أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٦٢

الزمان المتأخر شروطا في التكليف الموجود في الزمان المتقدم.

فالأولى أن يجعل ثمرة هذا النزاع هو الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند سقوط العموم ، كما لو شككنا في القطعة التي هي ما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، فانه بناء على كون المقيد بالزمان هو الحكم يمكن استصحاب ذلك الحكم إلى تلك القطعة بناء على أخذه ظرفا لا قيدا ، بخلاف ما لو قلنا إن الزمان قيد للمتعلق الذي هو الامساك ، فانه بعد سقوط ذلك العموم للشك في شموله لتلك القطعة لا يمكن الرجوع إلى استصحاب نفس الحكم في تلك القطعة ، بناء على أن رجوع هذا القيد إلى المتعلق يكون موجبا لأن محصل الحكم هو وجوب كل واحد من تلك الامساكات ، فيكون كل واحد موضوعا برأسه ويكون الاستصحاب من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر.

اللهم إلاّ أن يقال : إن رجوع العموم الأزماني إلى المتعلق لا يكون موجبا لتقيد كل واحد من ذلك الفعل بزمان خاص ، بل لا يخرج بذلك عن الظرفية ، فلا يكون في البين حينئذ مانع من الاستصحاب حتى بناء على رجوع القيد فيما نحن فيه إلى المتعلق ويكون النهار ظرفا للامساك لا للوجوب ، فراجع ما حررناه في تنبيهات الاستصحاب (١) ، وتأمل.

والحاصل : أنه لا ريب في ارتباطية الصوم وأنه لا يتبعّض من حيث الاطاعة والعصيان بحيث إنه لو أمسك في أول النهار ثم إنه أفطر في آخره أو بالعكس لم يكن مطيعا فيما أمسك فيه ، وهذا المقدار مسلّم لا ريب فيه ، فانا لو قلنا بأن الزمان قد اخذ ظرفا للوجوب لا للامساك يكون لنا وجوبات متعددة حسب تعدد الآنات ، أو يكون لنا وجوب واحد مستمر

__________________

(١) في المجلّد العاشر من هذا الكتاب.

١٠١

من أول الفجر إلى الغروب ، وعلى أيّ حال يكون لنا إمساكات متعددة حسب تعدد تلك الوجوبات ، أو إمساك واحد مستمر حسب استمرار ذلك الوجوب ، وحينئذ نقول إنه لا ريب في ارتباطية تلك الامساكات ، أو ارتباطية أجزاء ذلك الامساك الواحد المستمر.

وبالجملة : أنا لو أخذنا الزمان قيدا في الوجوب لم يكن ذلك موجبا للخروج عن مقتضى هذه الارتباطية التي عرفت أنها مسلّمة لا ريب فيها ، وعليه نقول إن ارتباط بعض الأجزاء ببعض تارة يكون في مقام الاطاعة والعصيان فقط ، فلو طرأ على بعض هذه الأجزاء ما يوجب سقوط التكليف بها ولم يكن اعتبار ذلك البعض على وجه يكون تعذره موجبا لتعذر المجموع بحيث يكون سقوط التكليف به موجبا لسقوط الأمر بالباقي ، ففي مثل ذلك لا يكون مقتضى هذه الارتباطية إلاّ مجرد التلازم في مقام الاطاعة والعصيان ، من دون أن يكون سقوط التكليف في بعضها موجبا لسقوطه في الباقي.

أما لو كان اعتبار ذلك البعض المتعذر مطلقا ويعبّر عنه بالركن ، كما في مطلق الطهور بالنسبة إلى الصلاة ، فان تعذره يوجب تعذر الصلاة ، ويكون سقوط الأمر به موجبا لسقوط الأمر بالصلاة ، ففي مثل ذلك تكون الارتباطية موجبة للتلازم بين التكليفين في مقام البقاء والسقوط ، مضافا إلى التلازم في مقام الامتثال ، وقد فهمنا من مجموع الأدلة الواردة في باب الصوم أن كل جزء من أجزاء النهار لو طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف بالامساك فيه كان ذلك موجبا لسقوط الأمر به في باقي أجزاء النهار ، كما يستفاد ذلك من أدلة اشتراط عدم الحيض والجنون والسفر ، فيكون نسبة كل إمساك من تلك الامساكات إلى باقيها كنسبة الركن إلى المركب في أن

١٠٢

سقوط التكليف به يكون موجبا لسقوط التكليف بالباقي.

ويمكن أن يقال : إنه لا حاجة في إثبات الارتباطية بين التكاليف في باب الصوم إلى الأدلة الخاصة ، بل إن تعلق الوجوب بهاتيك الامساكات يقتضي سقوطه عند تعذر بعضها ، إذ لا يمكن القول ببقاء التكليف بالنسبة إلى الباقي إلاّ بدليل خاص مثل ما ورد في باب الصلاة من أنها لا تسقط بحال (١) بخلاف باب الصوم فانه لم يرد فيه مثل ذلك الدليل ، فبقي على ما يقتضيه التركيب من انحلال المركب وسقوط أمره بسقوط بعض أجزائه ، وعلى أي حال يكون الوجوب في الآن الأول ( بناء على كون الزمان قيدا للوجوب ) مشروطا باجتماع الشرائط فيه وفيما بعده من الآنات ، فلا بد حينئذ من الالتزام بكون الشرط هو التعقب فرارا من الالتزام بالشرط المتأخر ، كما هو الحال فيما لو قلنا بأن الزمان قيد للامساك لا للوجوب ، ومقتضاه هو أن لا يكون الوجوب في الآن الأول متحققا في حق من يكون في آخر النهار خارجا عن هذه الشروط ، فلا وجه حينئذ لوجوب الكفارة عليه ، بل لا وجه للالتزام بكون الامساك واجبا عليه فيما لو علم بأنه في آخر النهار يطرأه زوال بعض الشرائط.

اللهم إلا أن يستفاد من الاجماع ونحوه وجوب الامساك عليه وجوبا احتراميا لا أنه صيام حقيقي ، والشاهد على ذلك هو عدم التزامهم بوجوب القضاء في مثل الموت والجنون ونحوهما من الأعذار التي لا مورد للقضاء فيها. أما الكفارة فمقتضى القاعدة هو عدم وجوبها في مخالفة ذلك الحكم

__________________

(١) لم يرد نص بهذا اللفظ ، نعم ورد في المستحاضة : « ولا تدع الصلاة على حال » ، راجع وسائل الشيعة ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

١٠٣

الاحترامي ، إلاّ أن يدعى أنه يستفاد من أدلتها التوسعة لمثل هذه الجرأة على المخالفة وان لم يكن ذلك الذي خالفه وهو الأمر بالامساك صوما حقيقة (١).

وقد استدل الجماعة قدس‌سرهم لوجوب الكفارة عليه في بعض فروع المسألة وهي مسألة السفر بعد الافطار العمدي فرارا من الكفارة بما اشتملت عليه صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم في حديث طويل ، قالا : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيما رجل كان له مال وحال عليه الحول (٢) فانه يزكّيه ، قلت له : فان وهبه قبل حلّه بشهر أو يومين ( بيوم )؟ قال عليه‌السلام : « ليس عليه شيء أبدا » وقال زرارة عنه عليه‌السلام أنه قال عليه‌السلام : « هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوما في إقامته ثم خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره إسقاط الكفارة التي وجبت عليه » وقال عليه‌السلام : « إنه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ، ولكنه لو وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء ، بمنزلة من خرج ثم أفطر ... » (٣) والمشار إليه بقوله عليه‌السلام « هذا » هو الفرض الأول وهو من أراد الفرار من الزكاة بعد تعلقها بتمام الحول عليه.

ولم أتوفق للوجه في دلالة هذه الجملة الشريفة لما نحن فيه ، فان المفروض فيها هو السفر في آخر النهار ، ولا إشكال في أنه لا يسقط وجوب الصوم فيما قبله ، وإنما الذي يسقطه هو السفر قبل الزوال ، فان

__________________

(١) وسيأتي [ في صفحة : ١٠٧ ] ان شاء الله تعالى انه يمكن التفكيك ، فيكون الوجوب السابق شرطا في الوجوب اللاحق دون العكس. ويتفرع على ذلك أنه يجب الامساك في السابق وعليه الكفارة ولو تعقبه العذر [ منه قدس‌سره ].

(٢) « ثم وهبه ». عن الجواهر في زكاة النقدين في اشتراط الحول [ جواهر الكلام ١٥ : ١٨٨ ، ذكره في عدم وجوب الزكاة في السبائك ] : ولعله سقطت كلمة « ثم وهبه » من قلم النسّاخ أو اكتفى عنها بدلالة ما بعدها. [ منه قدس‌سره ].

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ١٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٨ ح ١.

١٠٤

ذلك هو محل الكلام في أنه لو طرأ هل يوجب سقوط الكفارة ، دون ما لا يكون مسقطا للصوم الذي هو السفر بعد الزوال.

ولم أعثر على من استشكل في دلالة الرواية من هذه الجهة إلاّ المرحوم الحاج الشيخ عبد الله المامقاني قدس‌سره في حواشيه (١) على ما كتبه والده قدس‌سره في الصوم. ولم أعثر لهذا الاشكال على إشارة من أحد الاصحاب أو تلويح إليه ، ولعلهم فهموا منها أن قصد الفرار بالسفر لا يكون رافعا للكفارة. وحاصله : أن الرواية تعطي المقابلة بين السفر والهبة وبين الزكاة ووجوب الكفارة ، فان كانت الهبة قبل أوان وجوب الزكاة والسفر قبل أوان وجوب الكفارة فلا شيء عليه ، وإن كان السفر بعد أن وجبت عليه الكفارة وكانت الهبة بعد أن وجبت عليه الزكاة لم يكن ذلك مسقطا لهما.

والحاصل : أنه يستفاد من مجموع الرواية أن المدار في وجوب الكفارة على عدم كون موجب الكفارة قبل السفر ، سواء كان السفر قبل الزوال أو بعده. ولا يخفى أن استفادة هذا الاطلاق من الرواية مع تصريحها بأن السفر في آخر النهار يحتاج إلى فقاهة قوية يقصر عنها ذهني القاصر ، فان المقابل للهبة في الرواية إنما هو السفر في آخر النهار ، وهو الذي يكون بعد تحقق الكفارة لأنه واقع بعد أن تم وجوب الصوم عليه في تمام النهار ، فلا يكون وقوعه رافعا للكفارة. ولا تعرض للرواية للسفر قبل الزوال ، بل قد يقال إن تقييد السفر المحكوم عليه بأنه لا يسقط الكفارة بكونه في آخر النهار لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أنه لو كان قبل الزوال لم يكن محكوما عليه بأنه لا يسقط الكفارة ، بل كان محكوما عليه بأنه مسقط لها

__________________

(١) منتهى مقاصد الأنام في شرح شرائع الإسلام : ٤٨٦ / تعليقة رقم ٣٧.

١٠٥

ويكون حاله حال من وهب قبل وجوب الزكاة عليه.

وتقريب هذا البحث بنحو أوضح هو أن يقال : بناء على أخذ الزمان فيما نحن فيه في متعلق الحكم الذي هو الامساك ، لا وجه لكون اجتماع الشروط في الجزء الأخير معتبرا في الوجوب من الأول إلاّ ارتباطية أجزاء تلك الامساكات ، والارتباطية في حدّ نفسها لا تقتضي كون سقوط التكليف في بعض الأجزاء موجبا لسقوطه في البواقي ، كما في مثل تعذر بعض أجزاء الصلاة غير الركنية ، وإنما تكون مقتضية لذلك فيما هو من قبيل الركن كالطهور بالنسبة إلى الصلاة. ولا دليل فيما نحن فيه على ركنية كل واحد من تلك الامساكات إلا قاعدة عدم تبعض الصوم المستفادة من مجموع النصوص والفتاوى ، التي من جملتها وجوب قضاء تمام اليوم الذي طرأ العذر في أثنائه ، إذ لو أمكن التبعيض لكان الواجب هو القضاء في حدّ طروّ العذر ، دون ما تقدمه ممّا تم فيه الامساك جامعا لباقي الشرائط.

وهذه القاعدة أعني قاعدة عدم تبعّض الصوم مسلّمة عندهم لا ريب فيها ، ولولاها لما تمّ لنا هنا ما افيد من أنه على تقدير رجوع الزمان إلى المتعلق الذي هو الامساك كان مقتضاه هو الشرط المتأخر والجواب عنه بالتعقب.

وحينئذ نقول : إن هذه القاعدة بنفسها تكون محكّمة فيما لو قلنا بأن الزمان راجع إلى الوجوب نفسه لا إلى الامساك ، فانّ رجوعه إلى الوجوب وإن كان لو خلّي ونفسه مقتضاه هو عدم اشتراط السابق بالشرائط في اللاحق ، ولازمه تحقق الوجوب من الفجر إلى حين طرو العذر ، إلاّ أن قاعدة عدم تبعض الصوم قاضية عليه بأنه لا بدّ من ارتباط الوجوب المتحقق في الآن الأول بالوجوب في الآن الثاني من حيث اجتماع الشرائط على وجه

١٠٦

تكون الشرائط في الوجوب المتأخر معتبرة في الوجوب المتقدم ، ولا بد من إرجاعها إلى عنوان التعقب. ولا بد أيضا من الالتزام بأنه عند طروّ العذر في آخر الوقت يكون الوجوب ساقطا من الأول ، ويكون الحكم بوجوب الامساك على من علم بأنه يطرؤه العذر بعد ذلك على خلاف القاعدة إن تم الاجماع عليه ، ويكون ذلك حكما احتراميا لا أنه صوم حقيقي.

نعم ، يبقى إشكال الفرق بين كون العذر طارئا في آخر الوقت وبين ما كان موجودا في أول الوقت ثم ارتفع في أثناء النهار ، إلاّ أن يلتزم في ذلك ايضا بالوجوب الاحترامي.

أما الكفارة فلا دليل عليها إلاّ دعوى الاجماع في بعض صور المسألة وهي الطوارئ غير الاختيارية ، وعلى تقديره فيكون لزوم الكفارة محتاجا إلى ارتكاب خلاف القاعدة من جهتين :

الاولى : ما أشرنا إليه من أن القاعدة تقتضي عدم وجوب الامساك ، فيكون وجوبه الاحترامي على خلاف القاعدة.

الجهة الثانية : هي أن الكفارة إنما دلت أدلتها ، على لزومها في مخالفة أوامر الصوم ، أما الامساك الاحترامي الذي هو ليس بصوم حقيقي فيحتاج ثبوت الكفارة في مخالفته إلى دليل أو توسعة في دليلها ، بأن يدعى أنه يستفاد منه لزومها على مطلق وجوب الامساك ولو لم يكن صوما حقيقيا. أما الرواية عن الصادق عليه‌السلام فقد عرفت عدم دلالتها على لزوم الكفارة فيما نحن بصدده ، وقد تعرض شيخنا قدس‌سره (١) لهذه المسألة في ذيول التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب الراجع إلى مسألة عموم العام واستصحاب

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٥٣.

١٠٧

حكم المخصص ، فراجعه وراجع ما علقناه هناك (١).

ويمكن القول بالتبعيض في الركنية ، فيكون الوجوب السابق شرطا في الوجوب اللاحق ، فلو كان في السابق غير مكلف كما لو كانت المرأة حائضا لم يجب الامساك في اللاحق ، بخلاف ما لو كان مكلفا في السابق وحصل المانع في اللاحق فلا يكون الوجوب السابق مشروطا بالوجوب اللاحق ، وحينئذ يتم ما قالوه من وجوب الصوم على من يعلم أنه يلحقه العذر وأنه يجب فيه الكفارة لو خالفه ، بخلاف ما لو كان في السابق معذورا فانّ ذلك يوجب ارتفاع الوجوب في اللاحق فيكون الوجوب اللاحق مشروطا بالوجوب السابق ، فلا يكون ذلك من باب الشرط المتأخر. وأما أنه لو ترك يكون عليه القضاء بامساك يوم تام فذلك من قبيل ما لو كان عاجزا عن بعض أفعال [ الصلاة ](٢) لكنه لم يأت بالباقي ، فان قضاءه يكون بقضاء صلاة تامة ، بخلاف ما لو أتى بالامساك الأول ثم جنّ مثلا فانه لا قضاء عليه ، بخلاف ما لو حاضت المرأة فان عليها القضاء ، ولعله من جهة دليل القضاء الشامل لما إذا طرأها الحيض في أثناء النهار ، فتأمّل جيدا (٣).

__________________

(١) في المجلّد العاشر ، في الحاشية على قوله : فان كان في البين قرينة ...

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) [ وجدنا أوراقا منفصلة في نسخة الأصل ويصلح ما ورد فيها أن يكون تعليقا على قوله في أجود التقريرات ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ : « تتميم : لا إشكال ـ إلى قوله : ـ ومنها فتواهم بوجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر ـ إلى قوله : ـ واجيب عن الاشكال تارة بالالتزام بالواجب المعلق واخرى بالالتزام بالشرط المتأخر ... إلخ » ونص ما في الأوراق هكذا : ] ذكروا أنه يجب الغسل ليلا لمن يجب عليه الصوم في الغد ، وحيث إنه لا يمكن القول بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، أجاب صاحب الكفاية [ في كفاية الاصول : ١٠٤ ـ ١٠٥ ] عن ذلك بأن وجوب الصوم المتوجه ليلا مشروط بالشرط المتأخر وهو

١٠٨

__________________

دخول الفجر.

أما صاحب الفصول [ راجع الفصول الغروية : ٨٠ ] فحيث إنّه لا يقول بصحة الشرط المتأخر فقد التزم بأن الشرط هو العنوان المنتزع من تأخر الفجر ، وهو أعني العنوان المنتزع حاصل ليلا ، وحينئذ يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا كما هو كذلك عند صاحب الكفاية.

والفرق بينهما أن صاحب الكفاية يقول إن الشرط هو نفس الفجر لكنه يؤثر في الوجوب المتقدم ، وصاحب الفصول يقول إن الشرط للوجوب هو العنوان المنتزع وهو موجود فعلا.

وشيخنا قدس‌سره [ راجع أجود التقريرات ١ : ٣٣٢ ] وإن التزم في بعض موارد الشرط المتأخر بأن الشرط هو العنوان المنتزع ، إلاّ أنه لم يوافق صاحب الفصول على نظريته المذكورة المبنية على كون الشرط للوجوب هو العنوان المنتزع ، والسرّ في ذلك هو أن صاحب الفصول يأخذ الزمان قيدا في الواجب ، ولذلك يقول إنّ الوجوب حالي والواجب استقبالي ، ومع أخذ الزمان الآتي قيدا في الواجب يكون ذلك القيد متأخرا رتبة عن الوجوب ، لأنّ نفس الواجب بجميع شراشره من أجزاء ومن قيود اختيارية مثل الطهارة وقيود غير اختيارية يكون متأخرا عن الوجوب رتبة ، ومع فرض تأخر القيد عن الوجوب رتبة لا يعقل أخذه شرطا في الوجوب ، لأن مقتضى كونه شرطا في الوجوب تقدمه رتبة على الوجوب ، من دون فرق في ذلك بين أخذه مقارنا في الزمان للوجوب أو متقدما عليه زمانا أو متأخرا عنه زمانا كما هو عند صاحب الكفاية.

وكذلك العنوان المنتزع من ذلك المتأخر ، فان العنوان المنتزع متأخر رتبة عمّا ينتزع منه الذي هو الزمان المتأخر أعني الفجر في مثالنا ، والمفروض أنه أعني الفجر نفسه متأخر رتبة عن نفس الوجوب لكونه حسب الفرض قيدا في الواجب الموجب لتأخره عن الوجوب ، فكيف يعقل أن يكون ذلك العنوان المنتزع المتأخر عن الوجوب برتبتين شرطا في ذلك الوجوب الموجب لكونه متقدما رتبة على الوجوب.

نعم لو فرضنا تعرية الواجب عن الزمان بحيث إنه لم يؤخذ قيدا فيه ، وكان الوجوب المشروط بطلوع الفجر مثلا متعلقا بنفس الامساك المطلق أعني غير المقيد

١٠٩

__________________

بالزمان ، لم يتجه فيه هذا الاشكال أعني لزوم تقدم ما هو متأخر رتبة ، بل كان الاشكال فيه متمحّضا للشرط المتأخر كما تقدّم تفصيله [ راجع الصفحة : ١٠٥ ، قوله :

وتقريب هذا البحث ... ]. وحينئذ يتسنى لنا الجواب عنه بالعنوان المنتزع.

ولا يقال : لا داعي لأخذ نفس الزمان قيدا في الواجب ليكون ذلك موجبا لكونه شرطا في الوجوب لعدم كونه مقدورا ، لنلتزم بأنه شرط في الوجوب كي يكون شرطا متأخرا ليجاب عنه بالعنوان المنتزع ، وذلك لامكان القول بأن الواجب وإن كان مقيدا بالزمان إلاّ أنه بنحو يكون التقييد داخلا والقيد أعني نفس الزمان خارجا.

لأنا نقول : هنا يتأتى إشكال القدرة أيضا ، فإن التقييد بالزمان وإن كان بنحو يكون القيد فيه خارجا إلاّ أنّ نفس التقييد لا يكون مقدورا إلاّ بعد تحقق الزمان ، وحينئذ لا بد من أخذه شرطا في الوجوب وهو حسب الفرض متأخر عن الوجوب.

فيتأتى لنا أن نقول إن الشرط هو العنوان المنتزع فيكون الوجوب حاليا ، لكن لا يكون الواجب استقباليا بل يكون الواجب حاليا أيضا ، فتكون النتيجة أن المكلف يجب عليه في أول الليل أن يمسك في أول الليل. أمّا الأول فلأنّ شرط الوجوب هو العنوان المنتزع وهو موجود ، فيكون المشروط به الذي هو الوجوب موجودا أيضا. وأمّا الثاني فلأن الواجب الذي هو الامساك لم يتقيد بالزمان الآتي ، فصار الحاصل أن طبيعة الامساك تعلق بها الوجوب من الآن أعني من أول الليل ، فيكون اللازم هو إيجادها عند تعلق الوجوب بها ، فلا تكون هذه الطريقة مصلحة لما كنا بصدده من أنه كيف وجبت المقدمة قبل وجوب ذيها ، ويعود المحذور من أول الليل ، فيقال إنه يجب الإمساك في أول الليل عن طهارة ، فلا بد أن نقول إنه لا بد من الغسل قبل أول الليل ، فيعود محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، مضافا إلى ما هو خلاف الضرورة من الدين من كون الامساك من أول الليل.

لا يقال : إنا لا نأخذ الزمان بنفسه شرطا في الوجوب ولا بالعنوان المنتزع ، بل نقول إن الواجب مقيد بالزمان وهو أعني هذا الواجب مقدور ، غايته أنه مقدور في ظرفه لا حين الوجوب ، والقدرة المعتبرة هي القدرة على الواجب في ظرفه لا القدرة في ظرف تعلق الوجوب به. والفعل الواجب وإن قيدناه بالزمان الآتي إلاّ أنه على نحو يكون التقييد داخلا ويكون القيد خارجا ، وحينئذ فلا مانع من كون الوجوب حاليا مع كون الواجب استقباليا ، لأنّ ذلك الواجب مقدور في ظرفه ، وهي ـ أعني

١١٠

قوله : الثانية : أن القدرة قد تكون شرطا عقليا فقط وغير دخيل في ملاك الفعل أصلا ، واخرى تكون شرطا شرعيا دخيلا في ملاكه ... إلخ (١).

لا يخفى أن الكلام إنما هو في المقدمات التي يدعى وجوبها قبل

__________________

القدرة عليه في ظرفه ـ كافية في صحة تعلق الوجوب الفعلي به من أول الليل.

لأنا نقول : إن القدرة على الواجب في ظرفه آتية من وجود الزمان عنده ، فيكون الوجوب مشروطا بالقدرة على الواجب في ظرفه ، والقدرة عليه في ظرفه مشروطة بتحقق الزمان ، فيكون الوجوب حينئذ مشروطا بتحقق الزمان ، فعاد محذور الشرط المتأخر.

والجواب عنه بالعنوان المنتزع لا يدفع إشكال شيخنا قدس‌سره من أن لازم ذلك هو التكليف بجرّ الزمان ، فان الوجوب قد تحقق فعلا ، ومتعلقه هو الفعل المقيد بالزمان الآتي وإن كان على نحو يكون القيد خارجا ، لكن بعد فرض كون الوجوب متحققا فعلا لا بد من كون متعلقه تحت الوجوب ، فيجب فعلا إيجاد ذلك المقيد بما أنه مقيد ، نظير تعلق الوجوب بالصلاة إلى القبلة ، فيلزمه فعلا إيجاد الصلاة المقيدة بكونها إلى القبلة ، وحيث إن القبلة موجودة كان إيجاد الصلاة إلى القبلة فعلا غير متوقف على شيء ، بخلاف التقييد بالزمان الآتي ، فان إيجاد العمل المقيد به بما أنه مقيد به يتوقف على جر الزمان وهو غير معقول ، فلا بد أن نقول إن الوجوب مشروط بتحقق الزمان على نحو الشرط المتقدم.

وحيث قد تبين لك أنه لا يمكن دفع الاشكال في مثل مسألة الغسل ليلا لمن وجب عليه الصوم نهارا بالشرط المتأخر ، ولا بالوجوب المعلّق المفروض كونه من الشرط المتأخر وإصلاحه بالعنوان المنتزع ، فلا بدّ لنا من طريق آخر في إصلاح هذه المسألة وهو مأخوذ من قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ثم بعد بيان مفاد هذه القاعدة نتكلم على إدخال ما نحن فيه في موارد القاعدة المزبورة.

أما الكلام في مفاد هذه القاعدة فهو أن يقال إن هذه القاعدة يلحق به ما في صفحة ٢٢ [ هذا ، ولم يظهر موضع الإلحاق ولكن سيتعرض المؤلف قدس‌سره للقاعدة المذكورة في الحاشية اللاحقة على ما في أجود التقريرات ، فلاحظ ].

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٠ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

١١١

حضور وقت ذيها ، فلا بد أن [ لا ](١) يكون ذلك الوجوب الوارد على ذي المقدمة مشروطا بالزمان المتأخر ولا بد أن لا يكون ذلك الوجوب النفسي الوارد على ذي المقدمة حاصلا قبل حصول ذلك الزمان ، بناء على بطلان الواجب المعلق وبطلان الشرط المتأخر ، وحينئذ يكون الكلام في القدرة على ذلك الفعل المتأخر زمانه وزمان وجوبه ، وهل تكون تلك القدرة شرطا عقليا أو أنها تكون شرطا شرعيا؟

ثم أنه قدس‌سره قد حقق أن أخذ الزمان في وجوب ذلك الواجب تارة من جهة توقف ملاك الوجوب عليه فيكون من قبيل الشرط الشرعي الذي يكون دخيلا في ملاك الوجوب ، واخرى لا يكون كذلك بل لا يكون له الدخل إلاّ في مصلحة ذلك الواجب من دون أن تكون له المدخلية في ملاك الوجوب ، وحينئذ هو أعني الزمان بالنسبة إلى ذلك الوجوب لا يكون إلا شرطا عقليا له الدخل في الوجوب خطابا لا ملاكا. ففي صورة كون القدرة شرطا عقليا تارة يكون الزمان المتأخر شرطا عقليا واخرى يكون شرطا شرعيا. وعلى الأول يكون ملاك الوجوب متحققا قبل تحقق الزمان بخلافه على الثاني فانه لا يكون ملاك الوجوب حاصلا إلا عند تحقق الزمان.

فقوله فيما يأتي : بداهة أن الملاك في ظرفه تام لا قصور فيه ، فتفويته ولو بتفويت أول مقدمته ولو كان قبل البلوغ تفويت له بالاختيار ، وهو لا ينافي العقاب وان كان ينافي الخطاب في ظرفه ، فبهذه المقدمة العقلية يستكشف وجوب المقدمة شرعا حفظا للغرض ، فيكون متمما للجعل

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١١٢

الاول ، إلخ (١) ظاهر في الشمول لكلتا الصورتين ، أعني كون الزمان له المدخلية في الملاك وكونه لا مدخلية له فيه.

وهذا الطريق العقلي الذي نستكشف به وجوب تلك المقدمة السابقة على الزمان من باب متمم الجعل ليس إلاّ عبارة عن أن الشارع يلزمه المحافظة على غرضه الذي هو ملاك الوجوب في ظرف ذلك الزمان ، سواء كان ذلك الملاك حاصلا قبل حصول ذلك الزمان إن لم يكن للزمان مدخلية فيه ، أو لم يكن حاصلا إلاّ عند حصول ذلك الزمان إن كان للزمان مدخلية فيه ، ولأجل أن الشارع يلزمه المحافظة على ذلك نقول إنه لا بد قد أوجب تلك المقدمة السابقة ، وإلا لم يحصل على غرضه الذي هو ملاك الوجوب الذي يرد على ذي المقدّمة عند حصول ذلك الزمان.

وحينئذ يمكن المناقشة في أمرين :

الأول : أن هذا الاستكشاف لو تم لم يكن منشؤه قاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، بل كان منشؤه هو لزوم محافظة الشارع على غرضه.

الثاني : أنه ينبغي في الاستكشاف أن يكون بالعكس ، بمعنى أن الشارع لو حكم بوجوب تلك المقدمة استكشفنا من إيجابه لها أن ذلك من باب متمم الجعل ، وأن ذلك الملاك له أهمية في نظره على وجه يحافظ عليه بايجاب المقدمة السابقة التي يكون تركها في وقتها مفوتا لذلك الملاك ، لكون ذلك الترك موجبا لعدم القدرة على ذلك الفعل الواجب في وقته.

ولا يخفى أن لو بنينا على العكس بمعنى أنا نستكشف من تحقق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢١ [ مع اختلاف يسير عما في النسخة الحديثة ].

١١٣

الملاك فيما بعد محافظة الشارع عليه على وجه نستكشف منه أنه أوجب تلك المقدمة السابقة ، كان ذلك جاريا في كل واجب مشروط بشرط استقبالي كما تقدم في قوله : إلاّ أنه لا يتم في جميع الموارد. الخ (١) ولو أصلحنا ذلك بجعل الاستكشاف مختصا بما كان من الملاك ذا أهمية توجب إيجاب المقدمة قبل زمان ذيها ، لم يكن ذلك موجبا للتخلص عمّا يلزمنا من تشريعات أحكام كثيرة استنادا إلى أن ملاك الحكم يوجب تشريعه. وثبوت أصل الملاك من ناحية الوجوب المشروط وإن كان قطعيا ، إلاّ أن كونه بدرجة من الأهمية على وجه يلتزم الشارع بالمحافظة عليه بايجاب تلك المقدمة لم يكن معلوما لدينا ، فلا محيص لنا من القول في هذا المقام بما استفدناه منه قدس‌سره من أنه لا يجب على المكلف التصدي لحفظ الملاكات وإنما ذلك بعهدة الشارع ، وحينئذ يكون المتبع هو الدليل الشرعي الدال على وجوب المقدمة إن كان ، وإلا لم يكن على المكلف أن يحافظ على ملاك الشارع.

نعم ، فيما يكون التوقف غالبيا كما مثّل له قدس‌سره (٢) بالخروج مع الرفقة على وجه لو لم نقل بوجوب الخروج لكان إيجاب الحج مشروطا بوقته لغوا ، يمكننا الحكم بأن الشارع قد أوجب ذلك الخروج إخراجا لايجابه الحج عند وقته عن اللغوية. وقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما هي فيما لو توجه التكليف إلى المكلف ، وبعد أن توجه إليه جعله غير مقدور في حقه بسوء اختياره كان مستحقا للعقاب ، أما أنه لو جعل نفسه غير قادر على امتثال التكليف المشروط قبل حصول شرطه ، على وجه ترك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢١٩ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسختين ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٢٤.

١١٤

تلك المقدمة في ظرفها قبل حصول شرط الوجوب الذي هو الزمان المتأخر فلا يكون موردا للقاعدة المذكورة.

وان شئت فقل : إن هذه القاعدة ليست من القواعد الشرعية المنصوصة ، وإنما هي قاعدة عقلية مرجعها إلى المعذورية وعدمها ، وحينئذ يكون المرجع في مثله هو الحكم العقلي. وهل يكون العقل في مثل ذلك حاكما بمعذورية هذا الشخص أو لا؟ والظاهر الاول ، فان الحجة في قبال تجويز ترك تلك المقدمة إن كانت هي علم ذلك المكلف بأنه سوف يبتلى بالوجوب الآتي فلا ريب في منعها ، لأن التكليف حين ذلك الترك لم يكن فعليا في حقه وإن علم بأنه يكون فعليا عليه في الزمان الآتي. وإن كانت الحجة هي علمه بالملاك الآتي فهي ممنوعة أيضا ، لما عرفت من أنه لا يلزمه المحافظة على الملاك خصوصا فيما إذا لم يكن الملاك حاصلا فعلا بل كان متوقفا على الزمان كما إذا كان للزمان دخل فيه.

وأما ما افيد بقوله : قلت البلوغ إنما يكون شرطا ... إلخ (١) فهو قابل للتأمل سيما بعد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ (٢). نعم لو دل دليل خاص على وجوب مقدمة خاصة على الصبي المراهق لزمنا قبول ذلك ، لأن تكليفه ليس بمحال ، ويكون نسبته إلى مثل حديث رفع القلم نسبة المخصص. وهكذا الحال لو قلنا بأن ذلك من باب حكم العقل محضا ، فان العقل لا يحكم على الصبي بلزوم المحافظة على الملاكات الآتية خصوصا ، أما أنا من قبل أنفسنا نشرّع له تكليفا استنادا إلى قاعدة الامتناع بالاختيار التي قد عرفت حالها فلا يمكننا ذلك. وهكذا الحال في

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٢.

(٢) بحار الأنوار ٨٨ : ١٣٤ / ٥.

١١٥

وجوب النظر في العقائد على الصبي المزبور ، فتأمل.

وأما ما افيد من مقايسة المقام بالارادة في صورة حفظ الماء للعطش ، فعلى الظاهر أنه مسلّم ، لكن كان ذلك المريد لحفظ الماء هو صاحب ملاك ذي المقدمة الذي هو شرب الماء عند العطش ، فيلزمه إرادة الماء من باب المحافظة على ذلك المراد المتأخر ، فتلك الارادة المتعلقة بحفظ [ الماء ](١) تكون بازاء إرادة الشارع فعل المقدمة السابقة من باب متمم الجعل ، فتأمل.

والحاصل : أن قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا إنما هي مسوقة لبيان أن من امتنع عليه الفعل الواجب وكان امتناعه عليه بسوء اختياره كان مستحقا للعقاب ، فالمدار فيها على تنجز التكليف وفعليته في حقه بحيث صار بدرجة استحقاق العقاب على مخالفته ، وقد صيّر نفسه بسوء اختياره غير قادر على امتثاله ، فلا بد أن يكون سلب القدرة عن نفسه بسوء اختياره واقعا بعد فعلية ذلك التكليف في حقه ، وليست هي قاعدة شرعية كي يتمسك باطلاقها لما إذا جعله ممتنعا في حقه قبل وصول ذلك التكليف إلى درجة الفعلية في حقه ، وإنما هي حكم عقلي في مورد استحقاق العقاب على المخالفة ، وأن هذه المخالفة الناشئة عن الامتناع الناشئ عن سوء الاختيار لا توجب رفع استحقاق العقاب على تلك المخالفة.

نعم ، بعد فرض حكم الشارع بلزوم تلك المقدمة ولو من باب متمم الجعل يكون موردا لهذا الحكم العقلي ، وهذا الحكم الشرعي لا يمكننا أن نشرّعه من قبل أنفسنا ولو من باب أن الشارع يلزمه المحافظة على ملاكات الأحكام ، لأن ذلك ـ أعني لزوم محافظة الشارع على ملاكات الأحكام ـ تابع

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١١٦

لأهميتها في نظره ، وذلك أمر راجع إليه ، وليس علمه عندنا وإلاّ لزمنا استكشاف أحكام كثيرة بمجرد اعتقاد صلاحها فينفتق علينا ما لا يمكن رتقه.

ولو سلّمنا ذلك وصححناه لم يكن ذلك بواسطة حكم العقل بقاعدة الامتناع بالاختيار ، لأن تلك قاعدة عقلية في مقام الامتثال والاطاعة واستحقاق العقاب لا دخل لها في مقام تشريع حكم شرعي ، وليست هي قابلة لأن يستنتج منها حكم شرعي مولوي. فراجع ما حررناه في هذا المقام في تحريراتنا (١) ، وراجع ما أفاده في البدائع (٢) في مقام الرد على دعوى استحقاق العقاب على تارك تلك المقدمات.

ولا يخفى أنه قدس‌سره في البدائع بعد أن ردّ على توجيهات وجوب تلك المقدمات بذلك ونحوه اختار كون وجوبها من باب التهيؤ ، وبيّن أنه تابع لدليله من النص في بعض الموارد والاجماع في بعضها وقرائن الأحوال في البعض الآخر. ونحن نصطلح على ذلك الوجوب الذي سمّاه تهيئيا بأنه من باب متمم الجعل ، وهو في الحقيقة تهيئي إلاّ أنه لمّا كان صادرا عن المحافظة على ملاك التكليف النفسي الآتي نقول إنه من باب متمم الجعل بالنسبة إلى ملاك ذلك التكليف الآتي ، فراجع وتأمل.

قوله : وأما الشق الثاني فحاله حال الشق الأول طبق النعل بالنعل ، غاية الأمر أن القدرة ... إلخ (٣).

لا يخفى أن هذا الشق يتأتى فيه وفي باقي الشقوق ما ذكرناه في الشق الأول من كون الزمان تارة له المدخلية في الملاك ، واخرى لا يكون كذلك.

__________________

(١) مخطوطة لم تطبع بعد.

(٢) بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس‌سره : ٣٣٢.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٢٢ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

١١٧

وفي كلتا الصورتين يتأتى فيه ما تقدم (١) من الاشكال بأن المدار فيه على ثبوت الوجوب الشرعي الكاشف عن ملاحظة الشارع للملاك والمحافظة عليه بذلك الايجاب المتعلق بالمقدمة السابقة ، ولا دخل لذلك بقاعدة الامتناع بالاختيار ، وأنه لا مورد لها إلا بعد ثبوت ذلك الوجوب الشرعي المتعلق بالمقدمة السابقة.

بل يمكن أن يتأتى فيه إشكال آخر ، وهو أن الملاك إذا كان ناشئا عن تلك القدرة كيف يعقل أن يكون نفس ذلك الملاك مؤثرا في لزوم المحافظة عليها عقلا؟ بل كيف يمكن أن يكون مؤثرا في لزوم المحافظة عليها شرعا؟ فان ذلك لا يخلو عن شبهة الدور أو نظيره ، فانه من قبيل كون المعلول حافظا لعلته ، أو من قبيل كون الحكم حافظا لموضوع نفسه.

بل يمكن أن يقال : إن القدرة بعد فرض كونها دخيلة في الملاك يكون حالها حال السفر أو الحضر في كونهما بمنزلة موضوع الحكم ، ولا ريب في أنّ المكلف له أن يخرج نفسه من موضوع إلى موضوع آخر خصوصا فيما إذا كان قبل حصول الشرط الآخر الذي هو الزمان فيما نحن فيه.

ولقد حاول الشيخ قدس‌سره في التقريرات (٢) دفع هذا الاشكال بابداء الفرق بين ما اخذ عنوانا للمكلف مثل الحاضر والمسافر وبين غيره ، ولكنه لم يأت بشيء يدفعه كما اعترف به المقرر فراجع. وبالجملة : لا بد من إقامة الدليل على المنع حتى في مثل السفر لمن تعيّن عليه الصوم في القضاء المضيق ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة الجواز ، فلاحظ.

__________________

(١) في صفحة : ١١٢ وما بعدها.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٢٧٣.

١١٨

نعم ، يمكن الأمر الشرعي بنحو متمم الجعل على أن يكون متعلقا بلزوم حفظ القدرة بعد فرض حصولها ، لا بتحصيلها مع فرض عدم حصولها ، ففي مثل ذلك يمكن التفرقة بين حفظ القدرة وبين تحصيلها فيجب في الأول دون الثاني ، لكن بعد ورود الدليل الشرعي على ذلك ، لا أنا نشرّعه من قبل أنفسنا.

ثم إنّ ما افيد في القسم الثالث والرابع من عدم لزوم المقدمة المفوّتة إن كان مستنده هو عدم حصول الملاك قبل الاستطاعة أو عدم حصوله قبل الوقت ، فهو جار في القسم الثاني ، بل هو جار في القسم الأول ، بل هو جار في القسم الثالث فيما بين الاستطاعة وزمان الوجوب فيما لو كان للزمان مدخلية في الملاك. وما افيد بقوله : وهذا بخلاف الأقسام الاول ، إلخ (١) غير نافع في الفرق ، لأنا إذا فرضنا مدخلية الزمان في الملاك لا يكون الملاك حاصلا قبله ، فكيف يتوجه الأمر بالمحافظة عليه قبل حصوله.

نعم ، بناء على ما ذكرناه من التوقف على ثبوت الأمر الشرعي الكاشف عن أهمية الملاك في نظر الشارع لا ينبغي الفرق بين جميع هذه الصور ، فان الشارع لو كان الملاك في نظره ذا أهمية يلزمه الأمر بلزوم كل ما يحفظه سواء كان ذلك الملاك متحققا عند صدور ذلك الأمر الشرعي أو كان موقوفا على ما يأتي من الزمان.

ولا يخفى أن الذي حررته عنه قدس‌سره يستفاد [ منه ](٢) أنّ هذا التقسيم الرباعي لكيفية أخذ القدرة إنما هو في خصوص ما يكون الزمان فيه أجنبيا عن ملاك الحكم ، بحيث يكون مدخليته في ذلك التكليف الآتي مدخلية

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٣.

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

١١٩

خطابية لا ملاكية ، وأن ما يكون للزمان فيه مدخلية ملاكية بحيث يكون ملاك التكليف الآتي متوقفا على تحقق ذلك الزمان غير داخل في هذا التقسيم ، وأنه خارج عن مورد حرمة تفويت تلك المقدمات. ونحن وإن حررنا فيما علقناه هناك بعض الاشكالات المفصلة على الالتزام بخروج هذه الصورة بما ينبغي مراجعة تلك المباحث المفصلة هناك ممّا يصعب عليّ نقله على تفصيله (١) إلا أن الغرض أن هذا التقسيم الرباعي وإن كان قد صدر منه قدس‌سره كما حررته في تلك المباحث ، إلاّ أن المنظور إليه في ذلك التقسيم هو خصوص ما كان الزمان فيه شرطا خطابيا ، فراجع وتأمل.

ومن جملة الاشكالات التي حررناها هناك ما أشرنا إليه من أنه لو كان المدار على تفويت الملاك فلا فرق بين كونه حاصلا قبل الوقت أو أنه لا يحصل إلاّ بعد الوقت.

وفي البين إشكال آخر وهو أنه لو لم يكن للزمان مدخلية إلاّ في الخطاب لم يكن اشتراطه حينئذ إلا من ناحية القدرة ، فكيف يكون من أقسامه ما لو كانت القدرة دخيلة في الملاك ، اللهم إلاّ أن يقال : يمكن التفكيك بين القدرة من ناحية الزمان فلا تكون دخلية في الملاك ، والقدرة من ناحية المقدمة السابقة فتكون دخلية في الملاك. كما أنه يمكن العكس بأن تكون القدرة من ناحية الزمان دخيلة في الملاك ، والقدرة من ناحية المقدمة السابقة أجنبية عنه فلا مدخلية لها إلاّ في الخطاب.

ولا يخفى أن هذا القسم الرابع يمكننا الموافقة فيه على لزوم حفظ

__________________

(١) وهو من أواخر صفحة ١٨٢ إلى صفحة ٢٠٦. [ منه قدس‌سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

١٢٠