أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

ما حررناه عليه (١).

أمّا ما أفاده في الكفاية من تسليم تصور الآمر الصلاة مقيدة بداعي الأمر ، وتعليق الأمر بها مقيدة بذلك القيد ، ففيه : أن الآمر وإن تصور ما شاء أن يتصور واشتاق إلى ما شاء أن يشتاق إليه ، لكنه عند تعليق أمره بالصلاة ما ذا قد تصور في هذه المرتبة أعني مرتبة تعليق أمره بالصلاة ، هل تصور ذات الصلاة ولم يتصور تقيدها بذلك القيد ، فهذا خلف لما هو المراد من أن المأمور به مقيد بداعي الأمر ، وإن تصورها في تلك المرتبة مقيدة بذلك القيد ، كان اللازم أخذ الحكم في متعلقه وتصوره في مرتبة متعلقة وهو عين المحالية التي أشار إليها بقوله : لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذلك الأمر (٢) ، وهو عين المحالية التي ذكرها في المعاني الحرفية (٣) من استحالة أخذ ما هو من طوارئ الاستعمال في المستعمل فيه ، لأن مرتبة المستعمل فيه سابقة على مرتبة الاستعمال.

ومن ذلك يظهر لك الاشكال في الحاشية صفحة ١٠٣ (٤) ، فان الشوق إن كان هو غير الارادة والطلب والوجوب فذلك هو ما ذكرناه من التصور قبل جعل الحكم الذي قلنا إنه لا حرج فيه ، وإن كان هو عين الطلب والارادة والوجوب كان اللازم هو تعلق الشوق بالفعل المقيد بذلك الشوق وهو المحال الذي لا مخلص منه على تقدير تقييد متعلق الحكم بذلك الحكم نفسه.

__________________

(١) في الصفحة : ٣٩١.

(٢) كفاية الاصول : ٧٢.

(٣) كفاية الاصول : ١١.

(٤) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٥٦ من الطبعة الحديثة.

٤٢١

قوله : أما في مقام الانشاء فلما عرفت من أن الموضوع في القضايا الحقيقية دون الفرضية غير المعقولة لا بد وأن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعا ـ إلى قوله : ـ فلو اخذ قصد امتثال الأمر قيدا للمأمور به ، فلا محالة يكون الأمر موضوعا للتكليف ومفروض الوجود في مقام الانشاء ـ إلى قوله : ـ فيلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده ، وهو بعينه محذور الدور (١).

والخلاصة : هي أن مرجع القضية الحقيقية إلى قضية شرطية يكون الشرط فيها هو وجود الموضوع والجزاء فيها هو نفس الحكم ، فإذا كان نفس الأمر موضوعا ، كان محصل القضية الشرطية هو أنه لو وجد الأمر تحقق الأمر ، فكان الأمر شرطا لنفسه ، وذلك هو بؤرة الاشكالات ، وكان لازم ذلك كون وجود الأمر متوقفا على وجود نفسه ، ضرورة توقف وجود الحكم على وجود موضوعه وهي المحالية في مقام الفعلية.

وهذه الاشكالات إنما نشأت عن جعل الأمر متعلقا بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، إذ لا ريب حينئذ في أن متعلق الأمر قد اخذ مربوطا به الأمر ، ومن الواضح عدم دخول الأمر المذكور تحت الأمر بحيث يكون الواجب على المكلف الاتيان به ، نظير [ الأمر ](٢) بالصلاة المقيدة بالطهارة من الحدث القاضي بلزوم تحصيل تلك الطهارة ، فلا بد أن يكون ذلك الأمر المربوط به المتعلق خارجا عن إيجاب الاتيان ، ولازم ذلك هو أخذه مفروض الوجود كما هو الشأن في كل ما هو مربوط بالمتعلق سواء كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ ـ ١٦٢ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للاستقامة العبارة ].

٤٢٢

داخلا تحت قدرة المكلف كما في العقد في قوله تعالى ( أوفوا بالعقود )(١) أو كان خارجا عن قدرته كما في الوقت في قوله صلّ في الوقت. والأمر فيما نحن فيه من قبيل الثاني لعدم كونه داخلا تحت قدرة المكلف.

والخلاصة : هي أن الموجب لأخذ الأمر المذكور مفروض الوجود كلتا الجهتين ، الاولى : الظهور العرفي ، إذ لا فرق بين قوله صلّ بداعي الأمر وبين قوله أوف بالعقد ، في الظهور في كون الأمر والعقد قد اخذا مفروضي الوجود. والثانية : هي عدم دخوله تحت قدرة المكلف ، فيكون حاله حال الوقت في قوله صل في الوقت في كون أخذه على نحو مفروضية الوجود ، لعدم القدرة عليه المصححة لدخوله تحت التكليف.

والخلاصة : هي أن كل ما كان مربوطا بمتعلق التكليف الذي هو الفعل المأمور به ، إن قام الدليل على عدم دخوله تحت ذلك التكليف ، كان ذلك عبارة اخرى عن أخذه في المتعلق مفروض الوجود ، وأن ذلك التكليف إنما يثبت على فرض وجود ذلك الشيء ، وذلك هو بمعنى كونه موضوعا لذلك التكليف ، سواء كان ذلك الشيء مما يدخل تحت قدرة المكلف أو كان غير داخل تحت قدرته.

ومن ذلك كله يظهر لك الاشكال فيما في الحاشية (٢) من المناقشة في أخذ الأمر مفروض الوجود ، وليت شعري إذا لم يكن الأمر قد اخذ مفروض الوجود ولم يكن داخلا تحت الطلب لعدم كونه مقدورا للمكلف فما هو كيفية أخذه في قوله صلّ بداعي [ الأمر ](٣).

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٦٠.

(٣) [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٤٢٣

وكأن المحشي يتخيل أن هذا الأمر متحقق عند قوله صل بداعي الأمر فلا يكون الأمر الوارد مشروطا بوجوده.

وفيه : ما لا يخفى ، أما أوّلا : فلأن الأمر وإن وجد بقوله صل إلاّ أنه قد وجد متأخرا رتبة عن الأمر المربوط بالداعي المربوط بالمأمور به.

وأمّا ثانيا : فلأن الشرط وإن وجد وتحقق لا يكون تحققه موجبا لانقلاب الحكم المشروط به من المشروطية إلى الاطلاق في القضايا الحقيقية وإنما ذلك في القضايا الخارجية.

وأمّا ثالثا : فلأن دعوى الانقلاب بوجود الشرط إنما هو فيما لو وجد الشرط ثم بعد تحقق وجوده ورد الحكم على ذلك الشخص الواجد للشرط كما لو فرضنا أن وجوب العتق مشروط بواجدية الرقبة ، واتفق أن شخصا كان مالكا للرقبة ثم حدث منه ما يوجب كفارة العتق ، فلا حاجة حينئذ في توجيه الأمر بالعتق إليه إلى اشتراط واجدية الرقبة ، نعم يتوجه إليه قوله اعتق مجردا عن الشرط ، لكن بنحو القضية الخارجية ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن واجدية الأمر لم تكن سابقة عليه بل هي أعني الواجدية للأمر متأخرة عن تعلق الأمر رتبة ، بل يمكن القول بالتأخر الزماني.

ومن الغريب قوله في الحاشية المشار إليها : ومن ثم التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجود موضوعاتها أيضا ، وذلك لتمكن المكلف من امتثالها ولو بعدم إيجاد موضوعاتها ... إلخ (١).

ويا ليت شعري هل يمكن أن يلتزم أحد بفعلية النهي عن شرب الخمر إذا لم يكن خمر في الدنيا ، وإنما نقول إن النهي فعلي لوجود موضوعه في عالم الوجود ، نعم لو لم يتمكن المكلف من الوصول إليه كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٦٠.

٤٢٤

سقوط النهي لأجل عدم القدرة لا لأجل عدم الموضوع ، أما إذا فرض انعدام الخمر من الوجود فلا أظن أن أحدا يلتزم بفعلية النهي ، نعم نلتزم بفعليته على تقدير وجود موضوعه ، وهذا هو محصل القضية الحقيقية وهو محصل الفعلية التقديرية.

وبالجملة : أن انعدام الفعلية إنما هو لانعدام الموضوع ، لا لأجل عدم التمكن كي يدفع ذلك بقوله : وذلك لتمكن المكلف من امتثالها ولو بعدم إيجاد موضوعاتها ، انتهى. ومع قطع النظر عن ذلك يكون اللازم عند المحشي هو [ أن ](١) النهي عن شرب الخمر يقضي بالنهي عن إيجاد الخمر ، فقد أدخل الموضوع الذي هو الخمر تحت التكليف ، والمفروض أن محل الكلام إنما هو في الموضوع الخارج عن حيّز التكليف ، فلاحظ وتأمل أو انظر وتعجب.

قوله : وأمّا في مقام الامتثال ، فلأن قصد الامتثال متأخر عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده طبعا ـ إلى قوله : ـ فلا بد وأن يكون المكلف في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله ... إلخ (٢).

لعله قدس‌سره ناظر إلى أن الأمر المتعلق بالمركب من ذات الصلاة وقصد الامتثال ، أو المتعلق بذات الصلاة المقيدة بقصد الامتثال تعبدي يحتاج في حدّ نفسه إلى قصد الامتثال ، وحينئذ يكون قصد الامتثال واقعا بقصد الامتثال ، فيتأتى المحذور وهو لزوم تحقق قصد الامتثال بقصد الامتثال ، فيلزم منه تقدم قصد الامتثال على قصد الامتثال ، أما لو لم نلتزم بكون ذلك الأمر المتعلق بالمركب أو بالمقيد تعبديا يتوقف في حد نفسه على قصد

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٢.

٤٢٥

الامتثال بما تعلق به فلا يلزم المحذور المذكور ، إذ لا يتكرر حينئذ قصد الامتثال ، نعم يتأتى الاشكال في نفس ذلك الأمر وهو أنه كيف يتعلق الأمر بقصد امتثال نفس ذلك الأمر ، أو إشكال عدم القدرة بالنسبة إلى الجزء الأول من ذلك المركب ، فان ذات الصلاة إذا لم تكن متعلقة للأمر كيف يمكن الاتيان بها بقصد امتثال أمرها ، وهو إشكال الكفاية (١) الراجع إلى عدم القدرة ، لكن لا عدم القدرة على نفس الصلاة بل عدم القدرة على قصد امتثال الأمر المتعلق بها ، لأن الفرض عدم تعلق الأمر بها.

قوله : وأما بناء على ما ذهب إليه استاذ الأساطين الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) من كون قصد الجهة وهي المصلحة موجبا للتقرب في عرض قصد الأمر ، فيلزم من أخذه في المأمور به ذاك المحذور عينا ... إلخ (٣).

لعل نظر الشيخ قدس‌سره إلى أن كلا من التعبدي والتوصلي مشتمل على المصلحة ، غير أن المصلحة في التوصلي قائمة بنفس الفعل من دون توقف على إتيانه بعنوان التعبد ، بخلاف التعبدي فان مصلحته موقوفة على كونه عباديا ، وكونه كذلك يحصل عليه المكلف إما باتيانه به بداعي الامتثال أو باتيانه به بداعي المصلحة وإن لم يكن بداعي الامتثال كما في العبادة المزاحمة بالأهم فيما لو لم يتم الترتب ، وحينئذ لا يتوجه عليه إشكال أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الأمر في متعلق ذلك الأمر.

نعم ، يتوجه عليه الدور الذي أفاده شيخنا قدس‌سره من أن الاتيان به بداعي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢ ، ٧٣.

(٢) كتاب الطهارة ٢ : ٤٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٦٣ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٢٦

المصلحة يتوقف على تحقق المصلحة فيه ، وتحققها فيه متوقف على الاتيان به بداعي المصلحة لكونه محققا لعباديته التي هي حسب الفرض قيد المأمور به الموجب لتوقف المصلحة على حصوله.

ولكن يمكن أن يوجّه نظره قدس‌سره على وجه لا يتوجه عليه الدور المذكور بأن يقال : إن التوصلي وإن شارك التعبدي في كون الأمر في كل منهما عن مصلحة فيه ، ولكن ربما كانت تلك المصلحة متوقفة على القصد بأن تكون من العناوين القصدية المحتاجة في تحققها إلى قصد ، وربما كانت غير متوقفة على ذلك ، فالأول هو التعبدي والثاني هو التوصلي ، مثال ذلك النهوض فانه ربما كان مرادا للآمر من جهة كونه رياضة بدنية بأن تكون مصلحته مقصورة على ذلك ، وربما كان مرادا للآمر من جهة كونه تعظيما للوارد ، فالأول نقول إنه توصلي لتحقق المصلحة الباعثة على الأمر به بمجرد تحققه ، بخلاف الثاني لتوقف المصلحة فيه على إتيانه بداعي التعظيم أعني بقصد التعظيم ، وحينئذ يكون الدور المذكور غير وارد ، لأن هذا النحو من المصالح لم يكن من الامور المترتبة على الفعل على نحو المسببات المباينة لأسبابها التي تكون أسبابها بالنسبة إليها من قبيل المقدمات الاعدادية كما في مثل الثواب والعقاب ، بل هي من قبيل العناوين الثانوية لفعل الفاعل ، غايته أنها تارة تكون متوقفة على قصد كما في مثل التعظيم بالنسبة إلى القيام ، واخرى لا تكون متوقفة على ذلك كما في مثل الرياضة البدنية بالنسبة إلى القيام أيضا ، والذي ينبغي هو أن لا يسمى مثل التعظيم بالنسبة إلى القيام بالداعي ، لما عرفت في بعض المباحث السابقة (١)

__________________

(١) لاحظ الصفحة : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٤٢٧

من أن الداعي بمعنى العلة الغائية لا يكون اختياريا للفاعل ، بل يكون فعله بالنسبة إليه من المقدمات الاعدادية ، فالتعظيم لا يكون غاية للقيام فلا يكون داعيا اصطلاحيا ، لكن يمكن إطلاق الداعي عليه بنحو من التسامح وإلاّ فانه بنفسه يكون مفعولا للفاعل ، غايته أنه عنوان ثانوي لفعله لا عنوان أوّلي ، وذلك لا يخرجه عن كونه فعلا له ، غايته أنه يتوقف على القصد فيقال قمت بقصد التعظيم أو بداعي التعظيم ، ولا فرق في المؤدى بين التعبيرين.

وكيف كان ، نقول إنه لو كانت المصلحة الباعثة على الأمر الموجودة في المتعلق نظير التعظيم بالنسبة إلى القيام ، بحيث يكون الأمر متعلقا بالقيام وتكون المصلحة الباعثة عليه هي التعظيم ، كان قصد تلك المصلحة كافيا في تحققها ، ثم بعد ذلك نقول : إن تلك المصلحة وبعبارة أجدر إن ذلك العنوان الثانوي الذي هو الصلاح في الفعل المأمور به المفروض كونه متوقفا على القصد ، ربما كان قصد امتثال الأمر كافيا عن قصده بنفسه ، لأن قصد الامتثال قصد إجمالي لذلك العنوان الثانوي ، لأن الفرض أن الأمر الواقعي قد تعلق بالقيام الذي يقصد به التعظيم ، فكان قصد امتثال ذلك الأمر كافيا في تحقق ذلك العنوان القصدي الذي هو المصلحة أو العنوان الثانوي ، فيكون قصد امتثال الأمر وقصد ترتب المصلحة المذكورة كل منهما في عرض الآخر في كونه محققا لما هو المطلوب من ذلك الصلاح الواقعي المنوط بقصد ذلك العنوان.

ومن ذلك يظهر لك أنه يمكن سلوك طريقة في تصوير التعبدي خالية من إشكال أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلقه ، بأن نفرض أن المكلف كان جاهلا بحقيقة التعظيم وبترتبه على القيام لكن المولى كان عالما بذلك ، فلا ريب أن ذلك الآمر إنّما يعلّق أمره واقعا وفي مقام الثبوت

٤٢٨

بالقيام المشتمل على التعظيم المتوقف حسب الفرض على القصد ، لكن في مقام الحصول على ذلك واستحصاله من المكلف الجاهل المذكور الذي هو عبارة عن مقام الكشف والاراءة الذي نعبّر عنه بمقام الاثبات والدلالة لا بد لذلك الآمر من أن يعلّق أمره أوّلا بنفس الفعل ( وفي الواقع مراده الفعل الذي هو بقصد ذلك العنوان ) ثم يأمره بقصد امتثال ذلك الأمر ، لكون هذا العنوان الثانوي أعني عنوان الامتثال ملازما في الخارج للعنوان الثانوي الآخر الذي هو عنوان التعظيم المفروض كونه قصديا ، وكونه مجهولا للمكلف على وجه لا يمكنه اطلاعه عليه ، وكونه يكفي فيه القصد الاجمالي ولو بقصد ما يلازمه الذي هو قصد الامتثال ، ويكون هذا القصد المتعلق بالامتثال محققا لذلك العنوان الآخر أعني عنوان التعظيم.

ثم لا يخفى أن قصد تلك العناوين الثانوية القصدية ليس من قبيل الارادة ولا من قبيل الدواعي الاصطلاحية التي عرفت أنها غير قابلة لتعلق إرادة المكلف بها كي يتوجه عليه الاشكال المتوجه على الأمر الثاني الذي هو متمم الجعل كما تقدّم تفصيله (١).

بل إن تلك العناوين الثانوية هي من أفعال المكلف غايتها أنّها تتوقف على القصد ، ومن الواضح أن نفس القصد فعل اختياري قابل لتعلق إرادة المكلف ، وحينئذ يصح تعلق أمر الآمر به وطلبه من العبد ، فالعبادية عبارة عن القصد إلى ذلك العنوان الثانوي الذي فرضنا كونه مجهولا للمكلف ، وأنه يمكن تحصيله من ذلك المكلف بأن يقصد العنوان الثانوي الآخر الملازم قصده لتحقق ذلك العنوان المطلوب ، وذلك العنوان الثانوي

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

٤٢٩

الآخر هو الامتثال ، وهو أيضا فعل اختياري للمكلف ، غايته أنه عنوان ثانوي لفعله المذكور ، لا أنه من المسببات التوليدية التي لا تكون إلاّ داعيا محضا.

ثم لا يخفى أن ذلك العنوان الثانوي الذي هو مناط العبادة الذي قلنا إنه ملازم في القصد لعنوان الامتثال ، لا بد من فرض كونه قصديا وإلاّ لكان نفس الفعل محققا له بلا حاجة إلى توسط قصد الامتثال.

قوله : فيلزم من أخذه في المأمور به ذاك المحذور عينا ... إلخ (١).

لا يخفى أنه لو كان مراد الشيخ قدس‌سره أنّ ذات الواجب التعبدي فيه مصلحة كما في التوصلي ، لكن التعبدي يزيد على التوصلي أن الشارع قيّد الاتيان بذلك الفعل بكونه بقصد المصلحة المترتبة على نفس [ الفعل ](٢) بخلاف التوصلي ، لم يرد عليه شيء ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره.

نعم ، إن ذلك التقييد لا بد أن يكون لمصلحة اخرى لا دخل لها بمصلحة أصل الفعل ، بنحو لا يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل تكون المصلحة في نفس التقييد لا في مجرد الاتيان بأصل الفعل ذي المصلحة بداعي مصلحة نفسه.

لكن ذلك وإن اندفع به المحذور الذي أفاده شيخنا قدس‌سره إلاّ أن التخلص عن كونه من قبيل الواجب في واجب في غاية الصعوبة ، لأن المصلحة الاولى الراجعة إلى ذات الفعل إن كانت غير متوقفة على استيفاء المصلحة الثانية القائمة بالاتيان به بداعي مصلحة نفسه ، كان من قبيل الواجب في واجب ، وكان لازمه سقوط التكليف لو لم يأت به بداعي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٣.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٤٣٠

مصلحة نفسه.

وإن كانت المصلحة الاولى متوقفة على استيفاء المصلحة الثانية ، توجّه المحذور الذي أفاده شيخنا قدس‌سره لأن مصلحة ذات الفعل حينئذ متوقفة على قصد مصلحة ذاته ، وحينئذ لا فرق بين ذلك وبين أن لا يكون في ذات الفعل مصلحة أصلا ، وإنما كانت المصلحة منحصرة بالتعبد به الذي هو الاتيان به بداعي المصلحة في تأتّي المحذور الذي أفاده شيخنا قدس‌سره.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أن تلك المصلحة المتوقفة على القصد المذكور إن كانت نسبتها إلى الفعل المذكور كنسبة العناوين الثانوية المتقومة بالقصد إلى العناوين الأولية نظير نسبة عنوان التعظيم إلى القيام في كونه عنوانا ثانويا متولدا من كونه مقصودا بالقيام ، فلربما قلنا إنه لا يتوجه عليه المحذور المذكور ، لأنّ هذا العنوان الثانوي القصدي الذي هو التعظيم وإن توقف على قصده من القيام إلاّ أن قصده منه كاف في حصوله ، ولا يتوقف على اتصاف القيام بكونه في حد نفسه تعظيما.

وهكذا الحال في المصلحة فيما نحن فيه فانها وان توقفت على قصدها من الفعل ، إلاّ أن قصدها من الفعل كاف في حصولها ، ولا يتوقف قصدها على اتصاف الفعل بها في حدّ نفسه.

لكن الظاهر أن المصلحة المترتبة على الأفعال ليست من العناوين الثانوية التي تكون مقدورة للمكلف بواسطة القدرة على الفعل بعنوانه الأولي ، غايته أنها متوقفة على القصد ، بل إن المصلحة معلولة للفعل وهي مباينة له ، فلا يعقل أن يكون حصولها من الفعل متوقفا على قصدها ، لأن قصدها متوقف على حصولها بالفعل وحصولها بالفعل يتوقف على قصدها.

٤٣١

أمّا ما ذكره في الحاشية صفحة ١٠٨ (١) فلعله راجع إلى دعوى انبساط المصلحة على كل من الفعل وقصد المصلحة ليكون حالها حال الأمر فيما تقدم منه في حاشية صفحة ١٠٦ و ١٠٧ (٢) ، وقد عرفت ما فيه ، مضافا إلى أن المصلحة ليست قابلة للتبعيض المدعى في الأمر. أو لعله راجع إلى الوجه الأول مما ذكرناه ، أعني كون المصلحة من سنخ العناوين الثانوية ، وقد عرفت ما فيه ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك يتضح لك الاشكال فيما تضمنه تحرير الآملي لدروس الاستاذ العراقي قدس‌سره (٣) فراجعه فانه عين ما في الحاشية المذكورة.

قوله : وأمّا على المختار من كون جميع الدواعي القربية في عرض واحد ، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله تعالى كما يستفاد من قوله عليه‌السلام « وكان عمله بنية صالحة يقصد بها ربه » (٤) فوجه امتناع أخذ الجامع المنطبق على جميع الدواعي ... إلخ (٥).

لا بد أن يكون المراد من كون العمل لله تعالى هو رضوانه ، وبقية الدواعي كلها مصاديق لكونها محققات لرضاه ، أما لو اخذ الرضوان بمعنى آخر وهو المشار إليه بقوله تعالى ( ورضوان من الله أكبر )(٦) فلا أظن إلاّ

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٦٣ من الطبعة الحديثة.

(٢) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٦٠ ـ ١٦١ من الطبعة الحديثة.

(٣) بدائع الأفكار : ٢٣٥.

(٤) [ لم نعثر على لفظه ، نعم روي ما يستفاد ذلك منه ، راجع وسائل الشيعة ١ : ٥٩ / أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ].

(٥) أجود التقريرات ١ : ١٦٣ ـ ١٦٤ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٦) التوبة ٩ : ٧٢.

٤٣٢

أنه معنى آخر أعلى من الجميع نظير قوله عليه‌السلام « بل وجدتك أهلا للعبادة » (١) وعلى أيّ حال فان في كون الداعي أيّ داع كان متعلقا للأمر إشكالا من جهتين :

الاولى : أنه عبارة عما يكون تصوره باعثا على الارادة الموجدة للفعل ، فهو أعني ذلك التصور يطرأ على النفس قهرا ولا تدخله الارادة والاختيار ، نعم يكون الفعل المنبعث عن الارادة المنبعثة عن ذلك التصور اختياريا.

الثانية : ما أشار إليه شيخنا قدس‌سره من كونه سابقا على الارادة المتعلقة بالفعل فلا تتعلق به إرادة المكلف ، وإذا لم تتعلق به إرادة المكلف لم يكن قابلا لتعلق الارادة الشرعية ، لأنّها تحدث في ناحية المكلف نفس الداعي على الارادة المتعلقة بالفعل ، فإذا فرضنا استحالة كون الداعي تحت إرادة المكلف كان لازمه استحالة تعلق الارادة الشرعية به ، فان كان مراده قدس‌سره استحالة كون الداعي متعلقا لارادة المكلف بالمرة الموجب لاستحالة تعلق الارادة الشرعية ، ورد عليه ما في الحاشية صفحة ١٠٩ (٢) وكما تضمنه تحرير الآملي (٣) لدرس الاستاذ العراقي قدس‌سره أوّلا : النقض بالأمر الثاني الذي صحح به المسألة الذي سمّاه متمم الجعل فانه متعلق بالداعي. وثانيا : أن الارادة التي يستحيل تعلقها بالداعي هي الارادة المنبعثة عنه ، أعني الارادة المتعلقة بالفعل الصادرة عن ذلك الداعي ، أما تعلق إرادة اخرى به هي فوق تلك الارادة فلا مانع من تعلقها بالداعي بعد فرض كونه اختياريا ، وغض النظر

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ١٨٦ / ٧ ( باختلاف يسير ).

(٢) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٦٤ من الطبعة الحديثة.

(٣) بدائع الأفكار : ٢٣٦.

٤٣٣

عن الاشكال فيه من الجهة الاولى ، وتكون تلك الارادة المتعلقة بالداعي صادرة عن داع آخر ، فهناك داع يدعو إلى تعلق الارادة بايجاد الداعي ، وهذا الداعي الثاني يدعو إلى إرادة ثانية تتعلق بالفعل الخارجي.

ولا يبعد أن يكون نظر شيخنا قدس‌سره في هذا الاشكال مقصورا على ما إذا كان الأمر الشرعي واحدا متعلّقا بالفعل الصادر عن الارادة الصادرة عن الداعي ، فيكون ذلك الأمر الواحد محدثا للداعي في نفس المكلف أعني به الداعي المحرك لارادة المكلف ذلك الفعل ، ومن الواضح أن نفس ذلك الداعي على تلك الارادة المتعلقة بالفعل لا يعقل دخوله تحت تلك الارادة ، ليكون ذلك الأمر المتعلق بذلك الفعل متعلقا أيضا بذلك الداعي.

قال قدس‌سره فيما حررته عنه بعد أن ذكر الاشكال في الجميع وأوضحه بعض الايضاح ما هذا لفظه : وبالجملة فلا يمكن أن تكون الارادة الواحدة من المولى جامعة لنفس الفعل وللداعي إليه ، وهذا مطلب سيّال في جميع الدواعي على الأفعال ، فانّها بأسرها لا يمكن أن تكون قيدا لما تعلّقت به إرادة المولى بحيث تكون الارادة الواحدة من المولى متعلقة بنفس الفعل وبالداعي للعبد على الاتيان به ، انتهى.

وقال قدس‌سره في رسالته في التعبدي والتوصلي ما هذا لفظه : فحيث إن متعلق الارادة والداعي الباعث لها طوليّان ليس أحدهما في رتبة الآخر ولا صالحا لأن يتركب معه أو يكون من كيفياته وحالاته ، ولا يعقل وقوعهما تحت إرادة واحدة فاعلية بشيء من الوجهين ، فلا يعقل أن تتعلق بهما إرادة واحدة آمرية ويتكفلهما بعث واحد كذلك ، وليس متعلق الارادة الآمرية إلاّ عين ما تتعلق به الارادة الفاعلية بتوسيطها دون نفسها كي يمكن تقييدها بالمنبعثة عن داع كذائي ، وإلاّ لزم أن تكون بارادة اخرى كما لا يخفى ...

٤٣٤

إلخ (١).

نعم ، يمكن ذلك بأمر آخر يتعلق بذلك الداعي ويكون باعثا للمكلف وداعيا له إلى تعلق إرادة اخرى تتعلق بذلك الداعي ، فيكون ذلك الأمر الثاني محدثا لداع ثان في نفس المكلف يحمله على تعلق إرادته بالداعي الباعث على الارادة المتعلقة بالفعل ، فلا يرد عليه الاشكال الثاني لأنه قدس‌سره لم يمنعه فيما إذا كان بأمر ثان ، ولا النقض بالأمر الثاني الذي هو متمم الجعل ، نعم يبقى إشكال الجهة الاولى وهو كون الداعي غير قابل لتعلق الارادة به أصلا لكونه يحدث قهرا في نفس الفاعل.

ولا يخفى أن ذلك ( أعني كون هناك داع يدعو المكلف إلى تعلق إرادته بايجاد الداعي الثاني الموجب لتعلق إرادته ثانيا بنفس العمل الذي هو الصلاة ليكون هناك داعيان وإرادتان وأمران شرعيان يتعلق أحدهما بالفعل والآخر بالداعي على الارادة المتعلقة بذلك الفعل ) ممّا يكاد يحصل القطع بعدمه ، وهو خلاف ما نجده وجدانا في أعمالنا العبادية ، فان كل مسلم حينما يقدم على الصلاة لا يرى من نفسه أنه قد حدثت عنده إرادتان تعلقت إحداهما بنفس العمل والاخرى بالداعي على تلك الارادة ، وأن له داعيين داعيا على إرادة العمل وداعيا على إرادة ذلك الداعي ، وشيخنا قدس‌سره وإن قال بتعدد الأمر إلاّ أنه لا يبعد أن يكون مراده أن متعلق الثاني هو القصد القائم بالعمل ، بمعنى أن الأمر الثاني يتعلق بقصده الامتثال بالاتيان بالفعل ، لا أن متعلقه هو نفس الداعي كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) رسالة في التعبدي والتوصلي ( مخطوطة ) : ١٢.

(٢) في صفحة : ٤٣٧ وما بعدها.

٤٣٥

ثم لا يخفى أنه بناء على ذلك لا يمكن التركيب بين المتعلقين ليكتفى في ذلك بأمر واحد متعلق بالمجموع ، إذ لا تركيب بين نفس الفعل وبين الداعي على إرادته. مضافا إلى ما عرفت من عدم اختيارية الداعي ، نعم يمكن جعل الأمر الثاني متعلقا بالقصد ، وحينئذ يصح التركيب من الفعل وقصد عنوان الامتثال به ، ويكتفى بالأمر بالمجموع أو المقيد ، لكن لو كان على نحو التركيب توجه عليه الاشكالات الأربعة التي عرفتها (١) ، ولو كان على نحو التقييد بأن يكون الأمر متعلقا بالفعل المقصود به امتثال ذلك الأمر لزم أخذ الأمر في متعلق نفسه ، فيكون من قبيل كون الأمر شرطا في نفس الأمر.

ولكن المحشي (٢) لم يظهر من كلامه في دعوى الأمر الواحد الفرق بين كون متعلق الأمر الثاني هو الداعي أو كونه هو القصد ، بل إنه مع تصريحه بكون المتعلق للأمر الثاني هو الداعي جعل المتعلق فعلا نفسانيا ، وقد عرفت أن الداعي انفعال نفساني وهو غير قابل لتعلق الأمر به ، وأن الذي هو فعل نفساني هو قصد العنوان الثانوي للفعل وهو عنوان الامتثال الذي هو فعل ثانوي للفاعل ، وأنه لكون قوامه القصد يكون فعلا نفسانيا.

ثم لا يخفى أن المستفاد من تحرير الآملي (٣) أن إشكاله ثانيا منصب على الداعي إلى الداعي ، فانه وإن صوّر المقام بوجود داع آخر يتعلق به الأمر ليكون الأمر داعيا إلى الداعي ولازمه توسط الارادة بين الداعيين ، إلاّ أنه مع ذلك جعل المقام من قبيل الداعي إلى الداعي ، ومن الواضح أن

__________________

(١) في صفحة : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٦٤.

(٣) بدائع الأفكار : ٢٣٦.

٤٣٦

مسألة الداعي إلى الداعي لا دخل لها بتوسط الارادة بين الداعيين ، بل إن مسألة الداعي إلى الداعي هي كون الفعل له فائدتان طوليتان ، ففائدة الفعل هي الامتثال وفائدة الامتثال هي الثواب ، وفي الحقيقة يكون الداعي الحقيقي هو الثواب.

ولأجل ذلك أفاد شيخنا قدس‌سره في حاشيته على العروة فيما أفاده الماتن في الصلاة الاستيجارية بقوله : لكن التحقيق أن أخذ الاجرة داع لداعي القربة ... إلخ ، ما هذا لفظه : الظاهر أن إيراده تقريبا للاشكال أولى من أن يذكر دفعا له (١) ، وتوضيحه هو ما عرفت من أنه عند اجتماع الدواعي الطولية يكون الداعي الحقيقي على الفعل هو الأخير ، فإن الأجير يفعل الفعل بداعي القربة ليترتب عليه أخذ الاجرة ، فكان الداعي الحقيقي هو أخذ الاجرة ، لكن الذي يريده المحشي فيما نحن فيه هو توسط الارادة بين الداعيين وإمكان تعلق الارادة المتوسطة بالداعي.

والتحقيق أن الداعي لا يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل أصلا سواء كانت هي الارادة التي كان ذلك الداعي باعثا عليها أو كانت هناك إرادة اخرى تتعلق بايجاد ذلك الداعي. أما الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أن الداعي ليس من أفعال النفس بل هو من انفعالاتها أو من كيفياتها فلا تدخله الارادة والاختيار ، وإن شئت توضيح ذلك فنقول بعونه تعالى :

إن كون الشيء داعيا أعني كون تصور ترتبه على الفعل باعثا على الارادة المتعلقة بذلك [ الفعل ](٢) مرحلة وهي مرحلة انفعال النفس ، وكون

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام ) ٣ : ٧٩ مسألة ٢ من صلاة الاستئجار.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٤٣٧

الفعل واقعا بقصد العنوان الفلاني مرحلة اخرى وهي مرحلة الفعل النفساني. إذ ربما اتحد مورد المرحلتين كما في الامتثال فان تصور ترتبه على فعل المأمور به يكون داعيا ، وهو أيضا يكون مقصودا بالفعل ، بمعنى أن المكلف عند ما يقدم على الفعل المأمور به يكون قد قصد به امتثال الأمر ، ولعل هذا جار في جميع العناوين الثانوية التي قوامها القصد مثل التعظيم الحاصل بالقيام.

وربما كان الداعي مقصورا على المرحلة الاولى كما في الثواب والفرار من العقاب ، فان تصور ترتبه على الفعل يكون داعيا للمكلف وباعثا لارادته نحو الفعل المأمور به ، لكن ترتبه على الفعل لا يتوقف على قصده لعدم كونه من العناوين الثانوية فضلا عن كونه متقوما بالقصد ، نعم ربما قصد المكلف بذلك الفعل ترتب الثواب عليه ، لكن ذلك غير دخيل في ترتب الثواب عليه إلاّ إذا دل الدليل على تقييد المأمور به بأن يفعل بقصد ترتب الثواب عليه ، ولازم ذلك هو أن ذلك الثواب لا يترتب على ذات الفعل بل إنما يترتب على فعله بقصد الثواب ، وحينئذ يتوجه الاشكال الذي شرحناه في المصلحة.

وربما كان العنوان مقصورا على المرحلة الثانية كما في العبادة والخضوع فانها عنوان ثانوي للفعل متوقف على القصد ، لكن ليست من الدواعي ، فان الداعي لإيقاع الانحناء بقصد الركوع أو إيقاع وضع الجبهة على الأرض بقصد السجود أو بقصد العبادة والخضوع مطلب آخر وهو الثواب أو الفرار من العقاب أو مجرد الامتثال ، إلى غير ذلك من الدواعي.

ولا يخفى أن المهم لنا هو التباين بين المرحلتين ، فإن مرحلة الداعي إنما هي قبل إرادة الفعل ، ومرحلة قصد العنوان من الفعل إنما هي متأخرة

٤٣٨

عن الارادة ، بمعنى تعلق الارادة بالفعل وقصد العنوان به ، ولا يهمنا تحقيق التلازم موردا بين المرحلتين ، بمعنى أن كل ما يكون تصور ترتبه على الفعل داعيا على إرادته يكون هو عنوانا مقصودا بالفعل ، أو التفكيك بين المرحلتين موردا ، ليكونا نظير العموم من وجه ، فإن تحقيق ذلك لا يهمنا ، وإنما المهم لنا هو ما عرفت من التباين بين المرحلتين ، أعني مرحلة كون الشيء داعيا ومرحلة كونه مقصودا بالفعل.

لا يقال : إن القصد عبارة عن الارادة فلا يقع موردا للتكليف ، لأنه لا تتعلق به إرادة الفاعل ، حيث إن الارادة لا تكون بارادة اخرى وإلا لزم التسلسل ، وهو ما أشار إليه في الكفاية (١) في جواب إن قلت الأخيرة.

لأنا نقول : إن القصد فعل نفساني وليس هو عين الارادة ، بل بعد البناء على كونه فعلا من أفعال النفس أعني كونه فعلا قلبيا لا مانع من تعلق الارادة به ، ولو سلّمنا كونه عين الارادة لقلنا إن المأمور به هو القيام المقيد بالتعظيم ، وهذا المقيد يقع متعلقا لارادة واحدة من المكلف ، غايته أن ذات الفعل الذي هو ذات القيام لا يتوقف على الارادة بل ربما وجد من فاعله سهوا أو غفلة ، لكن القيد الذي هو كونه تعظيما يتوقف على الارادة ، فتلك الارادة المتعلقة بالقيام المقيد بالتعظيم تكوّن نفس القيام وقيده الذي هو التعظيم ، ويكون الحاصل هو تعلق إرادة المكلف بالقيام والتعظيم ، ويكون ذلك أعني القيام والتعظيم الذي هو قيده متعلقا لأمر المولى الموجب لتعلق إرادة المكلف بهما ، فلا حاجة إلى الالتزام بأن المأمور به هو القيام وقصد التعظيم ، وإن كان المتعين هو ما ذكرناه من كون قصد التعظيم بالقيام ليس

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٣ [ وهي « إن قلت » ما قبل الأخيرة في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ].

٤٣٩

هو من مقولة الارادة النفسانية الباعثة على الفعل ، بل هو من أفعال النفس وهو من سنخ قصد المعنى من اللفظ ، فإنه وإن عبّر عنه بارادة المعنى من اللفظ ، إلاّ أن المراد بالارادة ليس هو تلك الارادة النفسانية الباعثة على الفعل ، بل المراد بها ما عرفت من القصد الذي هو فعل جناني.

نعم ، في العنوان الثانوي غير المتوقف على القصد مثل الاحراق بالنسبة إلى الالقاء في النار ، يكون قصد الاحراق من الالقاء من مقولة الارادة النفسانية ، حيث إن نفس فعل الالقاء هو إحراق وإن لم يكن الملقي عالما بوجود النار ، غايته أنه قد أحرقه بلا إرادة وقصد ، بخلاف ما لو كان عالما وأراد إحراقه فألقاه في النار فانه حينئذ يكون قد أحرقه بالارادة ، وحينئذ يكون قصد الاحراق عبارة اخرى عن إرادة الاحراق ، بخلاف مثل التعظيم الذي يكون قوامه القصد ، فان هذا القصد ليس هو نفس الارادة بل ذلك القصد الذي هو فعل قلبي حاصل بالارادة ، فلاحظ.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن المرحلة الاولى أعني كون الشيء داعيا لا يدخلها الاختيار ولا يتعلق بها الأمر ، بخلاف المرحلة الثانية التي هي مرحلة القصد ، وحينئذ نقول إن هذه الدواعي التي عددها شيخنا قدس‌سره إن كان المنظور بها هو المرحلة الاولى ، استحال تعلق الارادة بها تكوينية من العبد أو تشريعية من جانب الشارع ، وإن كان المنظور بها هو المرحلة الثانية دخلت تحت الاختيار وأمكن تعلق الأمر بها ، وهذا هو ما نسمّيه بأفعال النفس أو أفعال القلب أو أفعال الجوانح في قبال أفعال الجوارح.

نعم ، إن بعض هذه العناوين القصدية لا يمكن أخذها قيدا في متعلق الأمر بأمر واحد ، وذلك مثل قصد امتثال الأمر المتعلق بذلك العمل ، بأن

٤٤٠