أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

الخاص بما أنه مصداق لذلك العام كان من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، وإن كان الموضوع له هو الخاص بخصوصيته بحيث تكون الخصوصية داخلة في الموضوع له ، لم يكف فيه تصور العام ، بل لا بدّ فيه من تصور تلك الخصوصيات بشخصها ، وتصور الخصوصية وان كان ممكنا من تصور العام ، إلاّ أنه من قبيل الانتقال من تصور العام إلى تصور الخاص ، وبعد تصور الخصوصية ولو بواسطة تصور العام نضع اللفظ لتلك الخصوصية ، فيكون حينئذ من قبيل الوضع الخاص والموضوع له خاص ، فتأمل.

قوله : بخلاف الحروف فانها بنفسها ما لم تكن في ضمن كلام تركيبي لا تفيد شيئا أصلا (١).

لكن لا لمجرد القصور في لفظها عن الاستقلال بالتلفظ كلفظ الباء والهيئة ، بل لأجل القصور في معناها عن أن يخطر وحده في الذهن وإن أمكننا النطق بلفظ الحرف وحده كهل وبل وإلى وعلى ، فيكون الحجر الأساسي في هذه المقدمة هو استقلال المعنى الاسمي وعدم استقلال المعنى الحرفي ، سواء كان المنشأ في ذلك هو نفس هذه الجهة أعني عدم الاستقلال بالمفهومية ، أو كان المنشأ فيه هو كون معنى الحرف إيجاديا فلا يمكن حضوره في الذهن إلاّ مع ما يوجد فيه معناه (٢). وهذا المعنى أعني

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥ ، [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) وكما أنّ قصور معناها مانع من ذلك لعدم معقولية حضوره في الذهن وحده بدون المنتسبين ، فكذلك قصور لفظها فإنّه وإن تركب من حرفين أو ثلاثة أو أزيد إلاّ أنه جزء الموضوع ، حيث إن الموضوع للاستعلاء ليس هو مطلق لفظة « على » بل إن الموضوع للاستعلاء هو لفظة « على » المتوسطة بين الصعود والسطح ، فلو جئت بها

٤١

عدم استقلال المعنى الحرفي بمعنى عدم حضوره وحده في الذهن ، لا ينافي الاستدلال بالتبادر التصوري على كونه حقيقة في المعنى الفلاني ولو كان التبادر تصوريا ، كما يقال إنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب للتبادر ، وذلك بأن تؤخذ صيغة الأمر طارئة على مادة من المواد ولو الجامع بين الجميع ، كما يقال صيغة افعل حقيقة في الوجوب ، لأن المتبادر من هذا اللفظ أعني لفظ الهيئة الطارئة على تلك المادة هو الوجوب.

قوله : أما الاولى فكحروف التشبيه والنداء والتمني ... إلخ (١).

هذه الحروف ونحوها وإن كانت إيجادية إلاّ أنها لا توجد معناها إلاّ في الغير الذي هو مفاد الجملة في قولك كأنّ زيدا أسد أو لعله أسد أو ليته أسد ، أو هو مفاد المفرد مثل حرف النداء الذي مفاده إيجاد النداء مربوطا بزيد ، والغرض أنه ليس لنا من الحروف ما يكون موجدا معناه في صقعه من دون أن يكون مربوطا بالغير.

قوله : الثالثة : أن الموضوع للنسب تارة يكون في مقام لفظه مستقلا كلفظة من ... إلخ (٢).

الأولى أن يقال : إن معنى « من » ليس هو نفس النسبة بين السير والبصرة ، بل هو جهة لتلك النسبة بينهما ، وأنّها على جهة الابتداء ، وإلاّ فإنّ قوام النسبة بينهما إنما هو بالهيئة المتقومة بينهما ، غايته أنّ الفعل لمّا كان قاصرا عن الاتصال بالاسم بايصال معناه إليه ، فيكون الحرف واصلا بينهما

__________________

مجردة عن هذين كانت بمنزلة الاتيان بنصف لفظة الاسم في الخروج عن كونه موضوعا ودالا على معناه ، والخلاصة هي أن المانع هو قصور اللفظ والمعنى لا قصور المعنى فقط [ منه قدس‌سره ].

(١ و ٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥.

٤٢

على الجهة التي يتضمنها ذلك الحرف من ابتداء أو انتهاء ونحو ذلك ، والسر في ذلك هو أنّ النسبة بين ذلك الفعل وذلك الاسم لا تتقوّم بينهما من دون ما يدل على جهة النسبة بينهما ، وذلك هو معنى قصور الفعل ، وربما كان الفعل صالحا لتقوّم النسبة بينه وبين الاسم ، لكن يؤتى بالحرف بينهما ليدل على فائدة وهي أن المطلوب هو إيصاله إليه على الجهة التي يتضمّنها الحرف مثل قوله تعالى : ( وامسحوا برؤوسكم )(١) ليدل على أنّ المطلوب هو الالصاق.

قوله : وأما القسم الأول فالنسبة فيه تنزيلية ، بمعنى أنّه يلاحظ الموضوع عاريا عن ذاته ، لا بمعنى كونه بشرط لا ، بل بمعنى عدم لحاظ ذاته معه ... إلخ (٢).

الظاهر أنّ هذا أعني لحاظ الموضوع لا بشرط بالقياس إلى المحمول جار في جميع القضايا الحملية ، من دون فرق بين كون المحمول فيها تمام الذات أو كونه جزء الذات أو كونه عارضا لها مثل زيد إنسان أو زيد ناطق أو زيد قائم ، فإنّ الموضوع في جميع ذلك لا يكون بالقياس إلى المحمول مأخوذا بشرط شيء وإلاّ كانت القضية ضرورية الثبوت ، ولا بشرط لا وإلاّ لكانت ضرورية السلب ، بل إنّما يكون الموضوع مأخوذا فيها جميعا لا بشرط ، ولأجل ذلك يصح حمله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه في بعض مباحث المشتق (٣). نعم ، أخذ زيد لا بشرط بالقياس إلى نفس ذاته يحتاج إلى نحو من العناية ، لا أنّ العناية هي نفس أخذه لا

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٦.

(٣) راجع صفحة : ٢٧٩ وما بعدها.

٤٣

بشرط.

ثمّ إنّ المراد من قولهم يؤخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول ، ليس المراد الاطلاق من هذه الناحية ، بل المراد عدم اللحاظ من هذه الناحية ، فإنّ لحاظ الموضوع لمّا كان سابقا في الرتبة على المحمول كان من المستحيل لحاظ المحمول فيه وجودا أو عدما أو إطلاقا ، بل لا يكون في تلك الرتبة إلا عدم اللحاظ بالقياس إلى المحمول.

لكن يشكل الأمر في المحمول الذي هو تمام الذات مثل زيد إنسان ، إذ لا يمكن عدم لحاظ المحمول في مثل ذلك الموضوع ، لأنه عبارة اخرى عن عدم لحاظ نفس الموضوع ، ولعلّ ذلك من لوازم كون القضية ذاتية ، وإلاّ فلو قلنا إنّها من قبيل الحمل الشائع ، كان المحمول عليه هو ذلك الفرد أعني نفس الموجود ، وهو أعني مصداق الموجود صالح لعدم لحاظ المحمول فيه.

قوله : إيجادية ونسبية (١).

ذكر للنسبية ألفاظا مستقلة وألفاظا غير مستقلة كالهيئة ، ولم يذكر تحقق الايجادية بالهيئة ، ولا يبعد القول بأن الايجادية تتحقق بالهيئة كما في هيئة « افعل » لايجاد الطلب.

والفرق بين هذا السنخ من الحروف وبين الأسماء واضح ، فإن معنى الاسم موجود في صقعه قبل إيجاد اللفظ ويكون اللفظ حاكيا له ، بخلاف هذا السنخ فإن معناه مخلوق بايجاد لفظه واللفظ يوجده ويخلقه لا أنه يحكيه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥.

٤٤

ثم إن النسب لا تختص بين الجواهر والأعراض كما هو ظاهر قوله : وأمّا الثانية فتوضيحها إلخ (١) ، بل كما تكون النسبة بين الجوهر والعرض فكذلك تكون بين العرضين وبين الجوهرين كما في النسبة الاضافية كغلام زيد وسرعة القيام.

ولا يخفى أن النسبة لا تخرج عن الايجاد ، فان الهيئة توجد النسبة بين الاسمين لا تحكيها ، بل هي توجد النسبة الكلامية بينهما ، ويكون مجموع هذا الاسم وذلك الاسم اللذين وقعت النسبة الكلامية بينهما حاكيا عن الواقع ، لا أن المبتدأ يحكي عن الذات والخبر يحكي عن معناه والهيئة تحكي عن النسبة ، وقولنا إن المجموع حاك ، ليس المقصود به حكاية دلالية ، بل المراد به الحكاية التقليدية كمن يحكي فعل شخص آخر بايجاد مثله ، وسيأتي منه قدس‌سره في المقدمة الخامسة (٢) ما يوضح ذلك ويحققه بأوضح بيان وأمتن برهان ، فقد تعرض هناك لما عن صاحب الحاشية (٣) من اختصاص الايجاد ببعض الحروف وأن الهيئات غير إيجادية ، بل إن الأركان الأربعة التي أفادها في بيان مختاره قدس‌سره راجعة إلى هذا الركن الركين أعني كون معاني الحروف بأسرها إيجادية.

وأما دعوى كون مفاد الهيئات تقييد المفاهيم الاسمية كما هو ظاهر الحاشية (٤) فهو مما لا يرجع إلى محصّل خصوصا في النسب التامة الاخبارية ، وأمّا النسب التقييدية فهي إنما تكون بين القيد والمقيد وهما

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧ وما بعدها.

(٣) هداية المسترشدين ١ : ١٤٥ / الفائدة الثانية.

(٤) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ٢٧.

٤٥

اسمان ، ومفاد الهيئة فيهما هو ربط أحدهما بالآخر على جهة التقييد ، فيكون حالها حال النسب التامة ، غير أنّ الناقصة تكون في طيّ النسبة التامة ، وإلاّ فالكل نسب بين المفاهيم الاسمية ، ولأجل ذلك قالوا إن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف.

وبالجملة : أنك إذا أخذت جسم الماء بيدك ووضعته في الكوز ، فهناك ماء وهنا كوز ، وأنت اتخذت يدك آلة في جعل الماء في الكوز ، هذا في القضية الخارجية الواقعية ، وأنت إذا قلت : الماء في الكوز ، فهناك مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وأنت بواسطة لفظة « في » جعلت المفهوم الأول مربوطا بالثاني على جهة الظرفية ، فهذه القضية اللفظية أو الذهنية هي مثال لذلك الذي وقع في الخارج ، لا أن اللفظ حاك عن الخارج ، نعم إنا نقصد بايجاد ذلك المماثل إفهام السامع أن الواقع كذلك ، كما في حركتنا التي نقلّد بها حركة شخص آخر ، وذلك هو معنى الحكاية ومعنى المطابقة إن كانت حركتك مثل حركته ، وعدم المطابقة إن كانت حركتك ليست بمثل حركته ، لكن قولك هذا يماثل ما في الخارج لا أنه يوجده ويخلقه.

وعلى كل حال ، قد عرفت أن قولك : الماء في الكوز ، لا يخلق ظرفية الكوز في الماء خارجا ، فلو قلت : ضربت في الدار ، لم يكن هذا القول منك إلاّ مماثلا لما في الخارج لا أنه يوجد الضرب في الدار خارجا ، لكن لو كان ذلك الحدث مما يمكن خلقه وإيجاده للمتكلم كما في قولك بعتك ، فانها صالحة لايجاد البيع بانشائه ، حيث إنه لو لم يكن في البين قصد إنشاء وايجاد ويعبّر عنه ببعت الخبرية ، لم يكن منك إلا إيجاد المماثل لما في الخارج بقصد أن يكون ذلك المماثل حاكيا ما في الخارج بنحو ما ذكرناه من الحكاية ، أعني المماثل لما ماثله ، لا حكاية اللفظ عن معناه ، فانه

٤٦

حينئذ لا يزيد على ما عرفت في قولك « ضربت » ولا ينخلق به البيع كما لا ينخلق به الضرب ، لكن لو قصدت من هذه المماثلة لما توجده حال قولك « بعت » بحيث إنك لم تقصد المماثلة والمحاكاة لبيع منك سابق ، بل قصدت المماثلة والمحاكاة لبيع فعلي توجده أنت بقولك بعت ، كان إيجاد ذلك المماثل خالقا لمماثله وموجدا له ، فأنت قصدت بقولك بعت إيجاد البيع ، فيكون ذلك نظير فعلك الخارجي عند ما جعلت الماء في الكوز ، وهذا القول أيضا منك عبارة عن خلق البيع وجعله بواسطة هذه الآلة أعني قولك بعت قاصدا بها إيجاد المماثل لا الحكاية.

وإن شئت فقل : إن ربط البيع بك بواسطة هيئة بعت ، إن كان بقصد الحكاية أعني حكاية المماثل ، كان ذلك إخبارا ، وإن لم يكن بذلك القصد بل كان بقصد إيجاد نفس البيع في عالم الاعتبار كان ذلك إنشاء ، وكان ذلك منك خلقا للبيع وايجادا له في عالم الاعتبار.

ومنه يظهر لك الحال في كيفية استعمال الجملة الخبرية في إنشاء الطلب مثل يقوم ويسجد أو قام وسجد في قولك : إذا فرغ من التشهد يقوم للثالثة أو قام للثالثة بمعنى طلب القيام والسجود ، فإنّ الغرض من هذه النسبة التي أوجدها المتكلم بين الفعل والفاعل هو طلب إيجاد الفعل.

قوله : فمنها ما يدل على النسبة الأوّلية أي النسبة التي لا تزيد على قيام العرض بمعروضه كما في الفعل المبني للفاعل (١).

لا يخفى أن الحدث الذي هو العرض له ملابسات شتى ، فيلابس الفاعل والمفعول به إلى آخر متعلقات الفعل ، ولا يمكن القول بأن ملابسته

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٦ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٧

لفاعله سابقة في الرتبة على ملابسته لمفعوله وهكذا ، بل هو ملابسها أجمع في مرتبة واحدة ، غايته أن ملحوظ المخبر تارة يكون هو ربط الفعل بفاعله ولم يكن ربطه بطرفه فعلا إلاّ تبعا ، وربما كان الأمر بالعكس.

نعم ، هناك مبحث لعله تأتي الاشارة إليه إن شاء الله تعالى في مباحث المشتق (١) من أن الاشتقاق على قسمين : لفظي ومعنوي ، والفعل سابق على بقية المشتقات بالاشتقاق المعنوي ، وهذا أمر آخر على الظاهر لا دخل له بما نحن فيه.

ومنه يظهر أن قولهم : إنّ الأصل في المرفوعات هو الفاعل ، لا أصل له ولا دخل له بما نحن فيه ، كما أن تأخر نفس الجملة الاسمية عن الفعل محل تأمل ، فإن المتأخر إنما هو مفاد هيئة فاعل أعني المشتق عن هيئة فعل أعني الفعل ، وهكذا الحال في تأخر الفعل المبني للمفعول عن الفعل المبني للفاعل.

قوله في المقدمة الرابعة : وأمّا الكلمات الاستقلالية ، فمنها ما هو مشترك بينهما كلفظة ، في فانها تستعمل تارة لافادة قيام العرض أعني مقولة الأين أو متى بموضوعه كزيد في الدار ـ إلى قوله : ـ واخرى لافادة النسبة الثانوية كما في ضربت في الدار فانّها تدل على نسبة الضرب إلى الدار زيادة على نسبته إلى موضوعه ... إلخ (٢).

حاصله : هو أن الحروف الجارة موضوعة للنسب ، وأنّ النسبة فيها تارة تكون أوّلية وأخرى تكون ثانوية ، وأن ما يتكفل منها للنسبة الأوّلية (٣)

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) [ في الأصل : الأول ، والصحيح ما أثبتناه ].

٤٨

هو المعبّر عنه بالظرف المستقر ، وما يتكفل منها للنسبة الثانوية هو المعبّر عنه بالظرف اللغو ، وأنّ لفظة « في » من بين تلك الحروف صالحة لأن تستعمل في كل من النسبتين ، فتكون صالحة لكل من الاستقرار واللغوية ، وأنّ ما عداها لا يصلح إلا للنسبة الثانوية فلا يكون إلا لغوا ، وأنه لا يوجد من الحروف ما هو مختص بالنسبة الاولى الذي هو عبارة عن الاستقرار ، هذا.

لكنك قد عرفت (١) أن الأولى أن يقال : إن الذي تتكفله الحروف الجارّة هو جهات النسب ، سواء كانت النسبة في ذلك هي نسبة الفعل إلى متعلقه الذي هو مدخول حرف الجر ، أو كانت النسبة هي النسبة بين مدخول حرف الجر وبين بعض الأسماء مثل زيد في الدار ومثل المال لزيد ، فان مفاد الأول هو أن النسبة بين زيد والدار على جهة الظرفية ، ومفاد الثاني هو أن النسبة بين زيد وبين المال هو على جهة الاختصاص أو الملكية.

وأما ما افيد من أن مفاد لفظ « في » هو الأين ، وأنه تارة يكون من قبيل النسبة الأوّلية ويكون مستقرا ، واخرى يكون من النسبة الثانوية ويكون لغوا ... إلخ ، فالأولى في هذا المقام هو نقل ما حررته فيه عنه قدس‌سره فنقول بعونه :

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : ثم إنك بعد أن عرفت أن الأصل في النسبة هي النسبة الفاعلية أعني نسبة العرض إلى معروضه ، وأن النسبة الحملية المتضمنة لحمل المشتق من ذلك العرض على معروضه متأخرة رتبة عن

__________________

(١) في صفحة : ٤٢.

٤٩

النسبة الاولى ، تعرف أن نسبة العرض إلى باقي متعلقاته مما وقع عليه أو فيه أو له وغير ذلك من متعلقات الفعل كلها متأخرة عن كلا النسبتين المذكورتين.

ثم اعلم أن من جملة ما هو من متعلقات الفعل ممّا ينسب إليه هو الظرف والجار والمجرور ، وقد قسّموا ذلك إلى الظرف المستقر والظرف اللغو ، وينبغي أن يكون مرادهم من المستقر ما يكون متضمنا لاحدى المقولات كالأين ومقولة متى مثل زيد في الدار المتضمن لمقولة الأين ، وهذا معنى قوله : ناوين معنى كائن أو استقر (١) ، إذ ليس المراد أن يقدّر في ذلك لفظ كائن أو استقر ، بل المراد أن ذلك أعني الاخبار بالظرف أو الجار والمجرور في مثل زيد عندك أو في الدار يتضمن الكون أو الاستقرار في الدار وهو المعبّر عنه بمقولة الأين ، ومرادهم من اللغو ما يكون متمما لاضافة اخرى مثل ضرب زيد في الدار فإنه في مثل ذلك ليس بنفسه مقولة من المقولات كي يكون مستقرا ، بل هو متمم لاضافة اخرى وهي نسبة العرض إلى معروضه ، ويبيّن أن تلك النسبة والاضافة واقعة في الدار فيكون ظرفا لغوا.

ثم إن من الحروف الجارة ما يمكن أن يكون مستقرا كما يمكن أن يكون لغوا وذلك مثل لفظة في ، ومنها ما لا يكون إلاّ لغوا مثل من وعن ونحوهما ، فإن ما هو من هذا القبيل لا يمكن أن يقع مستقرا لعدم إمكان وقوعه بنفسه إحدى المقولات والاضافات ، وإنما يكون متمما لمقولة وإضافة أخرى ، وحينئذ فلا يكون إلاّ لغوا دائما ، أما ما لا يكون إلا مستقرا

__________________

(١) شرح ابن عقيل ١ : ٢٠٩.

٥٠

دائما فالظاهر أنه لا وجود له ، انتهى.

قلت : الذي جرى اصطلاح النحويين في الظرف المستقر واللغو هو أنّ ما يتعلق به الظرف أو الجار والمجرور ، إن كان محذوفا وكان عاما مثل الكون والاستقرار والحصول ونحوها كان مستقرا وإلاّ كان لغوا ، ويقولون إن حذف العامل في الظرف المستقر واجب ، لأن نفس ذلك الظرف قد تضمنه فلا داعي لذكره إلاّ لأجل تصحيح قواعدهم ، ولأجل ذلك يقولون في أمثال ما هو محذوف وجوبا تقديره كذا ، لأجل ضرورة تصحيح الكلام كما في مثل حذف الخبر وجوبا بعد « لو لا » فيما لو كان نفس ذات المبتدأ هو المانع من الجواب كما في قوله :

ولو لا الله والمهر المفدّى

لرحت وأنت غربال الاهاب

وبالجملة : أن ملاك كون الظرف مستقرا أو كونه لغوا في اصطلاحهم هو هذا الذي نقلناه من تضمن الظرف للاستقرار الذي هو الفعل العام ، بخلاف الظرف اللغو فإنه عبارة عما لا يكون متضمنا للاستقرار ، ولعل هذه القيود الثلاثة أعني كون المتعلق محذوفا ، وكونه فعلا عاما ، وكونه متضمنا في الظرف متلازمة ، إذ متى كان فعلا عاما وجب حذفه وكان الظرف متضمنا له.

قال في الإظهار في مبحث حروف الجر : وقد يحذف المتعلق ، فإن كان المحذوف فعلا عاما متضمنا في الجار والمجرور يسميان ظرفا مستقرا نحو زيد في الدار أي حصل ، وإن لم يكن كذلك أو لم يحذف متعلقه يسميان ظرفا لغوا ... إلخ (١).

__________________

(١) معرب على الإظهار : ٣٧ ـ ٣٨.

٥١

ولا يخفى أن لازم كون الفعل عاما كون الظرف متضمنا له ، ولازم كون الظرف متضمنا له كون حذفه وجوبيا ، ولأجل ذلك قال الشيخ الرضي في مبحث كون الخبر ظرفا : وينبغي أن يكون ذلك العامل من الأفعال العامة أي ممّا لا يخلو منه فعل نحو كائن وحاصل ليكون الظرف دالا عليه ـ إلى أن قال ـ ولا يجوز عند الجمهور إظهار هذا العامل أصلا ، لقيام القرينة على تعيينه وسدّ الظرف مسدّه كما يجيء في لو لا زيد لكان كذا ، فلا يقال زيد كائن في الدار.

وقال ابن جنّي بجوازه ، ولا شاهد له ، وأمّا قوله تعالى ( فلّما رءاه مستقرا عنده )(١) فمعناه ساكنا غير متحرك وليس بمعنى كائنا ، وكذا حال الظرف في ثلاثة مواضع أخر : الصلة والصفة والحال ، وفيما عدا المواضع الأربعة لا يتعلق الظرف والجار إلا بملفوظ ... إلخ (٢).

أما كونه متضمنا لمقولة من المقولات أو كونه متمما لمقولة من المقولات فذلك أمر آخر لا أظن النحويين ناظرين إليه.

ثم إن الظاهر أن الظرف في مثل ضربت في الدار أيضا مقولة مستقلة وهي مقولة الأين ، غايته أنه وقع أينا للفعل أعني الحدث لا للجوهر ، بخلاف زيد في الدار فإنه وقع أينا للذات أعني زيد.

ثم لا يخفى أن مثل من وعن ونحوهما يقع ظرفا مستقرا باصطلاح النحويين مثل قولنا هذا من ذاك ونحو ذلك وإن لم يكن مقولة من المقولات ، وكذلك اللام تقول هذا المال لزيد ونحو ذلك.

ثم لا يخفى أن حصر الأين في مثل زيد في الدار ، وجعل مثل

__________________

(١) النمل ٢٧ : ٤٠.

(٢) شرح الرضي على الكافية ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٥٢

ضربت أو صليت في الدار من متمم المقولة لعله مناف لما يذكره في مسألة اجتماع الأمر والنهي (١) من أن اجتماع الصلاة والغصب من قبيل التركيب الانضمامي بين مقولة الفعل وهو الصلاة ومقولة الأين وهو المكان ، وأنّ ما هو من قبيل متمم المقولة إنما هو في مثل غسلت وجهي بالماء فيما لو كان الماء مغصوبا ، فراجع.

ثم إن مقتضى كون لفظة « في » للنسبة هو أن يكون هناك عرض منسوب ومنسوب إليه ، ليكون مفاد لفظة « في » هو النسبة بينهما ، والظاهر من التحرير أن العرض المنسوب هو نفس مقولة الأين ، وهو بنفسه مفاد لفظة « في » وحينئذ فما هو المفيد للنسبة ، إلاّ أن نقول إن المفيد لنسبة الأين إلى ذي الأين هو نفس الهيئة التركيبية.

ولا يخفى أن ما حرّره المرحوم الشيخ محمد علي عنه قدس‌سره في بيان الظرف المستقر والظرف اللغو لعله يخالف هذا التحرير في الكتاب ، وكذلك يخالف ما حررته عنه قدس‌سره في بيان الظرف المستقر وانحصاره بلفظة « في ».

قال المرحوم الشيخ محمد علي : وكذا الكلام في كلمة « في » حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته أنّها تارة تفيد نسبة قيام العرض بالمعروض ، فيكون الظرف مستقرا ، واخرى تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ـ ثم قال : ـ وهكذا الحال في كلمة « على » حيث إنها تارة تفيد نسبة قيام العرض ، واخرى تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٥٩ ، ١٤٧.

٥٣

السطح ، وكذا الكلام في كلمة « من » فانها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسين مني وأنا من حسين » (١) واخرى يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر : هو أن الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل (٢).

وهذا التحرير لا غبار عليه ولا تكون فيه مخالفة لاصطلاح النحويين في الظرف اللغو والمستقر ، كما أنه لا يكون مخالفا لما يذكره قدس‌سره في باب الاجتماع (٣) ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلظهور أن المراد من المتمم ما يكون متمما لنسبة اخرى ، وليس المراد ما يكون متمم المقولة كي ينافي اصطلاحه قدس‌سره في باب الاجتماع ، فلاحظ وتدبر.

قوله : الخامسة أن الحروف بأجمعها معانيها إيجادية نسبية كانت أو غيرها (٤).

لا يخفى أن القول بكون الحروف موجدة لمعانيها ربما كان عين القول بأنها لا معنى لها ، حيث إنّه بناء على ذلك لا يكون تحت لفظ الحرف شيء أصلا ، وإنّما تكون نسبة الحرف إلى ذلك المعنى الذي يوجده كنسبة المؤثر إلى أثره والعلة إلى معلولها ، وفي الحقيقة نسبة الحرف إلى ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٧١ / ٣٥ ، ٤٥ : ٣١٤ ذيل ح ١٤.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٢٧.

٥٤

المعنى هي بعينها نسبة آلة التأثير إلى الأثر ، فلا يكون الحرف في إحداث ذلك المعنى وإيجاده إلاّ من قبيل السكين في كونها آلة في إيجاد قطع الشيء ، فكما لا يصح أن يقال إن السكين معناه القطع فكذلك لا يصح أن يقال إن معنى الحرف هو المعنى الذي يوجده ، نعم لو كان المراد لأرباب القول المذكور أن الحرف لا أثر له أصلا كما أنه لا معنى له وإنما هو صرف العلامة ، لحصل الفرق بينه وبين هذا الذي أفاده قدس‌سره فإنّه بناء على ما أفاده قدس‌سره وان لم يكن للحرف معنى تحت لفظه إلاّ أنه يؤثر أثرا نسميه معنى للحرف تسامحا وتساهلا.

ثم لا يخفى أنه بعد البناء على أن الحروف بأسرها نسبية وغير نسبية كلها آلات إيجاد معانيها ، يكون الذي توجده الحروف النسبية مثل الحروف الجارة والهيئات وغير ذلك من آلات النسب هو نفس النسبة بين المنتسبين ، فلا فرق بين لفظة من ولفظ الهيئة في ضرب والهيئة في اضرب في أنّ كلا منها موجد للنسبة ، إلاّ أن الفرق بينها إنما هو في جهات النسب ، فالأول وهو لفظة « من » في قولك سرت من البصرة ، أوجدت النسبة بين السير والبصرة على جهة الابتداء ، والثاني وهو هيئة ضرب زيد ، أوجدت النسبة بين الضرب وزيد على جهة الاسناد والفاعلية ، والثالث على جهة الطلب ، وهكذا الحال في مثل هيئة « بعت » الخبرية والانشائية فإنها أيضا لايجاد النسبة بين البيع والمتكلم ، غير أن الاولى على جهة الاخبار والثانية على جهة الانشاء والايجاد أعني إيجاد البيع.

وبالجملة : أن هذه الآلات لم تعمل لايجاد الابتداء أو إيجاد الطلب أو إيجاد البيع ، وإنما اعملت ابتداء في إيجاد النسبة ، وهذه الامور هي جهات لتلك النسب المنوجدة بهذه الآلات ، وربما كانت تلك الجهات لها

٥٥

أثر شرعي أو عرفي عقلائي يكون تابعا لوجودها في وعائها الاعتباري المنتزع من إعمال تلك الآلة في النسبة على الجهة الفلانية.

ومن ذلك كله تعرف أنه لا داعي إلى إتعاب النفس في التفرقة بين مفاد هذه الأدوات ومفاد لفظ الابتداء والطلب والبيع وغير ذلك. نعم المحتاج إليه إنما هو الفرق بين النسبة المنوجدة باحدى هذه الآلات وبين المفهوم من لفظ النسبة ، وذلك الفرق هو كون الاولى على نحو الايجاد والثانية على نحو الحكاية ، وهذا هو الحجر الأساسي في الفرق بين الحروف والاسماء (١).

ولو أنكرنا هذا الفرق وقلنا بأن كلا منها حاك وأن الفارق إنما هو في جهة الوضع كما هو مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) اتجه عليه الاشكال بأن شرط الواضع لا يجب الوفاء به.

ولا يمكن الجواب عنه بأن ذلك ليس من قبيل الشرط من الواضع بل هو من قبيل الاختلاف في الوضع والاستعمال ، فالاستعمال في الحروف على نحو اللحاظ الآلي وفي الأسماء على نحو اللحاظ الاستقلالي ، وهذا الاختلاف في ناحية الوضع والاستعمال هو الموجب لعدم صحة إعمال أحدهما في مقام الآخر ، لأن ذلك أعني إعمال لفظ « من » في مقام إعمال لفظ الابتداء ، مساوق لجعل اللحاظ الآلي استقلاليا ، أو جعل اللحاظ

__________________

(١) وعلى الظاهر أنه لا فرق في ذلك بين ما أفاده قدس‌سره من كون مفاد الحروف هو النسب الخاصة ، وبين ما احتملناه من أن المتكفل للنسب ليس هو إلاّ الهيئات وأن الحروف هي جهات خاصة لتلك النسبة ، وأنّ الحاصل من توسط الحرف في تلك الهيئة في مثل ضربت في الدار أو سرت من البصرة هو إيجاد نسبة الضرب إلى الدار على جهة الظرفية ، وإيجاد نسبة السير إلى البصرة على جهة الابتداء. [ منه قدس‌سره ].

(٢) كفاية الاصول : ١١ ـ ١٢.

٥٦

الاستقلالي آليا ، فان اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي لو لم نجعله قيدا في الموضوع له ولا شرطا من الواضع على المستعملين ، بل جعلناه من قبيل تقييد دائرة الوضع ، كان من قبيل [ تقييد ](١) دائرة الملكية أو الاختصاص ، بأن نملّك الثوب لزيد فيما إذا لبسه في النهار دون ما لو لبسه في الليل ، وذلك ممتنع ما لم نجعله شرطا على زيد بأن يلبسه في النهار.

اللهم إلا أن يجعل الشرط المذكور على نحو التعليق بأن يقول له : هذا ملك لك إن لبسته في النهار ، لكن لو لبسه في الليل انتفت الملكية من أصلها ، فلو جعلنا الشرط فيما نحن فيه بأن يقول إنّي وضعت لفظة « من » للابتداء إن استعملتها فيه في مقام لحاظه آليا ، كان مقتضاه أنه لو استعمله في الابتداء في مقام لحاظه استقلاليا انتفى الوضع من أصله ، ولو قلنا إن لازمه انحصار الوضع بصورة استعماله آليا دون استعماله استقلاليا رجع إلى ما تقدم من تقييد الاختصاص والملكية في حالة دون حالة وهو غير ممكن ، وإن قلنا بامكان تقطيع الملكية كما في الوقف على الطبقات بناء على أنّه من مقولة التمليك.

وبالجملة : الظاهر أن هذا الاشكال مما يصعب دفعه. نعم الاشكال عليه بلزوم ارتفاع النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما ، قابل للاندفاع ، فإنّه بعد البناء على كون الموضوع له والمستعمل فيه مثلا هو نفس الابتداء مجردا عن اللحاظ ، وأن اللحاظ الآلي والاستقلالي إنما يكون في مقام الاستعمال ، فان ذلك المقام هو مقام اللحاظ المنقسم إلى الآلي والاستقلالي ، فقبل الوصول إلى ذلك المقام قهرا يكون المعنى مجردا عن

__________________

(١) [ لم يوجد في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].

٥٧

كلا اللحاظين ، وليس ذلك من قبيل ارتفاع النقيضين ولا الضدين بل هو من قبيل ارتفاع اللحاظ المنقسم إليهما.

نعم ، إن المعنى لا بد أن يكون في مقام الوضع ملحوظا ، فعند وضع كل من لفظ الابتداء ولفظة « من » لا بد أن يكون معنى الابتداء ملحوظا ، بل لا بد أن يكون ملحوظا استقلالا ، لكن هذا اللحاظ لا يكون جزء الموضوع له بل هو طريق إلى الموضوع له ، لاستحالة وضع اللفظ للمعنى بدون تصور المعنى ، لكن لا يلزمه أن يكون ذلك التصور جزءا أو قيدا للموضوع له ، بل هو طريق صرف إلى المعنى الموضوع له.

لكن الاشكال المذكور إنما يندفع بالنسبة إلى الموضوع له ، أما بالنسبة إلى مقام المستعمل فيه فهو غير مندفع ، لأن المستعمل لا بد له من لحاظ المستعمل فيه إمّا آليا أو استقلاليا ، فتجريده عن كل منهما يوجب ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وكونه في مرتبة الاستعمال ملاحظا إياه آليا أو استقلاليا لا يجدي ، فان مرتبة الاستعمال متأخرة عن مرتبة المستعمل فيه ، ولا بدّ له في مرتبة المستعمل فيه من لحاظه بأحد اللحاظين ، اللهم إلاّ أن يقال إنه يلاحظ المستعمل فيه استقلاليا ، نظير لحاظ الواضع الذي عرفت أنّ لحاظه للموضوع له استقلاليا طريق لا يوجب دخوله في الموضوع له ، أو يقال إن لحاظه المستعمل فيه في مرتبة الاستعمال آليا أو استقلاليا كاف عن لحاظ المستعمل فيه في الرتبة السابقة على الاستعمال ، ولو تمت هذه الجهة ، وتمت أيضا الجهة السابقة وهي تقييد ولو بنحو التعليق ، ولم يكن انتفاء الشرط موجبا لانتفاء أصل الوضع ، لكان مسلك الكفاية هو المتعين ، دون مسلك شيخنا قدس‌سره من التشبث بالفرق بين الاسم والحرف بالاخطار والايجاد ، إذ لا تخلو هذه الطريقة من تكلف ،

٥٨

فلاحظ وتأمل.

ولا يخفى أنه قد برهن في الكفاية (١) على استحالة أخذ اللحاظ الآلي والاستقلالي في المستعمل فيه فضلا عن الموضوع له ، ببرهانين لا مدفع لهما ، الأول : لزوم تعدد اللحاظ ليكون أحدهما جزء الموضوع والمستعمل فيه ، ويكون الآخر متعلقا بما هو ملحوظ باللحاظ الأول ، لأن من شرط الاستعمال ملاحظة المستعمل فيه. الثاني : أن اللحاظ الآلي والاستقلالي من طوارئ الاستعمال ، ولا يكون إلا في مرتبة الاستعمال ، فلا يعقل أخذه في المستعمل فيه الذي هو سابق في الرتبة على الاستعمال ، ولعل قوله في مقام بيان الحال في أسماء الاشارة : فتلخص مما حققناه أن التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه (٢) ، إشارة إلى الاشكال بالتقريب الثاني ، فلاحظ.

وكيف كان ، فهذان الاشكالان كما يردان على القول بأن المعنى الحرفي هو الابتداء الملحوظ باللحاظ الآلي ، فكذلك يردان على القول بأن الفرق بين المعنى الحرفي كلفظة [ من ](٣) والمعنى الاسمي كلفظ [ الابتداء ](٤) أن معنى الأول لا يوجد في الذهن إلا تبعا ، نظير النظر الخارجي إلى نقطة خاصة ، فأنت ترى ما حولها لكنها رؤية تبعية مغفول عنها عند نظرك إلى النقطة ، بخلاف نظرك إلى نفس النقطة.

وهذا الفرق بعينه جار في النظر إلى الحرف فإنه لا يكون إلا تبعا للحاظ المعنى الاسمي ، بخلاف المعنى الاسمي فإنه يكون مستقلا في النظر

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١ وما بعدها.

(٢) كفاية الاصول : ١٣.

(٣ و ٤) [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].

٥٩

إليه لا تابعا لغيره في النظر ، فليس الفرق بينهما باللحاظ الآلي في الأول ، إذ ليس معنى الحرف آلة لمعنى الاسم ، نعم إنه منظور إليه في الذهن [ تبعا ](١) ، بخلاف الاسم.

فان مرجع هذا القول بالأخرة إلى كون المعنى الحرفي مقيدا باللحاظ التبعي في قبال المعنى الاسمي المقيد باللحاظ المستقل ، وحينئذ يكون حاله حال القول الأول في توجه الاشكالين عليه ، أعني لزوم تعدد اللحاظ ولزوم أخذ ما هو آت من الاستعمال في المرتبة السابقة عليه ، أعني المستعمل فيه.

مضافا إلى أنّه يرد عليه ما أورده على التقييد باللحاظ الآلي من إنكار كون المعنى الحرفي آلة في المعنى الاسمي ، فإنّه يتوجه عليه نظير ذلك الانكار ، لتطرق الانكار إلى دعوى كون الحرف ملحوظا تبعا ، لامكان دعوى انوجاده في الذهن بمعنى كونه منظورا إليه قصدا لا تبعا ، فإن النظر في قولك سرت من البصرة ليس مقصورا على السير كما في النظر الخارجي إلى النقطة ، بل هو متعلق بكل من معنى البصرة ومعنى « من » غايته أن معنى « من » وهو الابتداء متعلق بالبصرة ، فهو ينظر إلى البصرة وإلى متعلقها لا أنه ينظر إلى نفس البصرة وكان نظره إلى الابتداء المتعلق بها تبعا على وجه يكون مغفولا عنه في النظر.

وأمّا القول بأن مفاد الحروف هو تلك النسب والارتباطات الواقعية أعني نسبة الابتداء إلى السير والبصرة ، بتقريب أنه نحو وجود لهما في الخارج يعبّر عنه بالوجود الربطي ، أعني وجود العرض لمعروضه الذي

__________________

(١) [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].

٦٠