أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

امتنعت البراءة لكون التردد حينئذ من قبيل التردد بين الخاص والعام ، مضافا إلى أنه لو كان من قبيل التقييد فليس هو من التقييد الاختياري للشارع ، بل هو من قبيل التقيد القهري ولا تجري البراءة الشرعية في مثله ، هذا كله من ناحية داعي الأمر.

وأما من ناحية العبادية والتقرب والخضوع ونحو ذلك مما قلنا إنه لا ربط له بداعي الأمر ، فلا ريب في كونه قيدا كسائر القيود ، فيمكن التمسك على نفيه بالاطلاق ، ولو لم يتم الاطلاق يكون داخلا في مسألة الأقل والأكثر نظير احتمال تقييد الصلاة بالتحنك والمرجع فيه هو البراءة ، ولا اختصاص لهذا القيد من بين سائر القيود ، هذا كله من ناحية الأصل العملي.

أما من ناحية الأصل اللفظي فقد حصره في الكفاية (١) بالاطلاق المقامي المتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام ما له الدخل في غرضه وإن لم يكن له الدخل في المأمور به ، وهو قدس‌سره معذور من هذه الجهة ، لأنه بعد أن التزم بكون هذا القيد من حكومة العقل تحصيلا لما هو الغرض من الأمر أعني المصلحة مع فرض عدم إمكان التقييد به شرعا ، فتكون الاطلاقات الشرعية بمعزل عن هذا القيد ، إلاّ إذا أحرزنا التوسعة في بيان الشارع ، وأنه بصدد بيان كل ما يتوقف عليه الغرض وإن لم يكن دخيلا في المأمور به ، وذلك هو الاطلاق المقامي.

نعم ، يرد عليه ما تقدم (٢) ذكره من أنه في صورة كون المصلحة أخص ، لا وجه لأن يجعل الشارع الوجوب على الذات المطلقة ولو إطلاقا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٥.

(٢) [ لم نعثر عليه ].

٥٠١

ذاتيا ، بل لا بدّ له من جعل الوجوب على الذات الخاصة أعني الذات المقيدة تقييدا ذاتيا ، وحينئذ ففي صورة كون المصلحة مساوية لنفس الفعل يكون الوجوب المجعول واردا على نفس الذات المطلقة إطلاقا ذاتيا ، وحينئذ ففي مقام الشك في العبادية يكون التردد بين التقييد الذاتي والاطلاق الذاتي ، فمع عدم القرينة المستقلة المتصلة بالجملة يكون اللازم هو الحكم بالاطلاق الذاتي ، وبالأخرة نكون في غنى عن الاطلاق المقامي.

أما شيخنا قدس‌سره فالذي ينبغي على مسلكه أن يكون في غنى عن الاطلاق المقامي ، بل له أن يتمسك بالاطلاق اللفظي ، فانه وإن أحال التقييد والاطلاق اللحاظيين إلاّ أن باب التقييد الذاتي والاطلاق الذاتي منفتح عنده ، فللشارع أن يوصل قوله صلّ بالتقييد بداعي الأمر ، إما بنحو الأمر الثاني بأن يقول صلّ لكن صلّ بداعي هذا الأمر ، أو بنحو البيان المستقل الموصول بالأمر المذكور ، بأن ينصب قرينة مستقلة متصلة بذلك الأمر لتكون كاشفة عن أنّ متعلق أمره هو الذات الخاصة وإن لم تكن الخصوصية داخلة تحت الأمر.

وبالجملة : إذا لم يكن في البين ما يدل على إرادة الذات الخاصة كشف ذلك عن إرادة نفس ذات الصلاة الجامعة بين الذاتين ، وهو المعبّر عنه بالاطلاق الذاتي الناشئ عن تعلق الأمر بذات الصلاة الموجب للسراية القهرية إلى الذات الواجدة للقيد المذكور والفاقدة له ، هذا.

ولكن الانصاف أنا قد شرحنا طريقتهما قدس‌سرهما بما لا يرضى به كل منهما ، لأنهما لا يلتزمان باختصاص الذات في الواجب التعبدي بل يلتزمان بالاهمال ، غايته أنّ شيخنا قدس‌سره يصلحه بالأمر الثاني الذي تكون نتيجته نتيجة التقييد ، وصاحب الكفاية يصلحه بحكومة العقل بلزوم إلحاق قيد الداعي ،

٥٠٢

ولكن الحساب معهما على هذا الاهمال الواقعي ، فانه لا محصّل له إلاّ دعوى إيراد الشارع الأمر على طبيعة الصلاة غير ملاحظ فيها وجود قيد الداعي ولا عدمه ، ومن الواضح أن ذلك وإن لم يكن إطلاقا لحاظيا إلاّ أنه إطلاق ذاتي يوجب السراية القهرية ، ويكون ذلك الحكم الشرعي الثاني أو حكم العقل منتجا نتيجة التقييد ، وقد عرفت أن الأوّل وهو الجعل الثاني لا يوجب التقيد الذاتي ، بل يكون أمرا مستقلا لو امتثله المكلف يكون الشارع قد حصل على ما هو غرضه المطابق لمصلحته من الفعل مع قصد الداعي ، لكن المكلف لو عصاه وامتثل الأمر الأوّل ينبغي أن يلتزم شيخنا قدس‌سره بصحة ذلك الامتثال ، كما أنه قد عرفت أن الثاني وهو حكومة العقل لا توجب التقيد ، مضافا إلى عدم صلاحية للعقل في هذا التشريع.

ولكن لو تم ما أفاداه يكون المرجع من الاصول العملية على مسلك شيخنا قدس‌سره في مقام الشك هو البراءة من ذلك التكليف الثاني ، بل لا تدخل المسألة في مسألة الأقل والأكثر ، فمن يقول بالاحتياط في مسألة الأقل والأكثر لا يلزمه القول به في مسألتنا ، لأن المشكوك فيها تكليف مستقل كما أفاده الشيخ قدس‌سره فيما قدّمنا نقله (١) عن التقريرات.

وأما على مسلك الكفاية فحيث إن المدخلية ليست شرعية يكون المرجع فيها هو الاشتغال ، وأما الاصول اللفظية فهي منحصرة على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره بالاطلاق المقامي الذي عرفت شرحه ، وأما على مسلك شيخنا فالمحكّم هو الاطلاق الذاتي ما لم يقم في قباله الجعل الثاني ، ولكنه قدس‌سره لا يعتني بالاطلاق الذاتي في المقام ، بل المقام عنده من قبيل

__________________

(١) في صفحة : ٤٦١ ـ ٤٦٢.

٥٠٣

الاهمال الواقعي الذي لا يمكن التمسك به ، من دون فرق عنده بين التعبديات والتوصليات ، فكما أنّ ما تعلق به الوجوب في التعبديات هو الطبيعة المهملة لا الذات الخاصة مع فرض عدم دخل الخصوصية ، فكذلك المتعلق عنده في التوصليات هو الطبيعة المهملة لا الطبيعة المطلقة إطلاقا ذاتيا ، وحينئذ ينحصر الأصل اللفظي بالاطلاق المقامي المذكور.

ونحن وإن قلنا بأن الاهمال الواقعي هو عين الاطلاق الذاتي الموجب للسراية القهرية ، إلاّ أن لنا تأملا فيما نسمّيه بالتقييد الذاتي المعبّر عنه بالذات التي هي توأم مع قصد الداعي ، فانه مضافا إلى عدم خلوّه من إشكال التقدم والتأخر ، حيث إن الذات التي هي توأم مع داعي الأمر عبارة عن الذات الصادرة عن داعي الأمر ، فالآمر عند ما يعلّق أمره بالذات يلاحظ ذاتا صادرة بداعي أمره فيعلّق أمره بها ، ومن الواضح أنها متأخرة رتبة عن الأمر فكيف يصح أخذها متعلقة له ، في حين أن المتعلق سابق في الرتبة على الأمر ، هذا.

مضافا إلى أن القضية فيما نحن فيه ليست بخارجية ليكون المحكوم عليه فيها هو نفس تلك الذات الخارجية وإن كانت واجدة لقيود وصفات وخصوصيات كثيرة ، بل المحكوم عليه هو كلي الذات المأخوذة مرآة لما في الخارج من موضوعات الأحكام ، أو نفس طبيعة الذات في متعلق الوجوب الذي هو عبارة عن طلب إيجادها وإخراجها من كتم العدم إلى الوجود ، فهذه الطبيعة الكلية عند تعلق الأمر بها لا بدّ أن تكون ملحوظة للآمر ، فلو كان الموافق لغرضه هو ما يكون منها بداعي الأمر لم يمكنه تقييدها بذلك ، سواء كان من قبيل كون كل من القيد والتقييد داخلا أو كان من قبيل كون التقييد داخلا وكون القيد خارجا ، ومع فرض خروج كل من

٥٠٤

القيد والتقييد لا يكون إيجابه متعلقا إلاّ بصرف الذات لا الذات الخاصة المعبّر عنها بكونها توأما مع القيد مع فرض خروج كل من القيد والتقييد عنها في نظره إليها في حال إيراده الأمر عليها.

وحينئذ فلا محيص عن الالتزام بالاهمال أو الاطلاق الذاتي ، ويتدارك ذلك بالجعل الثاني ، ولا بدّ أن نقول إن هذا الجعل الثاني يتكفل ببيان أن ذلك الأمر الأوّل لا يكون متعلقه وافيا بالمصلحة ، وأنه لا يسقط إلاّ بامتثال الأمر الثاني وإن لم يكن الأمر الثاني موجبا للتقييد في متعلق الأمر الأوّل مع فرض كونه أمرا حقيقيا لا صوريا وإن لم يكن مطابقا للمصلحة ، لأنا نقول يكفي في مصلحته إعانة الأمر الثاني ، وأن مجموعهما ناش عن المصلحة فيما ينتج من مجموعهما ، ولكن كل هذه الويلات والتكلفات إنما نشأت عن دعوى أن المعتبر هو قصد داعي الأمر ، بدعوى كونه عين العبادية التي قام الدليل على اعتبارها ، وإلاّ فهو في نفسه لا دليل على اعتباره.

والانصاف : أنه يمكن القطع بعدمه ، لما عرفت من عدم مدخليته في العبادة ، فلم يبق إلاّ دعوى التقيد القهري الذي أفاده صاحب الاشارات (١) وصاحب العناوين قدس‌سرهما (٢) وذلك على تقديره لا دخل له بقصد من الشارع كي يتكلف له هذه التكلفات.

على أنّا وإن أقمنا البرهان عليه باعتبار تقيد المعلول بعلته تقيدا قهريا ، وأن المأمور به معلول لارادة الفاعل وهي معلولة للداعي وهو معلول لأمر الشارع ، إلاّ أن ذلك لا يوجب إلاّ تقيد الفعل الواقع عن الارادة الناشئة عن داعي الأمر بما يكون صادرا عن ذلك الداعي ، إلاّ أن ذلك لا يوجب

__________________

(١) إشارات الاصول ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) العناوين ١ : ٣٧٨ وما بعدها.

٥٠٥

تقيد متعلق إرادة الشارع بما يكون صادرا عن إرادة المكلف الصادرة عن داعي إرادة الشارع ، لامكان أن يكون الفعل الصادر عن إرادة المكلف لا بداعي إرادة الشارع متعلقا لارادة الشارع ، وإن كان نفس ما يصدر عن إرادة المكلف الناشئة عن داعي إرادة الشارع منحصرا قهرا بما يكون بذلك الداعي.

والحاصل : هو الفرق الواضح بين متعلق إرادة الشارع وبين متعلق إرادة المكلف الصادرة بداعي إرادة الشارع ، وكون الثاني منحصرا قهرا بما يكون بداعي إرادة الشارع لا يوجب انحصار الأوّل به.

ولو شككنا في الانحصار المذكور كان الاطلاق الذاتي في متعلق إرادة الشارع كافيا في نفيه. أما الانحصار القصدي فهو مما يقطع بعدمه ، لأنه مساوق لقصد الآمر تقييد متعلق أمره بما يكون صادرا عن داعي أمره ، وقد عرفت أنه محال سواء كان من قبيل التقييد اللحاظي أو كان من قبيل التقييد الذاتي ، أعني نفس الذات التي هي توأم مع القيد المذكور ، أمّا الأوّل فلما حرروه في امتناع التقييد المذكور. وأما الثاني فلما عرفت من عدم إمكانه بعد فرض خروج كل من القيد والتقييد عمّا هو تحت الأمر ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أنا لو سلّمنا أن إرادة المولى إذا تعلقت بفعل تكون علة في حدوث الداعي عند العبد ، وحدوث الداعي عند العبد يكون علة في إرادته لذلك الفعل ، وإرادته لذلك الفعل تكون علة في وجود الفعل ، إلاّ أن ذلك لا يوجب تقيد ذلك الفعل في مرحلة تعلق إرادة المولى به بكونه صادرا عن ذلك الداعي. وإن كان ذلك الفعل الذي انتهت إليه السلسلة المذكورة منحصرا بكونه صادرا عن ذلك الداعي.

ثم بعد بطلان هذه الطريقة ، وبعد بطلان طريقة الذات الخاصة

٥٠٦

وحديث التوأمية ، وبعد بطلان طريقة الكفاية من تعليق الأمر بالمطلق الذاتي وتكميله بحكم العقل ، يتعين في الخروج عن هذا المأزق في أخذ داعي الأمر بما أفاده شيخنا قدس‌سره ولا يرد عليه سوى إشكال السقوط ، ولكنه هو قدس‌سره يلتزم بعدم السقوط لأجل عدم الوفاء بالمصلحة ، ويقول إن الموجب للاتيان به بداعي الأمر ليكون وافيا بالمصلحة هو الشارع بالأمر الثاني لا العقل الصرف ، وعند الشك يكون مرجعه من الاصول العملية هو البراءة ، ومن الاصول اللفظية هو الاطلاق المقامي لا الاطلاق اللفظي ، لأن اللحاظي من الاطلاق اللفظي محال كمحالية التقييد اللفظي ، والاطلاق الذاتي عنده عين الاهمال الواقعي الذي لا يمكن التمسك به واتخاذه كاشفا عن مراد المتكلم.

أما الذي نحن نتخيله في مسألة اعتبار داعوية الأمر فهو دعوى الانكار ، وأنه لا دليل يوجب الجزم باعتباره لا في العباديات ولا في التوصليات ، وأنّ أقصى ما في البين هو أن لنا واجبات عبادية والمعتبر فيها أمر آخر غير داعي الأمر ، نعم لو اجتمع ذلك الأمر الآخر أو تحقق في داعي الأمر لم يكن انضمام داعي الأمر إليه مضرا ، والغالب هو هذا أعني تحقق العبادية التي هي الانقياد القلبي والخضوع بداعي الأمر ، وعن هذه الغلبة نشأ القول باعتبار داعوية الأمر أو احتمال اعتباره.

وعلى كل حال لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتباره فقد عرفت أنه لا يمكن فيه التقيد اللحاظي ، بل قد عرفت أنه لا يمكن فيه التقيد الذاتي بمعنى قصد الذات الخاصة التي هي توأم مع داعي الأمر ، أو بمعنى التقيد القهري الناشئ عن انحصار المعلول بمورد العلة ، وأن الممكن هو الاطلاق الذاتي مع إلحاق الأمر الثاني الذي هو متمم الجعل ، وليس ذلك من الاهمال

٥٠٧

الواقعي ، بل لا معنى للاطلاق في مقام الثبوت إلاّ ذلك الاطلاق الذاتي ، وأما الاطلاق اللحاظي الذي هو عبارة عن قوله سواء كان كذا أو كان كذا ، فذلك لحاظ آخر فوق الاطلاق ، والممتنع عند امتناع التقييد اللحاظي هو هذه المرتبة أعني قوله سواء كان كذا أو كان كذا ، أما الاطلاق الذاتي الواقعي فلا يكون ممتنعا ، وتقابله مع كل من التقييد اللحاظي والذاتي بل مع الاطلاق اللحاظي تقابل الايجاب والسلب ، وتقابل الاطلاق اللحاظي مع التقييد اللحاظي تقابل الضدين ، لكون كل منهما مشتملا على لحاظ للطبيعة في قبال اللحاظ في الآخر ، فهذا يلاحظها فيه واجدة لقيد الكتابة مثلا ، وهذا يلاحظها فيه واجدة للقيد المذكور وفاقدة له ، وليس امتناع الاطلاق اللحاظي فيما نحن فيه لأجل مجرد امتناع التقييد اللحاظي ، بل إن العلة التي أوجبت محالية التقييد اللحاظي هي أوجبت امتناع الاطلاق اللحاظي.

وعلى كل حال فلو امتنع الاطلاق اللحاظي وكل من التقييد اللحاظي والذاتي كما فيما نحن فيه ، فهو وإن امتنع فيه الاطلاق اللحاظي بالمعنى المذكور ، إلاّ أن الاطلاق الذاتي فيه يكون ممكنا بل يكون قهريا ، وحيث إن المتكلم لا يريده بل كان يريد اعتبار داعي الأمر ، فعليه أن يلحقه بمتمم الجعل ولو بنحو إلحاق جملة الأمر الثاني بجملة الأمر الأوّل وجعل الثانية المتضمنة للأمر الثاني متصلة بالاولى المتضمنة للأمر الأوّل ، فلو كان في مقام البيان ولم يلحق الثانية بالاولى ، دل ذلك على أنه لا يعتبر داعي الأمر ويكون ذلك من قبيل التمسك بالاطلاق اللفظي ، ولا يتوقف على الاطلاق المقامي بالمعنى الذي ذكره صاحب الكفاية (١) ووافقه عليه شيخنا قدس‌سره (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٥.

٥٠٨

ولو ادعى مدع أن جميع موارد التمسك بالاطلاقات اللفظية من هذا القبيل ، أعني الأخذ بمقتضى الاطلاق الذاتي (١) حتى في مثل صلّ أو اعتق رقبة التي يكون القيد فيها وهو التحنك مثلا أو الايمان قابلا للتقييد اللحاظي وأخذه في متعلق الأمر أو في موضوعه ، ولا يتوقف على إحراز أن الآمر لاحظ طوري الصلاة في قوله صلّ ، يعني سواء كانت مع التحنك أو بدون التحنك ، أو لاحظ الرقبة بطوريها من الايمان وعدمه وعلّق العتق بها سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة المعبّر عنه بالاطلاق اللحاظي ، بل يكفي فيه تعليق الأمر على نفس الطبيعة غير ملاحظ فيها خصوصية التحنك أو عدمه أو خصوصية الايمان أو عدمه. هذا حال التمسك بالأصل اللفظي في قبال احتمال اعتبار داعي الأمر ولو بنحو متمم الجعل.

أما الأصل العملي فهو البراءة كما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) وهي فيه أسهل من البراءة في مسألة الأقل والأكثر ، لأن الشك فيما نحن فيه متعلق بمجعول شرعي مستقل ، فلا تأتي فيه شبهة العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ليكون جريانها متوقفا على الانحلال لينسدّ فيه باب البراءة العقلية وينحصر بباب البراءة الشرعية ، ويتكلف الوجه في كونها موجبة لانحلال العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر مع فرض الارتباطية ، وبناء على ذلك يكون ما نحن فيه قابلا لجريان البراءة العقلية كقابليته للبراءة الشرعية ، وهذا بخلاف تلك المسألة فانها عنده لا تجري فيها إلاّ البراءة الشرعية.

__________________

(١) [ لا يخفى أنه لم يذكر الجواب عن قوله « ولو ادعى مدع ... » فالأنسب إضافة : « لكان صحيحا » ونحو ذلك ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٦.

٥٠٩

ومن ذلك يتضح لك ما في قوله : فالشك في دخله شك في الجعل الثاني ، فيكون حاله حال بقية الأجزاء في جريان البراءة عند الشك في دخلها في المأمور به (١) من التسامح.

قوله : هذا على المختار من كون دخل قصد القربة شرعيا ، وأما إذا كان عقليا ، فربما يقال بأن مقتضى القاعدة في المقام هو الاشتغال وإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر ... إلخ (٢).

هذا تعريض بما في الكفاية (٣) ، وحاصل مطلب الكفاية هو الاعتراف بأن الغرض الذي هو المصلحة الباعثة على الأمر ليس بمجعول شرعي ولا مأمورا به شرعا ، وأن مدخلية كل من الأجزاء والشرائط ومن قصد داعي الأمر في المصلحة وتأثيره فيها مدخلية واقعية وليست بجعل الشارع ، وغاية الفرق بينهما هو أن الأجزاء والشرائط المفروض توقف المصلحة عليها قابلة لتعلق الأمر الشرعي بها بخلاف قصد الداعي ، وهذا الفرق هو الذي أوجب عنده إمكان جريان البراءة الشرعية في الأوّل ، لأن أمر وضعه ورفعه راجع إلى الشارع بخلاف الثاني ، وليس هو بصدد بيان الفرق بينهما في المحصلية الشرعية والمحصلية العقلية أو العادية ، كما أنه ليس هو بصدد بيان الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية ، ليرد عليه بأنه لا فرق بينهما في مسألة الأقل والأكثر ، بل إن كلامه في هذا المقام بعد الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في موارد الشك في حصول الغرض الذي هو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) كفاية الاصول : ٧٦.

٥١٠

المصلحة ، وأن العقل حاكم بلزوم إحراز حصول الغرض فيما نحن فيه وفي مسألة الأقل والأكثر ، وأن خلاصة الفرق بينهما في جريان البراءة الشرعية ، ففي مسألة الأقل والأكثر تجري البراءة الشرعية لكون المشكوك هناك قابلا للوضع الشرعي فيكون قابلا للرفع الشرعي ، وعنه يستكشف أنه لا أمر بالمركب ولازمه ارتفاع الشك في حصول الغرض ، بخلاف المشكوك هنا فانه لمّا لم يكن قابلا للوضع الشرعي فلا يكون قابلا للرفع الشرعي ، فلا تجري فيه البراءة الشرعية لتكون مزيلة للشك في ناحية الغرض.

نعم ، يرد عليه أن جريان البراءة الشرعية لا يرفع الشك في حصول الغرض إلاّ باللازم ، وليس ذلك شأن البراءة الشرعية كما سيأتي بيانه في كلمات شيخنا قدس‌سره (١).

كما أنه يرد عليه المنع من حكومة العقل بلزوم إحراز حصول المصلحة لما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أن المصلحة غير واجبة التحصيل على المكلف ، أما بعد فرض تسليم لزوم تحصيلها عقلا على المكلف فلا محيص عن لزوم الاحتياط عند الشك في حصولها وانسداد باب البراءة العقلية في مورد الشك في حصول الغرض والمصلحة ، أما أن الشارع يمكنه البيان ولو بنحو الاخبار ، فذلك كما أنه لا يفتح باب البراءة الشرعية لأن الاخبار ليس بتكليف كي ترفعه البراءة عند الشك فيه ، فكذلك لا يفتح باب البراءة العقلية ، لأن المراد من البيان في قبح العقاب بلا بيان هو مطلق قيام الحجة ولو الحجة العقلية من جهة الاحتياط العقلي عند الشك في

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٨٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٧ ، ١٨٠.

٥١١

حصول الغرض.

وبالجملة : يكون هذا الاحتياط العقلي رافعا لموضوع البراءة العقلية فلا مجال لها معه. والخلاصة : هي أنا لو قلنا بمقالة شيخنا قدس‌سره من عدم لزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، فلا أثر للعلم بعدم حصولها فضلا عن الشك في حصولها من جهة الشك في توقفها على قصد داعي الأمر ، ومعه لا مورد في ذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان حتى لو قلنا بأن البيان فيها هو البيان الشرعي ولو بطريق الجملة الخبرية ، فان ذلك الاخبار لا يزيد على علمنا الوجداني بعدم حصول المصلحة الذي عرفت أنه لا يلزمنا شيء بعد أن التزمنا بأن المصلحة لا يلزمنا تحصيلها.

وإن قلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من لزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، وأنه لا بدّ لهم من إحراز حصولها ، وأن العقل حاكم بلزوم الاحتياط ، كان ذلك واردا على قاعدة قبح العقاب بلا حجة وبيان ، ومجرد أن الشارع يمكنه البيان بطريق الجمل الخبرية وأنه لم يصدر منه ذلك لا يصحح إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فرض قيام الحجة العقلية التي هي حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الباعث على الأمر.

أما دعوى حكم العقل بلزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، لكن ذلك منحصر بالمصالح الواصلة إليهم أو المصالح التي تصدى الشارع لبيانها دون المصالح التي لم يعلموا بها ولم يبينها الشارع لهم ، فذلك إنما هو لو كانت المصالح واجبة شرعا ، أما مع الوجوب العقلي الذي مدركه هو بقاء التكليف مع فرض بقاء الغرض ، فلا ريب أن لازمه حينئذ السعي إلى إسقاط

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢ ، ٧٦.

٥١٢

التكليف باسقاط الغرض الباعث عليه ، وأنه مع الشك في حصول الغرض يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بذلك التكليف ، ولا مورد فيه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى المصلحة.

على أن المصالح لو كانت واجبة شرعا فلا يكفي في الأمن من العقاب على مخالفتها مجرد عدم وصولها إلى المكلف وعدم تصدي الشارع لبيانها ، بل لا بدّ في الأمن من عقابها من عدم قيام الحجة على ذلك حتى مثل الاحتياط العقلي في موارده ، ومن جملته موارد الشك في السقوط التي هي العمدة فيما نحن فيه.

ومن ذلك كله يتضح وجوه التأمل في الحاشية (١) ما عدا ما يرجع إلى ما أشكله شيخنا قدس‌سره من لزوم كون البراءة الشرعية في مسألة الأقل والأكثر من الأصول المثبتة ، ومن إنكار لزوم تحصيل المصالح التي هي الأغراض الباعثة على الأمر فلاحظ.

قوله ـ في الحاشية المذكورة ـ : فالعقاب على ترك ما يحتمل دخله في غرض المولى واقعا مع عدم قيام الحجة عليه لا يكون محتملا من جهة استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ... إلخ.

لا يخفى أن العقاب إنما هو على ترك إسقاط الوجوب المتعلق بالصلاة مع فرض توقف سقوطه على حصول المصلحة المتوقف حصولها على داعي الأمر ، وتعلق التكليف بالصلاة مع الشك في سقوطه ولو من جهة الشك في حصول مصلحته كاف في قيام الحجة على ذلك العقاب ، فلا يكون العقاب على عدم إسقاطه عقابا بلا بيان ، وكان المحشي يتخيل أن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٧٦ ـ ١٧٧.

٥١٣

حكم العقل بلزوم إحراز سقوط الواجب نظير حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بمعنى العقاب في الشبهة الوجوبية البدوية في كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان موجبة للقطع بعدم الضرر بمعنى العقاب ، فتكون واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ورافعة لاحتمال العقاب.

ولكنك خبير بأن هذه القاعدة فيما نحن فيه إنما هي قاعدة شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، حيث إن المكلف قد اشتغلت ذمته يقينا بالصلاة ، ومع الشك في حصول مصلحتها يكون الفراغ منها مشكوكا فيحكم العقل حينئذ بلزوم الفراغ اليقيني المتوقف على داعي الأمر ، وإذا وصلت النوبة إلى الشك في فراغ الذمة بعد اشتغالها فلا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل يكون العقاب عقابا بالبيان الذي هو قيام الحجة العقلية ، وهي أن شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والخلاصة : هي أن صاحب الكفاية قد سدّ باب البراءة العقلية في ذلك المقام وفي هذا المقام ، من جهة كون الشك في المقامين راجعا إلى الشك في السقوط ، ومع الشك في السقوط يكون العقل حاكما بالاحتياط. لكنه قدس‌سره قد فتح باب البراءة الشرعية بدعوى حكومتها على الاحتياط العقلي ، لكنها لا مجال لها في هذا المقام ، لعدم كون الوضع فيها راجعا إلى الشارع لعدم إمكان أمره بداعي الأمر ، فلا يكون فيه مجال للرفع الشرعي ، ومن الواضح أن انسداد باب البراءة العقلية هناك وهنا لا يوجب انسداد باب البراءة الشرعية هناك بعد أن كان الجعل هناك ممكنا وكان الجعل هنا غير ممكن.

وهذه الجهة هي العمدة في نظر صاحب الكفاية في الفرق بين المقامين ، فلا يرد عليه ما في الحقائق من قوله : لكنه لا يصلح فارقا في

٥١٤

وجوب الاحتياط وعدمه في نظر العقل ... إلخ (١) فلاحظه بما تقدمه من شرح عبارة المصنف قدس‌سره بقوله : فالشك في الحقيقة يرجع إلى الشك في التكليف بالسورة ، والشك في التكليف موضوع للبراءة عقلا بخلاف الشك في المقام ... إلخ (٢) مما ظاهره أن المصنف قائل بالبراءة العقلية هناك ، اللهم إلاّ أن يكون قوله عقلا قيدا لقوله موضوع ، لا أنه قيد للبراءة ، فلاحظ.

نعم ، يرد على المصنف : أن البراءة الشرعية هناك لا تنفع في إزالة الشك في السقوط إلاّ على الأصل المثبت ، لكن هذا مطلب آخر لا ربط له بما افيد من الايراد هنا ، وحاصله : أنه يرد على صاحب الكفاية قدس‌سره أن الأمر بواجد الجزء المشكوك الجزئية وإن لم يكن معلوما ، إلاّ أن الأمر بما عداه من الأجزاء معلوم ، وبواسطة الشك في حصول الغرض به أو توقفه على الجزء المشكوك يكون سقوط ذلك الغرض بدون المشكوك مشكوكا ، فيجري فيه الاشكال الذي جرى في قصد القربة ، وهذا الايراد هو الذي أفاده شيخنا قدس‌سره في صفحة ١٠٦ (٣) فلاحظ.

ولا يخفى أن شيخنا قدس‌سره (٤) وإن منع من جريان البراءة العقلية في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، إلاّ أنه لم يمنعه من جهة كون المسألة من قبيل الشك في حصول الغرض والمصلحة ، لعدم لزوم تحصيل المصلحة والغرض عنده فيما لو كان التوقف معلوما فضلا عمّا لو كان مشكوكا ، بل إنما منعه من جهة العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا

__________________

(١) حقائق الاصول ١ : ١٧٧.

(٢) حقائق الاصول ١ : ١٧٦.

(٣) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٨٢ من الطبعة الحديثة.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٤٩٢ ـ ٤٩٤.

٥١٥

ينحل بالبراءة العقلية ، وإنما ينحل بالبراءة الشرعية ، ولأجل ذلك قال بجريانها في تلك المسألة دون البراءة العقلية.

وبالجملة : فالذي ينبغي أن يقول فيما نحن فيه بجريان البراءة العقلية كالشرعية ، أما ما أفاده قدس‌سره هنا وهناك أيضا من المناقشة مع صاحب الكفاية قدس‌سره فعمدته هو هذه الجهة ، أعني عدم لزوم تحصيل المصالح وأنه لو قلنا بلزوم ذلك فالبراءة الشرعية لا تنفع.

ولكنه قدس‌سره هنا (١) وهناك أيضا (٢) قد ناقش صاحب الكفاية بشيء آخر زائدا على ما تقدم ، وهو أنا لو لم نقل بكون اعتبار داعوية الأمر شرعيا لكونه بالجعل الشرعي يعني الأمر الثاني المتمم للجعل الأوّل ، بل قلنا بكون اعتباره عقليا ناشئا عن حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الذي هو المصلحة الباعثة على الأمر الناشئ عن تلك المصلحة ، يكون اللازم هو الاحتياط في مسألتنا وفي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لاشتراكهما في الشك في حصول الغرض والمصلحة بدون الجزء المشكوك أو بدون داعي الأمر ، وأنه لا وجه للتفرقة التي أفادها صاحب الكفاية قدس‌سره بجريان البراءة الشرعية في الأوّل دون الثاني ، إلاّ من جهة التفرقة بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي أو العادي ، ثم أطال الكلام في بيان هذا التفصيل والايراد عليه ، هذا.

ولكنك قد عرفت أن مطلب صاحب الكفاية قدس‌سره ليس مبنيا على هذه الجهة من التفرقة بين الأسباب ، بل هو مبني على ما عرفت وحاصله : أن المصلحة ليست هي مورد الوجوب الشرعي ، وأن كلا من الجزء والشرط

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٨٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٠٠.

٥١٦

ومن داعي الأمر لا تكون مدخليته شرعية ليكون شيء منهما من قبيل الأسباب الشرعية ، بل هذه الامور أعني الجزء والشرط وداعي الأمر كلها أسباب عادية للمصلحة ، غير أن الأوّل أعني الجزء والشرط لمّا كان للشارع أن يأمر به ، فمع الشك في أمره به يكون المرجع فيه هو البراءة الشرعية ، وبها يندفع الشك في حصول المصلحة ، والثاني وهو داعي الأمر لمّا لم يكن أمره به ممكنا لم تجر فيه البراءة الشرعية ، فيبقى الشك فيه في حصول المصلحة بحاله ، وحينئذ يكون الحكم العقلي بعد العلم باشتغال الذمة بالصلاة بواسطة الأمر بها باقيا بحاله بلا حاكم عليه أعني البراءة الشرعية ، ومقتضاه لزوم الفراغ اليقيني عن ذلك الأمر ، وذلك لا يكون إلاّ مع إحراز الحصول على مصلحته والغرض الباعث عليه ، وهو أعني الاحراز لا يتأتى إلاّ بالاتيان بما يحتمل دخله فيها وهو داعي الأمر ، وحينئذ تنحصر المناقشة معه في هذه الجهة من الحكومة العقلية ، وأن العقل لا يحكم على المكلفين بلزوم تحصيل الغرض والمصالح فضلا عن الالزام باحراز حصولها في مقام الشك ، ولو كان ذلك لازما بحكم العقل لا نسدّ باب البراءة الشرعية في مسألة الأقل والأكثر ، فان حديث الرفع لا يثبت إحراز المصلحة في الأقل إلاّ بالأصل المثبت ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال أن شيخنا قدس‌سره قد أخرج كلام صاحب الكفاية قدس‌سره إلى ساحة الأسباب والمسببات ، وأن المسبب هو المصلحة والسبب هو الأجزاء والشرائط وداعوية الأمر ، وأن الفرق بين الأولين والثالث هو كون سببيتهما شرعية وكون سببيته واقعية تكوينية ، فاحتاج أوّلا إلى بيان الأسباب الشرعية وهل تجري البراءة في مواردها ، وثانيا إلى بيان أن ما نحن فيه ليس من قبيل الأسباب والمسببات ، ولو كانت فهي من الأسباب العادية ، من دون

٥١٧

فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط وبين داعوية الأمر ، ولأجل بيان عدم جريان البراءة في الأسباب والمسببات الشرعية ذكر مقدمة ، وهي أنه لا بدّ فيما يجري فيه حديث الرفع من كونه مجعولا شرعيا ، وكونه مجهولا للمكلف ، وكون رفعه فيه المنة على المكلفين ، ثم مثّل لذلك بالطهارة من الحدث أو من الخبث التي هي عنوان متولد من أفعال الوضوء أو من أفعال إزالة النجاسة بالغسلتين مثلا ، وذكر الخلاف في كون المجعول هو نفس المسبب أو أن المجعول هو السببية ، وأن المختار هو الأوّل.

وعلى كل حال أن الطهارة عند اجتماع تلك الأفعال مع جميع ما يحتمل اعتباره أعني عند اجتماع الغسلتين والمسحتين مع المضمضة مثلا تكون معلومة الحصول ، وعند الاقتصار على الغسلتين والمسحتين يكون حصولها مشكوكا ، ومن الواضح أن البراءة لا تجري في الأوّل لكون الطهارة حينئذ معلومة ، وإنما يمكن توهم جريانها في الثاني ، لكن جريانها فيه خلاف المنة ( قلت : بل هو خلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن امتي ما لا يعلمون » (١) فان ذلك الرفع لا يكون عنهم ).

وهكذا الحال فيما لو قلنا بجعل السببية ، فان سببية الخمسة معلومة لكن سببية الأربعة مجهولة ، إلاّ أنه لا منة في رفعها ، إلاّ أن نوجّه الرفع إلى جزء السبب وهو المضمضة ، ونقول إن جزئيته مرفوعة ، لكنه محال في محال ، لأن جعل السببية لتلك الأفعال محال ، وبعد تسليم جعلها تكون جزئية المضمضة لذلك السبب محالا ، لما حقق في محله (٢) من أن جزئية جزء الواجب منتزعة من التكليف المتعلق بالمركب لا أن الجزئية مجعولة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١ ( مع اختلاف ).

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٣٩٢ وما بعدها ، وستأتي حواشيه قدس‌سره عليه في المجلّد التاسع.

٥١٨

هذا كله في أصل المبنى.

ثم لو أغضينا النظر عمّا ذكرناه من الاشكال فيه ، وقلنا إن جزئية السبب مجعولة ، يكون الرفع متوجها إلى جزئية المشكوك الذي هو المضمضة.

ثم بعد هذا ننقل الكلام في ابتناء ما نحن فيه على ذلك فنقول : لا ريب أن المصلحة ليست بمجعولة شرعا كي يندرج المقام في السببية الشرعية ، بل هي أمر واقعي ، ومدخلية الأجزاء والشرائط فيها واقعية صرفة كمدخلية داعوية الأمر ، فليس في البين مسبب شرعي ولا سببية شرعية ، ولا تكون هذه السببية إلاّ كحال سببية الالقاء في النار للاحراق في كونها واقعية ، غايته تعلق الأمر بالأجزاء والشرائط دون داعوية الأمر.

مضافا إلى ما عرفت في مبحث الصحيح والأعم (١) من كون الصلاة بالنسبة إلى المصالح من قبيل المعدّات لا من قبيل الأسباب فضلا عن كونها توليدية فضلا عن كونها شرعية. وعلى كل حال فلو كان الأمر متوجها إلى نفس المصالح فلا ينبغي الريب في لزوم الاحتياط فيها لعدم الشك فيها وإنما الشك في معدّها أو في أسبابها ، ولا مجال فيه للبراءة ، سواء كان المشكوك جزءا أو كان شرطا أو كان هو داعوية الأمر.

فان قلت : نلتزم بأن الأمر وارد على الأسباب أعني الأفعال ، لكن العقل حاكم بلزوم تحصيل الغرض من الأمر ، فان كان المشكوك مثل قصد داعي الأمر فلا مجال للبراءة فيه لعدم إمكان الأمر به ، بخلاف مثل الجزء والشرط فانه لمّا كان باب الوضع فيه منفتحا كان باب الرفع فيه أيضا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٦ ـ ٥٩.

٥١٩

منفتحا.

قلت : قد عرفت أن المصلحة ليست باختيار المكلف ، وإنما القابل لاختياره هو الأفعال المعدّة لها ، فلا يجب على المكلف تحصيلها ولو بحكم العقل. ولو سلّمنا أنها قابلة لاختيار المكلف وأن نسبة الأفعال إليها نسبة الأسباب التوليدية ، لم يحصل الفرق بين تعلق الأمر بها أو تعلقه بتلك الأفعال كما هو الشأن في المسببات التوليدية.

فان قلت : نلتزم بأن الأفعال معدّات للمصلحة ، ولكن يحكم العقل بلزوم تحصيلها من جهة كونها هي العلة في الأمر ، وحينئذ فلو كان المشكوك جزءا كانت له جهتان ، إحداهما كونه مأمورا به والاخرى كونه له المدخلية في الملاك ، ونفي الجهة الاولى يوجب اكتفاء الشارع بما عداه فيكون ذلك عبارة اخرى عن نفي الثانية.

قلت : ترتب نفي الجهة الثانية من اللوازم العقلية والبراءة لا تثبتها. هذا ملخص ما في التحرير من الاعتراضين وجوابهما ، وقد لخصناه وحذفنا منه ما ربما يكون من قبيل عدم مطابقة الجواب للسؤال.

وعلى أيّ حال رجع الأمر بالأخرة إلى أن دعوى صاحب الكفاية ليست بمبنية على كون المقام من الأسباب الشرعية والعقلية ، ولا على تعلق الأمر بالمصالح ، ولا على كونها من قبيل المسببات التوليدية ، وإنما كان محصل دعواه هو حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى ، ولو كان المشكوك مما يدخله الأمر كانت البراءة فيه رافعة للشك في ناحية المدخلية ، بخلاف ما لو لم يكن مما يدخله الأمر ، فلا مورد فيه للبراءة ويبقى فيه الشك في السقوط بحاله.

والجواب عنه منحصر بما عرفت من منع حكم العقل بلزوم تحصيل

٥٢٠