أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

قصد الأمر. وكذلك ما يظهر من الاستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته فانه ظاهر في أن متعلق الأمر الثاني هو الدعوة ، وذلك قوله « وقطعة اخرى متعلقة بالدعوة » (١) وسيأتي إن شاء الله تعالى (٢) أنّ مرحلة كون عنوان الامتثال داعيا غير مرحلة كونه مقصودا من الفعل بواسطة كونه عنوانا ثانويا له ، وأن المرحلة القابلة لتعلق التكليف هي الثانية دون الاولى.

وعلى كل حال ، فنحن بناء على هذه الطريقة أعني كون المراد بالأمر في قولنا « إن المأمور به هو الصلاة بداعي الأمر » هو طبيعة الأمر التي يكون أحد مصاديقها هو نفس ذلك الأمر المتعلق بالصلاة ، نكون في راحة من إشكال أخذ نفس الحكم في موضوعه لنحتاج في دفعه إلى حديث التوأمية المستفادة من قول المقرر الآملي : فالتحقيق في الجواب أن نقول ... إلخ (٣).

نعم ، نحتاج إلى حديث التوأمية في دفع اشكال القدرة ، وتقريبه أن يقال : إنّ قوله صلّ بداعي طبيعة الأمر المتعلق بذات الصلاة يتضمن إيجاد وجوبين ، أحدهما متعلق بذات الصلاة والآخر متعلق بالاتيان بها بداعي طبيعة الأمر المنطبق على الوجوب الأول المتعلق بذات الصلاة ، فكان ذات الوجوب الأول موضوعا للوجوب الثاني ، ويكون حالهما من هذه الجهة حال « رتّب الأثر » أعني وجوب التصديق في حق الشيخ ، في حين أن موضوعه الذي هو الأثر هو عين صدّق المفيد ، وقد تعرض الآملي لذلك مفصلا (٤).

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٢٣٦.

(٢) في صفحة : ٤٣٧ وما بعدها.

(٣) بدائع الأفكار : ٢٢٨.

(٤) بدائع الأفكار : ٢٣٣ ، ٢٣٤.

٤٠١

وبعد ذلك لا بد أن نقول : إن ذات الصلاة التي تعلقت بها الحصة الاولى من الوجوب كما ذكره (١) ليست هي مطلق الصلاة ولا الصلاة المقيدة ، بل هي الحصة من طبيعة الصلاة أعني الصلاة المقترنة بدعوة الأمر إليها ، بحيث إن المكلف لو فعل الصلاة لا بداعي أمرها لما كان ممتثلا لأمرها وإن قلنا بخروج قصد الامتثال عن حيّز ذلك الأمر ... إلخ ، وإلى ذلك يشير فيما ذكره بقوله : فتكون هذه العبارة ونحوها إنشاء لوجوبين ، أحدهما متعلق بالحصة المقارنة لدعوة الأمر أو لقصد امتثال الأمر من طبيعة الصلاة ... إلخ (٢).

والظاهر أن هذه التوأمية محتاج إليها حتى لو صرفنا قيد الامتثال عن مرحلة الداعي إلى مرحلة القصد ، فإنّ أقصى ما في البين حينئذ هو تعلق الوجوب بالصلاة التي يقصد بالاتيان بها امتثال طبيعة الأمر المتعلق بها ، فإن صرف قيد الامتثال من مرحلة الداعي إلى مرحلة القصد إنما يدفع إشكال كون الداعي غير قابل لتعلق التكليف به جزءا كان أو قيدا. كما أن جعل الأمر الذي اعتبر قصد امتثاله هو طبيعة الأمر إنما يدفع إشكال أخذ الحكم موضوعا لنفسه.

وبعد هاتين المرحلتين أعني صرف الامتثال من الداعوية إلى مرحلة القصد وجعل الأمر الذي اعتبر امتثاله طبيعة الأمر لا شخص الأمر المتعلق بذات الصلاة ، يتوجه إشكال عدم القدرة ، ويندفع بالتركيب وجعل الحصة الاولى من الأمر موضوعا للحصة الثانية ، ولازم ذلك هو كون متعلق الحصة الاولى من الوجوب هو ذات الصلاة ، أعني الحصة من طبيعة الصلاة التي

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٢٢٨.

(٢) بدائع الأفكار : ٢٣٤.

٤٠٢

تكون توأما مع قصد الامتثال ، فلاحظ وتدبر ، هذا.

ولكن المطلب بعد هذا كله لا يخلو عن الاشكال ، لأنا وإن قلنا بأن متعلق الأمر هو الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر ، فذات الصلاة لم تقع موردا للأمر إلاّ بتحويل التقييد إلى التركيب ، ليكون الأمر واردا على ذات الصلاة وداعي الأمر ، أو الصلاة وقصد امتثال الأمر ، فنحن ننقل الكلام إلى تلك الحصة من الأمر الواردة على ذات الصلاة التي هي أحد جزأي المأمور به ، ونقول إن ذلك الجزء وهو ذات الصلاة مقيد بالجزء الآخر الذي هو قصد الامتثال أو داعي الامتثال ، لأن الفرض هو ارتباطية الأجزاء ، فعاد الاشكال ، وهو أن ذات الصلاة لم تكن مأمورا بها ولو بتلك الحصة من الأمر ، وإنّما المأمور به في تلك الحصة هو الصلاة المقيدة بالجزء الآخر ، فلو حوّلنا متعلق تلك الحصة إلى التركيب عاد محذور الحصة ، وأنّ متعلقها ليس هو ذات الصلاة لفرض الارتباطية ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولو قلنا بأنّ ذات الصلاة مأمور بها في ضمن الأمر المتعلق بالمقيد من دون إرجاعه إلى التركيب ، لقلنا بمنع ذلك ، وأن الذات لا يناله الأمر في ضمن الأمر بالمقيد ، ولو تمّ ذلك لقلنا به من أول الأمر بلا حاجة إلى التحويل من التقييد إلى التركيب ، فلاحظ وتدبر.

قوله : كما لو فرضنا عدم التفات الآمر الجاهل إلى انقسام الجيران إلى صديق وعدو ، فلا يكون حينئذ إطلاق وتقييد في مقام الثبوت أيضا (١).

ولكن هل يتحقق الاهمال في مقام الثبوت على وجه يتوقف المأمور

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٧ [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٠٣

في إكرام عدوه بل يتوقف أيضا في إكرام صديقه ، إذ ليس المقام من باب القدر المتيقن ، لأن ذلك إنما هو في مقام الاثبات وكلامنا في مقام الثبوت ، أو يكون الاطلاق ذاتيا وتكون السراية قهرية على الآمر وإن لم يقصدها ، فيكون اللازم على المأمور إكرام صديقه كما يلزمه إكرام عدوه؟ محل تأمل وإشكال.

ونظير ذلك ما لو أوصى بمال أو وقف للعلماء أو على العلماء ولكن الواقف أو الموصي كان جاهلا بانقسامهم إلى أخباريين واصوليين ، لأنه لا يعرف هذا التقسيم ، أو كان غافلا عنه على وجه لو نبّهه على ذلك منبّه فلربما أطلق أو ربما قيّد بأحد القسمين فلا يكون في البين قدر متيقن. ولا يقال إن القدر المتيقن من كان الموصي أو الواقف منهم. لأنا نقول : إن الأخذ بالقدر المتيقن إنما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت ، ويتضح ذلك بما لو كان هو أعني الموصي أو الواقف خارجا عن القسمين مثل الانقسام إلى القائلين بالانفتاح والقائلين بالانسداد.

قوله : ومن الطرف الآخر جعلي ، وهو توقف فعلية الحكم على وجود العلم ، لأخذه في الموضوع شرعا (١).

وحاصل ذلك : هو أنا لو أخذنا العلم بالحرمة جزءا من موضوعها ليكون مركب الحرمة هو الخمر المعلوم الحرمة ، يكون تحقق الحرمة متوقفا على تحقق جزء موضوعها الذي هو العلم بالحرمة ، والعلم بالحرمة يتوقف على تحقق الحرمة ، أمّا الأول فلكونه جزءا من موضوعها ، وأمّا الثاني فلأن العلم بالشيء يتوقف على تحقق الشيء ، لأن المفروض هو كون العلم جزء الموضوع ، نعم لو اخذ العلم تمام الموضوع لم يكن متوقفا على الواقع

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

٤٠٤

وتكون النتيجة هي أن تحقق الحرمة متوقف على تحقق الحرمة.

ويمكن الجواب عن هذا الدور : بأن يقال إن تحقق الحرمة عبارة عن فعليتها ، لكن العلم بالحرمة لا يتوقف على فعليتها بل على وجودها واقعا ، وحينئذ تكون النتيجة هي أن فعلية الحرمة تتوقف على تحقق العلم بها وتحقق العلم بها لا يتوقف على فعليتها بل على وجودها واقعا أو إنشاء ، ويكون الحاصل أنك إذا علمت بوجود الحرمة إنشاء صارت فعلية في حقك ، وحاصله ما في الكفاية من أخذ العلم بالحكم في مرتبة موضوعا له في مرتبة اخرى ، ولكن ذلك مبني على المغايرة بين الحكم الانشائي والفعلي على تأمل في ذلك.

ولا يخفى أن هذه المغايرة لو تمت كان المورد خارجا عن مورد الدور ، لأن الدور إنّما هو فيما لو كان الحكم المعلوم هو عين الحكم الذي اخذ العلم به موضوعا له كما قال في الكفاية : الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولا ضده للزوم اجتماع الضدين ، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى منه أو مثله أو ضده (١).

وفي المقام إشكال آخر : وهو أنّه لو ثبت في بعض الأحكام تقيدها بالعلم كما يقال في مسألة الجهر والاخفات ، فهل يجري فيه الدور المذكور أو أنّ ذلك لأجل أنه ليس من التقييد اللحاظي بل من باب نتيجة التقييد بطريقة متمم الجعل أو بطريقة اخرى ، فلا يتأتى فيه الدور المذكور ، وإن شئت التفصيل فراجع ما علّقناه (٢) في أوائل مباحث القطع ، وراجع ما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٢) في أوائل المجلّد السادس في الحاشية على قوله : فلا بدّ من جعل آخر ...

٤٠٥

حررناه في هذا المقام أعني مسألة التعبدي والتوصلي من درس شيخنا قدس‌سره وما علّقنا عليه هناك (١).

ثم لا يخفى أن العلم بالحرمة إذا اخذ قيدا في الموضوع ، كأن يقول الخمر المعلوم الحرمة حرام ، لا يلزم منه الدور ولا إشكال التقدم والتأخر ، بل يلزم منه اجتماع المثلين مع اختلاف الرتبة ، والأول هو الحرمة الطارئة على نفس الخمر والثاني هو الطارئة بعد العلم بالاولى ، فان كان اختلاف الرتبة مسوّغا لسوّغه في الضدين أو النقيضين كما لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب شربها ، وهذا التفصيل بعينه جار فيما لو اخذ العلم بالحرمة قيدا في المكلف ، كأن يقول أيّها العالم بحرمة الخمر يحرم عليك شربها ، وهكذا الحال في ناحية المتعلق مثل أيّها العالم بوجوب الصلاة يجب عليك الاتيان بها.

وعلى أيّ حال ، ليس محل الكلام في هذا النحو من أخذ العلم بالحكم قيدا في الموضوع أو المكلف أو المتعلق ، بل إنّما محل الكلام هو أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع نفس ذلك الحكم أو المكلف أو المتعلق ، بحيث تكون الحرمة المجعولة مقيدة موضوعا أو مكلفا أو متعلقا بالعلم بنفسها ، وذلك كما يقال إن وجوب الجهر في القراءة مختص بالعالم بذلك الوجوب ، وهذا هو الذي يقولون إنه يمتنع فيه الاطلاق اللحاظي والتقييد اللحاظي ، لكنهم لم يمنعوا فيه الاطلاق الذاتي والتقييد الذاتي المعبّر عنه في كلمات شيخنا بنتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد (٢). ومثال

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) عبّر بذلك في موارد ، منها : ما في بحث التعبدي والتوصلي ، أجود التقريرات ١ : ١٧٤.

٤٠٦

الأول أغلب الأحكام فانّها شاملة للعالمين بها كشمولها للجاهلين بها ، ومثال الثاني مسألة القصر والاتمام والجهر والاخفات ، وهل يكون ذلك بطريقة متمم الجعل أو بطريقة اخرى ، في ذلك أبحاث شرحناها في أوائل مباحث القطع. وعلى أيّ حال إن الدور اللازم في التقييد اللحاظي غير جار فيما هو نتيجة التقييد ، وهكذا إشكال التقدم والتأخر.

ثم إنّ الحجر الأساسي هو هذا الأخير ، أعني إشكال التقدم والتأخر في مقام الجعل كما شرحناه غير مرّة وإليه الاشارة في الكفاية بقوله : لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر (١) وقد شرحه شيخنا قدس‌سره (٢) بما لا مزيد عليه ، وحيث كان أصل الجعل ممتنعا لا تصل النوبة إلى مقام فعلية الحكم التي هي مركز الاشكال بالدور ، فإن الدور وعدم القدرة التي ربما كان قوله في الكفاية : فما لم تكن الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي ذلك الأمر ... (٣) إشارة إليه ، كل هذه الاشكالات متفرعة على ذلك الاشكال في مقام الجعل ، وهو المانع من كل من الاطلاق والتقييد اللحاظيين. ولا يرد على القول بسقوطهما لزوم الاهمال في الواقع ، لما حققه شيخنا قدس‌سره (٤) وشرحناه من كون التقابل بينهما من قبيل العدم والملكة ، فلا يمتنع سقوطهما في المورد غير القابل لهما كسقوط العمى والبصر عن الجدار.

ويمكن الجواب عنه بطريق آخر : وهو أن سقوط الاطلاق والتقييد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ وما بعدها.

(٣) كفاية الاصول : ٧٢ ( باختلاف يسير ).

(٤) راجع أجود التقريرات ١ : ١٥٦ ، وسيأتي في الصفحة : ٤١١ من هذا المجلّد.

٤٠٧

اللحاظيين لا يلزمه الاهمال في الواقع ، بل يكون الثابت في الواقع هو نتيجة الاطلاق كما عرفت في أغلب الأحكام بالنسبة إلى العلم والجهل المتعلقين بها ، إلاّ أنه محتاج إلى عملية متمم الجعل ونحوه ، إلاّ أن تلك العمليات لا تسلم من الاهمال في مقام الثبوت بأول درجة الجعل ، إلاّ أن ذلك الاهمال الثبوتي لا بد من الالتزام به في أول درجة الجعل ، لمحالية الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، إلاّ أن هذا الاهمال الثبوتي هو عين الاطلاق الذاتي ، والغرض إنّما هو نفي الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، فانهما يتوقفان على النظر إلى القيد وجودا وعدما أو وجودا فقط أو عدما فقط ، وذلك أعني النظر إلى مثل تلك القيود محال في مقام جعل الحكم ، وإلاّ فما الذي نصنعه في القيود المتأخرة عن التكليف. ولا يجري كل من التقييد اللحاظي والذاتي مثل وجود المأمور به والاطاعة والعصيان ونحو ذلك مما يستحيل فيه حتى الاطلاق والتقييد الذاتيين ، فإن المكلف بالصلاة لا إشكال في انقسامه إلى المطيع لذلك الأمر والعاصي له ، فهل يتأتى في مقام أمر الآمر بالصلاة المتوجه إلى المكلفين بالنسبة إلى من يطيع ذلك الأمر ومن يعصيه إلاّ الاهمال في مقام الثبوت وعدم كل من اللحاظي والذاتي ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أن المتعين في ذلك هو الاكتفاء بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية ، غير أنه عند العلم بالحكم يكون الحكم متحققا كما أن العلم به متحقق أيضا ، ويكون الأول أعني الحكم متقدما رتبة على الثاني أعني العلم كما في اجتماع العلة والمعلول في الزمان ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الجهل ، وعلى هذه الطريقة ينبغي الجريان في داعي الأمر فانه وإن امتنع التقييد به لحاظا إلاّ أن ذلك إنّما يوجب سدّ باب الاطلاق اللحاظي ، ويبقى الاطلاق الذاتي القاضي بانطباق الطبيعة المأمور بها على كل من المأتي به

٤٠٨

بداعي الأمر والمأتي به لا بهذا الداعي ما لم يكن قد تحقق الجعل الثاني.

قوله : وأمّا الانقسامات الثانوية ـ سواء كانت لموضوعات التكاليف أو لمتعلقاتها ـ فلا يعقل فيها التقييد ، فلا يتصور فيها الاطلاق أيضا ... إلخ (١).

أورد عليه في الحاشية : بأن متعلق الشوق لا بد وأن يكون متعينا في ظرف تعلقه به ولو بعنوانه الإجمالي ، ويستحيل فرض الاهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعين له في مرحلة تعلقه به ... إلخ (٢).

أمّا الشوق في حقه تعالى فلا أعرف حقيقته ، وعلى كل حال هو من مقدمات الارادة أو هو عينها ، وقد بنى شيخنا قدس‌سره (٣) على أن الطلب متأخر عنها وهو مغاير لها ، وحينئذ لا يكون الشوق إلاّ ناشئا عن الصلاح في الفعل المشتاق إليه ، وهو لا شك في كونه متعلقا بنفس الفعل الواجد للمصلحة ، فلو كانت المصلحة مختصة بالفعل المقيد بداعي الأمر والطلب أو كانت شاملة لما هو بداعي الأمر ولما لم يكن بداعيه ، يكون ذلك الشوق المزعوم تابعا لها ، ويستحيل أن يكون متعلقه مهملا في الواقع من هذه الجهة ، لكن ذلك لا دخل له بمقام الطلب والأمر بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون الطلب غير الشوق وغير الارادة.

ولو سلّمنا وحدة الجميع ، بمعنى أن الشوق والارادة هما نفس الطلب والأمر ، لقلنا إنه في صورة كون المصلحة مختصة بخصوص الفعل الصادر بداعي الأمر والطلب يكون الشوق المفروض كونه عين الطلب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٣٥.

٤٠٩

والارادة متعلقا بالفعل الذي تعلق به الشوق ، فهل تجد من وجدانك إمكان تعلق شوقك بالفعل المقيد بكونه متعلقا لشوقك ولو كانت المصلحة شاملة للفعل ـ سواء كان بداعي الشوق أو لم يكن ـ يكون متعلق الشوق المذكور هو الفعل الشامل لما تعلق به الشوق وما لم يتعلق ، فهل تجد من نفسك إمكان تعلق شوقك بالفعل ، سواء كان متعلقا لشوقك أو لم يكن متعلقا له ، بحيث إنّك تجد أنّ كلا من هذين القسمين من الفعل واقعا تحت شوقك المذكور ، أو أنّك لا تجد إلاّ أن نفس الفعل تحت شوقك ، ولا تجد في مرتبة تعلق شوقك بذلك الفعل أنّ ما هو متعلق شوقك كان قابلا لأن يتقيد بكونه متعلقا لشوقك أو قابلا لأن يكون هو الأعم مما تعلق به شوقك وما لم يتعلق به ، ومن الواضح أن صدور الفعل بداعي شوقك هو عبارة عن كونه مقيدا بكونه بشوقك ، وصدور الفعل بالأعم من داعي شوقك أو بداع آخر هو عبارة عن كونه مطلقا من ناحية تعلق شوقك به.

ثم بعد هذا كله نقول : إن الكلام إنّما هو في الانقسام المتأخر رتبة عن نفس الحكم ، والحكم لا يختص بما يكون راجعا إلى الشوق كما في مثل الاباحة ومثل الأحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة والصحة والفساد والملكية والرقية والزوجية إلى غير ذلك من الأحكام الوضعية ، فهل يمكن أن تكون تلك الأحكام مقيدة بالعلم بها أو تكون مطلقة من ناحية العلم ، وهل يصحح إطلاقها من هذه الناحية أخذ الحكم بمعنى الشوق ، وهل ينطبق مسلك الشوق على مثل هذه الأحكام.

أما أنا الحقير القاصر النظر فلا أعرف للشوق في حقه تعالى معنى محصلا في الأحكام التكليفية الاقتضائية فضلا عن مثل الإباحة والطهارة والنجاسة ، وما هو الذي يجعلونه في هذه الأحكام قائما مقام الشوق في

٤١٠

كون متعلقه يستحيل فيه الاهمال ، نظري قاصر عن ذلك ، ولا بد أن أكون معذورا في جهلي بذلك الشوق و (١) بما هو قائم مقامه في تلك الأحكام.

لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده

ولا الصبابة إلاّ من يعانيها

قوله ـ في الحاشية المشار إليها في مقام الجواب عن كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة ، وأنه لا بد في العدم المقابل للملكة من قابلية المحل للوجود ـ : إن القابلية المعتبرة فيه لا يلزم أن تكون شخصية دائما ، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ألا ترى أنّه يصدق على الانسان أنّه جاهل بحقيقة ذات الواجب وصفاته مع أنّه يستحيل أن يكون عالما بها ، فلو كان استحالة أحد المتقابلين تقابل العدم والملكة مستلزمة لاستحالة الآخر ، لزم استحالة الجهل في مفروض المثال ، مع أنّه ضروري وجدانا (٢).

هذا أيضا ممّا لم أتوفق لفهمه ، فان التقابل بين العدم والملكة لا بد أن يكون له مورد يتقابلان فيه ، فذلك المورد الذي تقابلا فيه لا بد فيه من القابلية سواء كان شخصا أو كان صنفا أو كان نوعا ، ولا معنى لأن يكون التقابل في نوع مثلا وهو في حد نفسه غير واجد للقابلية لكن جنسه مثلا يكون واجدا للقابلية مع فرض كونهما أعني الوجود والعدم غير متقابلين في الجنس وإنّما تقابلا في النوع.

والحاصل : أن المعتبر فيه القابلية هو مركز التقابل ، ويستحيل تحقق التقابل بين العدم والملكة في شيء هو غير واجد للقابلية بل كان جنسه مثلا واجدا للقابلية ، فإنّه عند ذاك يكون مركز التقابل هو الجنس ، هذا.

__________________

(١) [ يوجد في الأصل زيادة « لا » والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٦.

٤١١

مضافا إلى أن تحقق القابلية في الجنس موجب لتحققها في النوع وإلاّ لم يكن نوعا من ذلك الجنس ، أما مسألة جهل الانسان بحقيقة الواجب تعالى وعلمه بعد فرض كون تقابلهما تقابل العدم والملكة ، بمعنى كون الجهل عبارة عن عدم العلم ممن يكون من شأنه العلم ، بمعنى عدم العلم ممن يتصور في حقه العلم ، أي عدم العلم ممن يمكن أن يكون عالما بحيث إنه لا يصدق على الجدار مثلا ، فلا ريب في امتناع كل من العلم والجهل بالمعنى المذكور في حق الانسان بالنسبة إليه ، وكيف يمكن أن يقال إن الجهل في حقه ضروري مع فرض كونه بمعنى عدم العلم ممن يمكن في حقه العلم به تعالى.

نعم ، لو أخذنا الجهل بمعنى العدم المحض ، وقلنا إن مقابلته بالعلم من قبيل السلب والايجاب ، لكان نسبته إلى الانسان بالمعنى المذكور أعني السلب المطلق بمكان من الامكان (١) لكن أين هذا من الجهل المأخوذ بمعنى عدم العلم ممن يكون من شأنه عالما ، وكيف يعقل أن يكون الانسان من شأنه أن يكون عالما بذاته تبارك وتعالى ، وهل هذا إلاّ خلف لما قلناه من استحالة كونه عالما بذاته تعالى.

وبعد فرض عدم تحقق القابلية في الانسان تقابل العلم والجهل فيه فمن هو الذي يراه المحشي واجدا لهذه القابلية من الصنف أو النوع أو الجنس كي يكون هذا المثال مصدّقا لقوله : إن القابلية المعتبرة فيه لا يلزم أن

__________________

(١) ولا يخفى أنّ هذا لو تم في تقابل العلم والجهل فهو غير جار في محل الكلام الذي هو تقابل الاطلاق والتقييد ، إذ لا مورد يفرض فيه تقابلهما تقابل الإيجاب والسلب بعد فرض كون أصل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، إلاّ أن يكون ذلك هو العلم بالحكم في قبال باقي القيود التي يكون التقابل فيها بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة [ منه قدس‌سره ].

٤١٢

تكون شخصية دائما ، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ألا ترى أنّه يصدق على الانسان ... إلخ (١).

ولعل المراد من الصنف أو النوع إنّما هو بالنسبة إلى نوع المعلوم وصنفه بالنسبة إلى هذا المعلوم الخاص وهو واجب الوجود تعالى وتقدس. ولكن لا يخفى أن التقابل بين العلم [ والجهل ](٢) إنما هو بالنسبة إلى ذاته تعالى وتقدس لا بالنسبة إلى غيره من المجهولات أو المعلومات فلاحظ. وكيف يمكن أن يتقابل المعلومية والمجهولية في نوع الشيء أو جنسه مع عدم تقابلهما في نفس ذلك الشيء ، هذا. مضافا إلى أنّه تعالى لا نوع له ولا جنس له.

والذي أخاله أن النزاع بين شيخنا قدس‌سره وبين من يورد عليه ممّن تأخر عنه ينتهي إلى ما يشابه النزاع اللفظي ، حيث إن شيخنا قدس‌سره ينفي التقييد اللحاظي في أمثال هذه المقامات ، ولا ينكر التقييد الذاتي الذي يعبّر عنه بنتيجة التقييد ، وحينئذ فطريقة توأمية الذات مع داعي الأمر لو صحت لا يكون الناتج منها إلاّ نتيجة التقييد لا التقييد اللحاظي.

ثم إنّه قدس‌سره (٣) بعد أن أثبت امتناع التقييد اللحاظي انتقل إلى امتناع الاطلاق اللحاظي ، ومراده بذلك لحاظ الآمر وجود القيد وعدمه ، وجعل الحكم على الطبيعة التي لاحظها سارية في كل منهما ، لا أن كلا من القيد وعدمه يكون تحت الحكم ، بل إن الذي هو تحت الحكم هو نفس الطبيعة الموجودة في كل من الموردين ، ومن الواضح أن استحالة هذا المعنى من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٦.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

٤١٣

الاطلاق اللحاظي لازم قهري لاستحالة التقييد اللحاظي الناشئ عن استحالة النظر إلى القيد المتأخر عن الحكم في حال إصدار الحكم ، ولا أظن أنّ أحدا يسوّغ الاطلاق اللحاظي في هذا النحو من الطوارئ التي لا يمكن النظر إليها في مقام جعل الحكم.

نعم ، يمكن القول بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية المعبّر عنها في كلماته بنتيجة الاطلاق ، وهذا المقدار لا يمنعه شيخنا قدس‌سره بل هو يصرّح بأن الممكن في ذلك هو نتيجة الاطلاق دون التقييد ودون الإطلاق اللحاظي ، والشاهد على ذلك هو مسلكه قدس‌سره في هذه المسألة ، فانه بعد أن أثبت استحالة التقييد اللحاظي بداعي الأمر ، التزم باثباته بجعل آخر سمّاه متمم الجعل ، وجعل النتيجة هي نتيجة التقييد.

وحينئذ نقول : إنه لو لم يثبت الجعل الثاني فهل نلتزم بسقوط الأمر وعدم العمل به لكونه في مقام الثبوت مهملا ، أو نعمل به في خصوص التعبد ونلتزم بقصد القربة من باب القدر المتيقن أو من باب الاحتياط؟

كل ذلك لم يلتزم به. أما الأول أعني عدم العمل بالأمر فواضح. وكذلك الثاني لما عرفت من أنه إنما يجري في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت. وأمّا الثالث أعني الاحتياط فهو قائل بعدمه وأن المرجع هو البراءة ، وحينئذ يكون المتعين هو البناء على الاكتفاء بالفعل سواء كان مجردا عن التعبد أو مقرونا به ، وما ذلك إلاّ من جهة الاكتفاء بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية ، وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى فيما علّقناه (١) على ما أفاده في صفحة ١٠٠ (٢) من الجواب عن إشكال الكفاية.

__________________

(١) في صفحة : ٤٨٥ وما بعدها.

(٢) من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

٤١٤

ثم لا يخفى أنا عند وصول بحثنا إلى هذه المقامات وما بعدها لم تكن هذه الحاشية موجودة لدينا بل لم تكن مطبوعة ، ولمّا طبعت تفضّل صاحبها ( سلّمه الله ) على الحقير بنسخة منها وله الفضل ، ولكن بعد وصولنا في بحث الترتب إلى ما فيه شاهد لهذه المسألة وإليه أشار المحشي هناك ، علّقنا هناك ما مضمونه التأمل والاشكال على هذه الحاشية ، ثم لمّا وصلنا إلى أوائل مبحث الاطلاق والتقييد أيضا أشار المحشي إلى ما تقدم منه في مبحث التعبدي والتوصلي ، وفعلا (١) حررنا هذه التعليقة هنا لئلا يفوت محلها ، وينبغي ملاحظة ما علّقنا على مبحث الترتب (٢) وضمّه إلى ما حررناه هنا إن شاء الله تعالى ، فإنه مشتمل على زوائد على هذا الذي حررناه هنا فراجعه وتأمل.

قوله : وبيانه أن العلم بشخص الحكم تارة يؤخذ في الموضوع بنحو القضايا غير المعقولة كأنياب الأغوال ـ إلى قوله : ـ واخرى على نحو القضايا الحقيقية ـ إلى قوله : ـ وحينئذ فلا بدّ من فرض الموضوع في مقام الانشاء والحكم على المفروض ـ إلى قوله : ـ ومن الواضح أن فرض وجود العلم بالحكم فرض وجود الحكم ، فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية ... إلخ (٣).

إشكال التقدم والتأخر هو عبارة عن أن الحاكم في مقام جعله الحكم على الموضوع يرى الحكم ممتازا عن الموضوع كما أنه يرى الموضوع ممتازا عن الحكم ، فلو كان نفس ذلك الحكم الذي رآه ممتازا عن

__________________

(١) ٢٠ ذي القعدة ١٣٦٩ ه‍ ق [ منه قدس‌سره ].

(٢) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٣ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٥٩ [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

٤١٥

الموضوع ولاحظه متأخرا عنه رتبة مأخوذا في ذلك الموضوع ، كان الحكم بنفسه متقدما على نفسه باللحاظ.

وهذا الاشكال لا يفرق فيه بين كون القضية حقيقية أو كونها طبيعية أو كونها خيالية ، فإنّها ولو كانت خيالية يكون ذلك الخيال محالا.

كما أن هذا الاشكال لا يفرق فيه بين كون العلم تمام الموضوع أو كونه جزء الموضوع ، لجريان إشكال التقدم والتأخر في مقام اللحاظ في الحكم حتى لو كان العلم تمام الموضوع لينطبق على القطع المخطئ ، بأن يقول جعلت الحكم على القاطع به سواء أصاب أو أخطأ ، وإن كان التحقيق أنه لا يتصور فيه الخطأ بعد فرض جعل الحكم على القاطع به ، وهذا بخلاف إشكال الدور في مقام الفعلية فانك قد عرفت ابتناءه على كون العلم جزء موضوع يعني خصوص المصيب منه ، لأن العلم بالحكم إذا كان خطأ لا يتوقف على تحقق الحكم ، لكن لو اخذ العلم بالحكم جزء موضوع لذلك الحكم كان الحال فيه أسوأ من الدور ، لأنّ محصّله هو توقف الحكم على موضوعه المركب الذي هو نفس الحكم والعلم به ، ومن ناحية الجزء الثاني وهو العلم يحصل الدور وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ، لكن من ناحية الجزء الأول يكون عين توقف الشيء على نفسه.

أما ما شرحه شيخنا قدس‌سره فكأنه راجع إلى الدور في المرحلة الفعلية وأنه موجب لمحالية الجعل ، فيكون الوجه الثاني الذي أفاد أنه ليس من قبيل الدور عين الوجه الأول الذي أفاد أنه راجع إلى الدور ، وأنه إذا كان المجعول محالا كان الجعل محالا ، فتأمّل.

ثم لا يخفى أن قوله : فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية وهو ما ذكرناه من محذور الدور ، إلخ ، يمكن أن

٤١٦

يتأمل فيه ، فإنّه لا مانع من أن الحاكم في مقام جعله الحكم يفرضه موجودا ثم يجعله ، ونعني بأنه يفرضه موجودا أنه يتصور وجوده والعلم به ثم يجعله ، ولا إشكال فيه سوى إشكال التقدم والتأخر في لحاظ الحكم ، نعم لو فرض وجود الحكم ويجعل الحكم على تقدير وجوده ، كان لازم ذلك تحقق الحكم قبل تحققه وهو الدور السالف الذكر ، فلاحظ وتأمل.

ولكن الذي حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام لعله يريد به مطلبا آخر غير الدور وغير إشكال التقدم والتأخر في اللحاظ ، وهاك نص ما حررته عنه : هذا كله بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأمّا بالنسبة إلى ذلك الحكم الانشائي المجعول (١) فلا يلزم فيه من أخذ العلم قيدا في موضوع الحكم ذلك الدور المصطلح ، بل يلزم عليه تقدم الشيء على مرتبة نفسه ، حيث إن الموضوع بالنسبة إلى حكمه نظير العلة بالنسبة إلى معلولها في تقدمها عليه رتبة ، والعلم بالحكم بالنسبة إلى ذلك الحكم يكون نظير المعلول بالنسبة إلى علته في تأخره عنها رتبة ، فلا يمكن أن يؤخذ العلم بذلك الحكم قيدا في موضوع ذلك الحكم ، بمعنى أن نفس جعل الحكم واردا على موضوعه المقيد بالعلم به يكون محالا وإن لم يلزم منه الدور المصطلح ، إذ لا يكون في هذه المرحلة أعني مرحلة جعل الحكم تحقق حكم ولا تحقق موضوع كي يقال إن تحقق أحدهما يكون متوقفا على تحقق الآخر الذي هو الدور المصطلح ، إلاّ أنه يكون محالا من جهة كونه مستلزما لتقدم العلم بالحكم رتبة على رتبة نفسه ، فمن جهة كونه علما متعلقا بالحكم يكون متأخرا عنه رتبة ، ومن جهة كونه مأخوذا قيدا في

__________________

(١) يعني أن ما تقدّم من الدور كان بالنسبة إلى تحقق الحكم المجعول وأمّا بالنسبة إلى أصل الجعل ... [ منه قدس‌سره ].

٤١٧

موضوعه يكون متقدما عليه رتبة ، إلخ.

وتوضيحه : أن العلم وإن لم يكن معلولا حقيقيا للمعلوم إلاّ أنه متأخر رتبة عنه تأخر العارض عن معروضه ، وفي الحقيقة يكون المعلوم موضوعا تكوينيا للعلم كموضوعية العالم للاكرام ، فإذا أخذ الشارع العلم بالحكم موضوعا لذلك الحكم فقد صيّر ما هو المتأخر رتبة عن الحكم مقدما عليه رتبة ، فيكون لازم ذلك هو كون كل من نفس الحكم ومن العلم به متقدما على نفسه ، وهو عين اشكال الدور وإن لم يكن بالدور المصطلح.

قوله : الأول أن المجعول في مقام الانشاء كما سيجيء إن شاء الله تعالى ليس إلاّ الأحكام الفعلية لموضوعاتها الخارجية ، وبعبارة اخرى الأحكام الفعلية هي الأحكام الموجودة بنفس الانشاء لموضوعاتها المقدر وجودها ... إلخ (١).

والحاصل : أن المنشأ ليس هو إلاّ الأحكام الفعلية على تقدير تحقق موضوعاتها ، وإذا كانت تلك الأحكام الفعلية محالا كان إنشاؤها محالا لأنه إنشاء ما لم يكن. ولا يرد عليه أن ذلك من قبيل إنشاء حكم لا يمكن أن تعرضه الفعلية فلا يكون الانشاء محالا ، نعم يكون محالا على الحكيم لعدم ترتب ثمرة عملية على إنشائه.

ويمكن تقريب المطلب بطريق آخر : وهو أن محصل القضية الحقيقية هو جعل الحكم على فرض وجود موضوعه ، وإذا كان الموضوع هو العلم بذلك الحكم المجعول كان فرض وجود ذلك الموضوع من قبيل فرض المحال ، لمحالية تحقق العلم بالحكم الذي يكون موضوعه العلم به ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

٤١٨

فيرجع الأمر بالأخرة إلى جعل الحكم على تقدير هو محال في نفسه ، ولعل هذا الأخير راجع إلى ما أفاده في الوجه الثاني بقوله : ومن الواضح أن فرض وجود العلم بالحكم فرض وجود الحكم ، فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية ، إلخ (١).

ولعل المراد به وجه آخر : حاصله أنه لو حكم بالحرمة على تقدير وجود العلم بتلك الحرمة كان فرض العلم بالحرمة عبارة اخرى عن فرض تلك الحرمة ، فيكون المتحصل أنه لو وجدت الحرمة ووجد العلم بتلك الحرمة تحققت تلك الحرمة ، فكان الحاصل هو الحكم بالحرمة على تقدير تحقق تلك الحرمة ، ولا ريب أن الحكم بالحرمة هو عين وجودها أو أنه عين إيجادها ، ويكون المتحصل هو فرض وجودها قبل وجودها ، وروح هذه المحالية هي جعل الحكم واردا على العلم الوارد على نفس ذلك الحكم. فإن شئت فقل إن ذلك موجب لفرض وجود الحكم قبل وجوده ، وإن شئت فقل إن ذلك موجب لكون وجود الحكم سابقا على وجوده ، وإن شئت فقل إن ذلك موجب لكون نسبة الحكم إلى نفسه نسبة العلة إلى المعلول ونسبة المعلول إلى العلة ، وإن شئت فقل إنه موجب لدخول الحكم في موضوعه وهو موجب للحاظه قبل لحاظه ، فإن لحاظ الموضوع قبل لحاظ الحكم ، وكل هذه المحاليات ناشئة من أخذ الحكم في موضوعه.

قوله : وأمّا تقييد متعلق التكليف بقصد امتثال الأمر ، فقد يقال بامكانه من ناحية الأمر ـ إلى قوله : ـ لكن التحقيق ... إلخ (٢).

هذا تعريض بما في الكفاية ، فإنّ ظاهرها الالتزام بامكان تصور الآمر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٤١٩

الصلاة مقيدة بداعي الأمر ، وتعلق أمرها بها مقيدة بهذا الداعي ، حيث يقول في مقام دفع التوهم : ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ( وكأن جلّ المنع عنده إنّما هو من ناحية قدرة المكلف حيث قال ) إلاّ أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها ، فان الأمر حسب الفرض ( لم يتعلق بذات الصلاة وإنما ) تعلق بها مقيدة بداعي الأمر ، ( فذات الصلاة لم تكن مدعوا لها بالأمر وإنما المدعو له بالأمر هو الصلاة المقيدة ) ولا يكاد يدعو الأمر ( لغير متعلقه بل هو لا يدعو ) إلاّ إلى ما تعلق به ( الذي هو الصلاة المقيدة ) لا إلى غيره ( الذي هو ذات الصلاة ) (١).

وشيخنا قدس‌سره وإن التزم بعدم القدرة إلاّ أنه ركّز الاشكال بعدم القدرة على الجزء الثاني الذي هو قصد الامتثال ، وجعل ذلك موجبا لسدّ باب الامتثال ، لأن مرجعه إلى تحقق قصد الامتثال بقصد الامتثال ، ولكن جلّ نظر صاحب الكفاية هو إلى سدّ باب قدرة المكلف على الاتيان بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، لأنّ المفروض هو عدم تعلق الأمر بها بذاتها كي يتمكن المكلف من الاتيان بها بدعوة الأمر المتعلق بها ، فكان جلّ همّه في تلك الانقلتات (٢) المتأخرة هو سدّ باب الأمر بذاتها ، وكأنه لأجل ذلك أورد عليه بعض أعاظم العصر ( سلّمه الله تعالى ) (٣) بامكان الاتيان بذات الصلاة بداعي الأمر ولو الأمر المتعلق بالمقيد الذي صارت ذات الصلاة مقدمة له على ما شرحه مقرر بحثه من صفحة ١٠٧ إلى صفحة ١٠٩ فراجعه ، وراجع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٣ [ ولا يخفى أن المجعول بين قوسين هو شرح المصنّف قدس‌سره لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره ].

(٢) [ يعني : إن قلت قلت ].

(٣) وهو السيد البروجردي قدس‌سره في نهاية الاصول ١ : ١٢٠ ـ ١٢٢.

٤٢٠