أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

كلها عرض ذاتي بالمعنى المشار إليه (١). ويكون الحاصل أنّ الواسطة التي بها يكون العرض ذاتيا ويكون غريبا هي الواسطة في العروض.

والمتحصل من مجموع كلماتهم في تفسير الواسطة في العروض التي عليها المدار في تقسيم العرض إلى الذاتي والغريب وجوه :

الأوّل : هو ما عرفته من اعتبار الحمل فيها ، وهو ظاهر كل من أشكل على جعل العارض بواسطة المباين من العوارض الغريبة على ما عرفته من المرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في منظومته (٢) ، وهو الذي جرى عليه في البدائع بقوله : وكيف كان فقد ظهر أنّ الواسطة في العروض لا يكون مباينا ، لأن المفروض عدم صحة حمل العارض على الذات ابتداء لعدم كونه من مقتضياتها ، فلو لم تكن الواسطة المحمول عليها محمولا على الذات بل شيئا مباينا معها ، فكيف يصح حمله بملاحظة تلك الواسطة عليها (٣) ، وقد عرفت ما يلزمه.

الوجه الثاني : هو إرجاع الواسطة في العروض إلى الواسطة في الثبوت ، وهو الظاهر من قولهم في تفسير العرض الذاتي : ما يعرض لذاته أو لجزئه الأعم من المساوي والأعم ، وما يعرض له للخارج المساوي ، في قبال العرض الغريب وهو ما يعرض للخارج الأعم أو الأخص أو المباين ، فإنّ الظاهر هو كون هذه الوسائط عللا للعروض في قبال ما يكون العلة فيه هو نفس الذات. وهذا هو الظاهر من شرح المطالع (٤).

__________________

(١) بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس‌سره : ٣٠.

(٢) منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : ٢١.

(٣) بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس‌سره : ٢٩.

(٤) شرح المطالع : ١٨.

٢١

والذي ينبغي هو تقديم مقدمة لفهم ما يرومه شارح المطالع : وهي أنّك تراهم يقولون في مقام تقسيم العرض : عارض الشيء لذاته ، عارض [ الشيء ](١) لجزئه المساوي ، عارض الشيء لجزئه الأعم إلخ ، فقولهم عارض الشيء لذاته لا يريدون به إلاّ أن الذات علة في عروض ذلك العرض عليها ، والذي ينبغي هو أن البواقي على هذا النمط ، فيكون المراد من قولهم : عارض الشيء لجزئه ، أنّ الجزء يكون علة في عروض ذلك العارض على ذلك الشيء ، وهكذا البواقي ، فلا يكون الجزء والخارج المساوي أو الأعم إلاّ علة في العروض ، فلا تكون هذه الوسائط إلاّ عللا فلا تكون إلاّ وسائط في الثبوت.

وأمّا تعبير البعض بالواسطة في العروض ، فهو على حدّ قولهم واسطة في الثبوت ، وقولهم واسطة في الاثبات ، في كون الواسطة في الأول علة في الثبوت ، وفي الثاني علة في الاثبات. فالذي ينبغي أن يكون المراد بقولهم واسطة في العروض ، أنّها علة في العروض ، فلا تكون إلاّ واسطة وعلّة في الثبوت ، فلا يحسن جعلها في قبالها ، واللازم هو جعل الواسطة على قسمين : واسطة في الثبوت وواسطة في الاثبات.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّ الظاهر من شرح المطالع هو هذا المعنى ، أعني جعل قسمة الواسطة ثنائية ، وإرجاع الواسطة في العروض إلى الواسطة في الثبوت ، فإنّه قال في شرح المطالع في مقام الاشكال على من عدّ العارض بالواسطة المباينة من الأعراض الغريبة :

فإن قيل نحن نقسّم العرض هكذا : العرض إمّا أن يلحق الشيء

__________________

(١) [ ليس في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].

٢٢

لا بواسطة لحوق شيء آخر أو بتوسطه ، والوسط إمّا أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا إلى آخر القسمة ، وحينئذ لا يمكن أن يكون الوسط مباينا لأن المباين لا يلحق الشيء ، وأيضا الوسط على ما عرّفه الشيخ ما يقترن بقولنا : لأنه ، حين يقال : لأنه كذا ، فلا بد من اعتبار الحمل ، والمباين لا يكون محمولا.

وأجاب بما يظهر منه عموم الوسط للمباين ، وأنّه لا يشترط في الوسط الحمل ـ إلى أن قال ـ والشبهة إنّما نشأت من عدم الفرق بين الوسط في التصديق وبين الواسطة في الثبوت (١) ، والشيخ صرّح بذلك في كتاب البرهان من منطق الشفاء مرارا ... إلخ (٢).

ثم إنّه جعل الأعراض ستة ، وجعل الثلاثة الاول ذاتيات والأخيرة غريبات ، ثمّ قال : ووجه التسمية اختصاصه بذات الشيء ، وما لا يختص بالشيء بل عرض له لأمر أعم ، أو يختص ولا يشمله بل يكون عارضا له لأمر أخص ، سمي عرضا غريبا ، لما فيه من الغرابة بالقياس الى ذات الشيء (٣).

الوجه الثالث في تفسير الواسطة العروضية : هي ما كان العارض لا حقا لنفسها ، ويكون نسبة ذلك العارض الى الموضوع نسبة مجازية باعتبار كونه من عوارض ملابسه ، وهذا الوجه هو المنقول عن حاشية

__________________

(١) قال المحقق الشريف في الحاشية : أي الاشتباه إنما نشأ من عدم الفرق بين الواسطة في التصديق وهو المفسّر بذلك التفسير ، وبين الواسطة في الثبوت بحسب نفس الأمر ، بل في العروض ، وهي المعتبرة في الحصر المذكور. [ منه قدس‌سره ].

(٢) شرح المطالع : ١٨ ـ ١٩.

(٣) شرح المطالع : ١٩.

٢٣

الملا صدرا على شرح حكمة الاشراق (١) وهو المنقول عن السبزواري في شرح منظومته في المنطق (٢).

وكأنّ قول صاحب الكفاية قدس‌سره « بلا واسطة في العروض » (٣) ناظر إليه ، وإليه ينظر شيخنا قدس‌سره فيما حكاه عنه المرحوم الشيخ محمد علي فيما قدمنا نقله (٤) ، وعليه فتكون جميع العوارض العارضة على الذات ذاتية سوى ما يكون نسبته إليها نسبة مجازية فإنّه في الحقيقة ليس من عوارض تلك الذات. أما ما في تحرير السيد ( سلمه الله تعالى ) (٥) من تفسير الواسطة في العروض بالواسطة الثانية فلم أعرف له وجها ولا مأخذا ، فلاحظ وتدبر.

والذي أخاله هو أنّه قدس‌سره تعرّض لبحثين :

الأوّل : ما في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي (٦) وهو مع الجماعة القائلين بأنّ المدار في كون العرض ذاتيا وغريبا على حال الواسطة في الثبوت ، وأنّ العرض إن كان باقتضاء الذات أو جزئها المساوي أو الأعم أو ما هو خارج عنها مساو لها فهو ذاتيّ ، لكون الجميع باقتضاء الذات حتى الأخير منها ، لأن الذات لمّا كانت مقتضية لذلك الخارج المساوي المقتضي لذلك العرض كان ذلك العرض بالأخرة باقتضاء الذات ، بخلاف ما لو كان الوسط فيه ما هو الخارج الأخص أو الأعم أو المباين فانه لا يكون باقتضاء الذات ، فلا يكون عرضا ذاتيا بل غريبا.

__________________

(١) شرح حكمة الإشراق : ٤٧.

(٢) شرح المنظومة ١ : ١٧٩.

(٣) كفاية الاصول : ٧.

(٤) في صفحة : ١٨.

(٥) أجود التقريرات ١ : ١٢.

(٦) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٠ ـ ٢١.

٢٤

وحاصل بحث شيخنا قدس‌سره معهم هو أنّه ليس المدار في كون العرض ذاتيا على اقتضاء الذات أو ما يلحق بالذات ، بل المدار فيه على كون العرض لاحقا للذات محمولا عليها ابتداء ، سواء كان بعلية نفس الذات أو كان بعلية جزئها أو كان بعلية ما هو خارج عنها ، ولا يكون العرض غريبا إلاّ ما لم يكن لاحقا للذات ابتداء ، بل كان هو في الحقيقة لاحقا للواسطة ، وإنّما يلحق الذات تبعا وبالعرض والمجاز نظير الوصف بحال المتعلق ، فهذا هو العرض الغريب ، أما غيره من الأقسام الستة أو السبعة فكلها ذاتية.

نعم ، يبقى شيء ، وهو أن ما يعرض لما هو الخارج الأخص كالرفع اللاحق للفاعل الذي هو أخص من الكلمة ، وما يعرض للخارج الأعم مثل العوارض المبحوث عنها في مباحث الألفاظ ، وهي أن الألفاظ أعم من موضوع علم الاصول أعني الكتاب والسنة ، وهكذا في عوارض الجنس لما هو موضوع الفن مثل المشي الذي هو عارض الحيوان بالنسبة إلى علم يكون موضوعه الانسان ، فإن هذه وإن كانت ذاتية إلاّ أن الذي ينبغي هو جعل الأول أعني الرفع من مباحث العلم الذي يكون موضوعه الفاعل لا العلم الذي يكون موضوعه الكلمة ، وكذلك الثاني أعني العوارض المذكورة في مباحث الألفاظ ينبغي جعلها في العلم الذي يكون موضوعه مطلق الألفاظ لا العلم الذي يكون موضوعه هو خصوص الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، وهكذا البحث عن المشي ينبغي أن يكون في العلم الذي يكون موضوعه الحيوان لا العلم الذي يكون موضوعه الانسان.

وأجاب (١) عن هذا الأخير باعتبار الحيثية ، فالبحث عن عوارض

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٢ ـ ٢٣.

٢٥

الأوامر لا يكون المنظور فيه مطلق الأوامر بل الأوامر من حيث وقوعها في الكتاب والسنة ، فالحيثية تقييدية توجب تضييق دائرة العروض في تلك المسائل ، وهكذا الحال في البحث عن رفع الفاعل في النحو الذي يكون موضوعه الكلمة ، فإن المنظور إليه في ذلك البحث هو الفاعل من حيث إنه مصداق الكلمة لا من حيث نفسه خصوص عنوان الفاعل ككونه مقدّما رتبة على المفعول ، فالحيثية هنا توجب توسعة موضوع القضية القائلة الفاعل مرفوع ، فهي توجب توسعة دائرة العروض.

لكن سيأتي (١) إن شاء الله تعالى أن القائل بهذا المسلك من أن المائز بين الذاتي والغريب هو التجوز وعدمه في راحة من هذا الاشكال ، أعني دخول هذه المسائل في موضوع الفن وإن كانت داخلة في موضوع فن آخر لأجل تعدد الغاية وترتب الغايتين على تلك المسألة.

البحث الثاني : هو أنّه بعد الفراغ عن كون الميزان في العرض الذاتي هو عروضه لنفس الذات عروضا حقيقيا ، فيخرج منه ما يعرضها تجوّزا باعتبار الاتصاف بحال المتعلق ، يقع الاشكال في العوارض المترتبة مثل الضحك الذي هو بالتعجب الذي هو بالادراك الذي هو باقتضاء الذات ، فيقال إن الادراك من العوارض الذاتية وكذلك التعجب ، لكون الأول باقتضاء الذات والثاني باقتضاء ما هو خارج عنها مساو لها ، لكن الاشكال في الثالث فإنه إنّما يلحق الذات بالعرض والمجاز بواسطة التعجب ، فيكون التعجب من قبيل الواسطة في العروض وإن كان الادراك بالقياس إلى التعجب من قبيل الواسطة في الثبوت ، وهذا البحث هو الذي تعرض له في تقريرات

__________________

(١) في صفحة : ٣٦.

٢٦

السيد ( سلمه الله تعالى ) بقوله : وأما عوارض الأمر الخارجي المساوي ... إلخ (١) ، إلاّ أنه أخيرا اختار كون الضحك أيضا من العوارض الذاتية وأن التعجب بالنسبة إليه لا يكون إلاّ من قبيل الواسطة في الثبوت لا في العروض ، فلاحظ التقرير المذكور ـ إلى قوله ـ لكن الحق هو الأول ... إلخ.

وحيث قد عرفت اختياره قدس‌سره في العوارض المترتبة من أن الجميع عوارض ذاتية ، وبعد ذلك لا موقع لما أفاده الاستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته من الأشكال على شيخنا قدس‌سره بقوله : وأوضح إشكالا من ذلك ما عن بعض أعاظم المعاصرين على المحكي من مقرر بحثه ، حيث جعل ميزان الوساطة في العروض على احتياج عروضه إلى واسطة اخرى في الثبوت ، ومثّل لذلك بالضحك العارض للتعجب العارض لادراك الكلي ، وظاهر كلامه التزامه بعروض الضحك للانسان مع كونه من عوارض التعجب باعترافه ، ولا يخفى ما في هذا الكلام من مواقع النظر (٢) ، ثم ذكر مواقع النظر. وقد نسج على هذا المنوال مقرر بحثه في كتابه بدائع الأفكار (٣) فراجعه.

ولا يخفى أن جميع ذلك مبني على أن شيخنا قدس‌سره يرى أن الضحك من عوارض التعجب ، وقد عرفت رأيه في ذلك وأنه لا يرى التعجب بالنسبة إلى الضحك ولا الادراك بالنسبة إلى التعجب إلاّ من قبيل العلة والواسطة في الثبوت دون العروض.

وقد نسج على هذا المنوال محشي الكفاية السلطان آبادي المعروف

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢.

(٢) مقالات الاصول ١ : ٤٨.

(٣) بدائع الأفكار : ١٣.

٢٧

بالسلطان (١) ونقل ما في تقرير السيد عن شيخنا قدس‌سره ـ إلى قوله ـ فالواسطة في الثبوت وإلاّ ففي العروض.

وما أدري ما الداعي لهؤلاء إلى أن يذكروا مجرد الاشكال ولم يذكروا ما أفاده قدس‌سره وما اختاره في المسألة بقوله : لكن الحق هو الأوّل (٢).

قلت : أما ما أفاده شيخنا قدس‌سره في البحث الأوّل فقد عرفت أنه خيرة أساطين الفن مثل الملا صدرا وشارح المنظومة وعليه جرى في الكفاية وتبعه من تأخر ، ولكن إذا وصلت النوبة إلى أنّ الانتساب الحقيقي والانتساب المجازي هو المائز بين العرض الذاتي والعرض الغريب يسهل الأمر ، وتخرج المسألة عن كونها من مسائل المعقول ، وتكون من مسائل علم اللغة ، أعني علم المعاني ، وهي مسألة المجاز في الاسناد وكون التجوز من قبيل المجاز العقلي ولا أهمية لها ، وفي الحقيقة يكون العارض الغريب لتلك الذات ليس عارضا لها وإنّما هو عارض لذلك الملابس لها مثل قضية نسبة عارض الحال إلى المحل في قولهم : جرى النهر وسال الميزاب ، وكأن تمثيلهم لذلك بمسألة حركة الراكب للسفينة من باب عكس هذا المثال أعني أنّه يكون من قبيل نسبة عرض المحل إلى الحال ، فالحركة عرض للسفينة التي هي المحل ، لكنها تنسب إلى الراكب الذي هو الحال.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن الحركة واحدة طارئة على كل من السفينة وراكبها ، لا أن الحركة للسفينة حقيقة وتنسب إلى الحال فيها مجازا ، بل ولا أن حركة الراكب بعلّة السفينة وحركة السفينة بعلة الموج مثلا ، ولا أنّ

__________________

(١) حاشية على كفاية الاصول : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٢.

٢٨

حركة الراكب معلولة لحركة السفينة ، بل ليس في البين إلاّ حركة واحدة منبسطة على الجميع منتسبة نسبة حقيقية وهي معلولة للموج ، فليس ثمة تجوّز كما عرفت تفصيل ذلك فيما تقدم ، وأمّا بقية الأمثلة التي ذكروها فقد عرفت الكلام فيها مفصلا فلا نطيل بالاعادة.

وينبغي أن يعلم أن ظاهر التوجيه الثالث للواسطة في العروض ، وأنّها ما أوجبت التجوز في نسبة العرض إلى معروضه وبذلك يكون العرض غريبا ، هو أن المدار في غرابة العرض على ذلك ، أعني كون النسبة مجازية من قبيل النسبة بحال المتعلق ، سواء كانت الواسطة مباينة وغير محمولة كما في مثال توسط السفينة في نسبة الحركة إلى الراكب ، وكذلك عكسه أعني توسط الماء في نسبة الجريان إلى النهر والميزاب ، أو كانت محمولة كما في توسط الحركة في عروض السرعة ، وكما في توسط البياض في عروض الشدّة ، فإن الحركة والبياض محمولان على الجسم ، ولكن نسبة العرض إليه بواسطتهما وهو السرعة والشدة يكون بالعرض والمجاز ومن قبيل النسبة بحال المتعلق ، ويقابل ذلك العرض الذاتي وهو ما يكون نسبة العرض فيه حقيقية ، فإنّه شامل أيضا لما يكون الواسطة فيه محمولة كما في توسط الناطق والحيوان في عروض الادراك والمشي على الإنسان ، فإن نسبة الادراك والمشي إلى الإنسان حقيقية والواسطة في ذلك وهي الناطق والحيوان واسطة محمولة على الانسان ، ولما يكون الواسطة فيه غير محمولة كما في توسط النار لعروض الحرارة على الماء ، فان نسبة الحرارة إلى الماء نسبة حقيقية ، والواسطة وهي النار غير محمولة على الماء لكونها مباينة له ، ويمكن القول بأن الواسطة والعلة في حرارة الماء ليست هي النار بل العلة في ذلك هي مجاورته للنار ، وحينئذ يكون من الواسطة المحمولة

٢٩

لأن المجاورة تحمل على الماء.

وبالجملة : فالواسطة بالعروض هي الموجبة لكون نسبة العرض مجازية ، سواء كانت الواسطة محمولة أو كانت غير محمولة ، إن تصورنا الواسطة غير المحمولة ، وهذا بخلاف الوجه الأول في تفسير الواسطة في العروض ، فإن الواسطة فيه لا بد أن تكون محمولة ، كما أنّ نسبة العرض فيه لا بد أن تكون حقيقية.

وقد صرّح باعتبار هذين القيدين المحقق صاحب الحاشية ( قده ) فإنّه قال : وتوضيح ذلك أن المراد بالعوارض كما عرفت هي المحمولات الخارجة عن حقيقة ما حملت عليه ، وحينئذ فإن كانت تلك العوارض محمولة على موضوعاتها من دون ملاحظة حمل شيء آخر عليها أصلا كانت تلك العوارض عارضة لذات الموضوع ، وإن كان عروضها بواسطة حمل شيء عليها ، فذلك الشيء إمّا أن يكون داخلا في الموضوع أو خارجا عنه حسب ما فصّلناه من الأقسام ، فلا يعقل أن يكون العروض بواسطة أمر مباين للماهيّة.

ثم أخذ في تأييد ذلك ، أعني اعتبار الحمل في الواسطة وتشييده ودفع الاعتراضات عنه ، وفي بعض أجوبته يقول : أما ما ذكره من كون المراد بالواسطة في المقام هو الواسطة في العروض دون الثبوت بالمعنى المقابل له ، فهو الذي يقتضيه التحقيق في المقام.

ثم قال : إذا تمهّد ذلك تبيّن أن عروض شيء لشيء إما أن يكون بلا واسطة أو بواسطة لا تكون إلا محمولة ، فإنّه إن صح حمل العارض على موضوعه من دون لحوق شيء آخر للموضوع وحمله عليه ، كان عارضا لذاته من دون حاجة إلى الواسطة ، وإن افتقر إلى لحوق شيء آخر له فلا بد

٣٠

أن يكون ذلك الشيء من عوارض المحل ، إذ لولاه لم يعقل كون العارض له عارضا لذلك المحل ، سواء كان جوهرا أو عرضا قائما بغير المحل المذكور ، ولو اطلق العروض في مثله فعلى سبيل المجاز دون الحقيقة ، وهو خلاف المفروض ، إذ الكلام في العوارض الحقيقية وإن كانت غريبة بالنسبة إلى معروضاتها ، فإذا ثبت ذلك لزمه صحة حمل الواسطة على المحل حسب ما مرّ بيانه من صحة حمل العوارض على معروضاتها بالاعتبار المتقدم (١) انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره على طوله.

وأنت ترى تصريحه بأن الواسطة في المقام هي الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت ، وأنّها لا بد أن تكون محمولة على الموضوع ، وأن العارض للموضوع بواسطتها لا بد أن يكون عروضه عروضا حقيقيا.

وقال هذا المحقق في آخر تحقيقاته : فتحصل مما ذكرنا أن العرض الذاتي ما يكون عارضا للشيء لنفس ذاته من غير واسطة في العروض ، أو لأمر مساو للذات ، سواء كان داخلا في الذات أو خارجا عنها كما نص عليه جماعة من محققي المتأخرين ، فيكون كل من العوارض الذاتية والغريبة أقساما ثلاثة. والواسطة الملحوظة في المقام إنّما هي الواسطة في العروض دون الثبوت ، فما ذكره بعض الأجلة وحكاه عن التفتازاني في شرح الرسالة من أنّ المقصود بها الواسطة في الثبوت ، فاسد كما عرفت تفصيل الحال فيه بما قررنا.

فهو قدس‌سره يجعل المدار على الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت ، ولكنه يعتبر الحمل في الواسطة في العروض ، ويعتبر فيها أيضا أن

__________________

(١) هداية المسترشدين ١ : ١٠٩ ، ١١١ ، ١١٤.

٣١

تكون نسبة العرض إلى ذي الواسطة نسبة حقيقية ، ويكون العرض الذاتي عنده ما كان عارضا للذات بلا واسطة في العروض ، ويكون ما يعرضها بواسطة الجزء المساوي أو الخارج المساوي ملحقا به لكونه لأمر راجع إلى الذات مساويا لها ، والبواقي وهي كون الواسطة هي الجزء الأعم أو الخارج الأعم أو الخارج الأخص كلها غريبة ، ويكون الوجه في الغرابة هو أنّ الواسطة توسّع دائرة العارض أو تضيّقه.

ولعلّ قول صاحب الفصول (١) وصاحب الكفاية (٢) في اعتبار عدم الواسطة في العروض منزّل على ذلك ، وقد أشكلنا عليه فيما تقدّم (٣) بأن الواسطة العارضة إن كانت علة للعارض كانت واسطة في الثبوت ، وإن كانا معا معلولين لثالث كانت واسطة في الاثبات. ويمكن الجواب عنه بأنّه لا منافاة بين كونها واسطة في الثبوت أو الاثبات وبين كونها واسطة في العروض بالمعنى الذي شرحه ، ومن جهة وجود الواسطة في العروض يكون العرض غريبا ، وكون العارض بالواسطة في الثبوت إنّما يكون ذاتيا اذا لم يكن ما يوجب الغرابة وهو كون تلك الواسطة الثبوتية واسطة في العروض ، فلاحظ وتأمل.

والواسطة في الثبوت وان كانت مباينة لا تحمل لتكون واسطة في العروض إلاّ أنّه يصح (٤) الحمل فيها بالاشتقاق ، فالتعجب علة في الضحك وواسطة في الثبوت فيه ، ولكن المتعجب واسطة في العروض وهو

__________________

(١) الفصول الغروية : ١٠.

(٢) كفاية الاصول : ٧.

(٣) في صفحة : ٨ ـ ٩.

(٤) [ في الأصل : يحمل ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٢

محمول.

ومن ذلك يظهر لك أنّه يمكن حمل عبارة الكفاية والفصول من قولهما بلا واسطة في العروض على هذا المعنى ، ولا يلزم منه ما ذكرناه من لزوم كون جميع العوارض ذاتية ولا عدم تأتّي الواسطة في العروض فيما لو كانت الواسطة من الأعراض.

نعم ، يرد عليه : أنّ مثل الرفع العارض على الكلمة بواسطة الفاعلية في قولهم الفاعل مرفوع ، يكون خارجا عن مسائل علم النحو الذي يكون موضوعه الكلمة ، إذ ليس الرفع حينئذ من عوارضها الذاتية ، لكونه لاحقا لها بواسطة الخارج الأخص وهو الفاعلية.

ولا بد من الجواب حينئذ عن ذلك ، بأنّ ما به الامتياز في هذه المقامات عين ما به الاشتراك ، فيكون الفاعل عين الكلمة ، ونحو ذلك من الأجوبة.

على أنّه لا يخلو من خدشة في دعوى كون العارض بواسطة المساوي الداخل والخارج أنه بلا واسطة في العروض إلاّ بنحو من التسامح ، بدعوى خفاء الواسطة ، وادّعاء اختصاص الواسطة بالعروض بخصوص ما يكون توسطها موجبا لتوسعة العارض بالنسبة إلى المعروض. وهاتان المسامحتان وإن صحّتا ، إلاّ أنّ المسامحة لا تناسب التقسيم المعقولي ، نعم هو اصطلاح ولا مشاحة فيه ، لكن لا بد من ثبوت الاصطلاح من أهل الفن ولم يثبت.

وحبّذا لو قالوا العارض المبحوث عنه في الفن هو العارض المساوي لموضوعه لا الأعم ولا الأخص وأراحونا من هذه المشاكل ، ويبقى الكلام معهم في صدق ذلك وأنه لم لا يكون البحث عن العارض الأعم والعارض

٣٣

الأخص من مباحث ذلك الفن إذا ترتبت الثمرة المطلوبة من ذلك الفن عليهما ، وإن كانا من مباحث الفن الذي يكون موضوعه الأعم أو موضوعه الأخص ، لأجل ترتب الثمرة في ذينك العلمين على البحثين ، فلاحظ وتأمل.

أما الوجه الثاني الذي هو لصاحب المطالع ومحشيها الشريف الجرجاني ، فهو أخيرا جعل الأعراض ستة : ما يعرض الشيء لذاته ، وما يعرضه للمساوي الداخل والمساوي الخارج ، وما يعرضه للأعم الداخل والخارج ، وما يعرضه للأخص الخارج. وجعل الثلاثة الاول ذاتيات والثلاثة الأخيرة غريبات ، ثم قال : ووجه التسمية اختصاصه بذات الشيء وما لا يختص بالشيء بل عرض له لأمر أعم أو يختص ولا يشمله بل يكون عارضا له لأمر أخص سمي عرضا غريبا ، لما فيه من الغرابة بالقياس إلى ذات الشيء (١).

وبالأخرة صار موافقا لما نقلناه عن صاحب الحاشية ، وصار المدار في الذاتية والغرابة على مساواة العارض للمعروض وعلى عدم المساواة ، وقد عرفت ما يرد على ذلك من كونه خلاف الواقع في مباحث الفنون ، وهذا بخلاف ما عن شيخنا قدس‌سره فإنّ المدار فيه على كون الانتساب حقيقة أو مجازا ، سواء كانت الواسطة محمولة أو غير محمولة.

وربما قيل بانحصار العرض الغريب بما كانت النسبة فيه إلى المعروض مجازية وكانت الواسطة فيه محمولة كما في مثل سرعة الحركة وشدّة البياض ، ومثل البياض العارض للجسم بتوسط السطح ، دون مثل

__________________

(١) شرح المطالع : ١٩.

٣٤

حركة الجالس في السفينة الذي يكون الواسطة فيه وهي السفينة غير محمولة ، لكونها مباينة كما في شرح الكفاية للرشتي (١) ويقابله ما في المقالة (٢) من جعل السرعة العارضة للحركة والاستقامة العارضة للخط ونحو ذلك من قبيل حركة الجالس في السفينة بتوسطها ، من كون الجميع من قبيل الواسطة غير المحمولة ، وكون نسبة العرض إلى ذي الواسطة مجازية.

ولعل ما في المقالة ناظر إلى نفس العلة أعني نفس الحركة ونفس الخط ، فإنّ كلا منهما لا يحمل على الجسم كالسفينة بالنسبة إلى الراكب ، ولكن لو تم ذلك لجرى في الجزء المساوي أو الأعم ، فتجعل الواسطة هي الناطقية والحيوانية وهي غير محمولة.

ولو تمّ ذلك ، لأمكن القول بأن جميع هذه الوسائط غير محمولة وهي وسائط في الثبوت ، غير أن معلولها وهو عروض العرض على ذلك المعروض لمّا كان مجازيا صار العرض فيها غريبا ، واصطلحنا عليها بأنّها واسطة في العروض وإلاّ فهي واسطة في الثبوت ، ولك أن تقول إنها ليست سببا ولا علة في عروض العرض على المعروض لتكون واسطة في الثبوت ، بل هي جهة مصححة لنسبة العرض إلى غير من هو له ، فنحن نسمّيها واسطة في العروض لأجل ذلك ، أعني أنها مصححة لنسبة العرض إلى غير من هو له تسمية مجازية تشبيها لها بما يكون علة وسببا في عروض العرض ونسبته إلى من هو له حقيقة ، فالنار علة في عروض العرض وهو الحرارة على ما هي له وهو الماء ، والسفينة علة في عروض الحركة على الراكب ، إلاّ أن تلك لمّا كانت علّيتها حقيقية سميناها بالواسطة

__________________

(١) شرح كفاية الاصول : ٤.

(٢) مقالات الاصول ١ : ٤١.

٣٥

في الثبوت ، وهذه لمّا كانت علّيتها مجازية اصطلحنا عليها بالواسطة في العروض ، ولكن هذه أبحاث لفظية لا تليق بفن المعقول.

ثم إن كل من اختار الوجه الثالث ، وجعل المدار على كون النسبة حقيقية ، يكون في راحة من الاشكال في المسائل الباحثة عن العوارض اللاحقة لموضوع الفن بواسطة الأعم أو بواسطة الخارج الأخص إذا كان انتسابها إلى الموضوع حقيقيا. نعم يحتاج إلى توجيه في اشتراك الفن الآخر مع هذا الفن في أمثال تلك المسائل ، مثل تعدد الغاية وترتب كلا الغايتين على أمثال هذه المسائل ، فلاحظ.

تكميل لا بأس به : وهو أنه يرد على القائلين بتفسير الواسطة في العروض بالواسطة في الثبوت أوّلا : أنّه ما هو الوجه في تسمية الثلاثة الاول بالذاتية ، وتسمية الثلاثة الأخيرة بالغريبة ، مع اشتراك الكل في كون العروض على الذات بواسطة ثبوتية ، وقد تقدّم (١) الوجه في ذلك عن شرح المطالع وكأنه لا يزيد على مجرد الاستحسان والاصطلاح.

وثانيا : أنه ما هو الوجه في إخراج الثلاثة الأخيرة عن البحث عن موضوع الفن ، فان العارض لموضوع الفن لو كان بعلّية الخارج الأعم أو كان بعلّية الخارج الأخص ، أو كان بعلّية الخارج المباين ، لا يكون خارجا عن عوارضه اللاحقة له ، فلا وجه لاخراجها عن عوارضه التي يبحث عنها ، غايته أنّها في الأول تكون أعم منه وفي الثاني تكون أخص منه ، وذلك لا يوجب خروجها عن عوارضه.

وهذا الاشكال بعينه يتوجّه على القائلين بتفسير الواسطة بالعروض

__________________

(١) في الصفحة : ٢٣.

٣٦

بالواسطة في الحمل ، فانّ هذه الأعراض الأخيرة لا تخرج عن كونها عارضة ومحمولة على موضوع الفن ، فلا تكون التسمية إلاّ لمجرد الاستحسان والاصطلاح. مضافا إلى أنّه لا وجه لاخراج العوارض الأخيرة عن مباحث الفن ، مثلا إنّ المشي العارض على الانسان بتوسط أنّه حيوان يكون من عوارض الانسان كما أنّه من عوارض الحيوان ، وهذا لا يوجب إخراجه عن الفن الذي يكون موضوعه الانسان كالطب مثلا ، ولا يوجب اختصاصه بالفن الذي يكون موضوعه الحيوان كالبيطرة ، وهكذا الحال في بقية العوارض التي زعموا أنها غريبة وأنها خارجة عن الفن الذي يبحث فيه عن عوارض ذلك الموضوع.

ثم إنّ هؤلاء قد أخرجوا العارض بواسطة المباين كما عرفت ، بدعوى كون المباين لا يحمل وأنّه واسطة في الثبوت ، ولكن لا أدري في أيّ قسم أدخلوه ، والذي ينبغي لهم أن يدخلوه في القسم الأول من الذاتي أعني ما يكون عارضا لنفس الذات بلا واسطة في العروض ، لما سمعته (١) عن البدائع والفصول من أن توسط الواسطة في الثبوت لا يخرج العرض عن كونه ذاتيا وبلا واسطة في العروض.

وهذه الاشكالات لا ترد على من فسّر الواسطة بما يكون توسطها موجبا للتجوّز في النسبة ، وتفسير الذاتي بما يكون فاقدا لها ، والغريب بما يكون واجدا لها ، فإنّ التسمية بناء على هذا التفسير تكون واضحة المنشأ ، كما أنّ إخراج ما يكون غريبا بهذا المعنى من الغرابة عن البحث عن موضوع الفن أعني عوارضه الذاتية يكون أيضا واضحا لا غبار عليه ، إذ ليس ذلك حقيقة من العوارض لذلك الموضوع.

__________________

(١) في الصفحة : ٢٠ ـ ٢١.

٣٧

[ الكلام في الوضع ]

قوله : بل يلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كل طائفة على التكلم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ... إلخ (١).

هذا هو الصحيح الذي لا ريب فيه ، إذ ليس في البين جعل لفظ لمعنى ثم يتبعه الاستعمال ليكون ذلك سببا في كون اللفظ حقيقة في المعنى ، بل إنّ سبب ذلك هو ما افيد من إلهام الله تعالى حسبما أودع في الانسان من فطرة التكلم المعبّر عنها في القرآن الكريم بقوله تعالى : ( علّمه البيان )(٢) وحاصلها أن الغرض الأصلي للمتكلم هو إحضار المعنى أمام السامع ليحكم عليه المتكلم بما يريد ، وحيث إنّ ذلك غير ممكن فهو بطبعه يلتجئ إلى التصويت بصوت يرى أنه مناسب لذلك المعنى بحيث يرى أنّ ذلك الصوت إيجاد لذلك المعنى كما شرحناه مفصلا في رسالة في أصل الوضع وحقيقته وتشعّب اللغات فراجعها (٣) ، وعن ذلك التصويت في ذلك المقام ينشأ كون اللفظ حقيقة في المعنى.

وأمّا السبب الآخر ، وهو كثرة استعمال اللفظ في المعنى ، فهو أيضا لا أساس له ، لا لما قيل من أن الاعتماد على الشهرة لا يخرج ذلك الاستعمال عن المجازية لكون الشهرة حينئذ قرينة على التجوّز ، إذ ليس

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسختين ].

(٢) الرحمن ٥٥ : ٤.

(٣) مخطوطة لم تطبع بعد.

٣٨

الكلام في الاستظهار وإنما الكلام في كيفية استعمال المستعمل ، فإنّ نحو استعمال اللفظ في المعنى مجازا وبالعناية مباين لنحو استعماله فيه على نحو الحقيقة ، فالاستعمال بنحو العناية وإن كثر لا يخرج اللفظ عن المجازية فلا بد أن ينتهي الأمر بالأخرة إلى أنّ المتكلم في بعض تلك الاستعمالات قد قصد إعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى على نحو الحقيقة وعلى أنه حاق معناه ، فيكون ذلك الاستعمال هو السبب في صيرورة اللفظ حقيقة في ذلك المعنى عند ذلك المتكلم ويجري متابعوه على ذلك.

والاشكال عليه بأنّه يلزم أن يكون ذلك الاستعمال خارجا عن الحقيقة لتوقفها على الوضع ، وعن المجاز لتوقفه على العناية ، لا دخل له بما نحن بصدده من دعوى صيرورة اللفظ حقيقة في ذلك المعنى عند ذلك المتكلم بسبب ذلك الاستعمال وإن فرضنا كون ذلك الاستعمال غلطا ، على أنّه ليس بغلط بعد فرض كونه مستحسنا طبعا مقبولا عند أهل اللسان.

وأمّا ما افيد في صفحة ٢٤ (١) من الاشكال عليه بأنّه يوجب اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في ذلك اللفظ المستعمل بذلك الاستعمال ، فيمكن دفعه بأنه لو كان ذلك المستعمل قد قصد الوضع وإنشاءه بذلك الاستعمال لكان تعدد اللحاظ لازما ، أما إذا فرضنا أنه لم يقصد إلاّ الاستعمال ، غايته أنه على أنّ ذلك اللفظ قد أعمله في حاق حقيقته لا بالعناية والتجوز ، وعن الاستعمال بذلك القصد يتحقق الوضع قهرا ويكون اللفظ حقيقة في المعنى ، فلا يلزم فيه تعدد اللحاظ.

ألا ترى أن بيان أنّ اللفظ موضوع للمعنى الفلاني مثلا يحتاج إلى

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٤٩.

٣٩

النظر الاستقلالي إلى اللفظ ، ومع ذلك يحصل ذلك المطلوب الذي هو إفهام السامع أنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى باستعماله فيه بأن يقول له : ائتني بذلك الماء ، فيفهم من تلك الاشارة أنّ لفظ الماء موضوع لذلك الجسم ، من دون توقف على أن يكون المتكلم قد لاحظ لفظ الماء لحاظا استقلاليا.

وبالجملة : أن الكثرة لا توجب الانقلاب إلى الحقيقة ما لم يكن في البين استعمال على نحو الحقيقة ممّن هو متّبع في استعماله ، وإلاّ فلم لم ينقلب لفظ الأسد عن معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع مع أنه أكثر المجازات استعمالا. ومجرد عدم هجر المعنى الأول لا يدفع هذا النقض ، فانهم يلتزمون بأن الكثرة توجب الحقيقة في المعنى الجديد سواء هجر المعنى الأول أو لم يهجر ، غايته أنهم في صورة عدم هجران المعنى الأول يلتزمون بالاشتراك اللفظي ، وستأتي تتمة البحث إن شاء الله في مبحث الحقيقة الشرعية (١). فتلخص لك أن الوضع المبتكر والمنقول لا يكون إلاّ بالاستعمال دون الجعل الابتدائي وكثرة الاستعمال.

ثم لا يخفى أنّ هذا الذي أفاده قدس‌سره هنا من حصول الوضع بالاستعمال لا بالجعل المستقل لا يكاد يلتئم مع ما أفاده من إمكان كون الوضع عاما مع كون الموضوع له خاصا ، حيث إن الاستعمال الواحد لا يعقل فيه الوضع لكل فرد من أفراد العام. على أنّ فيه إشكالا آخر ، وهو أن كون الموضوع له هو كل واحد من الأفراد الخاصة يقتضي تصور كل واحد من تلك الأفراد بخصوصه ولا يكفي فيه تصور العام ، لأنه إنّما يكون تصورا للخاص بما أنه مصداق للعام لا بخصوص الخاص وشخصه ، فإن كان الموضوع له هو

__________________

(١) في صفحة : ١١٩ وما بعدها.

٤٠