أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

[ هو ](١) أمر زائد على وجود الجوهر ووجود ذات العرض ، فكما أن لفظ السير يحكي عن ذلك العرض ولفظ البصرة يحكي عن ذلك الجوهر فكذلك لفظة « من » تحكي عن ذلك الوجود الربطي بينهما.

فالفرق بين الحروف والأسماء أن الحروف حاكية عن الوجود الربطي بين الجوهر والعرض ، بخلاف الأسماء فانها إنما تحكي وجود الجوهر أو نفس العرض ، ومن الواضح أن ذلك لا يكون من الوجود الربطي.

ولا يخفى أن هذا الفرق وإن كان حاصلا لكنه بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي المتعلق به ، أمّا الفرق بين مفاد لفظة من ومفاد لفظة الابتداء فذلك مما لم يتكفله الفرق المذكور ، فلا بد لصاحب هذا القول من إبداء الفرق بينهما ، بأن معنى لفظة « من » عند ما تقول : سرت من البصرة ، لا يكون ملحوظا إلاّ بعنوان الرابطية ، بخلاف لفظ الابتداء عند ما تقول : ابتداء السير من البصرة حسن مثلا ، وحينئذ يعود الأمر إلى التقييد بالوجود الذهني الرابطي وعدم الرابطي ، فيتوجه عليه الاشكالان اللذان أفادهما صاحب الكفاية ، فلاحظ.

وبعد إبطال هذه الأقوال الثلاثة بما أفاده في الكفاية ، وبعد إبطالنا القول الرابع وهو كون المعاني الحرفية قيودا في المعاني الاسمية ، يبقى الأمر منحصرا بمسلك الكفاية ومسلك شيخنا قدس‌سره ، وبعد إصلاح ما في الكفاية من شرط الواضع وإرجاعه إلى التقييد في مرحلة الغرض ليكون منتجا لتقييد الوضع ، نظير قصد داعي الأمر في التعبديات كما أفاده في المقالة (٢) ، أو بما عرفت من إرجاعه إلى تقييد الوضع وحصره ، ليكون محصّله هو أن الابتداء

__________________

(١) [ لم يوجد في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) مقالات الاصول ١ : ٨٩ ـ ٩٠.

٦١

إن قصد آليا ورابطا بين الاسمين فالموضوع له لفظة « من » ، وإن قصد في حدّ نفسه فالموضوع له هو لفظ الابتداء ، على حسب ما مرّ شرحه من معنى الشرط ، ولعل ما ذكرناه في كيفية الوضع وأنّه اختراع وإحضار للمعنى باحضار اللفظ المناسب له أظهر في التقييد من بقية الطرق.

وكيف كان ، نقول : إنه بعد إصلاح مسلك الكفاية يكون الأمر مرددا بين المسلكين ، وهذا غريب ، لأن التردد إنما يحصل فيما لا يكون راجعا إلى نفس الشخص المتردد ، كأن يتردد في الامور التكوينية مثل حركة الكواكب ومثل التردد في سائر الواقعيات ، ومثله التردد فيما أراده المتكلم بقوله افعل مثلا ، هل أراد الوجوب أو أراد الندب ، وكذلك التردد في كيفية إرادته الندب من ذلك لو أحرز أنه أراد الندب ولكن حصل لنا التردد في أنه أراده بلا عناية أو أنه أراده بالعناية ، إلى غير ذلك مما لا يكون راجعا إلى المتردد نفسه.

أما ما يعود إلى نفس الشخص ، وأنه عند قوله : سرت من البصرة إلى الكوفة ، هل قصد إيجاد ربط الابتداء بين المفهومين ليكون مماثلا للربط الواقعي بين واقع السير وواقع البصرة ، أو أنه (١) لم يقصد بذلك إلاّ الحكاية عن نفس ذلك الربط الواقعي بينهما على نحو الآلية والارتباط على وجه لم يقصد بقوله من البصرة إلاّ نفس ما يقصده بقوله الابتداء ، غير أنه قصده في الأول على نحو الارتباط والآلية وفي الثاني على نحو الاستقلالية ، فهذا التردد منه غريب ، لأنه تردد في قصده الجاري عليه في جميع كلماته ، ولو نقل لنا هذا التردد عن شخص من الأشخاص لنسبناه إلى أقصى درجات

__________________

(١) [ في الأصل : وأنه ، والصحيح ما أثبتناه ].

٦٢

الجهل ، لكنا نجهل ذلك من أنفسنا ونتردد في نفس قصدنا ، إنّ هذا لغريب بل هو أغرب من كل غريب.

وأمّا ما أشكل به الاستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته على مسلك الكفاية بقوله : بل العمدة في وجه الاشكال أنه بعد الجزم بحسب الوجدان أنّ في موارد استعمال الحروف ينسبق إلى الذهن النسب المخصوصة أو الابتداء الخاص مثلا بخصوصياتها التفصيلية ، لا مجال لاستفادة ذلك من مفهوم النسبة أو الابتداء الملحوظ مرآة ، إلخ (١).

وحاصله : استفادة خصوصية للابتداء في قولك : سرت من البصرة ، فلا يمكن ادعاء كون مفاد لفظة « من » هو طبيعة الابتداء.

ولكن لا يخفى أن هذه الخصوصية إنما جاءت من الطرفين ، كما أن كل واحد من الطرفين يكتسي الخصوصية من النسبة الحاصلة بينهما المحكية بلفظة « من » وكما أن ذلك لا يخرج السير عن كون مفاده هو كلي السير ، فكذلك لا يخرج الابتداء المستفاد من لفظة « من » عن كون مفاده هو كلي الابتداء ، أما استفادة الخصوصية مما هو تحت لفظة « من » فذلك ممنوع أشد المنع ، وإلاّ لكانت هذه الخصوصية جارية في لفظ الابتداء في مثل قولك : ابتدائي من البصرة حسن ، فلاحظ وتدبر.

ولا يخفى أن هذا الاشكال لو تم فانما هو إشكال على دعوى كونه كليا ، وهو وارد على مسلك صاحب المقالة قدس‌سره في المعنى الحرفي فيما مرّ نقله ، فراجع (٢).

والأولى بل المتعين إسقاط اللحاظ الآلي من مسلك الكفاية ، وإبداله

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٩٠.

(٢) [ فيما تقدم من كلمات المحقق العراقي قدس‌سره لم يذكر مسلكه فلاحظ ].

٦٣

بلحاظ المعنى الحرفي رابطا بين الاسمين ، لئلا ينقض بالعناوين المأخوذة معرّفات ، وهو أولى من التعبير بلحاظه حالة لغيره لانتقاضه بالمصادر ، لأن الملحوظ فيها جهة الانتساب ، وذلك ملازم لأخذها حالة للفاعل ، وإن أمكن الجواب عنه بأن أخذها مطروّة لجهة الانتساب ليس هو عبارة عن لحاظها حالة لفاعلها ولا أنه ملازم لذلك ، ولأجل ذلك نقول : إن الأولى هو التعبير بلحاظ الرابطية ، أعني لحاظها عبارة عن النسبة بما أنها نسبة متقومة في الذهن والخارج بين المنتسبين ، لا بما أنها حاصلة في الذهن بنفسها وإن كانت في الخارج متقومة بينهما.

وعلى أيّ حال ، أن هذه الملاحظة لا تكون دخيلة في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، فلا فرق بين ما يحكيه لفظ النسبة والربط وبين ما يحكيه لفظة « من » أو لفظ الهيئة ، في كون الموضوع له والمستعمل فيه هو نفس النسبة والربط ، غير أنّه عند أدائه بلفظة « من » أو لفظ الهيئة يكون ملحوظا بما أنه رابط بين المنتسبين ، وعند أدائه بلفظ الربط أو بلفظ النسبة أو بلفظ الابتداء يكون ملحوظا في حد نفسه ، وإن كان هو في الواقع رابطا بينهما ، لكن هذا اللحاظ حاصل عند الاستعمال وغير دخيل في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، ومع ذلك لا يصح استعمال أحدهما في مورد الآخر ، لعدم وضعه له في ذلك الحال على ما عرفت من مقتضى تقيد الوضع واشتراطه ، وهذا إنما يتم في الحروف المتضمنة للنسب والربط مثل حروف الجر والهيئات دون الحروف الايجادية مثل إن وأخواتها وهمزة الاستفهام وأخواتها ويا الندائية وأخواتها ، وكذلك ما تكفل الاشارة الذهنية مثل حرف التعريف والموصولات أو الاشارة الخارجية مثل لفظ هذا وأخواتها ، وكذلك ما تكفل العرض والتنبيه والردع وما يعبّر عنه بأسماء

٦٤

الأفعال إلى غير ذلك من الأدوات الايجادية ، بل لعل ذلك جار في صيغ الأمر والنهي مثل افعل ولا تفعل ، فإن جميع ذلك لا يكون للحكاية بل للايجاد ، نعم فيما يكون مشتركا بين الاخبار والانشاء مثل قولك تقوم وتقعد ، ومثل بعت وآجرت ، ومثل أنت حر وهند طالق ، ومثل أترجى وأتمنى ، إلى غير ذلك ممّا يصح استعماله في مقام الانشاء كما يصح استعماله في مقام [ الاخبار ](١) فإن مفاد هذه الهيئات في هذه المقامات لا يكون إلاّ من قبيل حكاية الربط بين المادة وفاعلها ، غير أنّه إن كان بداعي الاعلام كان إخبارا ، وإن كان بداعي التحريك والبعث إلى نفس تلك النسب المحكية بتلك الهيئات يكون إنشاء.

ثم إن هاهنا مطلبا لا بأس بالاشارة إليه : وهو أن اسم الاشارة كهذا مثلا هل هو موضوع للذات في مقام الاشارة لها ، أو أنه موضوع للاشارة إلى الذات ، بمعنى أنه موضوع لاحداث الاشارة إليها وإيجادها كما تحدث الاشارة بفعل اليد ، من دون فرق بينهما سوى أن ذلك باللسان وهذا إشارة بفعل اليد؟

والذي يظهر من مثل قولنا : هذا زيد ، هو الثاني ، حيث إنا لا ندرك من لفظ هذا إلاّ ذلك ، أعني إيجاد الاشارة إلى الذات ، وتنبيه السامع إليها ليلتفت إليها. ودعوى كونها موضوعة للذات المشار إليها أو للذات بشرط الاستعمال في مقام الاشارة ، دعوى بلا دليل ، بل الدليل على خلافها ، حيث إنا عند استعمال هذه اللفظة لا نلتفت إلى الذات إلاّ باعتبار كونها متعلقا للاشارة التي تحدث بلفظ هذا ، ولو كانت موضوعة للذات لحصل الالتفات

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٦٥

إليها عند الاستعمال ، حيث إن تصور الموضوع له والمستعمل فيه شرط في الاستعمال.

والحاصل : أنا عند استعمال تلك اللفظة لا نلتفت إلى الذات ، وكذلك عند سماعها ، وإنما نلتفت إليها بواسطة حدوث الاشارة إليها لا بواسطة إعمال هذه اللفظة في نفس الذات المشار إليها ، وذلك دليل على عدم وضعها للذات وعدم استعمالها فيها أصلا ، وبالجملة هي محدثة للاشارة إلى الذات لا حاكية عن الذات المشار إليها ، وحينئذ فتكون ممحّضة للجهة الآلية ، فتكون من قبيل الحروف لا الاسماء ، ولا تكون لها جهة اسمية أصلا ، فان الملاك في كون اللفظ اسما حكايته عن معنى مستقل باللحاظ ، وكونه وجها لذلك المعنى وعنوانا وقالبا له ، وقد عرفت عدم تحقق هذه الجهة فيها.

نعم ، يكون الالتفات إلى الذات متأخرا رتبة عن إحداث الاشارة ، لا أنه بواسطة حكاية أداة الاشارة عن تلك الذات ، بل بواسطة أن الانسان إذا وجّه إليه الكلام مقرونا بالاشارة إلى شيء يكون ذلك أعني نفس الاشارة محرّكا له لأن يلتفت إلى ذلك الشيء ويشاهده لا أنه يتصوره وينظر إليه بواسطة هذا اللفظ بأن يكون هذا اللفظ بمنزلة المرآة الحاكية عن المشار إليه.

ومنه يعلم الجواب عمّا يرد على ما ذكرنا من كون أدوات الاشارة حروفا ، ما يقال لو كانت حروفا لما صح الاسناد إليها والاخبار عنها ، فانك بعد أن عرفت ما أشرنا إليه يتضح لك الجواب عن ذلك ، حيث إن الاخبار المذكور إنما هو عن نفس تلك الذات الخارجية التي يلتفت إليها السامع بعد الاشارة إليها بلفظ هذا ، فيكون ذلك نحوا من الإلقاء بلا واسطة حاك ،

٦٦

فإنّه إذا أوجد الإشارة إلى تلك الذات إمّا بأداة الاشارة وإمّا بفعل اليد ، كان ذلك إلقاء لنفس المعنى لا بواسطة حاك ، فإذا ألقى نفس المعنى إلى السامع يلتفت إليه بنفسه بلا حاجة إلى حاك ، وحينئذ يحكم عليه بنفسه ، فلا يكون المحكوم عليه إلاّ ذلك المعنى الخارجي بلا توسط حكاية أداة الاشارة عنه كي تكون اسما ، وهكذا الكلام في بقية المبهمات بل جميع الألفاظ التي اشتهر أنها أسماء متضمنة لمعاني الحروف كأين ومتى ، فإن مثل أين موضوعة للاستفهام عن المكان لا للمكان في مقام الاستفهام عنه ، بل وهكذا الكلام في جميع ما يدعى بناؤه من الأسماء لجهات من الشبه الحرفي ، فإن جميع تلك الجهات راجعة إلى الشبه المعنوي ، فالشبه الوضعي في الضمائر والشبه الافتقاري في الموصولات والشبه الاستعمالي في أسماء الأفعال كلها تصوير محض ، وإلاّ ففي الحقيقة أن هذه كلها مشابهة للحرف في المعنى ، لتضمّن الأولين الاشارة المعنوية ، والثالث مفاد الهيئة الذي هو الطلب ، فلم يبق من المبنيّات إلاّ مثل سحر وأمس وقبل وبعد والمنادى والمحكيات ونحو ذلك ، وهذه يمكن القول بأنّها لغة خاصة بها.

لا يقال : كيف تكون مثل تلك الكلمات حروفا مع أنّها تقع مدخولة لحرف الجر.

لأنا نقول : دخول حرف الجر على مثل لفظة « هذا » لا يكون دليلا على اسميته ، حيث إنّ حرف الخفض إنما هو داخل في الحقيقة على نفس المعنى الخارجي المشار إليه ، توضيح ذلك : أنه إنّما كان مثل لفظ في مختصّا بالأسماء لأنّها تلاحظ تبعا للحاظ المدخول ، فلا بد أن يكون المدخول ملحوظا مستقلا ليكون مفاد الحرف ملحوظا تبعا له ، والمفروض

٦٧

أن معنى لفظ في إنّما يفضي إلى ذلك المعنى الخارجي ، وحينئذ فلا يبقى أثر سوى المدخول اللفظي الصوري وهو لا إشكال فيه كما نشاهد فيما لو توسط بين الجار والمجرور حرف النفي مثلا.

والحاصل : أنّ حروف الجر إنّما اختصّت بالدخول على الأسماء من جهة أنّها تدل أو تحدث ( على الخلاف في معنى الحرف ) ربطا بين الاسمين أو بين الفعل والاسم ، وحينئذ فلا بد أن يكون مدخولها مستقلا ليكون أحد طرفي هذا الربط ، فإذا كان أحد طرفي هذا الربط هو ذلك المعنى الخارجي ، كان هو الذي يفضى إليه ويرتبط بما قبل ذلك الحرف أو بعده ، ولمّا لم يمكن ابتداء إدخال لفظ الحرف على نفس الذات المشار إليها مثلا ، جعل الواسطة في حمل معنى حرف الجر إلى تلك الذات هو أداة الاشارة ، فالمدخول الواقعي ( أعني الذي يرتبط به المعنى الحرفي ) هو ذلك الشخص الخارجي المشار إليه ، وإنما كان إدخال الحرف على أداة الاشارة لمجرد كونه واسطة في حمل معناه إلى الذات المشار إليها.

وهذا المطلب وان كان مستغربا إلاّ أنّه لا ينبغي الاعراض عنه لمجرّد ذلك بعد أن ساعده الاعتبار. ولقد وقعت هذه الشبهة في ذهني القاصر من زمان قديم ، ولكني حسبتها ـ لأجل مخالفتها المشهور ـ في مقابل البديهة ، ولم تزل تخالجني حتى الآن ، فلمّا لم أقدر على دفعها إلى الآن أحببت رسمها هنا ، فإن كانت حقيقة فنعم المطلوب ، وإلاّ ففائدة كتابتها هي أن تحلّها أنت أيها الناظر الخبير والناقد البصير ، والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمستعان وهو نعم المعين ونعم النصير.

نعم ، بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من أن النسبة التي توجدها الهيئة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧.

٦٨

أو الحرف إنما هي النسبة بين مفهومي الاسمين المنتسب أحدهما إلى الآخر لا بين المحكيين بذينك الاسمين ، لا يتم ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتم ما سيأتي من إلقاء اللفظ والحكم عليه باعتبار شخص ذلك الملقى مثل زيد لفظ إذا أردت به شخص ذلك اللفظ الملقى.

ولكن يمكن التخلص من هذا الاشكال ، بأنّ ذلك أعني كون الحرف أو الهيئة موجدا للنسبة بين المفهومين إنما هو في خصوص ما لو كان كل من لفظ المنسوب والمنسوب إليه حاكيا ، أما لو كان المنسوب إليه ملقى بنفسه فالحرف أو الهيئة تكون أيضا موجدة للنسبة ، غايته أن النسبة تكون بين مفهوم المنسوب وواقع المنسوب إليه لا مفهوم المنسوب إليه.

على أنّه يمكن المناقشة فيما أفاده قدس‌سره من كون النسبة واقعة بين المفهومين الحاكيين وأنّها لا تسري إلى المحكيين ، لامكان أن يقال إن ما توقعه الهيئة من نسبة الضرب إلى زيد في قولك : ضرب زيد ، وما يوجد الحرف من نسبة الماء إلى الكوز على جهة الظرفية في قولك : الماء في الكوز ، لا يكون مقصورا على مفهوم الضرب ومفهوم زيد أو مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، بل إنّ تلك النسبة سارية من المفهومين إلى المحكيين ، فإنّ ما في الخارج وان كان هو مجرّد الضرب وزيد والماء والكوز ، إلاّ أنّ كون ذلك الضرب الخارجي صادرا من زيد ، وكون ذلك الماء الخارجي حاصلا في الكوز ، من الامور الواقعية المتحققة واقعا في صقعها الاعتباري ، وإن لم يكن الخارج ظرفا لوجودها ، بل هي من حدود ذلك الموجود الخارجي الذي طرأ على الضرب وزيد والماء والكوز ، ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه الامور من المقولات ، أعني مقولة الفعل ومقولة الأين ومتى ونحوها من المقولات ، ونفس النسبة والاضافة التي هي القدر الجامع بين المقولات

٦٩

الإضافية لا بد أن تكون هي الجامع بين تلك المقولات الخاصة ، فلا بد أن يكون لها تحقق في وعائها الاعتباري (١).

قوله : ولا منافاة بين كون المعاني الحرفية إيجادية ، وأن تكون للنسبة الحقيقية واقعية وخارجية ، قد تطابق النسبة الكلامية ... إلخ (٢).

كأنّ قائلا يقول : إذا كان مفاد الهيئة ونحوها من الحروف النسبيّة هو إيجاد النسبة بين المفهومين ، فلا مورد فيها حينئذ للصدق والكذب ، ويكون جعل النسبة بينهما كجعل التمني والترجّي عاريا عن الحكاية عن الواقع التي هي أعني الحكاية عن الواقع هي المناط في الصدق والكذب ، فإنّ الصدق

__________________

(١) [ وجدنا في الأصل ورقة مرفقة وكأنها فهرسة لأبحاثه ارتأينا جعلها في الهامش وهي : ]

١ ـ المعاني اخطارية وغير اخطارية.

٢ ـ المعاني غير الاخطارية كلها ايجادية سواء كانت غير نسبية أو كانت نسبية ، على خلاف ظاهر التحرير من كونها ايجادية تارة ونسبية اخرى.

٣ ـ الموضوع للنسب يكون حروفا مثل لفظة [ من ] وهيئة مثل هيئات الافعال ، وهي نسب أولية ونسب ثانوية.

٤ ـ تنقسم الألفاظ التي للنسب إلى المستقر واللغو.

٥ ـ الحروف باسرها ايجادية حتى ما كان منها للنسبة.

لازم كونها ايجادية أن لا واقع لها في غير التراكيب الكلامية.

الهيئة في الانشاء والاخبار واحدة ، ومفادها وضعا واستعمالا واحد ، وانما الاختلاف بينهما في السياق ، وفيه التعرض لهذا النحو من الايجاد في البيع الانشائي وفي سائر الحروف.

إن المعنى الحرفي مغفول عنه كالالفاظ في حال استعمالها ، ففي قولك سرت من البصرة تكون النسبة الابتدائية مغفولا عنها ، بخلاف قولك : النسبة الابتدائية كذا ، فانها تكون ملتفتا إليها.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨ ـ ٢٩ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٧٠

هو مطابقة الحكاية للواقع المحكي والكذب هو عدم المطابقة.

فأجاب : بأنّه لا منافاة بين كون الهيئة لايجاد النسبة وبين الاتصاف بالصدق والكذب ، فإنّ المنافي لكون الهيئة إيجادية هو كون ما تفيده مفهوما كليا منطبقا على الواقع انطباق الكلي على الفرد ، ليكون حاصل القضية مثل قولنا : الانسان كاتب ، مؤلفا من ثلاثة مفاهيم ، مفهوم الانسان المنطبق على واقعه ، ومفهوم الكاتب المنطبق على واقعه ، ومفهوم الهيئة المنطبق على واقع النسبة ، وهذا هو المراد من انطباق الكلي على الفرد يعني انطباق المفهوم الذهني على الواقع.

ولو كانت القضية كذلك لاحتاجت هذه المفاهيم الثلاثة إلى رابط بينها ، وحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك الرابط ويعود محذور الحكاية أو الايجاد ، وإنّما قلنا إنّه لا منافاة بين كون الهيئة لايجاد النسبة وبين الاتصاف بالصدق والكذب ، لأنّ هذا الذي توجده الهيئة أعني الربط الذهني بين المفهومين ، هو مثال للربط الواقعي بينها ، وهو المعبّر عنه بالوجود الظلي لواقع النسبة ، فهذا الوجود الذهني المثالي أو الظلي إن طابق النسبة الواقعية كانت القضية صادقة ، وإن لم يطابقها كانت القضية كاذبة. وهذه المطابقة ليست من مطابقة الكلي للفرد كما عرفت من مطابقة مفهوم الانسان لواقعه ، بل هي من قبيل مطابقة أحد الفردين للآخر.

قلت : وإن شئت قلت : إنّ الواقع وإن كان الموجود فيه هو السير والبصرة ، إلاّ أنّ السير قد وجد على نحو خاص ، وهو كون مبدئه البصرة ومنتهاه الكوفة ، فنحن عند ما نقول : سرت من البصرة إلى الكوفة ، نكون قد خلقنا للسير الذهني ابتداء وانتهاء على حذو ما في الواقع ، وإذا صحّ لنا ذلك لم يبق إلاّ مجرّد صحة تسمية هذا الخلق حاكيا عما في الواقع وعدم

٧١

تسميته ، وقد عرفت في حقيقة الوضع أنّ أصله هو هذا النحو من الخلق والايجاد ، أعني إيجاد المعنى بايجاد هذا اللفظ على وجه يتخيّل الواضع أعني المخترع الأول أنه أوجد المعنى بايجاد مثله وخلق مناسبه ، فهل يخرج ذلك الاختراع بأول وجوده عن كون اللفظ حاكيا عن المعنى حكاية المثل عن مثله.

وعلى أيّ تتم أجزاء القضية اللفظية والذهنية وهي الموضوع والمحمول والنسبة ، ويكون مجموع هذه القضية اللفظية أو هاتيك القضية الذهنية وجودا مثاليا للقضية الواقعية التي هي عبارة عن واقع السير والبصرة والنسبة الابتدائية بينهما ، فإن كان إيجاد وخلق فهو منطبق على مجموع القضية ، وإن كان حكاية ولو بالمماثل فهو أيضا منطبق على مجموعها ولا خصوصية لمفاد الهيئة في ذلك ، ولعلّ النزاع يعود لفظيا ، فلاحظ وتأمل.

قوله : فإنّه كما يمتنع حقيقة اجتماع النقيضين ، كذلك يمتنع حضور مفهومه في الذهن أيضا ، بداهة عدم إمكان تصور الوجود والعدم في آن واحد ، بل ينتزع العقل مفهوم الاجتماع من اجتماع زيد وعمرو مثلا ، ثم يتصور كلا من الوجود والعدم ويضيف مفهوم الاجتماع إليهما ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ الوجود والعدم بالقياس إلى فعل واحد كما لا يمكن اجتماعهما في الخارج فكذلك لا يمكن اجتماعهما في الذهن ، بمعنى أنّه لا يعقل أن يكون الشيء موجودا في الذهن ومعدوما فيه ، وهذا واضح لا غبار عليه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠ ـ ٣١.

٧٢

لكن الكلام في تصور مفهوم اجتماعهما لا في واقع اجتماعهما ، وحينئذ نقول : إن كان المراد تصور مفهوم الاجتماع طارئا على الوجود والعدم الخارجيين فذلك لا ينبغي الاشكال في إمكانه ، فإنّ باب التصور واسع ، فلا مانع من أن تتصور اجتماع قيام زيد في الخارج وعدمه في الخارج ، ويكون تصور هذا المفهوم أعني مفهوم الاجتماع حاكيا عن واقع غير واقع بل هو محال ، فإنّ تصوّر المحال ليس بمحال ، ولا يتوقف ذلك على أن يتصور الاجتماع بين زيد وعمرو ثم يتصور وجود القيام ويتصور عدمه في الخارج ، ثم يضيف مفهوم الاجتماع الذي تصوره بين زيد وعمرو إلى القيام وعدمه ، بل إنّ ذلك محال ، لأن ذلك المفهوم الموجود في ذهنه من اقتران زيد وعمرو لا يعقل أن يطرأ على القيام وعدمه ، بل هو وجود آخر في الذهن لمفهوم الاجتماع. ولو سلّمنا معقوليته عاد محذور اجتماع القيام وعدمه في الذهن ، فلاحظ وتدبر.

ومن ذلك كله يظهر لك التأمل فيما نقله عن الشيخ الرئيس (١) من أنّه كما يمتنع الممتنعات بحسب الوجود الخارجي كذلك بحسب الوجود الذهني أيضا (٢) لما عرفت من أن الامتناع في الخارج لا يوجب الامتناع في الذهن.

وإن كان المراد تصور مفهوم الاجتماع طارئا على الوجود والعدم الذهنيين ، بمعنى أن وجود زيد في الذهن مناقض لعدمه فيه ، ونحن نتصور الاجتماع الطارئ على هذين النقيضين ، فالظاهر أنه لا مانع منه ، إذ لا مانع من تصور هذا الاجتماع الطارئ على المتناقضين ذهنا ، فانّ تصور اجتماع

__________________

(١) [ لم نعثر عليه في مظانّه ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣١.

٧٣

المتناقضين ذهنا ليس هو عين اجتماعهما في الذهن ، والمحال إنما هو نفس اجتماعهما في الذهن لا تصور اجتماعهما. نعم ما يكون وجوده في الذهن محالا يستحيل تصوره ، إذ ليس تصوره إلاّ وجوده في الذهن ، وهل يكون اجتماع المتناقضين ذهنا من هذا القبيل ، بمعنى كون وجود الاجتماع محالا في الذهن ، وحينئذ يمتنع تصوره ، إذ ليس تصوره إلا وجوده في الذهن ، والمفروض أنّ وجوده في الذهن محال. ولو كان الأمر كذلك فلا يصلحه أخذ مفهوم الاجتماع فيما بين زيد وعمرو وتصوره طارئا على المتناقضين ذهنا ، فانه لا يخرج بذلك عن وجود اجتماعهما في الذهن المفروض كونه محالا ، فتأمل.

قوله ـ في الركن الرابع إنّ المعنى الحرفي حاله حال الألفاظ حين استعمالها ، فكما أن المستعمل حين الاستعمال لا يرى إلاّ المعنى ، وغير ملتفت إلى الألفاظ ـ إلى قوله : ـ كذلك المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال ، بل الملتفت إليه هي المعاني الاسمية الاستقلالية ... إلخ (١).

وحاصله : أنّ النظر الى الألفاظ في مقام استعمالها في معانيها إنّما هو نظر آلي ، وانما المنظور إليه حقيقة هو المعاني ، فكذلك المعاني الحرفية بالنسبة إلى المعاني الاسمية. ولكن هل ألفاظ الحروف كذلك؟ بمعنى أنّ المنظور إليه من لفظة « من » في قولك « سرت من البصرة » هو معناها ولو النسبة الايجادية ، أو أن ألفاظ الحروف خارجة عن القاعدة في الألفاظ؟

لا سبيل إلى الثاني فيتعيّن الاول ، وحينئذ تكون لفظة « من » آلة في

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢.

٧٤

إيجاد النسبة الابتدائية بين السير والبصرة ، ويكون المنظور إليه من لفظة « من » هو نفس إيجاد النسبة المذكورة ، ولا يكون النظر الى لفظة « من » إلاّ نظرا آليا ، وحينئذ فلو ضممنا إلى ذلك أنّ النظر إلى المعنى الحرفي آلي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، كان الحاصل أنّ النظر إلى لفظة « من » آلي بالنسبة إلى مفادها الذي هو إيجاد النسبة ، ومع ذلك يكون النظر إلى مفادها آليا أيضا بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، فهناك انتقال من آلة إلى آلة ثم إلى المستقل وهو المعنى الاسمي ، فهل الأمر كذلك؟

ثم إنّ كون اللفظ آلة بالنسبة إلى المعنى واضح ، لكونه آلة في إحضاره في ذهن السامع ، فيكون النظر إلى اللفظ في ذلك المقام مندكا في النظر إلى المعنى ، ويكون المنظور الحقيقي هو نفس المعنى. أما كون نفس المعنى الحرفي آلة بالنسبة إلى المعنى الاسمي (١) ، ففيه خفاء ، إذ ليس معنى لفظة « من » آلة في احضار المعنى الاسمي. نعم إنّ معناها وهو النسبة الايجادية قائم في الذهن بين مفهومي الاسمين أعني السير والبصرة ، وهو في الذهن من أطوارهما كما أنه في الواقع من أطوار وجودهما ، ويكون الحاصل أن معناها متقوم بين مفهومين لا أنه مفهوم مستقل ، فيكون معناها بمنزلة الآلة لفهم ما بين المفهومين من النسبة ، فان كان المراد من الآلية هو هذا المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح ، إلاّ أنه ليس على وتيرة آلية الألفاظ بالنسبة إلى معانيها ، بل هو طور آخر لا يولّد اندكاك النظر إلى الآلة في النظر إلى ذيها ، على وجه يكون النظر إلى الآلة مغفولا عنه وغير ملتفت إليه في جنب النظر إلى ذي الآلة والالتفات إليه.

__________________

(١) [ في الأصل : المعنى الحرفي ، والصحيح ما أثبتناه ].

٧٥

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أضافه المرحوم الشيخ محمد علي بقوله : فحيث انه لم يكن للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ـ الى أن قال ـ ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له إلاّ بالقول ... إلخ (١).

ولئن قال قائل إن المعنى الحرفي إذا كان إيجاديا كان ذلك أدعى لأن يكون ملتفتا إليه ، لأنه حينئذ يكون من الأفعال الاختيارية للمستعمل ، لم يكن قوله بعيدا. نعم دعوى كون المعنى الحرفي منظورا إليه استقلالا ببرهان أنّه يقع موردا للسؤال والجواب كما في قولك ـ في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع العلم بأصل الركوب ـ : إنه على الدابة أو مع الأمير ، لا تخلو من مغالطة ، إذ ليس السؤال ولا الجواب متعلقا بالمعنى الحرفي بما أنه معنى حرفي ، بل هما متعلقان بالمعنى الاسمي وأخذ ذلك الربط ملحوظا استقلالا ، فهو على وتيرة قولك أيّ نسبة بين السير والبصرة ، فهل هي نسبة ابتداء أو هي نسبة انتهاء أو هي نسبة الظرفية؟ وجواب الأول سار من البصرة ، وجواب الثاني سار الى البصرة ، وجواب الثالث سار في البصرة ، أما السؤال عن محل نزوله ، فتقول في دار زيد ، فلا ربط له بما نحن فيه ، فان السؤال والجواب منصبّان على مدخول لفظة في ، ولا دخل لهما بنفس مفاد لفظة في.

وأما القول بأنّ معاني الحروف قيود المعاني الاسمية كما في حواشي التقرير عن شيخنا قدس‌سره (٢) فان كان المراد بذلك أنّ قولنا « من البصرة » يقيّد السير بالبصرة ويربطه بها ، فيكون مفاد لفظة « من » هو النسبة التقييدية

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٤٥.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧.

٧٦

بينهما ، لم يكن مفاد الحرف قيدا بل كان القيد مدخوله ، وكان مفاد لفظة « من » هو النسبة التقييدية ، فلم يخرج عما أفاده شيخنا قدس‌سره.

وان كان المراد هو كون السير مقيدا بكونه من البصرة ، بمعنى أنّه مقيّد بأنّ مبدأه البصرة ومنتهاه الكوفة ، عاد الحرف اسما وكنا محتاجين إلى لفظ يدل على نسبة ذلك القيد الى ذلك المقيد ، فتعود مشكلة الحرف المتضمّن لتلك النسبة التقييدية بين السير وبين مفاد لفظة « من » الذي هو القيد أعني الابتداء.

والحاصل : أنّ دعوى كون مفاد الهيئات تقييد المفاهيم الاسمية كما يظهر من الحاشية المزبورة ، لعله ممّا لا يرجع إلى محصّل خصوصا في النسب التامة الاخبارية ، وأما النسب الناقصة التقييدية فهي إنّما تكون بين القيد والمقيد وهما اسمان ، ومفاد الهيئة فيهما هو ربط أحدهما بالآخر على جهة التقييد ، فيكون حالها حال النسب التامة ، غير أنّ الناقصة تكون في طي النسبة التامة ، وإلاّ فالكل نسب بين المفاهيم الاسمية ، ولأجل ذلك قالوا إن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم أوصاف. وأما ما مثّل به لذلك من قولك : الصلاة في المسجد حكمها كذا ... إلخ فليس قولك في المسجد متعلقا بالصلاة ليكون على نحو الظرف اللغو ، بل هو متعلق بمحذوف ويكون من الظرف المستقر ، ويكون الحاصل هو : أن الصلاة الموجودة في المسجد حكمها كذا ، فيكون القيد هو الكون في المسجد ويكون حاله حال قولك : العالم العادل حكمه كذا ، وبذلك تتكوّن هيئة بين الموصوف والصفة ، وهذه هي التي مفادها التقييد. ويبقى الكلام فيما تفيده لفظة « في » الواقعة بين الاستقرار والمسجد ، وهي من هذه [ الجهة ](١) بمنزلة

__________________

(١) [ لم يوجد في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].

٧٧

توسطها بين القيام أو الضرب والمسجد في قولك : قمت في المسجد أو ضربت في المسجد في إفادتها الظرفية بين الحدث والمكان ، ولا يكون مفادها تقييد الضرب أو القيام بكونه في المسجد.

ثم لو سلّمنا كون مفاد الهيئة والحروف قيودا كانت هناك نسبة تقييدية بين المقيد وهو المعنى الاسمي والقيد وهو مفاد الحرف أو الهيئة ، ولا بد لهذه النسبة التقييدية من دال يدل عليها ، فأين هذا الدال على هذه النسبة؟ ولو سلّم وجوده كان أيضا قيدا ومقيدا ، لأن هذا الدّال أيضا يدل على النسبة والنسبة تكون قيدا على رأي المشكل ، فتتكون نسبة تقييدية اخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.

قال الاستاذ العراقي في مقالته : وحينئذ التحقيق في حقيقة المعاني الحرفية كونها عبارة عن النسب والارتباطات القائمة بالمعاني المستقلة بالمفهومية ، على اختلاف النسب والارتباطات ، من النسب الابتدائية والاستعلائية والظرفيّة وغيرها ، فحينئذ معنى عدم استقلالها بالمفهومية عدم استقلال ذات المفهوم المجامع مع الاستقلال في عالم اللحاظ ـ إلى أن قال : ـ ومنها أنّه بعد ما ظهر سنخ المعاني الحرفية ، يبقى الكلام في أنّ الحروف هل هي دالة على مثل هذه المعاني ومنبئة عنها كانباء الأسماء عن معانيها ، أو أنّها موجدة لها وكانت من قبيل الوسائط (١) في الثبوت لها ، كي تكون كيفية استعمالها على خلاف استعمال الأسماء؟ اختار ذلك بعض الأعاظم من المعاصرين ، ولعلّ نظره ـ كما استفدناه من بعض تقريرات بحثه ـ أنّ

__________________

(١) لا يخفى أن جعل الحروف بناء على كونها إيجادية من قبيل وسائط الثبوت لا يخلو عن تسامح ، فان فاعل الربط هو المتكلم ، والحرف يكون آلة في إيجاد المتكلم ذلك الربط. [ منه قدس‌سره ].

٧٨

مفاهيم الأسماء بعد ما لم يوجد فيها جهة الارتباط إلى الغير ، فلا جرم كانت عارية عن الارتباط المزبور في عالم الذهن ، وحينئذ أين الارتباط في البين كي يكون اللفظ حاكيا عنه ، فلا محيص إلا من الالتزام بكون اللفظ موجدا للارتباط بين المفهومين.

أقول : ما افيد كذلك لو كانت المعاني الاسمية الموضوعة للماهيّة المهملة موجودة في الذهن بوصف عرائها عن التقييد والتجرّد المساوق للاطلاق ، وإلا فبناء على التحقيق من استحالة تحقق المعنى اللابشرط المقسمي في الذهن إلا بشكل التجرد أو بشكل التقيّد ، فعند إرادة المقيّد لا بد وأن يكون المعنى الحاضر في ذهن المتكلم واجدا للتقييد ، وبعد ذا يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيدها بالحرف كما يحكي عن تجرّدها المساوق لاطلاقها المسمّى باللابشرط القسمي بدال آخر ولو مثل مقدمات الحكمة ، وإلا فجهة الاطلاق كجهة التقييد زائدة عن ذات المعنى الاسمي ، فيلزم أن تكون مقدمات الحكمة ايضا موجدة لاطلاق المعنى لا حاكية عنه ، ولا أظن أن يلتزمه أحد. فنحن حينئذ نقول : إنّ الحاكي عن التقييد كالحاكي عن الاطلاق بدال آخر لا بأسباب موجدة اخرى كما لا يخفى (١).

والظاهر منه الالتزام بكون المعاني الحرفية قيودا في المعاني الاسمية ومع ذلك قد صدّر كلامه بأنها للنسب ، فلا بد أن يكون القيد هو مدخول الحرف لا الحرف نفسه ، وإلا لم يكن مفاد الحرف هو النسبة والارتباط.

ثم لا يخفى أن الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس هو من

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٩١ ـ ٩٤.

٧٩

اللابشرط القسمي ، بل الظاهر أنه من الماهية بشرط شيء وهو الاطلاق. وأما الماهية لا بشرط القسمي فهو ذات الماهية غير ملحوظ فيها الاطلاق ولا التقييد.

وعلى أيّ فالظاهر أنّ إشكاله مبني على استحالة وجود اللابشرط المقسمي في الذهن. ولكن لا يخفى أنّ هذا الاشكال لا ينحصر بالمعنى الحرفي ولا بكونه موجدا ، بل هو جار في جميع أنحاء التقييدات ، حتى في مثل تقييد الرجل بالعالم في مثل جاءني الرجل العالم فضلا عن التقييدات الحرفية فضلا عن كونها إيجادية.

وما دفع به الاشكال من أن الحاضر في ذهن المتكلم هو المقيد ، وبعد ذلك يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيده بالحرف ، لا يخلو عن تأمل ، إذ السؤال باق ، فانّ المتكلم وإن تصور الرجل العالم قبل النطق ، إلا أنّه عند الجري في النطق لو وصل إلى لفظة رجل هل ينطق بها بلا تصور أو أنّه تصور نفس الماهية اللابشرط المقسمي ثم يقيدها بعالم؟ لا سبيل إلى الاول والمتعيّن هو الثاني ، كما هو صريح قوله : وبعد ذا يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيده بالحرف ، فان حكاية الاسم لذات الماهية المحفوظة في المقيد عبارة عن كون لفظ الاسم موجبا لاحضار نفس الماهية التي هي لا بشرط المقسمي بناء على ما أفاده ، أو هي الماهية اللابشرط القسمي على ما مر تقريبه.

وأما احتمال أنه عند نطقه بالرجل لا يتصور إلا الرجل المقيد بالعالم فيكون قد أعمل لفظ الرجل في الرجل العالم وجعل لفظ العالم قرينة على ذلك ، فلا ريب في بطلانه ، وأقل ما يلزم عليه هو كون لفظ الرجل مجازا

٨٠