أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

ذلك من قبيل نتيجة التقييد الذي شرحه شيخنا قدس‌سره (١) ، ولكن حمل كلامه على ذلك بعيد جدا ، فلاحظ وتأمل.

وملخص ما فى الإشارات في الاستدلال على أصالة التعبدية : صدق الامتثال عرفا لا يحصل إلا بقصد الامتثال ، فيخرج المتشهي وناسي الأمر والمتخيل أن ما فعله هو موجب لقتل سيده فتبين أنه مأمور به ، ومع قطع النظر عن ذلك يكون مقتضى التوقيفية الاكتفاء بمورد اليقين للزوم تحصيل البراءة بعد ثبوت الاشتغال ، وما ذكرناه أظهر الأفراد ومتبادرها عند الإطلاق كتبادر النقد الرائج فيلزم حمل اللفظ عليه وبدونه يشك في الامتثال.

ثم قال ما محصله : أن الأفعال وإن صدقت مع عدم النية ، إلا أن الامتثال يتوقف عليه وإلا لتساوى فعل الغافل والناسي مع غيرهما في مقام الامتثال وهو واضح البطلان. ثم اعترض على نفسه بعدم تعرض الجماعة إلى التشبث بهذه الأدلة وركونهم إلى التشبث بالآيات والروايات. وأجاب عن ذلك الاعتراض بما حاصله أنه يحتمل أن يكون لأجل أن ما أرادوا إثباته لا يثبت بأصل اللفظ قطعا.

ثم إنه نقل عن بعضهم التشبث بذلك ، فقال بعضهم ما محصله أن الأمر يقتضي الإطاعة والإطاعة في اللغة والعرف امتثال الأمر.

وقال آخر : امتثال الأمر لا يحصل إلا بقصد إطاعته عرفا وعادة والموافقة الاتفاقية لا تكفي.

وقال ثالث : الأصل في كل عمل مأمور به أن يكون عبادة مشروطة بها لرجوع المقام إلى الجهل بالجزئية.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٤٨١

وقال رابع : الأصل فيما يتعلق به الطلب أن يكون عبادة بالأصل ما لم يثبت خلافه تحقيقا لمقتضى الإطاعة والامتثال ، انتهى ملخصا عن الإشارات (١).

وليس فيها تعرض للاستدلال بالآية الشريفة ولا بالحديث المبارك ، وهذا نص عبارته في بيان الاعتراض المذكور وبيان جوابه :

ولو قيل يؤذن كلام الأصحاب بكون ما ذكرت مخالفا لاتفاقهم ، حيث استندوا في إثبات النية بالآيات والأخبار ، ولو كان الأمر عندهم على ما قلت لتشبثوا بما ذكر.

قلنا : أوّلا عدم التعرض لأمر النية من القدماء والأوائل معروف ، ومع ذلك الاحتجاج من المتعرض له قليل ، ومع ذلك يحتمل أن يكون عدم التشبث لأجل أن ما أرادوا إثباته لا يثبت بأصل اللفظ قطعا ، ومع ذلك لا حجة فيه ، مع أنّ منهم من اعترف بما ذكرناه من غير نقل خلاف فيه ، فقال بعضهم : إنه تعالى أمرنا ونهانا وخاطبنا بأحكام كثيرة وكل ذلك يقتضي وجوب الإطاعة ، والإطاعة في اللغة والعرف امتثال الأمر مثلا ، والامتثال العرفي واللغوي لا يتحقق إلا بأن يكون ذلك الفعل الذي يفعله بقصد أنه تعالى أراد منه ولذا فعله ، وقال آخر ... إلخ.

قال في العناوين (٢) : الأصل في كل مأمور به أن يكون عبادة مفتقرة إلى قصد التقرب صادرة عن مباشر بعينه غير ساقطة بفعل غيره ، نظرا إلى أن تعلق الوجوب يقتضي لزوم الامتثال والخروج عن العهدة حذرا من العقاب ـ إلى أن قال : ـ مضافا إلى أن المتبادر من اللفظ في العرف أيضا

__________________

(١) إشارات الاصول ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) العناوين ١ : ٣٧٨ ـ ٣٨٦.

٤٨٢

ذلك ، فان ظاهر قوله « اغسل » لزوم صدور الغسل عن المخاطب لأنه المأمور بالإتيان به فيكون قيدا ومنه يعلم المباشرة ، ونرى أن أهل العرف يذمون من أتى بغير قصد أمر المولى ، بل لا يفهمون من الخطاب بالفعل إلا الإتيان امتثالا للامر ـ إلى أن قال : ـ والآتي به لا على قصد الإطاعة وإن لم يكن تاركا حقيقة ، لكن يعدّ تاركا حكما ويذمّه العقلاء باعتبار فهم العقل أن الذم في الترك الحقيقي لعدم الإطاعة فكذلك في الترك الحكمي ، والقاعدة الشرعية أيضا تقضي بذلك ، مضافا إلى الأصل اللفظي والعقلي وهو من وجوه : منها قوله تعالى (وما امروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (١) ثم أطال الكلام فيها ثم قال ومنها : قوله تعالى (اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (٢) ـ إلى أن قال : ـ ومنها الأخبار نحو « لا عمل إلاّ بنية » (٣) و « لكل امرئ ما نوى » (٤) و « إنّما الأعمال بالنيات » (٥).

ولعل الأقرب هو أن الجامع بين الأصل اللفظي وبين الأدلة السمعية إنما هو صاحب العناوين دون صاحب الإشارات.

قوله : وثانيا : أن مفاد الآية الشريفة بقرينة سابقتها ـ إلى قوله : ـ هو أن المؤمنين في مقام العبادة لم يؤمروا إلاّ بعبادة الله تعالى دون غيره ... إلخ (٦).

وقال في الحاشية : الظاهر أن الضمير في قوله تعالى : ( وما امروا إلاّ

__________________

(١) البينة ٩٨ : ٥.

(٢) النساء ٤ : ٥٩.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٤٦ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١ ، ٣ ، ٩ ، وغيرها.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٤٩ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٩ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

(٦) أجود التقريرات ١ : ١٧١.

٤٨٣

ليعبدوا الله ) يرجع إلى أهل الكتاب المذكورين قبل هذه الآية ، فحاصل المراد أن أهل الكتاب لم يكونوا مأمورين إلاّ بعبادة الله ... إلخ (١).

ما أدري من أقام هذا الظاهر وهو لفظ المؤمنين مقام الضمير وهو الواو في ( امروا ) والذي حررته عنه قدس‌سره هو هذا :

وثانيا : أن هذه الآية ليست في مقام حصر أوامره تعالى بالتعبديات ، بل هي في مقابل عبادة المشركين أو الكافرين كما يدل عليه ما قبلها ، فيكون الغرض منها نفي عبادة غير الله تعالى لا أن أوامره منحصرة في العبادات ، وحاصل مضمونها أنهم ما امروا لأن يعبدوا غير الله تعالى وإنما امروا ليعبدوه وحده مخلصين له الدين ، فأين هذا مما نحن فيه.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي قدس‌سره في تقريراته : ومعنى الآية أن الكفار لم يؤمروا بالتوحيد إلاّ ليعبدوا (٢) الله ويعرفوه ، ويكونوا مخلصين له غير مشركين. وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، انتهى (٣) فمن بدّل الكافرين بالمؤمنين ، وما هذا الحاصل الذي ذكره المحشي بقوله : فحاصل المراد ، إلاّ هو عين حاصل ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

قوله : فظهر أن توهم سقوط الأمر الأوّل مع عصيان الأمر الثاني لا معنى له ... إلخ (٤).

وذلك كما لو جاء بمتعلق الأمر الأوّل لا بداعيه بل بداع آخر ، أو أنه جاء به عن جهل بالأمر الأوّل ، وحاصل الايراد تعريض بما في الكفاية (٥)

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٧١.

(٢) لم يؤمروا إلا بالتوحيد ليعبدوا [ منه قدس‌سره ].

(٣) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ١٥٧.

(٤) أجود التقريرات ١ : ١٧٤.

(٥) كفاية الاصول : ٧٤.

٤٨٤

في إشكاله على التوجيه بتعدد الأمر ، فانه أشكل عليه أوّلا : بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها من الواجبات. وثانيا : بأن الأمر الأوّل إن سقط بالاتيان بمتعلقه لم يبق مجال للأمر الثاني ، فلا يحصل ما رامه الآمر من التوسل إلى حصول غرضه في تعدد الأمر ، وإن لم يسقط فلا وجه لعدم سقوطه إلاّ عدم حصول غرض الأمر ( يعني المصلحة الباعثة على الأمر ) فلا حاجة حينئذ إلى الأمر الثاني لحكم العقل بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره ، هذا حاصل ما في الكفاية. وكان عليه أن يشكل على الأمر الثاني ما تقدم منه (١) في الاشكال على أخذ الداعي جزءا ، بأن الارادة غير قابلة لتعلق الأمر بها لكونها غير اختيارية ، إلاّ أن يكون قد تركه إيكالا على ذكره سابقا. وكيف كان فان الغرض من نقل كلامه قدس‌سره هو الجواب عما وجهه على الشيخ قدس‌سره.

فنقول بعونه تعالى : لا يخفى أن إنكار تعدد الأمر لأنا لم نجد في صريح الكتاب أو في السنة فيما يتعلق بالعبادات سوى أمر واحد غير متجه ، فان للشيخ القائل بالتعدد (٢) أن يقول إنا نستكشف وجود الأمر الثاني مما ذكرناه من محالية كون الداعي قيدا ومن عدم حكم العقل وإلزامه به ، لأن العقل غير مشرّع مع فرض أنه معتبر في الصحة إجماعا ، فيكون هذا الإجماع إجماعا على أن الاتيان بالعمل بالداعي المذكور واجب شرعا وهو الأمر الثاني الذي ندعيه.

مضافا إلى أن صاحب الكفاية قدس‌سره يعترف بأن المصلحة متوقفة على ذلك الداعي فيكون العقل حاكما بحسنه ، وعن هذا الحكم العقلي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٣.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٠٣.

٤٨٥

نستكشف الحكم الشرعي كما هو الشأن في قاعدة الملازمة.

ومن ذلك يظهر لك أن ما أفاده في صدر المبحث من قوله : إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره ، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا (١) يتوجه عليه أن هذا الحكم العقلي إن كان عبارة عن حسن ذلك ، لكون المصلحة قائمة به ، وعن ذلك الحكم العقلي نستكشف الحكم الشرعي لقاعدة الملازمة فنعم الوفاق ، وإن كان عبارة عن كون العقل حاكما وملزما بوجوب الاتيان بالداعي المذكور على نحو الحكم الشرعي ، فذلك ممنوع أشد المنع كما أوضحه شيخنا قدس‌سره (٢).

على أنا لو سلّمنا أن للعقل هذه الحكومة فهو قدس‌سره إنما يقول بها فيما لو كانت في الشيء مصلحة أدركها العقل ولم يمكن للشارع أن يأمر به لجهة من الجهات المانعة من تصدي الشارع للالزام بذلك كما فيما نحن فيه إذا فرضنا عدم إمكان أخذه شرعا في متعلق الأمر الأوّل وعدم إمكان الأمر به مستقلا ، أما مع فرض إمكان الامر به ثانيا أمرا مستقلا شرعيا فالظاهر أنه لا وجه في ذلك للقول بأن العقل حاكم به فلا حاجة إلى الأمر الثاني الشرعي ، وهل ذلك إلاّ عبارة أخرى عن القول بانعزال الشارع والاكتفاء بما يحكم به العقل وسدّ باب الملازمة بل سدّ باب التشريع إلاّ فيما لا يدرك العقل حسنه.

وبالجملة : فالذي تلخص هو أن ما أفاده في الكفاية لا يتوجه على ما أفاده الشيخ قدس‌سره من تعدد الأمر ، ولكن هل يكون هذا التعدد ممكنا أو لا؟

قد يقال : إنه غير ممكن. أما الأمر الأوّل ، فلأن متعلقه هو ذات

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٤٨٦

الفعل ولا ريب في خلوّه بذاته عن المصلحة ، فلا يكون قابلا لتعلق الأمر به ، ولا يكون الأمر به إلاّ صوريا لمجرد فتح الطريق للأمر الثاني ، ومع فرض كون الأمر الأوّل صوريا لا يكون قابلا للتقرب فكيف يأمر ثانيا بأن يؤتى بمتعلقه بداعي التقرب. وأما الأمر الثاني فلأن متعلقه من مقولة الارادة وهي غير اختيارية.

ولا يخفى أن القائل بأن اعتبار الداعي والتقرب إنما هو بالحكم العقلي لا بالحكم الشرعي مثل صاحب الكفاية قدس‌سره يتوجه عليه الاشكالان المذكوران. أما الأوّل فلأن متعلق الأمر عنده هو ذات الفعل أيضا مع خلوّه من المصلحة ، فكيف يأمر العقل بلزوم إطاعته والاتيان بمتعلقه بداعيه ، فلا يكون الأمر عنده إلاّ صوريا كما هو عند شيخنا قدس‌سره ، بل إن الصورية عنده أشكل مما عند شيخنا ، لأنها عند شيخنا متداركة بالأمر الثاني بخلافه على مسلك صاحب الكفاية إذ لا يتداركها عنده إلاّ حكم العقل فتأمل. وأما الثاني فلأنا إذا فرضنا أن الداعي غير اختياري ، فكما لا يكون صالحا للالزام الشرعي فكذلك لا يكون صالحا أيضا للالزام العقلي ، بل إن هذا الاشكال على الأمر الثاني وارد على جميع الأوامر حتى الأوامر التوصلية ، إذ لا ريب في توقف متعلقاتها على الارادة ، فإذا قلنا إن الارادة غير اختيارية بطلت جميع تلك الأوامر لتوقف متعلقاتها على ما هو خارج عن الاختيار ، بل لازم ذلك سلب الاختيار عن كل فعل وإن لم يكن مأمورا به ، وليست هذه الشبهة إلاّ عين ما تقدم (١) من شبهة الجبر.

وكيف كان ، لا بدّ لنا من التصدي لرفع هذين الاشكالين ، فنقول بعونه

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

٤٨٧

تعالى أما الاشكال الأوّل فتوضيح الجواب عنه يتوقف على تمهيد مقدمات :

المقدمة الاولى : أن كون الصلاة مثلا واقعة بداعي الأمر حاله حال كونها واقعة مع الساتر أو إلى القبلة ونحو ذلك مما هو قيد فيها وشرط في صحتها ، غير أن هذا الشرط والقيد لا يمكن أخذه في متعلق الأمر بها ، لما تقدم من لزوم تقدم الشيء على نفسه في مقام الجعل والفعلية ومقام الامتثال ، ولا فرق في هذه المحالية بين القول بأن القيدية والشرطية في مثل الساتر والقبلة مجعولة ابتداء ويكون التكليف منتزعا عنها ، والقول بأن القيدية المذكورة منتزعة من التكليف الوارد على الصلاة المقيدة بالساتر ، لتوجه الاشكال المذكور في داعي الأمر على كل من هذين القولين. أما على القول الثاني فواضح لما عرفت من عدم إمكان أخذ الداعي في متعلق الأمر. وأما على القول الأوّل فلأن المجعول ابتداء وإن كان هو الشرطية أو القيدية بأن يجعل الشارع داعي الأمر قيدا وشرطا في الصلاة ، إلاّ أنه بعد جعل تلك القيدية لا بدّ له من إيراد الأمر على الصلاة المقيدة بذلك القيد ، وحينئذ يعود المحذور المذكور.

المقدمة الثانية : أنه بناء على المختار من كون القيدية منتزعة من التكليف ، ليس المراد به التكليف الغيري الوارد على القيد ، بل المراد به التكليف النفسي الوارد على الفعل المقيد بذلك القيد. نعم بعد ورود ذلك التكليف النفسي على الفعل المقيد بذلك القيد يكون ذلك التكليف النفسي علة لترشح تكليف غيري وارد على القيد ، فلو قال صلّ ثم قال تستّر للصلاة أو استقبل القبلة فيها ، كان ذلك الأمر الغيري الوارد على التستر أو الاستقبال معلولا لورود الأمر النفسي على الصلاة المقيدة بالتستر أو الاستقبال ، ومن هذه الجهة يكون هذا الأمر الغيري كاشفا كشفا إنيّا عن أن

٤٨٨

متعلق ذلك الأمر الأوّل الذي تعلق بالصلاة هو الصلاة المقيدة بالتستر أو الاستقبال ، وعن كون متعلق الأمر مقيدا تنتزع الشرطية والقيدية للتستر أو الاستقبال ، فليس ذلك الأمر الغيري المتعلق بالتستر أو الاستقبال إخبارا عن كون الصلاة المأمور بها الأمر الأوّل مقيدة بالتستر أو الاستقبال ، بل هو إنشائي صرف ، لكنه حيث كان معلولا للأمر النفسي المتعلق بالصلاة المقيدة بذلك القيد يكون كاشفا عن أن تلك الصلاة التي سبق الأمر بها كانت مقيدة بالقيد المزبور.

المقدمة الثالثة : أنّ كلا من الاطلاق والتقييد تارة يكونان لحاظيين وأخرى يكونان ذاتيين ، ومورد الأوّل ما يكون من الانقسامات اللاحقة للفعل مع قطع النظر عن الأمر به كما في مثل التستر والاستقبال ونحوهما ، ومورد الثاني الانقسامات اللاحقة بعد الحكم كالعلم بالحكم أو الجهل به ونحو ذلك مما يكون طارئا بعد الحكم وناشئا عنه ، ومن ذلك الاتيان بالفعل بداعي أمره المتعلق به الذي أفاد فيه شيخنا قدس‌سره (١) أن الاطلاق والتقييد اللحاظيين فيه غير معقول ، وأنه إنما يمكن ذلك فيه على نحو أخذ نتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد من متمم الجعل بالتفصيل الذي أفاده قدس‌سره (٢) في بيان كيفية متمم الجعل في أمثال هذه المقامات.

ومحصل تطبيق التقييد الذاتي فيما نحن فيه بمتمم الجعل : هو أنّ ذات الصلاة تكون في الخارج على قسمين ، قسم يكون بداعي الأمر وقسم يكون بداع آخر ، ومورد الأمر الأوّل الوارد على ذات الصلاة هو القسم الأوّل من أفرادها دون القسم الثاني ، لكن لمّا لم يمكن في مقام الأمر الأوّل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٤٨٩

تقييد الصلاة بقيد كونها بداعي [ الأمر ](١) احتاج الشارع إلى جعل ثان يتكفل الأمر بذلك القيد على نحو الأمر الغيري ، لا أنه عين الأمر الغيري حقيقة ، بل هو أمر نفسي لكنه نفسي بالغير على ما شرحه قدس‌سره (٢) في وجوب الغسل ليلا لمن وجب عليه صوم الغد ، ويكون حال هذا الأمر الثاني حال الأمر الثاني الذي تقدم (٣) في مثل قوله تستر للصلاة بعد قوله صلّ ، غير أن ذلك الأمر أعني قوله تستر للصلاة ، يكون كاشفا عن أن متعلق الأمر الأوّل أعني قوله صلّ كان مقيدا تقييدا لحاظيا بالتستر ، بخلاف الأمر الثاني فيما نحن فيه ، فانه لا يكون كاشفا عن تقيد متعلق الأمر الأوّل أعني قوله صلّ تقييدا لحاظيا بداعي الأمر ، بل أقصى ما فيه أنه يكشف عن أن الأمر الأوّل وارد على الذوات من القسم الأوّل من الصلاة أعني ما كان منها في الخارج بداعي الأمر ، من دون أن يكون الآمر قد لاحظ بأمره الأوّل تقيد الصلاة بالداعي المذكور ، بل إنه أورد الأمر على تلك الذوات ملاحظا نفسها بذاتها وإن كانت هي في واقعها واجدة لذلك القيد ، وهذا هو المراد بالتقييد الذاتي الناشئ عن متمم الجعل ، وحينئذ يكون متعلق الأوّل واجدا للمصلحة فيكون الأمر حقيقيا.

لا يقال : إن تلك الذات التي تكون بداعي الأمر تكون بمنزلة المعلول للأمر فكيف يمكن للآمر لحاظها في مقام تعلق الأمر بها ، فانه في مقام تعلق الأمر لا بدّ أن يكون لحاظ ذات المتعلق سابقا على الأمر.

لأنا نقول : إن الملحوظ في مقام الأمر هو الذات التي تكون بداعي

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣ ، ٢٠٧.

(٣) في صفحة : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٤٩٠

الأمر عند تعلق الأمر بها ، غايته أن هذا القيد لم يكن ملحوظا في مقام تعلق الأمر ، بل لم يكن الملحوظ إلاّ نفس تلك الذات مجردة عن لحاظ ذلك القيد وإن كانت واجدة له.

وبعبارة أخرى : يمكن للآمر أن ينظر إلى نفس الذات الخاصة غير ناظر إلى خصوصيتها فيطلبها ، غايته أنه في مقام الاثبات وإعلام المكلف بأن أمره وارد في الواقع على تلك الذات يأمر أمرا ثانيا بالاتيان بها بداعي الأمر ، فتأمل لئلا تتوهم أن ذلك من باب الاهمال واقعا الذي هو محال ، بل لا إهمال في الواقع ، وأن الأمر إنما ورد واقعا وفي اللوح المحفوظ على تلك الذوات الخاصة مع خروج نفس القيد عن حيّز الطلب لحاظا.

وبالجملة : ليس الاشكال في ذلك إلاّ عين الاشكال في صورة كون الحكم مختصا بالعالمين به أو أنه شامل لكل من العالم به والجاهل.

ولكن مع هذا كله فان في النفس شيئا من ذلك ، فان تلك الذات الصادرة عن الأمر لا يراها الآمر إلاّ متأخرة عن [ الأمر ](١) وإن جرّدها في مقام أمره عن قيدها المذكور أعني كونها بداعي الأمر ، مع أن إيراد أمره على تلك الذات الخارجية يخرج القضية عن كونها حقيقية إلى كونها خارجية ، وأما باب العلم والجهل بالحكم فقد تعرضنا له في مبحث القطع (٢) وأوضحنا فيه أن أقصى ما يمكن فيه هو الاطلاق الذاتي دون التقييد الذاتي فراجع وتأمل. وسيأتي إن شاء الله تعالى (٣) توضيح الاشكال على هذه الطريقة أعني طريقة أخذ الذات متعلقا للأمر وإن لم يكن القيد داخلا.

__________________

(١) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٢) لاحظ أوائل المجلّد السادس ، الحاشية على قوله : فلا بدّ من جعل آخر ...

(٣) في صفحة : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، راجع أيضا صفحة : ٤٩٦ ، ٥٢٨.

٤٩١

وأما الاشكال الثاني المتوجه على التكليف الثاني من ناحية عدم القدرة على متعلقه الذي هو من سنخ الارادة ، فقد عرفت (١) انتقاضه بما ينتهي إلى الجبر بل هو إحدى شبهات الجبر.

ولكن مع ذلك فقد تعرض شيخنا قدس‌سره للجواب عنه حسبما حررته عنه ، بامكان الجواب عنه بأنه داخل تحت الاختيار ولو بالرياضة النفسية ... إلخ.

والأولى نقل ما حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام برمّته وهذا نصّه : وما يقال على تصوير التعبدية بما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) من الجعلين ، بأن الأمر الأوّل إن سقط بمجرد الاتيان بمتعلقه بقي الأمر الثاني لغوا لا موضوع له ، وإن لم يسقط بذلك كان عدم سقوطه من جهة عدم حصول الغرض وأن العقل حاكم بأنه ما لم يحصل الغرض لم يسقط الأمر ، وإذا كان العقل حاكما بذلك فلا حاجة إلى الجعل الثاني (٣).

ففيه : ما عرفت من أن الأمر الأوّل لا يسقط بمجرد الاتيان بمتعلقه ، ولكن لا من جهة حكم العقل بأنه يلزم تحصيل الغرض ، بل من جهة الأمر الثاني الذي يكون بضميمة الأمر الأوّل منتجا نتيجة التقييد ، فان ذلك الأمر الثاني هو الملزم للمكلف بأن لا يكتفي في امتثال الأمر الأوّل بالاتيان بمتعلقه بل لا بدّ من الاتيان به بداعي أمره أو بداع قربي.

ولكن بقي إشكال وحاصله : أنا قد تقدم منا أن الداعي لا يعقل أن يكون متعلقا لارادة المكلف ، لأنه عبارة عن المحرّك للارادة نحو المراد ،

__________________

(١) في صفحة : ٤٨٨.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٠٣.

(٣) هذا المطلب مضمون ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره في كفاية الاصول : ٧٤.

٤٩٢

فهو سابق في الرتبة على الارادة فكيف يعقل أن يكون متعلقا لها ، وإذا لم يكن متعلقا لارادة المكلف لم يصح أن يتعلق به الأمر ، لأن الأمر إنما يتعلق بما تتعلق به إرادة المأمور وحينئذ نقول : إن الأمر الأوّل فيما نحن فيه تعلق حسب الفرض بنفس الفعل ، والأمر الثاني تعلق بأن يكون ذلك الاتيان بداعي التقرب ، فيكون الأمر الثاني متعلقا بداعي التقرب ، وقد عرفت أنه غير داخل تحت الارادة فكيف صح تعلق الأمر به.

ويمكن الجواب عنه : بأنه داخل تحت الاختيار والارادة ولو بواسطة الرياضة النفسية بتصور ما يترتب على وجوده من الطاعة والانقياد وعلى تركه من العصيان ، وما ذكرناه من أنه غير داخل تحت الارادة المراد منه أنه غير داخل تحت الارادة التي يكون هو الداعي إليها لكونها معلولة له ، لا أنه لا يكون داخلا تحت الارادة بقول مطلق بمعنى أنه ليس من الامور الاختيارية.

قلت : لا يخفى أنه بناء على ذلك يكون في الامتثال في العبادات إرادتان للعبد ، إحداهما متعلقة بنفس الفعل والاخرى متعلقة بالداعي ، كما أن هناك إرادتين تشريعيتين إحداهما متعلقة بنفس الفعل والاخرى متعلقة بأن يكون الأمر المذكور داعيا للاتيان به ، ومن الواضح أنه ليس في ناحية العبد إلاّ إرادة واحدة متعلقة بنفس الفعل غايته أنها كانت بداعي الأمر.

فالأولى أن يجاب عن هذا الاشكال : بأنه إن كان المراد من هذا الاشكال هو كون الداعي على إرادة الفعل غير مقدور للعبد ، كان الجواب عنه بمنع كونه غير اختياري ، بل هو اختياري ولو بواسطة ما أفاده قدس‌سره من الرياضة النفسية ، ولو التزمنا بخروج ذلك عن الاختيار لا نسدّ باب الأوامر العبادية بالمرة حتى لو قلنا إن لزوم الاتيان بداعي الأمر كان بحكم العقل ، إذ

٤٩٣

العقل لا يكلف بغير المقدور ، بل ينسدّ باب التكليف ، إذ ما من فعل كلّفنا به إلاّ وهو صادر عنّا بداع من الدواعي ، لخروج أفعال الغفلة عن حيّز التكاليف بل ينسدّ باب الاختيار بالمرّة ، وليست هذه الشبهة إلاّ إحدى شبه الجبر.

وإن كان المراد من الاشكال المزبور أنه لا بدّ في الأمر من كونه داعيا على إرادة متعلقه ، والمفروض أن الأمر الثاني ليس كذلك ، كان الجواب عنه أن ذلك إنما هو في الأوامر المتعلقة بنفس الفعل ، أما ما يتعلق بنفس الارادة أو بأحد دواعيها فلا يكون الأمر في مثل ذلك داعيا إلى إرادة العبد نحو متعلقه ، فتأمل فان صحة مثل هذا الأمر التشريعي المولوي في غاية الاشكال ، فان من شأن الأمر المولوي التشريعي هو أن يكون من دواعي إرادة المكلف على متعلقه فكيف يعقل أن يكون متعلقا بنفس إرادة العبد أو أحد دواعيها ، إذ لا يعقل في مثل هذا الأمر أن يكون داعيا لارادة العبد نحو متعلقه ، إذ المفروض أن متعلقه هو الارادة أو داعي الارادة.

اللهمّ إلاّ أن يكون الارادة أو الداعي قابلا لتعلق الارادة ، وهو ما تقدم من أن لازم ذلك أن يكون للعبد في باب العبادات إرادتان ، ولكن هذا كله على تقدير كون امتثال الأمر داعيا على الارادة الذي عرفت أنه من قبيل انفعال النفس أو أنه من كيفياتها.

أما على تقدير كونه قيدا قصديا ، فالظاهر أنه لا مانع من كونه مطلوبا للشارع كما أوضحناه فيما تقدم من تحويل الامتثال من مرحلة الداعوية إلى مرحلة القصد ، فيكون المأمور به هو الفعل الواقع بقصد الامتثال ، وحينئذ لم يبق إلاّ دعوى كون القصد عبارة عن الارادة وهي أيضا غير اختيارية ، وقد عرفت المنع من ذلك ، وأن هذه الارادة ليست هي المتعلقة للفعل التي

٤٩٤

ينوجد عنها الفعل ، بل هي من مقولة القصد نظير قصد المعنى من اللفظ فلا تكون إلاّ من أفعال الجوانح كما مرّ تفصيل الكلام في ذلك فراجع (١) ، هذا كله في دفع الاشكال الثاني.

وأما الاشكال الأوّل ، فقد عرفت أنه لا يندفع على طريقة شيخنا قدس‌سره إلاّ بالالتزام بأن متعلق الأمر الأوّل هو الذات الخاصة بخصوصية كونها بداعي الأمر ، من دون أن تكون الخصوصية المذكورة داخلة تحت الأمر ، وذلك هو محصّل التوأمية التي شرحها الاستاذ العراقي (٢) ، وكذلك مسلك الكفاية (٣) فان الأمر المتعلق بالصلاة مثلا إن كانت الصلاة فيه مطلقة كان محصل ذلك هو حكومة العقل بالتقييد ، فيكون العقل مشرّعا للتقييد ومصلحا لذلك الاطلاق في جعل الشارع ، ومن الواضح أن هذا لا يريده صاحب الكفاية ، فلا بدّ أن يلتزم بأن الصلاة التي وقعت متعلقة للأمر الشرعي هي الذات الخاصة من غير أن تدخل الخصوصية في متعلق [ الأمر ](٤) ، وحينئذ يكون ذلك عين التوأمية ، وبناء على ذلك لا نحتاج إلى متمم الجعل الذي أفاده شيخنا قدس‌سره (٥) ولا إلى حكومة العقل بالتقييد الذي أفاده صاحب الكفاية ، بل لا يكون المأمور به إلاّ نفس تلك الذات ، ولا يحكم العقل إلاّ بلزوم الاتيان بتلك الذات الخاصة كسائر أحكامه بلزوم الاطاعة بالاتيان بما تعلق به الأمر ، ولا نحتاج إلى تشريع من ناحية العقل ، بل ولا إلى أمر شرعي ثان أعني ما سمّاه شيخنا قدس‌سره بمتمم الجعل ، بل لا يحتاج إلاّ إلى بيان يكون كالقرينة

__________________

(١) صفحة : ٤٣٧ وما بعدها.

(٢) بدائع الأفكار للآملي قدس‌سره : ٢٢٨.

(٣) كفاية الاصول : ٧٢.

(٤) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

(٥) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٤٩٥

المنفصلة متكفل بأن المأمور به هو نفس تلك الذات الخاصة كما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من تسميته بيانا ثانيا.

ثم إن في النفس شيئا من حديث التوأمية ، لأن مرجعه إلى أن الشارع لاحظ نفس تلك الذات من غير إدخال الخصوصية فيها ، فان رجع إلى كون القيد خارجا وكون التقييد داخلا عاد المحذور ، وإن رجع إلى إخراج كل من القيد والتقييد عن حيّز الأمر ففي تعقله تأمل وإشكال ، بل لا يخلو من إشكال ، فان الذات التي هي توأم مع داعي الأمر تكون معلولة للأمر فتكون متأخرة عن نفس الأمر ، فلا يعقل تعلق الأمر بها.

وحينئذ ينحصر الحل بالطريقة التي شرحناها فيما أفاده الكلباسي وصاحب العناوين قدس‌سرهما من كون التقيد قهريا لا قصديا لحاظيا على ما مرّ بيانه مفصلا (٢) وأنه بمجرده لا تثبت العبادية ، وأن هذا التقيد يكون حاله حال كون الفعل مقصودا في قبال السهو والنسيان وحال اعتبار المباشرة ، وقد عرفت الكلام في إثباته وفي بيان مقتضى الأصل اللفظي والعملي عند الشك في اعتباره فراجع.

ولكن سيأتي (٣) الاشكال في ذلك وأنه مغالطة لا واقعية لها ، فان ما يقع في سلسلة الداعي وإن اختص به إلاّ أن ذلك لا يوجب تقيد متعلق الأمر.

ولكن لا يبعد أن يكون مراد صاحب الاشارات (٤) مطلبا آخر غير

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

(٢) في صفحة : ٤٦٧ وما بعدها.

(٣) في صفحة : ٥٠٥ ـ ٥٠٦.

(٤) إشارات الاصول ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

٤٩٦

التمسك بمقتضى كون الأمر داعيا ، بل صريح كلامه هو التمسك بمقتضى حكم العقل بلزوم الاطاعة ، وهي لا تحصل إلاّ بالاتيان بداعي الأمر ، ولو أتى به بداع آخر لم يكن مطيعا للأمر ولا ممتثلا له.

نعم ، في بعض الموارد يكون ذلك الحاصل بلا داعي الأمر ولا بعنوان الاطاعة والامتثال رافعا لموضوع التكليف كما لو وصل الماء إلى الثوب فطهّره ، وكما لو أدى الدين ووفّاه ، أو قام بنفقة زوجته لا بداعي الأمر ، فان ذلك وأمثاله يكون من باب ذهاب الموضوع المسقط للتكليف لا من باب الإطاعة والامتثال ، فلا يلزمه الإعادة بل ولا يترتب عليه العقاب ، فان إسقاط التكليف باذهاب موضوعه لا يكون عصيانا لذلك التكليف فلا يكون موجبا للعقاب.

واعلم أن متمم الجعل الذي يقول به شيخنا قدس‌سره (١) في وجوب الاحتياط كلية ، أو في خصوص باب الدماء والفروج ، وفي وجوب الفحص عن القدرة ، وفي وجوب الفحص في الشبهات الحكمية أو في بعض الشبهات الموضوعية ، بل في أصل وجوب التعلم بالنسبة إلى الأحكام الشرعية ، كل ذلك لا مانع منه عقلا بعد فرض قوة المصلحة الواقعية على وجه تؤثر في مقام الجهل البسيط أو في الجهل المركب بالأحكام الشرعية أو بعض الموضوعات ، فان جعل أصل الحكم لا يحصّل تلك المصالح في أمثال هذه المقامات إلاّ بمعونة ذلك الجعل الثاني الذي يكون جعله سدا لباب اعتذار المكلف على ما فصّله في محله.

أما وجوب الغسل لمن وجب عليه الصوم نهارا فقد تخلّصوا منه

__________________

(١) ذكر قدس‌سره ذلك في موارد ، منها : ما في أجود التقريرات ٣ : ١٤٣ وما بعدها ، ١٣٧.

٤٩٧

بالتعلق بالواجب المعلّق ، وحيث إن شيخنا قدس‌سره يرى محالية الوجوب المعلّق (١) فقد جعل وجوب الغسل من باب متمم الجعل ، ويكون ضمّه إلى الجعل الأوّل منتجا لنتيجة التقييد (٢).

ولا بدّ من شرح ذلك فنقول بعونه تعالى : إن الوجوب الذي أورده الشارع على الصوم إن أورده على الصوم المقيد بالطهارة فذلك تضييع للواجب ولمصلحته ، لأنه عند الفجر لو كان المكلف مجنبا نقول إنه لا يتمكن من الصوم مع الطهارة ، وقبل الفجر لا وجوب للغسل لفرض عدم وجوب ذي المقدمة ، وحينئذ ينفتح باب متمم الجعل ، بأن يوجب الغسل في الليل ليتمكن من الاتيان بالصوم عن طهارة من أول الفجر ، لكن ذلك لا يكون منتجا للتقييد ، بل يكون هذا الوجوب حافظا للقدرة على القيد ، فهو من باب وجوب تحصيل القدرة قبل الوقت لا من باب إنتاج التقييد.

نعم ، لو كان الشارع قد أورد أمره على الصوم نفسه غير مقيد بالطهارة ولكنه أوجب على المكلف أن يغتسل قبل الفجر ، يكون الشارع قد استوفى مطلوبه الأصلي ومصلحته في الصوم عن طهارة بذلك الجعل الثاني ، لأن المكلف إذا امتثل الأمر بالغسل ليلا فصار على طهارة ثم عند الفجر يمتثل الأمر بالصوم ، وحينئذ يكون صومه مقارنا للطهارة ، فقد حصل للشارع صوم عن طهارة ، لكن لا بالتقييد وإدخال القيد تحت قوله صم ، بل بما هو نتيجة التقييد ، لأن الذي يتوخاه الشارع من إدخال القيد تحت الأمر المتعلق بالصوم هو الحصول على صوم مقرون بالطهارة ، وقد حصل له ذلك بواسطة الأمر الثاني المتعلق بالاغتسال ليلا ، وحينئذ يكون هذا الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠١ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٤٩٨

المتعلق بالاغتسال متمما للجعل الأوّل ، ويكون نتيجته نتيجة التقييد ، لا أنه موجب للتقييد ويكون حاله حال ما نحن فيه.

ولكن على هذا الوجه الثاني يتجه إشكال الكفاية (١) أو نظيره بأن يقال : لو أن المكلف عصى الأمر بالاغتسال لم يبق عنده إلاّ الأمر بالصوم المفروض كونه غير مقيد بالطهارة ، فيصوم بلا طهارة ، ولا يكون عاصيا إلاّ أمر الاغتسال ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

إذا عرفت ذلك فنقول فيما نحن فيه : إن الأمر الأوّل المتعلق بذات الصلاة إن كانت الصلاة فيه هي الصلاة الخاصة التي قلنا إنها عين التوأمية مع القيد ، لم يحتج إلى جعل ثان ، بل يكفي البيان المتأخر على ذلك ليكون من قبيل القرينة المنفصلة ، وإن كانت تلك الصلاة التي تعلق بها الأمر الأوّل مطلقة ، بمعنى الاطلاق الذاتي لا اللحاظي الذي هو محال ، ثم تممه بالجعل الثاني المتمم للجعل الأوّل ، ويكون الجعل الثاني منتجا نتيجة التقييد في متعلق الجعل الأوّل ، لأن المكلف إذا امتثل كلا من الأمرين يحصل المولى على صلاة مقارنة لداعي الأمر ، من غير أن يدخل هذا القيد تحت أمره الأوّل ، اتجه إشكال صاحب الكفاية من أنه لو عصى الأمر الثاني كفاه في امتثال الأمر الأوّل الاتيان بذات الصلاة بلا داعي الأمر ، وإذا كان المراد هو الأوّل أعني كون متعلق الأمر الأوّل هو الذات الخاصة من الصلاة من دون دخول القيد تحت الأمر ، فقد عرفت أنه حينئذ لا يحتاج إلى الجعل الثاني ، وإنما يحتاج إلى البيان المتأخر والقرينة المنفصلة ، وقد عرفت (٢) أن مسلك الكفاية لا بدّ من أن ينتهي إلى هذا الوجه ، وحينئذ يكون المسلكان متوافقين

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٤.

(٢) في صفحة : ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

٤٩٩

مع مسلك التوأمية.

ولكن على هذا الحساب لا يكون الشك في التعبدية من قبيل الأقل والأكثر بل من باب التردد بين العام والخاص ، لتردد المأمور به بين الذات الخاصة والذات العامة الشاملة لكل من الذاتين ، أعني الذات المقارنة مع داعي الأمر والذات غير المقارنة ، وقد حقق في محله (١) أنه لا يرجع في مثله إلى البراءة ، بل المرجع هو الاشتغال لعدم كونه من قبيل الأقل والأكثر ، ولكن الذي يظهر من طريقة شيخنا قدس‌سره (٢) هو الوجه الأوّل أعني كون الأمر الأوّل متعلقا بذات الصلاة أعني به الاطلاق الذاتي ، وأن الأمر الثاني يكون منتجا نتيجة التقييد ، لا أنه يقيد الأمر الأوّل ولو بمفاد نتيجة التقييد ، وحينئذ يكون الأمر الثاني بمنزلة الأمر المستقل ، وعند الشك فيه يكون المرجع هو البراءة ، لأن متعلق الأمر الأوّل مطلق ذاتي على كل من وجود الأمر الثاني وعدمه.

كما أن الظاهر من طريقة الكفاية هو نظير ذلك ، أعني كون متعلق الأمر في كل من التعبدي والتوصلي هو المطلق الذاتي ، وأن العقل بعد اطلاعه على أخصية الغرض يحكم بلزوم الاتيان به بداعي الأمر ، فلا يكون بين التعبدي والتوصلي اختلاف في المتعلق ولو بالاطلاق والتقييد الذاتيين بل الاختلاف في أخصية الغرض ، وحينئذ يكون المرجع هو الشك في السقوط.

ومنه يظهر لك الكلام بناء على مسلك صاحبي الاشارات والعناوين ، فانه لو تم إقامة البرهان عليه فهو ، وإلاّ فان وصلت المسألة إلى الشك

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٠٥ / الفصل السابع. وستأتي حواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثامن.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٧٦.

٥٠٠