أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

لكن المسألة أجنبية عن باب التسبيب ، لما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من أنّ التسبيب إنّما يكون فيما لو كانت إرادة الفاعل مندكة أو كانت معدومة كما في البهائم والأطفال ، بل لعل الآمر أيضا مسبّب كما في أمر الآمر البنّاء ببناء المسجد ، فإنّ ذلك الآمر هو الداخل في عمارة المسجد دون البنّاء. وليس ذلك من باب النيابة في شيء ، كما أن باب النيابة ليس من باب التسبيب بل هو باب آخر.

وربما يقال إنه من باب التنزيل ، وأن النائب ينزّل نفسه منزلة المنوب عنه ، فيكون المنوب عنه مخيرا بين أن يفعل الفعل ببدنه الحقيقي أو ببدنه التنزيلي.

ولا يخفى ما فيه ، من أن باب النيابة ليس من باب التنزيل كما حققناه في محلّه. ولو صحّ التنزيل لم يكن احتماله من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، لأن تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه ليس بفعل من أفعال المنوب عنه كي يدخله التخيير الشرعي. ودعوى أنه فعله ببدنه التنزيلي لا يخفى ما فيها ، لأن ذلك لا يدخله في اختياره على وجه يكون عدلا في الوجوب التخييري لفعله الحقيقي.

وعلى أيّ حال أنّ التنزيل غير نافع في امتثال الأمر المتوجه إلى المنوب عنه. ولو دل الدليل على صحة هذا التنزيل كان مقتضاه هو قصد النائب امتثال الأمر لنفسه بعد التنزيل ، ولا وجه لقوله في النية : أفعله عن زيد.

نعم ، غاية ما يمكن تصوره هو كون التنزيل موجبا لكون فعل النائب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٧.

٣٦١

فعلا للمنوب عنه ولذلك يكون رافعا للموضوع في تكليف المنوب عنه. لكن يبقى الاشكال في قصد القربة ، إذ لم تقع لا من النائب ولا من المنوب عنه ، إلاّ أن نقول إنها من النائب بمنزلتها من المنوب عنه ، فتأمل.

أما كون الاستنابة طرفا للتخيير فقد أشكل عليه شيخنا قدس‌سره (١) أوّلا : أن مجرّد الاستنابة لا يفرغ الذمة. وثانيا : أنّه يجوز التبرع بالنيابة في الفعل فتفرغ الذمة ولا استنابة. وثالثا : أنه لا معنى لكون فعل الغير من أطراف التخيير. وكأنه قدس‌سره يقول لا بد في التفريغ من فعل الغير ولا معنى لكون فعل الغير طرفا في التخيير.

ثم إن ملخص مختاره كما في هذا التقرير : هو أن النيابة هي تنزيل عمل الغير منزلة عمل المنوب عنه وكون الفعل فعله ، فيكون الواجب على المنوب عنه ذا جهات ثلاثة : الاولى : كونه من جهة المادة مع قطع النظر عن جهة الاصدار تعيينيا ، بمعنى أنّ الآمر يريد أصل وجود المادة في الخارج ولا تسقط بالاستنابة.

الثانية : التخيير في جهة الاصدار بين إصدارها بالمباشرة وإصدارها بالاستنابة.

والثالثة : كون وجوبها مشروطا بعدم فعل الغير.

وهذه الجهة إنما تنفع فيما لو كانت نيابة بلا استنابة أو صدر الفعل من الغير بلا نيابة ، فكان مفرّغا لذمة من وجب عليه. فالنحو الثاني من الواجبات المذكورة في الجهة الثانية يكون من جهة الاصدار تخييريا وإن كان من جهة المادة تعيينيا. ونفس توجه الخطاب إلى المكلف يرفع الشك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٨.

٣٦٢

من هذه الجهة. وهذا الظهور أقوى من ظهور الصيغة في التعيين. ولعل نظره أنه لو ثبت التخيير من جهة الاصدار يسقط ظهور المادة من جهة التعيين ، وإلاّ فانّهما متوافقان لكون النتيجة في كل منهما هي تعيّن المادة عليه.

وأمّا السقوط بفعل الغير من دون الاستنابة وهو المشار إليه في الجهة الثالثة ، فينفيه إطلاق الصيغة أيضا ، فإن مرجع ذلك إلى كون فعل الغير رافعا للموضوع أو لملاكه ، فيكون التكليف مشروطا بعدم فعل الغير ، وإطلاق الخطاب ينفي الاشتراط ، والخطاب وإن كان غير متعرض للموضوع إلاّ أن الموضوع راجع إلى الشرط ، وإذا ثبت الاطلاق ثبت بقاء الموضوع وأنه لا يرتفع بفعل الغير.

ثم إنّ رافع الموضوع إنّما هو مثل إسقاط فعل الأجنبي ما على الميت وجوب القضاء عن وليه ، فان الواجب على الولي هو قضاء ما في ذمة أبيه ، فإذا فرغت ذمة أبيه بفعل الغير ارتفع موضوع الوجوب على الولي ، هذا حاصل أو تلخيص ما أفاده قدس‌سره.

ولا يخفى أن رافع الموضوع لا ينبغي التكلم فيه ، إذ لا ريب في ارتفاع التكليف عند حدوثه ، فلا إشكال في سقوط تكليف الولي عند حصول فراغ ذمة والده. نعم كيف يكون عمل النائب مفرّغا لذمة الوالد وهذا يدخل في الجهة الثانية ، وحيث إن المفروض كونه من قبيل النيابة بلا استنابة من المكلف فيدخل في رافع الملاك ، هذا فيما علم الموضوع وعلم أن الفعل من الغير رافع.

وأمّا إذا شك في كونه رافعا له فمرجعه إلى الشك في الموضوع ، بمعنى أن الولي يشك في أن تكليفه هو النيابة وإن لم يكن تفريغا لذمة

٣٦٣

الميت ، كما لو شك الشخص في أنه مكلف باسالة الماء على ثوبه وإن لم يكن تطهيرا له من النجاسة ، فلا ينفع فيه ما لو أزال عنه النجاسة غيره ، كان المتبع هو كيفية توجه التكليف إليه لا إطلاقه من حيث اشتراط العدم. وعلى أيّ حال إن رافعية الموضوع لا تتأتى في النيابة بل هي لو صحت تكون محققة لامتثال المنوب عنه ، فلا تكون من قبيل رافع الموضوع ولا من قبيل رافع الملاك بل لا يكون إلاّ من قبيل استيفاء الملاك ، هذا.

ولكن شيخنا قدس‌سره (١) أفاد في توجيه الشك في بقاء الموضوع عند فعل الغير من ناحية اخرى غير راجعة إلى الشك في الموضوع ، وتلك الجهة هي الشك في اعتبار المباشرة في مثل قوله أزل النجاسة عن ثوبك ، فان الشك في اعتبار مباشرة صاحب الثوب على وجه أن النجاسة لا تزول إلا بمباشرة المكلف بازالتها عن ثوبه ، يوجب الشك في بقاء النجاسة عند غسل الغير للثوب ، سواء كان غسله بعنوان النيابة أو لا بعنوان النيابة.

وتوضيح ما أفاده قدس‌سره هو أن يقال : إن من كلّف بازالة النجاسة عن ثوبه لا ريب في أن نجاسة ثوبه هي موضوع لذلك التكليف ، فإن كانت المباشرة قيدا في ذلك الفعل كان محصّله أن تلك النجاسة لا تزول إلاّ بفعله ولا يزيلها فعل الغير ، وأنّ ذلك الثوب لو غسله غيره ألف مرة فنجاسته تبقى بحالها ولا تزول إلاّ بأن يكون هو المباشر لغسلها دون غيره ليكون قوله أزل النجاسة عن ثوبك أو بدنك نظير قوله أزل الحدث عن نفسك في باب الوضوء المستفاد من قوله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ... )(٢) بخلاف ما لو لم تكن المباشرة قيدا في ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

٣٦٤

الفعل الواجب ، فإنّ لازم عدم التقييد بالمباشرة هو ارتفاع النجاسة لو غسله الغير ، وحينئذ تكون النتيجة هي أنه على الأول أعني التقييد بالمباشرة يكون الوجوب على صاحب الثوب مطلقا غير مشروط بعدم فعل الغير ، بل يكون صاحب الثوب مأمورا بغسله سواء غسله الغير أم لا. بخلافه على الثاني أعني عدم التقييد بالمباشرة فإنّه بناء عليه يكون ذلك الوجوب المتوجه إلى صاحب الثوب مشروطا بعدم قيام الغير بغسله ، وحينئذ يكون لازم إطلاق الوجوب وأنّه غير مشروط بعدم غسل الغير هو بقاء النجاسة بحالها عند قيام الغير بغسله ، فيكون لازم إطلاق الوجوب هو بقاء الموضوع ، لا أنّ نفس إطلاق الوجوب يكون مثبتا للموضوع ابتداء كي يشكل عليه بأنّ إطلاق الوجوب لا يمكن أن يكون مثبتا لموضوعه.

وقس على ذلك الوجوب المتوجه إلى الولي المتعلق بتفريغ ذمة والده ، فإنّ موضوعه وإن كان هو انشغال ذمة الوالد ، إلاّ أنا حيث نحتمل قيد المباشرة في حصول فراغ ذمة الوالد ، يكون ذلك موجبا للشك في حصول فراغها بفعل الغير ، وحينئذ نقول إنّه لو كانت المباشرة قيدا كان الوجوب المتوجه إلى الولي مطلقا سواء قام به الغير أو لم يقم ، بخلاف ما لو لم تكن المباشرة قيدا فان الوجوب المتوجه إلى الولي يكون مشروطا بعدم قيام الغير. وعلى الاول يكون انشغال ذمة الوالد الذي هو موضوع التكليف باقيا بحاله بعد قيام الغير بذلك الفعل ، بخلافه على الثاني فإنّه بناء عليه يكون قيام الغير به موجبا لفراغ ذمة الوالد وارتفاع موضوع التكليف المتوجه إلى الولي ، فاطلاق الوجوب يلزمه بقاء الموضوع ، فنتمسك بهذا الاطلاق على أنّ فعل الغير لا يكون رافعا للموضوع.

وبالجملة : أنّ الشك في اعتبار المباشرة في إزالة النجاسة عن الثوب

٣٦٥

مثلا يلزمه الشك في بقاء النجاسة بعد فعل الغير ، كما أنه يلزمه الشك في بقاء الوجوب بعد فعل الغير ، وهذا الشك أعني الشك في بقاء الوجوب بعد فعل الغير ملازم للشك في إطلاق الوجوب وشموله لحالة فعل الغير. والاطلاق اللفظي الجاري في هذا الشك الأخير يزيل تلك الشكوك كلها ، وبمقتضى ذلك الاطلاق يحكم باعتبار المباشرة وبقاء النجاسة بحالها وبقاء الوجوب بحاله أيضا بعد فعل الغير ، والنتيجة أنه لا أثر لفعل الغير.

وهذه الطريقة تتأتى في فعل الغير سواء كان بعنوان النيابة أو لم يكن بعنوان النيابة عن ذلك الذي توجه إليه التكليف أعني الولي مثلا ، بل إنها جارية فيما [ كان ](١) الشك في رافعية فعل الغير للملاك ، بناء على أنّ بقاء التكليف منوط ببقاء ملاكه كاناطته ببقاء موضوعه ، فإنّ عين العملية في تلك الشكوك الجارية في صورة احتمال كون فعل الغير رافعا للموضوع جارية في احتمال كونه رافعا للملاك ، بل هي جارية حتى في النيابة الناشئة عن الاستنابة لو لم تكن الاستنابة نافعة في إدخاله تحت الوجوب التخييري بناء على ما سيأتي ذكره من الاشكال عليه بكون المتقرب حينئذ هو المنوب عنه ، أو الاشكال عليه بأنه راجع إلى التسبيب إلى جهة الاصدار ، أو الاشكال عليه بأنّ إدخال فعل الغير ولو بطريق الاستنابة في الاصدار يوجب عدم تأتّي الوجوب التخييري فيه.

أما الأمر الأول ، وهو إرجاع الاستنابة إلى جهة الاصدار وجعل التخيير في ناحية الاصدار بين كون إصداره بنفسه أو بنائبه ، ففيه إشكال أنّ النائب كيف يتقرب بالأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، فإنّ لازم هذا التقريب هو أنّ

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

٣٦٦

الاصدار يكون منسوبا إلى المنوب عنه ، فهل يكون المتقرب هو المنوب عنه بهذا الاصدار الذي انتسب إليه بواسطة الاستنابة ، ولا يكون النائب متقربا وإنّما يأتي بذات العمل مجردا عن قصد القربة ، هذا مضافا إلى أنه لا يسلم من الاشكال على طريقة التسبيب ، وكذلك لا يسلم من الاشكال بادخال فعل الغير في الواجب التخييري.

ثم إنّ شرط الوجوب على نحوين :

الأول : ما يكون حدوثه موجبا لحدوث الوجوب ولبقائه ، مثل أن يقول : إن هذا الماء لو لاقى النجاسة فاجتنبه.

النحو الثاني : ما يكون حدوثه موجبا للحدوث ، وبقاء الوجوب الحادث منوط ببقائه ، ليكون مثل أن يقول : إن الماء إذا بلغ كرا لم ينجّسه شيء ، فإنّ بقاء الاعتصام وعدم التنجيس يكون منوطا ببقاء الكرية ، والاطلاق يكون نافيا لكل من الشرطين. وعلى هذا يكون إطلاق الوجوب في مثل اغسل ثوبك بالنسبة إلى غسل الغير له نافيا لاشتراط وجوب الغسل بعدم غسل الغير ، وإن كان هذا العدم المحتمل الشرطية لو كان شرطا تكون شرطيته من قبيل النحو الثاني لا النحو الأول.

نعم ، إن ذلك إنما هو فيما لو لم يكن ذلك المأخوذ عدمه شرطا بالنسبة إلى الوجوب من قبيل المسقط ، بل كان من مجرد كون عدمه شرطا في الوجوب ، لأن عدمه دخيل في الملاك حدوثا وبقاء ، أما إذا لم يكن الملاك متوقفا على العدم بل كان نقيضه الذي هو الوجود رافعا للملاك ، فلا يكون العدم من مقولة الشرط في ذلك التكليف ، بل يكون الوجود من قبيل رافع التكليف ، فلا يكون إلاّ من قبيل المسقط للتكليف كما فيما نحن فيه ، فإنّ فعل الغير على تقدير كونه مؤثرا فانّما يؤثر من جهة كونه مسقطا

٣٦٧

للتكليف لا من جهة أنّ عدمه له المدخلية في الملاك ، وقد حقق في محلّه (١) أن ما هو من قبيل المسقط لا يعقل أخذ عدمه شرطا شرعيا في التكليف.

نعم ، إنه يرفع التكليف قهرا لكونه مسقطا له نظير فعل المكلف نفسه وقد حقق في محله (٢) عدم معقولية إطلاق التكليف بالنسبة إلى ما يسقطه. وهذه الايرادات إنّما نشأت من سلوك هذا الطريق الصعب أعني التمسّك باطلاق الوجوب وعدم اشتراطه بعدم فعل الغير.

ولا يخفى أنا لو أمكننا القول بأنه لو كانت المباشرة معتبرة كان مقتضاه هو تحقق الوجوب سواء قام به الغير أو لم يقم ، ولو كانت المباشرة غير معتبرة لكان مقتضاه عدم تحقق الوجوب أو عدم بقائه عند قيام الغير به ، وبعبارة اخرى كان مقتضاه انحصار بقاء الوجوب بما إذا لم يقم به الغير ، وبعد تمامية هذه الجهات نقول : إن مقتضى إطلاق الوجوب وشموله لما إذا قام به الغير هو كون المباشرة معتبرة ، فلم لا تجري عين هذه العملية فيما لو شككنا في اعتبار التعمّم في الصلاة بأن نقول لو كان التعمم معتبرا في الصلاة لكان مقتضاه هو تحقق وجوبها وبقاءه ، سواء جاء بالصلاة فاقدة للتعمم أو أنه لم يأت بالصلاة المذكورة أعني الفاقدة للتعمم. ولو كان التعمم غير معتبر فيها لكان مقتضاه عدم تحقق الوجوب أو عدم بقائه عند الاتيان بالصلاة فاقدة للتعمم ، ليكون مقتضى ذلك هو انحصار بقاء الوجوب بما إذا لم يأت بالصلاة الفاقدة للتعمم.

وبعد تمامية هذه الجهات يكون الحاصل هو أنّ مقتضى إطلاق

__________________

(١ و ٢) راجع أجود التقريرات ٢ : ٦٧ وما بعدها ، وستأتي حواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٤٢ وما بعدها.

٣٦٨

الوجوب وشموله لما إذا أتى بها فاقدة للتعمم أو لم يأت بالفاقدة لتكون النتيجة هي عدم سقوط الوجوب عند ما ياتي بها فاقدة للتعمم ، ويكون خلاصة ذلك هو اعتبار التعمم في الصلاة ، وحيث إنّه لم يتفوه أحد بذلك كشف عن أنه لا مجال لاطلاق الوجوب في هذه المقامات الراجعة إلى مرحلة المسقط للوجوب.

وهناك طريقة اخرى هي أسهل من هذه الطريقة ، فإنّ الحجر الأساسي إنّما هو هل يعتبر المباشرة أو يكفي فعل الغير ، سواء كان بالنيابة والاستنابة ، أو كان بالنيابة التبرعية مجردا عن الاستنابة ، أو كان من مجرد فعل الغير وان لم يكن في البين استنابة ولا نيابة. ويكفينا في اعتبار المباشرة إطلاق نسبة الفعل إلى المكلف بمثل قوله اغسل ثوبك ، فإن مقتضى الاطلاق هو المباشرة وأن يكون المكلف هو الفاعل للغسل ، وأنّ توسعة الأمر إلى الاكتفاء بفعل الغير يحتاج إلى مئونة زائدة على نفس ما يقتضيه قوله اغسل ثوبك من انتساب الغسل إلى المخاطب من دون فرق في ذلك بين كون فعل [ الغير ](١) رافعا للموضوع أو رافعا للملاك.

وبناء على هذه الطريقة يكون مقتضى الأصل اللفظي هو اعتبار قيد المباشرة. وهذه المسألة إحدى ما يقال إنّه ربما كان الاطلاق مثبتا للتقييد ونافيا للاطلاق. أما من ناحية الأصل العملي فبناء على هذه الطريقة تكون المسألة من باب الشك في الأقل والأكثر مع كونه من قبيل الشك في الشرطية ، لأنّ أصل العمل مطلوب وكونه مقيدا بقيد المباشرة مشكوك ، فيكون حاله حال التعمم في الصلاة لو شك في كونه قيدا ، وجريان البراءة

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٦٩

فيه واضح على ما حقق في محله خصوصا فيما لو كان الواجب توصليا لا يعتبر فيه قصد القربة والامتثال ، من دون فرق في ذلك بين مصادفة الخطاب لفعل الغير أو كونه أعني الخطاب متأخرا عنه أو كونه متقدما عليه ، ولا مورد فيه للاستصحاب أصلا ولا للتمسك بقاعدة الاشتغال.

نعم ، الغالب في التكاليف تحقق الأصل اللفظي فيها القاضي باعتبار المباشرة فلا تصل النوبة فيها إلى الأصل العملي. وهذا الأصل اللفظي القاضي باعتبار المباشرة يكون مزيلا لبقية الشكوك التي قررناها في تقريب ما أفاده شيخنا قدس‌سره فإنّه يزيل الشك في بقاء الموضوع وبقاء التكليف ، وكذلك الشك في إطلاق نفس الوجوب.

لا يقال : مع فرض عدم إجراء الأصل اللفظي في المقام كيف قلتم إنّ المرجع هو البراءة مع أنّ إطلاق الوجوب قاض بتحققه عند فعل الغير الملازم لاعتبار المباشرة. ولو اغضي النظر عن ذلك فلا أقل من استصحاب الوجوب فيما لو فعله الغير.

لأنا نقول : أما إطلاق الوجوب لفظيا ، ففيه أوّلا : أنّ المفروض هو وصول النوبة إلى الاصول العملية وعدم الاصول اللفظية. وثانيا : ما مرّ من أن فعل الغير من قبيل المسقط فلا يكون الاطلاق جاريا فيه.

وأمّا استصحاب الوجوب بعد فعل الغير ، ففيه : أنه كاستصحاب الوجوب فيما لو صلّى بلا تحنك في ظرف الشك في اعتباره في الصلاة وإجراء أصالة البراءة ، وقد حقق في محله (١) المنع من هذا الاستصحاب لكونه من قبيل الاعتماد على استصحاب الوجوب في مقام أصالة الاشتغال ،

__________________

(١) لاحظ ما ورد في ذيل حاشيته قدس‌سره على فوائد الاصول ٤ : ١٦٢ ـ ١٦٣ في المجلّد الثامن.

٣٧٠

يعني أنّه حينئذ لاحراز ما هو محرز بالوجدان.

فصار الحاصل فيما نحن فيه هو : أن مقتضى الأصل اللفظي هو اعتبار المباشرة بخلاف مقتضى الأصل العملي فيها. وهذا الأصل اللفظي إنّما نشأ من إطلاق النسبة البعثية وإن كان إطلاق نفس المادة قاضيا بالشمول لعدم المباشرة ، إلاّ أنّ قضية وقوع المادة في حيّز النسبة الطلبية حاكم عليه. أما إطلاق الوجوب فهو لو تمّ وسلم عن إشكال عدم جريانه في المقام لكونه من قبيل مقام الاسقاط ، يكون في النتيجة موافقا لما ذكرناه من الأصل اللفظي القاضي باعتبار المباشرة ، فلاحظ وتأمل.

تنبيه : قال في الحاشية ـ تعليقا على قول شيخنا قدس‌سره فيما حكاه عنه بقوله القسم الأول وهو السقوط بفعل الغير ينقسم إلى السقوط بفعل الغير مع الاستنابة وبدونها ـ ما هذا لفظه : لا وقع لهذا التقسيم ... إلخ (١).

ولا يخفى أن شيخنا قدس‌سره إنما قسّم هذا التقسيم أعني النيابة مع الاستنابة وبدونها ليرتّب عليه قول من قال إن المقام من باب التسبيب ، وهو قدس‌سره وإن ردّ هذا القول إلا أنه إنما يتصور هذا القول في الاستنابة دون مجرد النيابة ، ثم بعد ردّ هذا القول رتّب عليه مسلكه من إرجاع الاستنابة في الاصدار إلى كونه أحد طرفي الواجب التخييري لتدخل المسألة في مسألة الواجب التخييري والتمسك لنفيه باطلاق الخطاب القاضي بالتعيين ، كلّ على مسلكه في الواجب التخييري ، ومن الواضح أن هذا أعني كونه من قبيل الواجب التخييري إنما يتأتى في الاستنابة دون النيابة المجردة ، أما النيابة المجردة أو الفعل المجرد عن النيابة فطريقة التمسك لنفيه بالاطلاق ليست هي طريقة نفي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٤٧.

٣٧١

الوجوب التخييري ، بل راجعة إلى التمسك باطلاق الوجوب وعدم اشتراطه بعدم فعل الغير ، نعم إن قول المحشي « فكما أن قولنا صام زيد له ظهور في صدور الصوم من نفس زيد فكذلك قولنا فليصم زيد ... » لا بأس به ، وقد شرحنا هذه الطريقة فيما تقدم (١) ، إلاّ أنه تمسك باطلاق النسبة وهي المباشرية ، ولا دخل لذلك باشتراط الوجوب ، فلا وقع لقوله : ولم ينصب قرينة على اشتراط الوجوب بعدم صوم غيره فيتمسك باطلاق كلامه في دفع احتمال الاشتراط المزبور.

ثم إن قوله : وإذا لم يكن هناك إطلاق فالمرجع هو استصحاب بقاء التكليف ... إلخ ، محل تأمل ، لأن ذلك إنما هو فيما لو تقدم عدم فعل الغير ، أما لو لم يتقدم بل قارن توجه التكليف فعل الغير أو تقدم فعل الغير فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل يكون المرجع هو البراءة كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره فيما نقله عنه بقوله : إلا أن التحقيق أن الشك في الاشتراط والاطلاق إن كان من أوّل الأمر ... إلخ (٢).

نعم ربما لا يتصور له مثال فيما نحن فيه كما يشعر به كلام شيخنا قدس‌سره ولذلك التجأ إلى التمثيل لذلك بمسألة الأقل والأكثر فلاحظ.

قوله : أو حكما فيما إذا لم يكن كذلك كما إذا شككنا في أنّ الحج الواجب على المريض غير المتمكن من المباشرة هل يسقط بفعل الغير تبرعا ... إلخ (٣).

لا بد في فرض المسألة من كون الاستطاعة في حال المرض ليكون

__________________

(١) في صفحة : ٣٦٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٥١.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٥١.

٣٧٢

الخطاب متوجها إليه باعتبار الطرف الآخر من التخيير وهو الاستنابة في الاصدار ، فإذا فعله الغير عنه بلا استنابة يكون الشك متعلقا ببقاء ذلك الوجوب ويلزمه الاستنابة. وهذا إنما يتم على مسلك شيخنا (١) من إرجاع الاستنابة إلى أحد عدلي الواجب التخييري ليكون ذلك أعني الاستنابة هو المتعين بعد فرض عدم التمكن من المباشرة للمرض أو الموت بالنسبة إلى التكاليف الحادثة بعد الموت. ونحن إذ سددنا باب الوجوب يشكل علينا الحال في هذه النيابات التي يكون التكليف فيها ساقطا عن المنوب عنه لمرض كما في الحج لو كان الاستطاعة بعد المرض أو لموت كما في النيابة عن الميت قبل سنين في مثل صلاة الظهر من هذا اليوم أو في مثل زيارة عرفة من هذه السنة ، ولا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بأنه بعد ورود الدليل على صحة هذه النيابة نستكشف منه كفاية الملاك في التقرب ، وإن لم يكن ذلك الملاك مؤثرا في توجه التكليف الى المنوب عنه لمانع من تكليفه أعني المرض أو الموت. أما إذا لم يكن في البين ذلك الدليل فلا نحكم بصحة النيابة لعدم إحراز الملاك أوّلا ، ولعدم صلاحيته للتقرب والامتثال ثانيا ، هذا كله فيما لو كان حصول الاستطاعة المالية بعد ابتلائه بالمرض.

أما لو كانت قبل ذلك ولكنه عصى وأخر حتى ابتلي بالمرض المزمن فليس الكلام فيه منحصرا بالنيابة ، بل إن محل الكلام فيه هو أنّه هل لا يصح له الاستنابة ولا النيابة ، بل يبقى مشغول الذمة حتى الموت ويقضى عنه بعد وفاته نظير الصوم الذي انشغلت ذمته به ولا يمكنه قضاؤه بنفسه لأجل المرض ، أو أنه تشرع له الاستنابة ، وحينئذ يكون حاله حال من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٠.

٣٧٣

استطاع في حال المرض. فلو لم يستنب لكن قد تبرع بعض الناس بالنيابة عنه فهل يجزئه ذلك أو لا بد من الاستنابة من جديد.

قوله : وأمّا إذا كان الشك في عدم وجوبها لعارض بقاء ، فمقتضى القاعدة هو استصحاب وجوب الصلاة مع السورة ... إلخ (١).

كما لو شككنا في أنّ الاستعجال مسقط لوجوبها ، ولكن ليس في البين خصوصية لوجوب السورة في ضمن مسألة الأقل والأكثر ، بل كل ما هو محتمل الوجوب إذا كان أصل وجوبه مشكوكا يكون موردا للبراءة. أمّا إذا ثبت وجوبه ولكن طرأت حالة يحتمل معها سقوط ذلك الوجوب ، فإنّ الاستصحاب الجاري في بقاء الوجوب حاكم ببقائه ما لم يكن في البين شبهة تبدل الموضوع.

وعلى كل حال ، لو كان المقام أعني فعل الغير من باب كونه مسقطا للتكليف صحّ فيه الاستصحاب. أما إذا كان من باب كون عدمه شرطا في التكليف ، فالتكليف المعلوم الجعل إنّما هو في حال عدم فعل الغير ، ولم يعلم جعله في حال انتقاض ذلك العدم بالوجود ، فيشكل جريان الاستصحاب فيه ، لا من جهة كونه شكا في المقتضي ، لأن يجاب عنه بأن المراد به ما لم يحدث حادث يوجب الشك ، بل لاحتمال مدخلية العدم فيه ، فيكون من قبيل الشك في الموضوع ، إلاّ أن يجاب عنه بالاتحاد العرفي. وهكذا الحال في مسألة السورة ، فإن كان احتمال سقوطها لأجل احتمال كون وجوبها مشروطا بعدم الاستعجال يأتي فيه إشكال تبدل الموضوع ، وإن كان احتمال سقوطها من جهة كون الاستعجال رافعا لملاك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥١.

٣٧٤

وجوبها ، كان حاله حال الشك في المسقط فيجري فيها الاستصحاب بلا مانع.

قوله : نعم تمتاز صيغة افعل عن سائر الأفعال في الدلالة على الاختيارية من وجهين ... إلخ (١).

الانصاف أن هذين الوجهين خصوصا الثاني منهما من أقوى أدلة القول بأنّ مقتضى الأصل اللفظي هو العبادية كما سيأتي إن شاء الله تعالى (٢) ، لأنّ الغرض إذا كان هو جعل الداعي وكان ذلك موجبا لتقيد الفعل به كان ذلك عبارة اخرى عن تعلق الارادة به بداعي الأمر ويكون التقيد بذلك تقيدا قهريا. أمّا الأمر الأول فهو وإن لم يقتض إلاّ الحسن الفاعلي المتوقف على القصد إلاّ أن القصد لمّا لم يكن قابلا لتعلق الأمر به كان الوصول إلى تحققه منحصرا بايجاد الداعي ، فيرجع الأول إلى الثاني ، هذا.

ولكن الذي ينبغي هو خروج الوجوب التعبدي عن هذا البحث ، إذ لا إشكال في أنّ مقتضى عباديته هو اعتبار القصد فيه وزيادة قصد القربة أو كونه بداعي الأمر. نعم مع قطع النظر عن هذه الجهات يمكننا القول في هذا المقام بعين ما قلناه في المباشرة ، وأن الظاهر إطلاق مفاد الصيغة وتعلقها بالمادة. وإن شئت فقل : الظاهر من إطلاق النسبة البعثية والتحريكية هو دخول القصد في المبعوث إليه على وجه يكون الاكتفاء بنفس المادة العارية عن القصد محتاجا إلى مئونة زائدة على أصل النسبة البعثية إلى المادة ، وحيث لم تتحقق تلك العناية يكون اللازم في الاكتفاء وتسديد حساب الآمر هو تقيدها بالقصد ، هذا من ناحية الأصل اللفظي.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٣.

(٢) في صفحة : ٤٦٦ وما بعدها.

٣٧٥

وكذلك الحال من ناحية الأصل العملي ، فإنّ المرجع فيه هو البراءة من التقييد المذكور على حذو ما تقدم في مسألة المباشرة. ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) في كون المرجع من الاصول اللفظية هو إطلاق الوجوب ، ومن العملية هو الاستصحاب على حذو ما ذكره في اعتبار المباشرة.

ويمكن أن يقال بالفرق بين المقامين : فانا وإن قلنا بأن المباشرة قيد في الفعل المأمور به يقتضيه إطلاقه ، إلاّ أنه قدس‌سره (٢) أفاد هناك أن المسألة راجعة إلى الشك في إطلاق الوجوب ، وهذا إنما يكون له صورة في المباشرة المقابلة بفعل الغير. أما ما نحن فيه من الاختيارية والقصد في قبال فعل الشخص نفسه لكنه من دون قصد واختيار ، فإنّ المتعين فيه هو الاطلاق في ناحية المادة والنسبة البعثية ، وتكون المقابلة بين الفعل القصدي والفعل غير القصدي عين المقابلة بين الصلاة إلى القبلة والصلاة لا إلى القبلة ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل الشك في تقيد المأمور به ، فإن كان في البين إطلاق يقتضي تقيده وهو ما ذكرناه من إطلاق النسبة البعثية القاضية باعتبار القصد والارادة ، وإلاّ كان المرجع هو اصالة البراءة ، فلا تكون مسألتنا الا من قبيل مسألة الأقل والأكثر. ولا تزيد عليها إلا من ناحية وجود الأصل اللفظي القاضي باعتبار القصد.

نعم ، يمكن أن يقال : إن الأصل اللفظي من ناحية إطلاق النسبة البعثية إذا سقط ، يكون المرجع هو إطلاق المادة ، وهو قاض بعدم اعتبار القصد ، ولا يرجع إلى أصالة البراءة من لزوم القيد إلاّ بعد سقوط هذا الأصل اللفظي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٤٩.

٣٧٦

الثاني فلاحظ.

ولا يخفى أن الحسن الفعلي أو الفاعلي إنّما هو في العباديات دون التوصليات ، إذ لا يعتبر فيها إلاّ المصلحة وليست هي متقومة بالقصد ، بل إن أصل اعتبار القصد إنما يتم في العباديات ، إذ لا إشكال في اعتباره فيها ، أما التوصليات فانما يظهر الكلام فيها فيما لم يكن مذهبا للموضوع كتطهير الثوب ونحوه على وجه لو قلنا باعتبار القصد ووقعت من المكلف بلا قصد كان اللازم عليه الاعادة ، وفعلا لا أتخطّر مثالا لذلك ليظهر الأثر فيه.

وبالجملة : لا أثر لهذا النزاع إلاّ أن يقال : إن التوصلي وإن لم يكن قابلا للاعادة إلاّ أنا لو قلنا باعتبار القصد فيه كان ترك القصد فيه نظير ترك الواجب الذي لا قضاء له في أنه لا أثر له إلاّ العصيان ، ولكن مع هذا التكلف لا يتم ، إذ لا يعقل أن يكون ترك القصد مولدا للعصيان لعدم كونه اختياريا. فالأولى إسقاط هذا الأمر الثاني كما أن الأولى إسقاط الأمر الثالث لعدم الأثر في العباديات ، أما التوصليات فلا يكون فيها ما هو مأمور به ومنهي عنه ، وفي التركيب الانضمامي لا يكون في البين ما يوجب فساد المأمور به التوصلي كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

ثم لا يخفى أن محل البحث إنما هو في اعتبار كون الفعل مرادا في قبال كونه واقعا منه سهوا أو نوما أو قهرا عليه على وجه لا تتعلق به إرادته كما لو حمل واخرج في مسألة التفرق عن مجلس البيع ، وليس هو في قبال الفعل الممتنع على المكلف أعني ما لا يكون مقدورا للمكلف ، وحينئذ فلو التزمنا بأنّ الفعل المأمور به لا بد أن يكون حسنا في نفسه ، ولا بد أن يكون

__________________

(١) في صفحة : ٣٨٥.

٣٧٧

ذا مصلحة وذا ملاك بناء على المذهب المنصور من أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلق ، وأن ما يحكم العقل بحسنه يحكم الشرع بوجوبه ، وأن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، فلا بد لنا من الالتزام بأنه لا يتصف بذلك الحسن حتى تتعلق به الارادة ، وإلاّ فإنّ الفعل من الساهي والنائم لا يتصف بحسن ولا بقبح ، ومن الواضح أن الفعل الذي يكون حسنا في نفسه لو صدر بالارادة يكون واجدا للحسن الفاعلي كما أنه واجد للحسن الفعلي.

نعم ، يمكن مناقشة شيخنا قدس‌سره من جهة قوله : نعم الحسن الفعلي لا يتخلف عن الفعل سواء صدر بالاختيار أم لا ... إلخ (١) ، فإنّك قد عرفت أن الحسن الفعلي منوط بالارادة أيضا ، اللهم إلاّ أن يريد بالحسن الفعلي هو مجرد المصلحة في الفعل في حد نفسه وإن لم يكن حسنا لكنه بعيد.

ومنه يظهر لك التأمل من جهة اخرى وهي أنّ لنا قضيتين ، وهما أن الأحكام تابعة للمصالح في المتعلقات ، وأنّ ما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه ، والناتج من ذلك هو أن ما يحكم الشرع بوجوبه لا بد فيه من وجود صلاح ، أما أنّه لا بد من كونه حسنا فعلا أو فاعليا فذلك أمر آخر يحتاج في إثباته الى دعوى أن كل ما حكم الشرع بوجوبه فهو حسن بحكم العقل وهو موجب للحسن الفعلي والفاعلي ، وهذه الدعوى غير معلومة الثبوت إلاّ إذا ادعينا أنّ كل ما فيه مصلحة من الأفعال فهو حسن بحكم العقل ، وهي غير بعيدة ، فنحن بعد علمنا بوجوب الفعل الفلاني نستكشف أن فيه مصلحة ، وكل ما فيه مصلحة هو حسن فعلا ، وكل ما هو حسن فعلا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٧٨

لا بد فيه من القصد وهو ملازم لحسنه الفاعلي.

وبناء على ذلك لا يرد عليه ما في الحاشية من قوله : لا يخفى أنه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلي في اتصاف الفعل الخارجي بكونه مصداقا للواجب بعد ما كان الوجوب ناشئا عن الملاك القائم بالفعل ومن حسنه في نفسه ... إلخ (١) إلا إذا أمكننا التفكيك بين المصلحة والحسن الفعلي ، أما بعد الالتزام بكون الأمر قاضيا بالملاك أعني المصلحة وبالحسن الفعلي فلا مندوحة عن الالتزام بالحسن الفاعلي ، لما عرفت من توقف الحسن الفعلي على القصد ، وهو أعني كون الفعل مقرونا بالقصد عين الحسن الفاعلي.

نعم ربما حصل التفكيك بين الحسن الفعلي والحسن الفاعلي فيما لو انضم الى الفعل فعل آخر كما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الاولى فانّه قدس‌سره (٢) قد ادعى عدم صحة الصلاة لعدم الحسن الفاعلي وإن كانت مشتملة على الحسن الفعلي فراجع.

ثم إنّك قد عرفت أن قوام الحسن الفاعلي هو القصد الى الفعل في قبال كونه عن سهو أو عن نوم ، ولا دخل لذلك بقصد القربة الذي هو قوام العبادية الذي هو عبارة عن القصد بداعي الأمر ، فإنّه بناء على اعتبار الحسن الفاعلي المتوقف على القصد والارادة يكون ذلك قدرا مشتركا بين التعبدي والتوصلي ، ويزيد التعبدي على التوصلي أنه لا بد فيه من كون ذلك القصد واقعا بداعي الأمر ، فلا يرد عليه ما في الحاشية المذكورة من قوله : على أن لازم ذلك أن لا يتصف الفعل الخارجي إذا لم يؤت به بداعي التقرب بكونه مصداق الواجب ولو كان الوجوب توصليا ، ضرورة أن مجرد صدور الفعل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٥٥ ، راجع أيضا أجود التقريرات ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٣٧٩

عن الاختيار لا يكفي في اتصافه بالحسن الفاعلي مع أنّه واضح البطلان ... إلخ (١) لما عرفت من أن صدور الفعل الحسن مقرونا بالقصد والاختيار هو عين الحسن الفاعلي ، ولا دخل لذلك بقصد القربة الراجعة إلى كون ذلك القصد واقعا بداعي الأمر.

نعم ، قد يدعى أن هذا القصد لمّا كان ناشئا عن داعي الأمر باعتبار كون الأمر مولدا للداعي على قصد الفعل وإرادته يكون موجبا للعبادية ، لكنه بحث آخر هو راجع الى الوجه الثاني ولا دخل له بما تضمنته الحاشية المذكورة من توقف الحسن الفاعلي الذي قوامه الاقتران بالقصد على حصوله بداعي التقرب فلاحظ.

اللهم إلاّ أن يكون المراد بالحسن الفاعلي هو الاتيان بالفعل بقصد الطاعة ، فإذا أتى به المكلف ولو مع القصد والشعور والارادة لا يكون ذلك محققا للحسن الفاعلي ، ولازم ذلك أن لا ينطبق الواجب التوصلي على ذلك الفعل لخلوّه عن الطاعة التي هي حينئذ عبارة عن الحسن الفاعلي.

ولكن لا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فلأن الحسن الفاعلي لا يتوقف على الطاعة ، فإنّ الملحد يلتزم بالحسن الفعلي وبالحسن الفاعلي مع أنّه لا يقول بلزوم الاطاعة.

وأمّا ثانيا : فلأنا لو سلّمنا توقف الحسن الفاعلي على قصد الطاعة ، كان القول باعتبار الحسن الفاعلي في الواجب عبارة اخرى عن اعتبار الطاعة في كل واجب ، فلا يحتاج في ردّه إلى هذا التطويل ، بل يكفي في ردّه المنع من اقتضاء كل أمر لاعتبار الطاعة في متعلقه. ولا يخفى أن الطاعة من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ ( الهامش ) : ١٥٣.

٣٨٠