أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

وكون لفظة العالم خالية من كل معنى سوى كونها علامة على ذلك ، وحاصل ذلك هو جعل القيد والمقيد من قبيل وحدة المدلول وتعدد الدّال ، وهذا غير معقول بالنسبة إلى الدلالة التصورية ، إذ لا يكون ذلك إلا من قبيل تعدد الدال والمدلول.

ثم لو صحّ ذلك في ناحية المتكلم فهو لا يصحّ بالنسبة إلى السامع ، إذ لا ريب في أنه عند سماعه هذه الجملة ووصول المتكلم إلى لفظة رجل قبل أن يلحقه بلفظة العالم ، لا يفهم من لفظ الرجل ولا يحضر في ذهنه إلا نفس معنى الرجل معرّى عن الاطلاق والتقييد ، ثم بعد سماع لفظة العالم يطرأ التقييد على ذلك الحاضر في ذهنه ، وهكذا الحال في الحروف فيما لو قال : السير من البصرة حسن ، من دون فرق في ذلك بين كون معنى لفظة « من » إيجاديا أو كونه من قبيل الحكاية. ومنه يظهر لك الجواب عمّا قرره عن درسه المقرّر (١) ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : أن القيود إنما تتصرف في الدلالة التصديقية ولا دخل لها بالدلالة التصورية. ومنه يظهر لك [ الحال ](٢) في مقدمات الحكمة فانها إنما تتصرف في ذلك المقام أعني مقام الدلالة التصديقية ، وحاصل مفاد القيد أو مفاد الاطلاق ومقدمات الحكمة هو أنّ الذي يريده المتكلم من هذا المعنى الذي أحضره اللفظ في ذهن السامع هو خصوص الواجد للقيد الفلاني ، أو أن مراده هو المطلق الجامع بين الفاقد والواجد ، فلاحظ وتأمل.

ومن هذا الذي حررناه من الفرق بين الدلالة التصورية والدلالة التصديقية يظهر التأمل فيما ربما يقال من أنّ الكلام اللفظي إبراز لما في

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٨١

صقع النفس من المعاني الاسمية والحرفية وارتباط بعضها ببعض ، فانّ ما في صقع النفس لا ربط له بالدلالة التصورية المتدرجة في الكلام اللفظي التي هي عبارة عن كون كل لفظ يوجب تصور معناه عند سماعه ، فلاحظ.

ثم إنّه في المقالة تعرّض لما عن صاحب الحاشية (١) فقال : نعم هنا توهم آخر من التفصيل في موجدية المعنى الحرفي بين بعض الحروف عن بعض ، نظرا إلى توهم كون بعض الحروف موجدة للنسب الخاصة كـ « لام الأمر » وأداة النداء والتمني والتّرجي وأمثالها في قبال سائر الحروف الحاكية عن نسب ثابتة.

وفيه : أنه على فرض تسليم إيقاعية مفاهيم هذه الألفاظ كما سيأتي توضيحها ، لا يقتضي ذلك أيضا كون اللفظ موجدا ، بل اللفظ أيضا حاك عن ايقاع هذه النسب ، وحينئذ لنا أن ندعي أنّ الحروف بقول مطلق حاكيات عن النسب ثبوتا أم إثباتا كما صرح به في النص ... إلخ (٢).

وفي تقرير درسه : فالتحقيق أن المستعمل فيه في التمني هي النسبة الخاصة بين المتمني والمتمنى ، أعني بها تشوّق المتمني إلى حصول ما لا طمع له بحصوله ... إلخ (٣).

ولا يخفى أن صاحب الحاشية قدس‌سره حسبما هو المنقول عنه لا يرى أنّ هذه الحروف للنسب بل هي عنده لايجاد معنى التمني ، وإنّما جلّ همّ الاستاذ العراقي قدس‌سره هو إبطال كونها لايجاد معناها الذي هو التمني والترجي وجعلها كسائر الحروف النسبية في دلالتها على النسب الخاصة ، ولأجل

__________________

(١) هداية المسترشدين ١ : ١٤٥ / الفائدة الثانية.

(٢) مقالات الاصول ١ : ٩٤.

(٣) بدائع الأفكار : ٦٦.

٨٢

ذلك قال في المقالة : بل اللفظ أيضا حاك عن إيقاع هذه النسب ، وحينئذ فلا يحسن قوله في حكاية ما عن الحاشية كون بعض الحروف موجدة للنسب ، فتأمل. وفسّر النسبة مقرره بأنها عبارة عن التمني الواقع بين المتمني والمتمنى أعني بها تشوق المتمني ، إلخ ، فكأنه يدعي كونها للنسب بواسطة أنّ مفادها هو وقوع التمني وهو نسبة بين المتمني والمتمنى ، ولم أتوفق للوجه في كونه نسبة إلاّ كالوجه في كون الضرب نسبة بين الضارب والمضروب ، أو كون الاعطاء نسبة بين المعطي والمعطى ، وهكذا الحال في كل فعل متعدّ إلى مفعول به فانّه يكون نسبة بين الفاعل والمفعول به ، وإلاّ فأيّ معنى للبرهان على أنّ مفاد ليت هو النسبة بأنّ نفس التمني نسبة بين المتمني والمتمنى ، فلاحظ.

وكيف كان ، فالتمني صفة قائمة بنفس المتمني ، لكن ليس تلك الصفة هي مفاد ليت باعتبار كونها إبرازا لها كما يدّعي ذلك في باقي الانشائيات في كونها إبرازا لما هو في النفس ، والاّ لعاد الانشاء إخبارا عما في النفس.

نعم ، إن تلك الصفة القائمة بالنفس تكون داعية لايجاد التمني وإيقاعه على نسبة الحضور الى زيد في قولك : ليت زيدا حاضر ، فانّ « ليت » قد وضعت لهذه الجهة أعني إيجاد التمني وايقاعه على النسبة بين المحمول والمحمول عليه ، وليست هي موضوعة للتمني في مقام إيجاده وايقاعه على النسبة ، وإلاّ لكانت اسما لا حرفا كما شرحناه في مفاد أسماء الاشارة ونحوها من الأدوات المدعى كونها أسماء متضمّنة لمعاني الحروف. هذا كله فيما يعود الى تفصيل صاحب الحاشية في الجزء الثاني من تفصيله أعني دعوى الايجاد في بعض المعاني الحرفية في قبال مسلك

٨٣

الاستاذ العراقي في دعوى الحكاية في جميع الحروف.

وأما ما يعود إلى الجزء الأول من تفصيله ، أعني دعوى [ كون ](١) مفاد أدوات النسب من الهيئات وحروف الجر هو الحكاية لا الايجاد ، فهو قبال مسلك شيخنا قدس‌سره في دعوى كونها إيجادية كغيرها من الحروف ، غايته أنها تكون لايجاد النسبة بين مفهومي الاسمين ، فقد تقدم الكلام عليه في المقدمة الثانية (٢).

وحاصل ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ذلك هو كون الارتباط الذي توجده أداة النسبة بين المفهومين هو مماثل لما بينهما في الواقع من الارتباط الواقعي ، وعن هذا التماثل ينتزع الصدق والكذب ، فان كان هذا الربط الايجادي بين المفهومين على وتيرة ذلك الارتباط الواقعي بين واقع الاسمين ، كانت القضية صادقة وإلاّ كانت كاذبة. هذا إذا كان الداعي من إيجاد ذلك الربط هو إيجاد مماثل ذلك الارتباط الواقعي لينتزع منه الاخبار والاتصاف بالصدق والكذب.

أما لو لم يكن الغرض من إيجاد ذلك الربط بين المفهومين إلاّ خلق الارتباط الواقعي بينهما ، لم تكن القضية خبرية ، بل كانت إنشائية لا تتصف بالصدق والكذب.

وحاصل الفرق بين بعت الاخبارية وبعت الانشائية : هو أنّ الارتباط الواقعي بين مادة البيع وبين المتكلم إن كان سابقا في الرتبة على إيجاده الربط بين نفسه وبين مفهوم البيع ، وكان الغرض من إيجاده بينهما هو إيجاد المماثل لذلك الارتباط الواقعي بينهما ، ليكون هذا الربط مماثلا لذلك

__________________

(١) [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) في صفحة : ٤٤ وما بعدها.

٨٤

الارتباط ، ويكون الغرض من إيجاده الربط بينهما هو الاخبار عن واقع الارتباط بينهما ، كانت القضية خبرية ، وان كان الأمر بالعكس ، بأن كان الارتباط الواقعي بينهما في طول إيجاد الربط بينهما ، بأن يكون الباعث له على إيجاد الربط بين المفهومين هو إيجاد الارتباط الواقعي بينهما ، كانت الجملة إنشائية ، وكان إيجاده الربط بينهما خلقا وتكوينا لارتباط المادة به واقعا وهي البيع ، فيكون حاصل ذلك هو أنّ الغرض من إيجاد الربط بينه وبين مفهوم البيع هو إيجاد مادة البيع في صقعها على وجه يتحقّق الارتباط الواقعي بينه وبين واقع البيع الذي هو عبارة اخرى عن إيجاد البيع وخلقه في صقعه الذي هو عالم الاعتبار ، وهذا جار في كل مادة قابلة للانوجاد بالايجاد مثل قولك : بعت وآجرت ورهنت ، إلى آخر أبواب العقود والايقاعات. ويجري أيضا في مثل أترجى وأتمنى وألتمس وأطلب وآمر ، بل يجري في مثل أستفهم وأستعلم وأستخبر ، بل يجري في مثل أدعو ، كما لعله هو المراد من قوله عليه‌السلام « أدعوك يا رب بلسان أخرسه ذنبه وأوبقه جرمه » (١). فلاحظ وتأمل.

قوله : إلا التعريف المذكور في الرواية الشريفة التي نسبت إلى مولى الكونين أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) ... إلخ (٢).

وذلك قوله عليه‌السلام في الرواية المذكورة : « الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره » (٣). أما قوله عليه‌السلام في الرواية الشريفة : « الفعل ما انبأ عن حركة المسمى » فقد يقال

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٣ ، مفاتيح الجنان : ١٨٧ ( نقل بالمضمون ).

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٢.

(٣) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢.

٨٥

إنّ المراد من المسمى هو المعنى الحدثي ، والمراد من حركته خروجه من القوة إلى الفعل أو من العدم إلى الوجود. ولكن هذا لا يلائم كون معنى الهيئة إيجاديا.

ويمكن القول بأنّ المراد من الانباء هنا الحكاية أعني حكاية المثل لمثله على ما شرحناه (١) في مفاد الحرف والهيئة ، فهيئة الفعل توجد نسبة إيقاعية بين مفهوم الحدث ومفهوم الفاعل ، وهذه النسبة الايقاعية باعتبار كونها مماثلة لما في الواقع من حركة الحدث وخروجه من العدم إلى الوجود تكون حاكية لما في الواقع ، وقد عبّر عليه‌السلام عن هذه الحكاية المماثلية بالانباء.

وأما ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من كون الحركة هي عبارة عن التحصل للمعنى الحدثي لفظا ومعنى ، حيث إنه قبل التلبّس بالهيئة لا تحصّل له في عالم المعاني ولا في عالم الألفاظ ، وهذه الهيئة تخرجه عن ذلك وتجعله متحصلا معنى ولفظا ، وحينئذ فيصح أن يقال إنها تنبئ عن الحركة أعني خروجه من عدم التحصل إلى التحصّل ، وذلك لا ينافي كونها إيجادية ، فلا يخفى أنّه وان كان دقيقا إلاّ أنّه بعيد الارادة في ذلك الخطاب.

فالأولى أن يقال : إن المراد بالمسمى هو الفاعل ، وحركته عبارة عن نفس الحدث ، أيّ حدث كان ، سواء كان من قبيل الحركات الخارجية مثل الضرب والقيام والقعود ، أو كان من الصفات النفسانية مثل العلم والادراك ونحوهما ممّا لا حركة فيها ، لكن اطلق الحركة هنا بالنظر إلى الغالب تسهيلا

__________________

(١) في صفحة : ٤٤ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٨.

٨٦

على السامع ، وليس المراد من الحركة معناها الاسم المصدري ، بل المراد معناها المصدري أعني التحرك ، فهيئة الفعل مثل ضرب زيد تربط مفهوم الضرب بمفهوم زيد ، وهذا الربط يحاكي الربط الخارجي أعني صدور الضرب من زيد المعبّر عنه بحركته ، وبذلك تكون هذه الجملة منبئة عن مماثلها في الخارج وحاكية له حكاية المماثل لمماثله ، وبهذه العناية نقول إنّ قوله عليه‌السلام في تعريف الحرف على الرواية الاخرى أنّه « ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل » (١) يتخرج على هذه العناية ، بمعنى أنّه يوجد النسبة فيكون حاكيا لما في الخارج ، وذلك الخارج ليس باسم ولا بفعل ، وحينئذ لا يكون منافيا لما ذكرناه من كون معناه إيجاديا ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، بناء على ذلك يكون الانباء في هذين أعني الفعل والحرف مخالفا له في الاسم ، فانّه فيه إنباء اللفظ عن معناه ، وفيهما إنباء المماثل عن مماثله ، ولا بأس بذلك ، ولعل النكتة هي الجناس الذي ربما رعاه البليغ.

وعن كتاب تاسيس الشيعة لعلوم الاسلام للمرحوم السيد حسن الصدر عن الكفعمي في كتاب مختصر نزهة الالبّاء لابن الانباري ، قال أبو الأسود : دخلت على علي عليه‌السلام وفي يده رقعة ، فقلت : ما هذه الرقعة يا أمير المؤمنين؟ فقال : إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني العجم ، فأردت أن أضع لهم شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه ، ثم ألقى الرقعة وفيها مكتوب : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف. فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما انبئ به (٢)

__________________

(١) أمالي الزجاجي : ٢٣٨ ، كنز العمال ١٠ : ٢٨٣ / ٢٩٤٥٦.

(٢) كذا مرسوم في الطبعة ، وحينئذ يكون ماضيا مبنيا للمجهول من أنبأ ، فيكون ـ مكسور الباء ، فلأجل ذلك رسم الهمزة بالياء لأجل انكسار ما قبلها ، ويكون المراد أن الفعل هو الذي قد اخبر به عن فاعله [ منه قدس‌سره ].

٨٧

والحرف ما جاء لمعنى. واعلم يا أبا الأسود أنّ الأسماء ثلاثة : ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر ، وإنّما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر ، وأراد بذلك الاسم العلم المبهم. قال أبو الاسود : فكان ما وقع إليّ : إنّ وأخواتها ، ما خلا لكن ، فلما عرضتها على علي عليه‌السلام قال لي : أين « لكن » فقلت : ما حسبتها منها ، فقال : هي منها فألحقها بها. ثم قال : ما أحسن هذا انح نحوه (١).

وقال أبو الحسن : ... ـ الى قوله : ـ فألقى إليّ صحيفة فيها الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دلّ على حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل ، وجعل يزيد على ذلك زيادات ... إلخ (٢).

قال في المشتقات : إنّ الفرق بين الاسم والفعل والحرف ما أشار إليه أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ) في الرواية التي رواها في العوالم عن ابن سلام عن أبي الاسود الدئلي أنّه ( صلوات الله عليه ) دفع إليه رقعة وكان في الرقعة : الكلام ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره. وفي رواية اخرى : الحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ولعله نقل بالمعنى (٣).

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٤٩ ، نزهة الألبّاء : ١٨.

(٢) تأسيس الشيعة : ٥١.

(٣) المشتقات : ٦ / المقدمة الرابعة.

٨٨

قوله : إلاّ أنّ الربط المزبور إنّما هو من جهة دلالتها على معانيها ـ إلى قوله : ـ لا يرجع إلى محصّل ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ القائل بكون معاني الحروف إيجاديّة إنّما يقول إنّها موضوعة لإيجاد ذلك المعنى الذي هو النسبة بين المفهومين ، لا أنّها موضوعة لمعنى من المعاني وذلك المعنى الذي تحكيه يكون رابطا بين المفهومين ، بل لو كانت كذلك لكان معناها أيضا محتاجا إلى رابط يربطه بذينك المفهومين. وبالجملة فليس الربط عند القائلين بالإيجاد حاصلا من المعنى الذي يحكيه الحرف ، بل الربط إنّما هو مخلوق بايجاد الحرف الذي هو آلة في إيجاد الربط بينهما.

قوله : والتحقيق أن يقال : إنّ الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ... إلخ (٢).

نعم إنّما هي موضوعة للتضييق ، لكن لا من جهة أنّ معناها يضيق ، بل من جهة أنّها توجد النسبة التضييقية. وإن شئت فقل : إنّها توجد النسبة التقييدية بين السير والبصرة ، وأن السير يكون مقيدا بالبصرة على جهة الابتداء حتى على القول بأنّها حاكية عن النسبة ، فليس القيد هو نفس مفاد الحرف الذي هو النسبة ، وكيف يعقل كون النسبة منسوبة نسبة تقييدية ، بل القيد هو مدخول الحرف وما هو مفاد الحرف هو نفس التقييد ، ولأجل ذلك صح أن نقول « فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها » (٣) لأنّ معناها هو النسبة وهي متعلقة بغير الحرف. أما لو قلنا إنّ المعنى الحرفي بنفسه يكون قيدا فلا بد أن يكون له مفهوم في حد نفسه مقابل للمقيد.

__________________

( ١ _ ٣ ) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧.

٨٩

قوله : كما في قولك الصلاة في المسجد حكمها كذا (١).

لا يخفى أنّ القيد للصلاة ليس هو مفاد لفظة « في » ، بل ليس مفاد لفظة « في » إلاّ التقييد ، أعني النسبة التقييدية ، وليس القيد إلاّ المسجد ، فيكون محصله الصلاة المقيدة بالمسجد على جهة الظرفية. هذا لو أخذنا الظرف لغوا متعلّقا بالصلاة ، وأمّا لو أخذناه مستقرا فليس القيد إلاّ ثبوتها في المسجد ، ولا بدّ حينئذ من نسبة تقييد بين الصلاة وبين ثبوتها في المسجد ، والمتكفّل لإيجاد تلك النسبة هو الهيئة المتكونة بين الموصوف أعني لفظ الصلاة وبين الصفة أعني الثابتة في المسجد ، ويكون لفظة « في » كافلة للنسبة بين الثبوت والمسجد ، ومن ذلك يظهر الحال في قوله فيما يأتي : فنقول : ثبوت القيام لزيد ممكن إلخ (٢).

فانّ المخبر عنه هو الثبوت لا مفاد اللام ، واللام إن علّقناها بالثبوت فهي إنّما توجد أو تحكي النسبة بين الثبوت وبين زيد ، وهكذا الحال إن علّقناها بالقيام ، فانّها توجد أو تحكي النسبة بين القيام وبين زيد ، وعلى أيّ حال لا يكون مفادها القيد ، وانّما يكون مفادها هو التقييد ويكون القيد هو مدخولها ، وهكذا الحال لو قلنا بأنّ الجار والمجرور صفة للقيام ليكون ظرفا مستقرا ، فإنّ الهيئة المؤلّفة بين قولنا القيام وبين قولنا لزيد هي الموجدة أو الحاكية للنسبة التقييدية بينهما ، ويكون القيد هو الاستقرار ، ويكون الحاصل القيام الثابت لزيد أو المستقر أو الحاصل لزيد ، ومن ذلك يظهر لك الكلام في باقي الحاشية.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٨.

٩٠

وأما قوله : ثم لا يخفى ... إلخ (١).

فقد عرفت (٢) الكلام عليه ، وأنّه من قبيل الخلط بين مفاد نفس الحرف بما أنّه حرف الذي هو النسبة ، وبين لحاظ ذلك المفاد لحاظا مستقلا ، كما تقول الابتداء من البصرة حسن ، فراجع وتأمّل.

قوله ـ في الحاشية ـ : ومن هذا القبيل هيئات المشتقات والإضافة والتوصيف وما يلحق به ، فإنّه لا يستفاد منها إلاّ التضييق في عالم المفاهيم ... إلخ (٣).

نعم ، لكن القيد ليس هو معنى الهيئة بل مدخولها ، وليس مفاد الهيئة إلا النسبة التقييدية إيجادا أو حكاية.

قوله : وأما هيئة الجملة الاسميّة ، فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية ـ كما هو المعروف ـ لعدم وجود النسبة في كثير من الجمل الاسمية ، كما في قولنا : الإنسان ممكن أو موجود ـ إلى قوله : ـ ومن الواضح أنّ الجملة الخبريّة ـ بما هي كذلك ـ لا كاشفيّة لها عن تحقّق النسبة في الخارج ولو ظنّا ... إلخ (٤).

هذا الإيراد لا يتوجّه على القول بأنّ الهيئة لإيجاد النسبة بين المفهومين ، وأمّا القول بأنّها موضوعة للنسبة بينهما وأنّها حاكية عنها ، فليس المراد بذلك أنّها أمارة على النسبة ، بل المراد أنّها تحكي عن مفهوم النسبة كما يحكي الإسم عن معناه ومفهومه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا ربط له

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٨.

(٢) في الصفحة : ٧٦.

(٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥.

(٤) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥.

٩١

بتحقّق المحكي عنه واقعا. هذا مضافا إلى أنّ مثل قولنا : الإنسان ممكن إذا لم يكن متضمّنا للنسبة فأيّ شيء يتضمّنه الكلام المذكور ، حتى لو قلنا إنّ مفاد الهيئة هو التقييد للمعاني الاسمية.

قوله : نعم ، إنّ الجملة الاسميّة توجب الانتقال إلى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر ، لكنّه لا يستفاد من الهيئة ؛ فإنّ الجملة تصديقيّة لا تصوّريّة (١).

إنّ كون الهيئة موجبة لتصوّر النسبة هو مراد القائلين بكونها حاكية عنها ؛ فانّ القضيّة التصوريّة مؤلفة عندهم من تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول وتصوّر النسبة ، والدّال على الموضوع هو لفظه ، والدّال على المحمول هو ، والدال على النسبة هو مفاد الهيئة ، حتى قيل : والدال على النسبة رابطة وقد استعير لها لفظة هو ، وإنّما قيل وقد استعير لها « هو » غفلة عن عدم الاحتياج إلى لفظة « هو » وكفاية الهيئة في الدلالة على النسبة. هذا مقام التصوّر ، وأمّا التصديق فهو الإذعان بتلك النسبة ، على كلام لهم في تأليف القضية من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة ، أو هي مع رابع وهو الحكم المعبّر عنه بالوقوع واللاّوقوع. وينبغي على الأقل مراجعة حاشية المنطق.

قوله : فالصحيح أنّ مدلول الهيئة في الجمل الاسميّة إنّما هو إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ... إلخ (٢).

سلّمنا أنّ حاصل الهيئة هو إبراز ما في النفس من قصد الحكاية ، إلاّ أنّه ما لم تكن الهيئة موجدة للنسبة التي هي عبارة عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو تكن حاكية عنها كحكاية لفظ الموضوع عن ذاته ، كيف

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥ ـ ٣٦.

٩٢

تكون الجملة مبرزة لقصد الحكاية.

قوله : فالصحيح أنّ مدلول الهيئة في الجمل الاسمية إنّما هو إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ، فهو مصداق للمبرز خارجا بالجعل والمواضعة (١).

كيف يكون إبراز قصد الحكاية مدلولا للهيئة ، فهل أنّ من جملة معاني الهيئة هو إبراز قصد الحكاية. نعم إنّ الهيئة موضوعة للنسبة أعني ثبوت المحمول للموضوع ، أو أنّها موضوعة لإيجاد النسبة المذكورة بين المفهومين ، ويكون فائدة إعمال المتكلم لها في النسبة أو إلقائها إلى السامعين هو إبراز الحكاية عن تلك النسبة وأنّه قاصد لها ، كما أنّ الغرض من وضعها للنسبة أو لإيجاد النسبة هو أنّ التابعين للواضع يعملونها في معناها ، أو أنّهم يوجدون بها النسبة في مقام إرادة إظهار ما في ضمائرهم أو ما في نفوسهم من قصد الحكاية عن النسبة.

قوله : بيان ذلك ، أنّ اللفظ بما أنّه فعل اختياري صادر من المتكلّم ـ إلى قوله : ـ فتكون الجملة بنفسها مصداقا للحكاية ... إلخ (٢).

هذا كلّه مسلّم ، ولكن المعنى الذي وضعت له هيئة الجملة الاسميّة ما هو؟ هل هو نفس النسبة الواقعية ، أو أنّه وضعها لأن توجد بها النسبة بين المفهومين لتكون وجودا مثاليا عن النسبة الواقعيّة ، وعلى أيّ يكون الغرض من التكلّم بها هو قصد الحكاية عمّا في الواقع أو إظهار ما في النفس من قصد الحكاية عن الواقع ، أو أنّها موضوعة لنفس إبراز قصد الحكاية عن الواقع كما في مواضعة الإشارات ، كما يقول الشخص لخادمه : إذا رفعت

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٦.

٩٣

عمامتي فأخرج زيدا من الدار ، من دون صلة بين رفع العمامة والأمر بإخراج زيد ، فهل ترى من نفسك أنّ واضع هيئة الجملة الاسميّة يقول جعلت هذه الهيئة علامة على أنّ المتكلّم بها يريد إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، من دون أن يضعها للنسبة أو لإيجاد النسبة أو لثبوت النسبة. والحاصل أنّه لا يجعل لها معنى أصلا ولا يجعل لها تأثيرا في ناحية إيجاد النسبة بين المفهومين ، ويقتصر من الجعل على جعل التكلّم بها علامة على أنّ الداعي للتكلّم بها هو أنّه قد أبرز قصده الحكاية عن ثبوت النسبة ، فيلزمه أن يكون الداعي على التكلّم باللفظ هو المعنى الموضوع له ذلك اللفظ كما صرّح به في قوله فيما سيأتي : وعلى كل من تقديري الصدق والكذب يكون دلالة اللفظ على معناه ـ وهو كون الداعي إلى إيجاده هو قصد الحكاية ـ على نسق واحد ، إلخ (١).

والحاصل : أنّ مرحلة الداعي إلى الكلام وإثبات أنّ داعيه على إيجاد الكلام هو إبراز مقصده ، وأنّه قاصد للحكاية عن ثبوت النسبة ، راجع إلى إثبات الدلالة التصديقيّة ولا ربط له بما هو محلّ الكلام في الموضوع له الذي هو المدلول اللفظي الذي هو مركز الدلالة التصوّريّة.

قوله : وأمّا الأفعال ، فهيئة الفعل الماضي تدلّ على قصد الحكاية ـ إلى قوله ـ كما أنّ هيئة الفعل المضارع تدلّ على تلبّس الذات بالمبدإ ... إلخ (٢).

كان عليه أن يقول : إنّ هيئة المضارع تدلّ على قصد تلبّس الذات بالمبدإ ، وعلى أي حال أنّ المدلول (٣) التصوّري في الماضي هو تحقّق

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٦.

(٣) [ في الأصل : زيادة « في » حذفناه للمناسبة ].

٩٤

المبدأ ، وفي المضارع هو تلبّس الذات بالمبدإ ، وأما إثبات قصد المتكلّم لذلك المعنى فليس براجع إلى هذه المرحلة ، بل هو راجع إلى إثبات قصد المتكلّم ، وهو مرحلة الدلالة التصديقية ، وهي بعد الفراغ عن الدلالة التصورية. ثم تطرق إلى الإنشائيات وجعل مركز الانشاء هو ما في النفس بعد إبرازه بالألفاظ ، فلازمه أنّ كل ما يكون مظهرا لأن المتكلّم قد أوقع البيع في نفسه يكون بيعا ، ولازمه أن لو قال : إنّي قد أوقعت البيع في نفسي كان بيعا وهلمّ جرّا.

قوله : مع أنّه لو كان الأمر كذلك لصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب كالجملة الفعليّة مع أنّه لا يصحّ قطعا ... إلخ (١).

الظاهر أنّه يصحّ ذلك بمثل قولك لعبدك أنت مأمور بكذا ، ونظيره في الانشاءات في غير الطلب قولك أنت حر وهند طالق وأنا مستفهم ومتمن ومترج ، ونحو ذلك من الجمل الاسميّة في مقام الإنشاء.

أمّا استعمال المضارع في مقام طلب مادته فكثير ، لكنّه محتاج إلى نحو من العناية ، كما لعلّه يمكن استعمال الجملة الاسميّة في مقام طلب مادّة المحمول بذلك النحو من العناية كقولك في الدعاء في مقام طلب الغفران والرحمة : أنت الغفور الرحيم ، ولعلّ من هذا القبيل قول الشاعر :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

على معنى تبكيت المخاطب بأمره بالأكل واللباس.

وكيف كان ، فإنّ هذا الذي نقله عنهم بقوله : فما هو المعروف من كون المستعمل فيه فيهما واحدا وإنّما يفترقان من ناحية الدواعي للاستعمال

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٧.

٩٥

إلى آخره ، ليس بناظر إلى جميع الإنشائيات التي يمكن تأديتها بصور الجمل الخبرية ، بل إنّما هو ناظر إلى ما لو اشترك الإنشاء والاخبار بهيئة واحدة مثل بعت ، ومثل أنت حر ، ومثل هند طالق ، ومثل تقوم في مقام الإخبار والإنشاء ، وكذلك أستفهم وأترجى وأتمنى ، بل وكذلك قوله عليه‌السلام : « أدعوك يا ربّ بلسان قد أخرسه ذنبه » (١) إلى غير ذلك ممّا كانت الجملة الواحدة فيه تستعمل في مقام الإخبار والإنشاء ، فالقول بأنّ ذلك من اختلاف الدواعي مع وحدة الموضوع له صحيح لا غبار عليه.

ودعوى تعدّد الوضع ، وأنّ الاختلاف في مثل بعت الخبرية والإنشائية وغير ذلك من الجمل المذكورة إنّما هو من ناحية الوضع كما هو المستفاد من قوله : ويترتب على ما ذكرناه في بيان الفرق بين الإنشاء والإخبار أنّ الاختلاف بينهما من ناحية الوضع ، إلخ (٢) ولازمه تعدّد الوضع في بعت ونحوها.

ممّا لا وجه لها ولا دليل عليها ، سواء ضم إلى ذلك الاختلاف في الموضوع له أو اقتصر فيه على الاختلاف في الوضع ، ولكن ظاهره بل صريحه تحقق الاختلاف في الموضوع له كما تضمّنه قوله : فالإخبار والإنشاء يشتركان في تحقّق الإبراز بهما ، والفرق بينهما هو : أنّ المبرز في الإخبار حيث إنّه عبارة عن قصد الحكاية وهو متّصف بالصدق أو الكذب ـ إلى قوله ـ وهذا بخلاف المبرز في الإنشاء ، فإنّه اعتبار خاص لا تعلّق له بوقوع شيء ولا بعدمه. وذلك صريح في أنّ الفرق بينهما في مقام الوضع

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٣ ، مفاتيح الجنان : ١٨٧ ( نقل بالمضمون ).

(٢ و ٣) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٣٧.

٩٦

والموضوع له ، بل أساس الفرق الوضعي هو الفرق بينهما في الموضوع له.

تنبيه

قد عرفت ما ذكرناه في المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من التباين بينهما بالهوية ، وأنّ معنى الحرف من مقولة الإيجاد لا الحكاية ، ومن ذلك يظهر لك امور :

الأوّل : أنّه لا محصّل لما يذكرونه من كون بعض الأسماء كأسماء الإشارة وأسماء الأفعال متضمّنا لمعنى الحرف بل لعل ذلك غير معقول ، سواء كانت الإشارة قيدا في الذات ، بأن كان الموضوع له هو الذات المشار إليها ، أو كان على نحو التضمّن ، أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّ الإشارة الحرفية لا تكون قيدا ، ومنه يتّضح الثاني لعدم معقوليّة تضمّن الإسم المستقل لمعنى الحرف غير المستقل ، بل لعلّنا نمنع ذلك أعني تضمين لفظ لمعنى لفظ آخر حتى مع كونهما معا من سنخ المستقلات ، وما ذكروه من تضمّن الفعل اللازم معنى المتعدي كلّه من باب التجوّز باللفظ الأوّل وأخذه استعارة في المعنى الثاني ، لا أنّ أحد اللفظين على ما هو عليه من المعنى يتضمّن معنى لفظ آخر. نعم ، إنّ المعنى الاسمي قابل لأن يطرأ عليه المعنى الحرفي المادوي (١) كما هو الشأن في الأسماء التي تدخلها الحروف مثل من البصرة ونحوه ، كما أنّه يكون مطروّا للمعنى الحرفي الهيئوي كما هو الشأن في المشتقات ، لكنّه مبني على كون المادة موضوعة بوضع مستقل ، كما أنّ الهيئة موضوعة أيضا بوضع مستقل يسمّونه بالوضع النوعي ، وهو ما لو كان

__________________

(١) [ هكذا فيما يتراءى من الأصل ، ويحتمل أن يكون : الأدوي ].

٩٧

الموضوع كليا تحته أنواع ، ويمكن القول بأنّ المادة أيضا كذلك ، نظرا إلى أنّ الموضوع هو مادة الضرب بأيّ صورة تلبست ، كما أنّ الهيئة هو نفس الصورة على أيّ مادة طرأت ، لكن ذلك كلّه مبني على تعدّد الوضع ، وأنّ المادة موضوعة بوضع مستقل كما أنّ الهيئة كذلك ، ويمكن تطرق المنع إليه ؛ فإنّ الواضع لا بدّ أن يأخذ اللفظ ويتصوّره ويضعه للمعنى خصوصا بناء على ما ذكرناه في شرح حقيقة الوضع أعني الاختراع ، ومن الواضح أنّ لفظ المادّة لا يمكن أن يكون عاريا عن الهيئة ، كما أنّ لفظ الهيئة لا يمكن أن يكون عاريا عن المادّة ، فلا بدّ للواضع حين وضعه المادّة من إلباسها بهيئة ما ، وكذلك في حال وضعه للهيئة لا بدّ له من إلباس مادّة بها ، وذلك محتاج إلى التفكيك في الموضوع ، يعني أنّه ينظر إلى لفظ الضرب ويقول وضعت هذا النحو من المادّة الموجودة فيه بأي صورة تلبست ، وينظر إلى لفظ الضارب أو الفاعل ويقول : وضعت هذا النحو من الهيئة الموجودة في هذه المادّة على أيّ مادة وقعت لمن تلبس بالمبدإ ، ويكون المنظور إليه في الأوّل كلّي المادّة وفي الثاني كلّي الهيئة أينما وجدا ، وفي ذلك من التكلّف ما لا يخفى ، سيّما على وتيرة ما ذكرناه من مبدأ الوضع وكيفية الاختراع.

فالأولى أن يقال : إنّ الموضوع هو المجموع المركب من المادة والهيئة ، كل بوضع على حدة ، غايته أنّ فلاسفة اللغة في مقام الضبط والتحرير انتزعوا من هذه الطائفة مادّة أعني طائفة المشتقات التسعة من مادّة واحدة ، وقالوا هي اسم الحدث ، وانتزعوا من تلك الطائفة ـ أعني ما تلبس بهيئة فاعل من جميع المواد مثل ضارب وقائم وقاعد إلى آخر المواد ـ (١)

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة « وانتزعوا منها » حذفناها للمناسبة ].

٩٨

تلك الهيئة ، وقالوا إنّها موضوعة لمن تلبس بالمبدإ ، وفي الحقيقة لا يكون الموضوع إلاّ مجموع لفظ ضرب مادة وهيئة لوقوع الضرب من فاعله ، وهكذا في باقي الأفعال وباقي المشتقات ، وحينئذ لا يكون ذلك من الاسم المطرو للهيئة. نعم ذلك في مثل هيئة الجملة الاسميّة وهيئة الإضافة فإنّها بين الاسمين لكن لا على اسم واحد.

وعلى كلّ لو سلّمنا ذلك فهو لا ربط له بالمدعى في أسماء الإشارة من كونها أسماء متضمّنة لمعاني الحروف ، بل هي إمّا أن تكون اسما للذات المشار إليها ، وإمّا أن تكون حرفا وآلة في الإشارة إلى الذات ، والثاني هو المتعين كما شرحناه فيما تقدم ، ولو صح الأول لصح في لفظة « من » بأن نقول هي للابتداء في مقام كونه جهة للنسبة بين السير والبصرة.

وهكذا الحال في « لعل » بأن نقول هي موضوعة للترجي في مقام إيجاده وإيقاعه على نسبة المحمول إلى الموضوع أو على نفس المحمول إلى غير ذلك من الخيالات التي لا يمكن الالتزام بها ، وما الفرق بين الاشارة إلى الذات في قولك هذا الرجل ، وبين نداء الذات في قولك يا رجل أو يا أيها الرجل ، هذا كله.

مضافا إلى عدم معقولية تضمن الاسم لمعنى الحرف ، أما بناء على ما ذكرناه فلما عرفت من كون المعنى الحرفي إيجاديا ، فهو في صقع والمعنى الاسمي في صقع آخر ، فكيف يكون المعنى الاسمي متضمنا للمعنى الحرفي ، وكذلك الحال بناء على اتحادهما ، والفرق بينهما بالآلية والاستقلالية ، ولا يعقل أن يكون المعنى الاستقلالي متضمنا للمعنى الآلي.

الأمر الثاني : أنه بعد أن ظهرت لك المباينة بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في كون الأول قالبا لمعناه وحاكيا عنه ومحضرا له في ذهن

٩٩

السامع ، وعدم كون الثاني كذلك بل هو خلقي إيجادي يوجده المتكلم بين مفهومي الاسمين بواسطة الحرف ، فالحرف آلة في إيجاد ذلك الربط الذي يوجده المتكلم بواسطة تلك الآلة التي هي الحرف ، وحينئذ لا يكون ذلك الذي يوجده المتكلم متصفا بالكلية والجزئية ، ولك وصفه بالجزئية باعتبار كونه منوجدا بين مفهومي الاسمين ، كما أنّ لك أن تقول إن هذه الآلة لم تجعل لهذا الربط الخاص الموجود ، بل هي آلة في إيجاد هذا النحو من الربط عند ما تدعو الحاجة إلى إيجاده ، وبهذا الاعتبار تقول إن الآلة المذكورة لم توضع لايجاد هذا الربط الخاص بخصوصه ، بل إنما وضعت لايجاد كلي هذا النحو من الربط ، وإن كان بعد وجوده لا يكون إلا جزئيا ، ولكن كل ذلك من باب التسامح والتساهل في معنى الجزئية والكلية ، وإلا فحقيقة الكلية والجزئية إنما تلحق المفهوم الذي يكون محكيا باللفظ ، وذلك من خصائص الأسماء.

الأمر الثالث : أنه بعد ما اتضح لك أن مفاد الحروف إيجاد النسبة بين المفهومين تعرف أنه غير قابل للتقييد ، فان محصل تقييد الشيء بشيء هو إحداث النسبة التقييدية بين الأول والثاني ، ونفس النسبة لا تكون طرفا للنسبة إلا إذا لوحظت الاولى في نفسها ، فتخرج حينئذ عن الحرفية والايجادية إلى الاسمية والاخطارية ، وتكون مفهوما مستقلا في عرض سائر المفهومات ، فيقال إن نسبة القيام إلى زيد في النهار أقرب من نسبته إليه في الليل.

ومن ذلك تعرف الوجه في عدم قابلية مثل الدعاء والتمني والترجي في مرتبة إيجادها بأدواتها للتقييد ، وأنها في تلك المرحلة يستحيل أن تكون طرفا للنسبة التقييدية.

وإن شئت فقل : إن القابل لأن يكون طرفا في النسبة ، سواء كانت

١٠٠