى آخر النهار.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنه قدس‌سره في حواشيه على التيمم من العروة (٤) منع من الاراقة وأجاز إبطال الوضوء ولو بعد دخول الوقت ، وذلك لا يخلو

__________________

(١) بل فيما سيأتي في صفحة : ١٣ من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

(٢) في صفحة : ٢٤٤ من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

(٣) بل فيما تقدم في صفحة : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) ٢ : ١٦٨ / المسألة ١٣.

١٢٥

من إشكال شرحناه فيما علقناه على العروة ، فراجع (١).

قوله : هذا في غير التعلم من المقدّمات التي لها دخل في القدرة ذاتا أو وصفا ، وأما هو فحاله حال جميع الطرق في أن وجوبه طريقي لتنجيز الواقع عند الاصابة ، ومخالفته لا تكون موجبا للعقاب ... إلخ (٢).

لا يخفى أن وجوب التعلم إن كان في قبال إجراء البراءة قبل الفحص وحينئذ يكون محصل وجوب التعلم هو لزوم الفحص ، فهذا ممّا لا ريب فيه لتنجز التكاليف بمجرد احتمالها إما بالعلم الاجمالي أو بنحو آخر ممّا يذكر في باب لزوم الفحص في باب البراءة في الشبهات الحكمية ، ومن الواضح أن ذلك لا دخل له في لزوم التعلم قبل حصول شرط الوجوب ، وليس هو بلازم عقلا وإنما هو في مقام عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص. نعم في موارد دوران الأمر بين المحذورين حيث لا يمكنه الاحتياط ربما نقول بأنه يلزمه الفحص.

ومن موارد وجوب التعلم موارد أحكام السهو والشكوك في باب الصلاة ، فان تلك الأحكام وإن كانت مشروطة بموضوعاتها أعني السهو والشك إلاّ أنه يجب تعلمها قبل الدخول في الصلاة ليتسنّى له نية إتمام الصلاة عند الشروع فيها ، فتكون مقدمة وجودية بالنسبة إلى وجوب النية. ولكن هذا الاشكال جار في الشكوك المبطلة ، فانه مع احتمالها لا يمكنه نية الاتمام إلاّ مع الركون إلى أصالة عدم طروّها ، وحينئذ يكون هذا الاصل

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٢٩ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

١٢٦

جاريا في الشكوك التي لا يعلم حكمها.

نعم ، قد نقول إنه واجب قبل وقت الصلاة إما بالدليل الشرعي الخاص من باب متمم الجعل أو من باب استكشاف وجوبه من جهة الابتلاء به غالبا على وجه يكون إيجاب النية في الصلاة عند وقتها لغوا صرفا ما لم يحافظ الشارع على الاقتدار عليها قبل الوقت بايجاب تعلمها من باب متمم الجعل ، نظير ما أفاده قدس‌سره (١) في مسألة الخروج إلى الحج مع الرفقة مع كون الوجوب الوارد على الحج مشروطا بالزمان المتأخر.

أما وجوب تعلم الأحكام قبل حصول شرطها كما في الصبي المراهق على وجه يكون متفقها في أحكامه ودينه حتى اصول العقائد فذاك يحتاج إلى دليل قوي ، نعم ربما يتجه برهان الغلبة في بعض الأحكام ، لكن الحكم الكلي بوجوب تعلم كل حكم يبتلى به فيما بعد كما هو محل الكلام أول الكلام.

فقد تلخص لك : أن ملاك وجوب التعلم في مسألة البراءة هو رفع احتمال العقاب ، وملاكه في مسألة الشكوك ونحوها هو وجوب نفس النية المتوقفة على العلم بتلك الأحكام ، وأما وجوب التعلم قبل البلوغ وقبل حصول شرط الوجوب فعلى الظاهر أنه لا يكون ملاكه إلاّ الملاك في المقدمات المفوتة. وهكذا الحال في وجوب تعلم أحكام الصلاة من الشكوك وغيرها قبل وقت وجوبها ، نعم من ناحية النية يمكن إصلاحه بالاستصحاب ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا بقوله : ولكنه لا يخفى أن الاستصحاب ... الخ (٢). لكن من ناحية اخرى وهي وجوب العمل بحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣١ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

١٢٧

الشك في ظرفه مع عدم علمه وجهله به عن تقصير ، يكون غير معذور ولا ينفعه الاستصحاب ، وفيه تأمّل.

ومنه يظهر أنه لو جرى الاستصحاب الموضوعي العدمي في مثل الاستطاعة لم يجب بقية المقدمات.

والأولى في ضبط موارد وجوب التعلم أن يقال : إن ذلك إما أن يكون في قبال البراءة ونعبّر عنه بلزوم الفحص ، وليس هو بواجب شرعا ولا عقلا. نعم إنّه شرط في الرجوع إلى البراءة ، فانه لا يصح الرجوع إليها إلاّ بعد الفحص وعدم العثور على ثبوت ذلك التكليف الذي يراد نفيه بالبراءة ، وهو مورد ما افيد من أن الأحكام تتنجز بمجرد احتمالها وأنه طريقي صرف.

والظاهر أنه عقلي لا شرعي ، وهو منحصر بموارد الالتفات إلى نفس ذلك التكليف مع الشك فيه وإمكان الاحتياط ، فيكون في مرتبة الاحتياط ويكون المكلف مخيرا بينه وبين الالتزام بالاحتياط.

ولو لم يكن الاحتياط ممكنا كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين فلا شبهة أيضا في توقف التخيير على الفحص ، فيكون الفحص قبل الرجوع إليه لازما أيضا بملاك تنجز التكليف الواقعي بمجرد الاحتمال. ويمكن أن يقال إنه بملاك تحصيل القدرة على امتثال التكليف الواقعي المحتمل في البين ، فان ترك التعلم في مثل ذلك يوجب عدم القدرة على امتثال التكليف الواقعي ، فان امتثاله في مثل ذلك يكون متوقفا على العلم التفصيلي به.

أما لو كان ترك التعلم موجبا لعدم الالتفات إلى الحكم في ظرفه

١٢٨

بحيث إنه لو لم يتعلم لم يحصل له الالتفات إلى نفس الحكم على وجه يكون عدم التفقه والتصدي لتعلم الأحكام موجبا للقطع بعدم وجوب الفعل الفلاني وعدم حرمة الفعل الفلاني ، ويكون ترك التعلم موقعا له في الجهل المركب كما هو الحال في أغلب العوام ، فانهم لأجل تقصيرهم في التعلم لا يلتفتون إلى وجوب كثير من الواجبات ولا إلى حرمة كثير من المحرمات على وجه أنهم لا يلتفتون إلى احتمال التكليف في مثل ذلك ولا يتمكنون من الاحتياط لأنه فرع الالتفات والشك. ولا ريب في وجوب التعلم عليهم ، لكن لا بملاك تنجز التكاليف بمجرد احتمالها ، لما عرفت من أنهم لا يحتملون التكليف في مثل ذلك ، ولا بملاك مفوّت الرجوع إلى الأصل النافي على الفحص ، بل بملاك مفوّت القدرة ، فان ترك ذلك التعلم موجب للجهل المركب الذي هو القطع بعدم الحكم ، ومع فرض القطع بعدم الحكم لا يكون امتثاله مقدورا.

نعم ، يمكننا القول بأن نفس التكليف الواقعي يكون منجزا ، لا من جهة احتماله بل إنه بنفسه يكون منجزا في مورد إمكان حصول العلم به ولو بواسطة التفقه المنجر إلى العلم به بعد فرض كونه قاطعا بعدمه من جهة جهله المركب. مضافا إلى إمكان القول بأن المكلف وإن كان في ظرف الحكم قاطعا بعدمه بمعنى كونه غافلا عنه ، لكنه عند ما يشعر بأنه داخل تحت قلم التكليف يحتمل على الاجمال أنّ هناك تكاليف تأتي ربما يكون في ظرفها غافلا عنها ، وهذا المقدار كاف في تنجز تلك التكاليف وكونها منجزة ولو بمجرد الاحتمال ، هذا.

مضافا إلى الأدلة الشرعية الدالة على وجوب التعلم والتفقه في الدين

١٢٩

فيكون وجوبه حينئذ وجوبا شرعيا من باب متمم الجعل ، ويكفي في الدليل عليه الأدلة العامة الدالة على وجوب التفقه مثل آية النفر (١) ونحوها مثل حكاية الحساب بقولهم هلاّ تعلمت (٢) ونحو ذلك مما يستفاد منه وجوب التفقه ، فان ثبوت هذا الوجوب يكون مصححا لاستحقاق العقاب على المخالفة الناشئة عن الجهل المركب الناشئ عن التقصير في أصل التفقه والتعلم. ويلحق بذلك موارد الالتفات والشك في الحكم مع عدم إمكان الاحتياط ، كما عرفت من موارد دوران الأمر بين المحذورين على وجه لو كان قد تفقه لعرف أن الواقع هو الوجوب مثلا أو هو الحرمة. ومن ذلك ما لو عرف أنّ في البين حكما لكنه لا يعرفه ما هو مثل ما لو علم أنّ من أكل في نهار رمضان عامدا عليه شيء لكنه لا يعرفه ما هو على وجه لا يمكنه الاحتياط فيه لكثرة محتملاته ، بحيث إنه لو كان قد تفقّه وتصدى لتعلم الأحكام الشرعية لعرفه أنه الكفارة المخيرة ، فيكون ترك ذلك منه ولو قبل الابتلاء به بل قبل الابتلاء بوجوب الصوم موجبا لعدم قدرته على امتثاله ، فان لزوم مثل هذا التعلم ليس بملاك تنجز الأحكام بمجرد احتمالها بل هو بملاك متمم الجعل ، وهو داخل في كليات الأمر بالتفقه.

وهكذا الحال في أحكام الخلل في أبواب العبادات ومنها الصوم والحج والطهارات وأهمها الصلاة ، فان الملاك في الجميع واحد وهو توقف القدرة على امتثال تلك التكاليف على ذلك التعلم والتفقه ، أو هو كون الأحكام الواقعية لغوا بدون ذلك التعلم.

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ / ١٠ و ١٨٠ / ٣ ونصّه : « أفلا تعلّمت ».

١٣٠

وعلى أيّ حال نحن في غنى عن بحث ملاك وجوب ذلك التعلم بعد فرض ثبوته بالأدلة العامة التي عرفت أنها من قبيل متمم الجعل ، وفي أحكام الخلل من باب الصلاة خصوصية أخرى توجب التعلم وهي توقف نية إتمام الصلاة عليه. ولكن يمكن أن يكون الملاك في الجميع هو تنجز الأحكام بمجرد احتمالها ، ويكون حكم الشارع بوجوب التفقه من باب الارشاد ، لكن تمامية هذا الحكم العقلي قبل تحقق شرط التكليف محل تأمل سيما في مورد كون المكلف غافلا في ظرف الحكم.

فقد تلخص لك من هذا كله : أن لزوم التعلم في الموارد التي يمكن فيها الاحتياط لا يكون إلاّ من قبيل الشرط في الرجوع إلى الأصل النافي ، وأن ملاكه هو تنجز الأحكام بمجرد احتمالها ، وفي الموارد التي لا يمكن فيها الاحتياط لا يكون إلاّ بملاك متمم الجعل ، فلا يكون وجوبه إلاّ شرعيا ويتوقف على الدليل عليه ، ويكفي فيه الأدلة العامة الدالة على وجوب التفقه ، من دون فرق في ذلك كله بين أن يكون قبل حصول شرط التكليف أو يكون بعده. وقد عرفت أنه يمكن أن يكون الجميع من باب تنجز الاحتمال ولو قبل الوقت وقبل الفحص حتى في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، بل حتى في صورة القطع بالعدم والغفلة عند الوقت عن احتمال التكليف ، فان ذلك كله من باب تنجز التكاليف بمجرد وجودها ، لا من قبيل تحصيل القدرة على امتثالها. نعم إن ذلك لا يكون إلاّ بمتمم الجعل وإيجاب التعلم شرعا قبل الوقت ، لا من باب حكومة العقل لامكان المنع من حكومة العقل في أمثال ذلك.

أما مسائل الخلل فليست هي من باب توقف نية الاتمام وإلاّ جاء

١٣١

الاشكال في الشكوك المبطلة ، بل هي أيضا من باب متمم الجعل شرعا ، ومجرد نية الاتمام يسهل الأمر فيها بالاعتماد على أصالة عدم طروّها ، على إشكال فيما تعم به البلوى ويكثر الابتلاء به كما سيأتي (١) توضيحه إن شاء الله تعالى. والخلاصة في هذا الأصل : أنه إن كان لأجل إحراز نية الاتمام فلا غبار عليه كما في احتمال طروّ الشك المبطل ، وإن كان لدفع احتمال العقاب لو صادف الشك وخالف الحكم الواقعي ، وهذا على الظاهر لا مانع منه فيكون مؤمّنا على وجه لو اتفق لم يكن مستحقا للعقاب ، ويكون ذلك بمنزلة استصحاب الحجية في حكومته على حكم العقل بقبح التشريع الذي هو أثر ملاك واحد.

وهذا كله إنما يكون في الشكوك التي لا يمكن الاحتياط فيها ، أما ما يمكن فيه الاحتياط ولو بالاتمام والاعادة مثلا عند الشك في مبطلية العارض فالظاهر خروجه عمّا نحن فيه ، ويكون حال الفحص فيه حاله بالنسبة إلى الرجوع إلى البراءة.

قوله (٢) : ثم إن وجوب التعلم كما عرفت طريقي والعقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ... إلخ (٣).

قد حررت عنه قدس‌سره في هذا المقام ما لعله أبسط وأوضح ، فالأولى نقل عين ما حررته عنه قدس‌سره وهو ما يلي :

قال قدس‌سره : ثم لا يخفى أنّا قبل هذا كنا نشترط في وجوب التعلم أحد أمرين : أحدهما العلم بأنه يتوجه إليه التكليف فيما بعد أو ما يقوم مقامه من

__________________

(١) في الحاشيتين اللاحقتين.

(٢) [ وسيأتي تعليق آخر على هذه العبارة في الصفحة ١٤٠ ].

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٣٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٣٢

الوثوق والاطمئنان. ثانيهما كون ذلك التكليف ممّا تعم به البلوى ، وأنه ما لم يكن في البين أحد الأمرين لا يكون التعلم واجبا. وحيث تنقّح عندنا الآن أن وجوب التعلم طريقي كوجوب الفحص يدور مدار احتمال التكليف واقعا ، كان وجوب التعلم عندنا ممّا يحكم به العقل بمجرد احتمال توجه التكليف فيما بعد وإن لم يكن معلوما أو مما تعم به البلوى. فلا بد لنا من تغيير ما كنا رسمناه في رسائلنا العملية من اشتراط وجوب التعلم بأحد الأمرين المذكورين ، وقد تقدم أن استصحاب عدم حصول الشرط فيما بعد لا ينفع في رفع ذلك الحكم العقلي ، لما حققناه في محلّه من أن الحكم العقلي يكون على نحوين :

أحدهما : ما نصطلح عليه بأنه ذو الحكمين كقبح الظلم فانه ذو حكمين : أحدهما واقعي وهو حكم العقل بقبح ما يكون ظلما واقعا ، ثانيهما طريقي وهو حكم العقل بقبح ما يحتمل كونه ظلما واقعا تحرزا من الوقوع في الظلم الواقعي ، ولأجل ذلك كان الأصل في باب الدماء والفروج والأموال هو لزوم الاجتناب.

النحو الثاني من الحكم العقلي : ما نصطلح عليه بأنه ذو الحكم الواحد كحكم العقل بقبح القول بما لا يعلم ، فانّ مجرد احتمال عدم المطابقة للواقع كاف في الحكم العقلي بالقبح سواء كان في الواقع مطابقا للواقع أم لم يكن ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد عقلي وموضوعه هو عدم العلم.

والنحو الأوّل من الأحكام العقلية تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية كالاستصحاب لأن المدار فيه على الواقع ، فينفع فيه ما يكون

١٣٣

محرزا للواقع نافيا كان أو مثبتا ، وباحراز الواقع يرتفع الحكم الثاني الذي هو طريقي محض.

أما النحو الثاني فلمّا كان حكما واحدا واقعيا وكان موضوعه هو عدم العلم ، كان الشك وعدم العلم كافيا في تحققه سواء صادف الواقع أو لم يصادفه ، ولازم ذلك أنه لا تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية سواء كانت مطابقة لذلك الحكم العقلي أو كانت مخالفة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن حكم العقل بلزوم التعلم فيما نحن فيه لا يدور مدار الواقع ، بل يدور مدار احتمال توجه التكليف فيما بعد ، فيكون لزوم التعلم حكما عقليا واقعيا وموضوعه احتمال توجه التكليف فيما بعد ، سواء صادف الواقع أو لم يصادف ، وحينئذ لا تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية ، انتهى.

قلت : لا يقال كيف قلتم إن حكم العقل بوجوب التعلم حكم واقعي وقد تقدم منكم أنه طريقي ، وبالجملة : أن مقتضى ما تقدم منكم من أن وجوب التعلم طريقي أن يكون حكم العقل بلزوم التعلم من النحو الأوّل دون النحو الثاني.

لأنا نقول : مرادنا ممّا تقدم من كون حكم العقل طريقيا أنه طريق إلى التكليف الشرعي فلا ينافي كونه واقعيا في نفسه. وبالجملة أن الطريقية التي ذكرناها في النحو الأوّل إنما هي الطريقية إلى حكم العقل وليست هي الطريقية إلى الحكم الشرعي ، ومن الواضح أن حكم العقل بلزوم التعلم لم يكن طريقيا إلى حكم عقلي بل إنما كان طريقيا إلى الحكم الشرعي ، وذلك أعني كونه طريقا إلى الحكم الشرعي لا يوجب كونه من النحو الأوّل بل هو

١٣٤

من النحو الثاني ، ولا منافاة بين كونه في نفسه واقعيا وبين كونه طريقا إلى الحكم الشرعي.

ثم لا يخفى أنا لو سلمنا أن حكم العقل بلزوم التعلم من قبيل النحو الثاني لم يكن ذلك مانعا من جريان الأصل الاحرازي الحاكم بعدم الابتلاء بذلك الحكم ، مثل استصحاب عدم طروّ الشك أو السهو ونحوهما من موضوعات أحكام الخلل ، ومثل استصحاب عدم حصول الاستطاعة فيما بعد ، فانّ مثل هذا الأصل يحرز له عدم ابتلائه بموضوع ذلك الحكم الذي هو جاهل به فعلا ، فلا يلزمه حينئذ تعلم ذلك الحكم. وليس ذلك إلاّ من قبيل استصحاب الحجية الرافع لموضوع قبح التشريع الذي هو القول بما لم يعلم ، وإن منعنا من الرجوع إلى استصحاب عدم الحجية لكونه من قبيل الاحراز التعبدي لما هو محرز بالوجدان. ومثل أصالة عدم الحجية فيما نحن فيه (١) الأصل الذي يحرز له ابتلاءه بموضوع ذلك التكليف [ فانه ](٢) لا يجري ، مثل ما لو وجد الاستطاعة في أوّل العام واحتمل بقاءها إلى أيام الخروج ، إذ لا أثر لجريانه إلاّ لزوم التعلم المفروض أنه محرز بالوجدان ، على تأمل في ذلك أيضا ، لأن هذا الأصل لو جرى يكون موجبا لاخراج المورد عن كونه محتمل التكليف وإدراجه فيما يكون التكليف به محرزا ، وذلك كاف في جريانه.

وبالجملة : أن تارك التعلم استنادا إلى أصالة عدم حصول شرط الوجوب فيما بعد يكون معذورا عقلا ، إذ ليس وجوب التعلم أقوى من

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة « نعم » حذفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١٣٥

وجوب المقدمة عند الشك في وجوب ذيها وجريان أصالة البراءة من وجوبه ثم يتبين وجوبه بعد عدم التمكن من مقدمته وبقاء وقته ، إذ لا شبهة في كونه معذورا مع كونه عند الترك يحتمل أنّ ذا المقدمة واجب واقعا وأنه بعد ذلك يحتمل أن يثبت وجوبه ، فكما ساغ نفي تلك الاحتمالات بأصالة البراءة فلم لا يسوغ نفي احتمالات الشرط فيما نحن فيه بالاستصحاب ، وبذلك يرتفع تعبدا ما هو موضوع حكم العقل بلزوم التعلم ، وهو احتمال توجه التكليف الذي لا يعلم حكمه فعلا ، فلا يتم ما أفيد من أن موضوع ذلك الحكم العقلي هو الاحتمال الوجداني ، الذي لا ينفع في رفعه النفي التعبدي لكونه من قبيل النفي التعبدي لما هو محرز بالوجدان كما حررته عنه قدس‌سره (١).

ثم إنه قدس‌سره أفاد فيما حررته عنه (٢) وهذا نصه :

وأما وجوب التعلم فهو وإن أوجب تركه ترك الواجب في وقته إلاّ أنه ليس من باب الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لما تقدم ويأتي في محله إن شاء الله تعالى من أن الجهل بالحكم لا يوجب عدم القدرة على الواجب ، لامكان الاتيان به وإن كان جاهلا بحكمه ، فان الأحكام الواقعية يشترك فيها الجاهل والعالم. بل هو داخل في باب آخر وهو الباب الجامع بين وجوب تعلم الأحكام والنظر في المعجزة والفحص عن الأحكام في الشبهات الحكمية وفي بعض الشبهات الموضوعية والفحص عن المخصص والمقيد والمعارض لما في اليد من الدليل ، إلى غير ذلك من موارد وجوب التعلم والفحص ، فان جميع هذه الموارد داخلة في باب

__________________

(١ و ٢) في صفحة : ٢٠٤ [ منه قدس‌سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

١٣٦

واحد ومندرجة في مناط واحد وهو تنجز الأحكام بمجرد وجودها واقعا ، بل بمجرد احتمال وجودها أو احتمال توجهها فيما بعد ، وأن العقل لا يرى الجهل الناشئ عن التقصير في التعلم والفحص في أمثال ذلك عذرا مؤمّنا من العقاب على مخالفة الواقع لو صادفت ، فيكون وجوب التعلم والفحص في جميع ما هو من هذا القبيل طريقيا لا يترتب على مخالفته سوى العقاب على مخالفة الواقع لو صادفه والتجري لو لم يصادف ، انتهى.

وكنت علّقت على ذلك بما حاصله : أنه إنما يتم فيما لو كان التكليف موجودا واقعا ، فان وجوب الفحص حينئذ يكون توأما مع إيجاب الاحتياط ، ويكون الوجوب حينئذ شرطيا بمعنى أنه لا يصح الرجوع إلى البراءة إلاّ بعد الفحص. أما ما يكون الوجوب فيه مشروطا بشرط لم يحصل بعد ففيه تأمل حتى في صورة العلم بحصول الشرط فيما سيأتي ، إلاّ أن يتمم ذلك بقاعدة الامتناع بالاختيار أو ببرهان متمم الجعل ، لكن الظاهر منه قدس‌سره هو إتمام الأمر من غير هاتين الجهتين ، هذا.

ولكن الانصاف أن العقل لا يحكم بمعذورية الجاهل المقصر في التعلم ولو كان ذلك بواسطة ترك التعلم قبل الوقت ، ولا أقل من عموم قوله عليه‌السلام في مقام حكاية محاسبة الجاهل الذي يقال له « هلاّ تعلّمت » (١) فانه شامل لمن ترك التعلم قبل الوقت ، بل لا يبعد أن يكون ذلك هو الغالب.

لكن قد يقال : إنه على تقدير تمامية هذا الاستدلال يكون أيضا من باب متمم الجعل لا من باب أن العقل حاكم وحده بعدم المعذورية. نعم

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ / ١٠ ، ١٨٠ / ٣ ونصّه : « أفلا تعلّمت ».

١٣٧

ترك التعلم قبل البلوغ لا يكون موردا لذلك الحكم العقلي أو الشرعي المتعلق بوجوب التعلم بل بوجوب المعرفة على إطلاقها حتى في اصول العقائد ، إذ لا أقل من التمسك فيه بحديث رفع القلم (١) ، وكونه قرين المجنون والنائم الذي لا يكون ما يصدر عنه من فعل أو ترك منشأ لشيء من الآثار.

وبالجملة : الظاهر أن الصبي لا يجب عليه التعلم سواء قلنا إنه شرعي من باب متمم الجعل أو قلنا إنه عقلي طريقي ، فانه لا يصحح عقابه على ما يأتي من التكاليف ، لاطلاق رفع القلم عنه الموجب أنه لا يترتب على أفعاله وتروكه عقاب. فلا يمكن القول بأن حكم العقل بعدم معذوريته يكون مخصصا لحديث رفع القلم كما افيد فيما حررته عنه قدس‌سره (٢) ، وكذلك لا يتم ما افيد فيما حررته (٣) من كون جهله الناشئ عن ترك التعلم قبل البلوغ جهل تقصير لا قصور ... إلخ ، فانّ تقصيره منحصر بما إذا تمكن من التعلم بعد البلوغ فتركه اختيارا.

وبالجملة : الظاهر أنه لا أثر لتروك الصبي وأفعاله له حتى في تصحيح العقاب على مخالفة ما يتوجه إليه بعد البلوغ. وما افيد من التخصيص لحديث رفع القلم محل تأمل ، إذ لا مخصص إلاّ هذا الحكم العقلي المدعى وهو عدم معذورية الجاهل ، وقد عرفت أنه لا يجري في حق من كان منشأ جهله هو عدم التعلم قبل البلوغ مع فرض كونه غير متمكن منه بعده.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١.

(٢) في صفحة : ١٩٢ [ منه قدس‌سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

(٣) في صفحة : ١٩٨ [ منه قدس‌سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

١٣٨

ثم لا يخفى أن الذي يظهر من بعض إفاداته قدس‌سره أن وجوب التعلم شرعي طريقي من باب متمم الجعل ، قال فيما حررته عنه (١) :

وأما وجوب التعلم فليس هو من هذا الوادي أعني الايجاب الغيري ، بل هو من قبيل وجوب الفحص في الشبهات الحكمية وبعض الشبهات الموضوعية ، ووجوب الاحتياط في موارد وجوبه شرعا وسائر الأوامر الطريقية كما في الأمارات والاستصحابات المثبتة للتكليف ، فان جميع تلك الأوامر وإن كانت من قبيل متمم الجعل إلاّ أنها لا تكون إلاّ طريقية ولا يترتب عليها شيء أصلا سوى أنها لو أصابت الواقع كانت إطاعتها إطاعة لذلك الواقع ومخالفتها مخالفة لذلك الواقع ، فيكون الثواب والعقاب على ذلك الواقع ، ولا يكون الأمر الطريقي إلاّ موصلا إلى ذلك الواقع ، ولو أخطأت لم يكن هناك إلاّ الانقياد أو التجري ، من دون فرق في هذه الجهة بين كون الأمر الطريقي هو وجوب التعلم أو وجوب الفحص أو وجوب الاحتياط أو وجوب العمل بالأمارة أو الاستصحاب ، فليست هذه الأوامر مما يدخل تحت قاعدة الامتناع بالاختيار بل هي أوامر طريقية شرّعت لتتميم الغرض من الواجبات الواقعية ، حيث إن تلك الوجوبات الواقعية لمّا لم يمكن تأثيرها في موارد تلك الأوامر الطريقية كان على الشارع المقدس جعل هذه الأوامر الطريقية لتؤثر تلك الوجوبات الواقعية في مواردها ، فتلك الأوامر الطريقية من قبيل متمم الجعل بالنسبة إلى تلك الأحكام الواقعية ، انتهى.

ولا يخفى أنه قدس‌سره (٢) اختار في باب الفحص قبل البراءة أن العقاب

__________________

(١) في صفحة : ٢٠٠ [ منه قدس‌سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٩ وما بعدها.

١٣٩

يكون على ترك التعلم لكن عند مصادفة التكليف الواقعي ، وهذا لا ينافي ما أفاده هنا ، لأن ما ذكره هناك راجع إلى ما ذكره هنا ، غايته أن العقاب إنما يستحق لو أصاب ذلك الطريق الواقع واتحد به ، فيكون العقاب حينئذ على المجموع أعني الواقع المتحد مع الأمر الطريقي ، في قبال من يقول إن العقاب على مخالفة نفس الطريق أو يقول إنه على مخالفة نفس الواقع. نعم الذي يظهر منه قدس‌سره هنا أنّ وجوب التعلّم عقلي ، بخلاف ما يظهر منه قدس‌سره هناك فانه ظاهر في كونه شرعيا.

قوله (١) : ثم إنّ وجوب التعلم كما عرفت طريقي والعقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، وهذا فيما علم المكلف أو اطمأن بالابتلاء في غاية الوضوح ، وكذا فيما كان الابتلاء عاديا ولو كان نفس العادة على خلاف العادة كمسائل الشكوك ... إلخ (٢).

الأولى نقل ما حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام (٣) لأنّه أوضح ، قال : فقد تلخص أنه يجب التعلم بمجرد احتمال الابتلاء بالتكليف احتمالا عقلائيا نعم لو كان احتمال ابتلائه بالتكليف احتمالا بعيدا خارجا عن مجرى العادة لم يحكم العقل بوجوب تعلم أحكامه (٤) ، وربما يعدّ من ذلك أحكام الشكوك والسهو الواقع في الصلاة بالنسبة إلى من يثق من نفسه عدم ابتلائه

__________________

(١) [ وقد تقدم تعليق آخر على هذه العبارة في الصفحة : ١٣٢ ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) صفحة : ٢٠٤ [ منه قدس‌سره ، ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

(٤) وهذا هو ما تقدمت الاشارة إليه [ في صفحة : ١٣٢ ـ ١٣٣ ] فيما نقلناه عنه أنه عدل عنه ، وهو موافق لما في المسألة من الوسيلة ، وأما أحكام الشكوك فقد تعرض لها في المسألة التي هي بعد هذه المسألة [ منه قدس‌سره ].

١٤٠