أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

تحتم في الشريعة على المكلف حكم عقله بلزوم الاتيان به من باب الاطاعة ، فيكون قول الشارع صلّ بعد قوله جعلت الوجوب للصلاة إرشادا إلى ذلك ، أو أنّ ذلك البعث بقوله صلّ بعث مولوي ، غايته أنّه متفرع على جعل الوجوب ـ أو أنّ المجعول أوّلا هو البعث والتحريك الحاصل بقوله صلّ ، وعنه ينتزع الحكم بأنّ الصلاة واجبة ، ليكون ذلك نظير ما ذكروه في مبحث الجزئية من أنّ المجعول هو الحكم الوضعي ثم يتبعه التكليف ، أو أنّ الأمر بالعكس ويمكننا القول بأنّ نفس البعث المولوي كناية عن جعل الحكم الوضعي الذي هو الوجوب فجعله عبارة اخرى عن جعل الوجوب.

والظاهر أن الأساس في الجعل هو جعل الوجوب وأمّا البعث فهو كناية عنه أو إرشاد إليه ، وهذا النزاع يثمر في مسألة التركيب والبساطة ، فعلى الأول أعني كون المجعول هو الوجوب والاستحباب يكون كل منهما حكما وضعيا بسيطا مباينا للآخر ، ولا معنى حينئذ للقول بأنّ الوجوب مركب من طلب الفعل بمعنى البعث إليه مع المنع من الترك ، لأن المفروض أن الوجوب سابق في الرتبة على البعث فكيف يكون مركبا منه. نعم لو قلنا إن المجعول أوّلا هو البعث وأنّ الوجوب منتزع منه ومتأخر عنه رتبة ، يتصور النزاع المذكور وهو أنّه هل الوجوب منتزع من البعث إلى الفعل مع المنع عن الترك ، أو أنّه يكفي في انتزاعه تحقق البعث المولوي نحو الفعل ، وعلى ذلك يتخرج تركب الاستحباب من طلب الفعل مع تجويز الترك ، وأنّه بعد تمامية الأمرين أعني البعث إلى الفعل وتجويز تركه ينتزع عنوان الاستحباب ، بخلاف الوجوب فانّه يكفي فيه تحقق البعث المولوي إذا لم يلحقه الترخيص في الترك.

ثم لا يخفى أن نفس الأمر والطلب والوجوب وغيرها من الأحكام

٣٤١

الوضعية والتكليفية هي من الأفعال الاختيارية للشارع ، فلا تصدر منه إلاّ بعد تعلق إرادته التكوينية بها كسائر أفعاله الاختيارية لا تصدر منه إلاّ بعد تعلق إرادته التكوينية بها ، وهذا جار في كل فاعل مختار ، لكن ذلك أعني تعلق الارادة التكوينية مطلب آخر غير ما نحن بصدده من كون المراد الشرعي متعلقا لارادة الشارع ، فلاحظ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمل فيما يقال من أن الانشاءات إبراز لما في صقع النفس ، فانّك قد عرفت أنه ليس في صقع نفس الآمر بالنسبة إلى الفعل المأمور به سوى العلم بالصلاح ، ولو كان في البين ميل أو حب أو شوق إلى ذلك الفعل فليس هو من سنخ الارادة ، ولو فرضنا أن هناك شيئا على طبق المنشأ ، وأنّ الانشاء الخارجي إبراز له ، كان اعتبار ذلك الانشاء طريقا صرفا إليه ، وكان ينبغي ترتيب الأثر عند العلم بما في صقع نفس الآمر وإن لم يدخل في صقع الانشاء.

أما في البيع ونحوه فليس في البين إلاّ تعلق الارادة التكوينية بجعله وخلقه في عالم الاعتبار بانشائه ، لا أن البائع يوجد البيع في صقع نفسه ثم يبرزه بالانشاء بقوله بعت ، وإلاّ لتحقق البيع بذلك وإن لم يدخل في صقع الانشاء ، إذ لا يكون الانشاء على هذا الوجه إلاّ مبرزا له وطريقا إلى تحققه في نفس البائع ، ولا يبعد أن تكون هذه الدعوى من شعب الكلام النفسي الذي تخيله الأشاعرة.

ثم إنّه يمكننا القول بأنّ تسمية الشوق المؤكد بالارادة التكوينية لا يخلو من تسامح ، إذ لا ريب في تحقق الشوق المؤكد وتعلقه بفعل الشخص نفسه أو بفعل الغير ، إلاّ أنه وحده لا يكفي في تحقق الفعل وصدوره حتى لو كان متعلقا بفعل نفسه ، بل لا بد من تحقق تلك المرتبة

٣٤٢

الرابعة التي سمّاها شيخنا بالاختيار أو الطلب التي هي من أفعال النفس ، ونحن نقول : إن تلك المرتبة الرابعة هي الارادة التكوينية وليست هي عين الشوق المؤكد ، بل إنّها إنّما تتحقق بعد تحقق ذلك الشوق المؤكد فيما لو كان ذلك الشوق المؤكد من الشخص متعلقا بفعله الذي يمكنه أن يفعله ، أما ما لا يمكنه أن يفعله ولو من جهة كونه فعلا للغير صادرا عن ذلك الغير باختياره ، فلا يمكن أن يكون متعلقا لتلك المرتبة الرابعة ، إذ لا يتصور صدور تلك المرتبة التي هي اختيار الفعل ممن لا يقدر على ذلك الفعل. نعم إن الذي يمكن بالنسبة إلى فعل الغير بعد تحقق الشوق المؤكد إليه هو طلبه من ذلك الغير وأمره به وإيجابه عليه ، وهذا أعني طلبه منه الصادر بعد الشوق المؤكد إليه هو عبارة عن الارادة التشريعية ، وقد عرفت أنّها مجعولة للطالب لا أنّها هي ذلك الشوق المؤكد وإن كانت هي مسبوقة به ، كما أنّها ليست هي تلك المرتبة التي هي الاختيار ، فليست هي من صفات النفس ولا من أفعالها ، بل هي كما عرفت من المجعولات الشرعية وإن كانت مسبوقة بذلك الشوق المؤكد ، فنحن لا نقول إن الارادة التشريعية عارية من الميل والحب والشوق المؤكد ، بل نقول إنّها مسبوقة بذلك لا أنّها عينه.

وعلى أيّ حال أنّ هذه الجهة لا دخل لها بما هو محل البحث في الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، فان هذا البحث إنما هو في إرادة العبد لفعل نفسه ، وهل تكون علة لفعله أو أنّ العلة فيه أمر آخر متوسط بين الارادة والفعل ، وذلك الأمر الآخر هو حملة النفس الذي عبّر عنه شيخنا قدس‌سره بالطلب ، هذا كلّه بناء على أنّ الارادة هي نفس الشوق المؤكد لتكون من مقولة الكيف.

أمّا لو قلنا بأنّ الشوق المؤكد سابق على الارادة وأن الارادة متأخرة

٣٤٣

عنه ، وهي أعني الارادة المتعلقة بالفعل فعل من أفعال النفس ، فيمكننا القول بأنّه لا واسطة بينها وبين الفعل حينئذ وأنّها هي الاختيار نفسه ، فإنّ شئت فسمّها اختيارا وإن شئت فسمها طلبا أو شئت فسمّها إرادة ، كان كل ذلك صحيحا بعد فرض كونها فعلا من أفعال النفس متأخرا عن ذلك الشوق المؤكد ، ولعل ذلك هو مراد صاحب الكفاية من تسمية الارادة فيما يظهر من جملة من كلماته هنا (١) وفي مسألة التعبدي (٢) وفي مبحث التجري (٣) بالاختيار. وعلى كل حال أنّ الوجدان يشهد بأنّ الانسان عند ما يتصور الفعل ويصدّق بفوائده وانتفاء موانعه يشتاق ويميل إليه كمال الميل ، وبعد هذا الاشتياق والميل يختاره ويفعله ، وهذا الاختيار هو الارادة وهو الطلب ، أمّا تسمية الشوق المؤكد بالارادة فلعله لا وجه له ، إذ ربما اشتاق الانسان إلى شيء لكن لا تتعلق به إرادته.

ثم إنّه لا شك حينئذ في كون ذلك الفعل صادرا بالاختيار ، أما كونه مرادا له تعالى بالارادة التكوينية ولو بأن تتعلق باختيار العبد ذلك الفعل أو بذلك الفعل باختياره ، وكذلك كون ذلك الاختيار ناشئا عن مقدماته المنتهية إلى نفس الفاعل ، أو أنّ ذلك الاختيار ليس بالاختيار وأنّ العقاب معلول لذلك الفعل الصادر بالاختيار وأنّه ليس من قبيل التأديب ولا من قبيل التشفي وغير ذلك من المباحث ، فكل ذلك خارج عن هذا الفن وراجع إلى فن آخر.

قال المحقق الطوسي قدس‌سره في متن التجريد : والفعل منا يفتقر إلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٨.

(٢) كفاية الاصول : ٧٣.

(٣) كفاية الاصول : ٢٦٠ ـ ٢٦٢.

٣٤٤

تصور جزئي ليتخصص به الفعل ثم شوق ثم إرادة ثم حركة من العضلات ليقع منا الفعل ، انتهى.

قال العلاّمة قدس‌سره في آخر شرح هذه العبارة : فلا بد من تصور جزئي يتخصص به الفعل فيصير جزئيا ، فإذا حصل التصور بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله ، فحصلت الارادة الجازمة بعد التردد فتحركت العضلات إلى الفعل فوجد ، انتهى (١).

لكنّه في مباحث مقولة الكيف قال : ومنها الارادة والكراهة وهما نوعان من العلم ، انتهى.

قال العلاّمة قدس‌سره في شرحه : من الكيفيات النفسانية الارادة والكراهة وهما نوعان من العلم بالمعنى الأعم ، وذلك لأن الارادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من المصلحة ـ إلى أن قال : ـ هذا مذهب جماعة. وقال آخرون إن الارادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مترتبتان عليه ، لأنا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مترتبا على هذا العلم وهو يفارق الشهوة ، فان المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه ، انتهى (٢).

ولعله أراد من الشوق في عبارته الاولى أول درجة منه ومن الارادة التي قال عنها ثم إرادة هي الدرجة الثانية وهي المعبّر عنها بالشوق المؤكد ، وحينئذ تنطبق عبارته الاولى على عبارته الثانية المتضمنة لكون الارادة نوعا من العلم الذي هو من مقولة الكيف.

قوله : وأما المقام الثاني ـ يعني : البحث عن الصيغة من الجهة

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ١٢٣.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٥٢.

٣٤٥

الاصولية ـ ففيه مباحث : الأول : في دلالة الصيغة على الوجوب ... إلخ (١).

هذا هو المقام الثاني الذي ذكره سابقا بقوله : الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر ويقع الكلام في مقامين : الأول من جهة شرح اللفظ ، والثاني من الجهة الاصولية (٢).

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) رتب الفصل الثاني المتعلق بالصيغة على أبحاث ، الأول : أفاد أنّها تستعمل للطلب والتهديد وكذا وكذا ، وأفاد أنّ هذه ليست من معانيها وإنّما هي من الدواعي على ما استعملت فيه وهو إنشاء الطلب ، وقصارى ما يمكن أن يدعى أنّها موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك لا بداع آخر ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة وبداع آخر مجازا.

وليس هذا الفرق الذي أبداه بينهما في مقام الوضع فقط كما صنعه في المعنى الاسمي والحرفي ، لأنّ ذلك لا يوجب المجازية وقد التزم بها هنا ، فدل على أن مراده هو دعوى كون الموضوع له هو إنشاء الطلب الناشئ عن الطلب الحقيقي ، وإن أمكن القول بأنّها لمطلق [ إنشاء الطلب ](٤) وأن المنصرف عند الاطلاق هو كونه بداعي الطلب الحقيقي ، نظير الانصراف إلى الجد دون الهزل.

ثم ذكر المبحث الثاني وأفاد أنّها للوجوب بدليل التبادر.

ولا يخفى أن كونها موضوعة لخصوص الوجوب فرع كونها موضوعة

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ١ : ١٤٣ ، ١٣٣.

(٣) كفاية الاصول : ٦٩.

(٤) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٤٦

لما إذا كانت للطلب الانشائي الصادر عن الطلب الحقيقي ، وقد تقدم التردد فيه.

ثم ذكر المبحث الثالث في الجمل المستعملة في مقام الانشاء ، ثم ذكر المبحث الرابع ، وهو أنا لو سلّمنا عدم وضع الصيغة للوجوب فهل تكون ظاهرة فيه للكثرة أو للأكملية ، وبعد أن منع ذلك قال : نعم فيما كان الآمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فان الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فاطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كاف في بيانه ، فافهم (١).

وشيخنا قدس‌سره قدّم لهذا المبحث مقدمة ، وهي بيان الفرق بين الوجوب والاستحباب ، ومنع من كونهما مركبين كما منع من اختلافهما بالشدة والضعف.

ولكن هناك وجه ثالث يفرق به بينهما ، وهو دعوى كونهما بسيطين مختلفين بالهوية ولا قدر جامع بينهما ، نظير مقولة الكم مثلا ومقولة الكيف مع عدم الجنس المشترك بينهما وإن شملهما مفهوم العرض ، لأن ما به الاشتراك في البسائط عين ما به الامتياز ، وهكذا الحال في الوجوب والاستحباب فانهما بسيطان متباينان بالهوية وإن اشتركا بمفهوم الطلب إلاّ أنه من قبيل أن ما به الاشتراك عين ما به الامتياز ، وحيث إنّ هذا القدر المشترك الذي هو مطلق الطلب لا يمكن أن ينوجد مجردا ، يكون مفاد صيغة افعل مرددا بين الوجوب والندب ، وحيث إن الثاني محتاج إلى مئونة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢.

٣٤٧

زائدة يكون الأول هو المتعين عند إطلاق الصيغة كما هو الشأن في كل ما لو تردد المطلق بين نوعين وكان أحدهما محتاجا إلى مئونة زائدة دون الآخر ، وحينئذ فيمكن تنزيل ما أفاده في الكفاية على هذا الوجه لا على القول بالتركيب ولا على القول بالاختلاف بالشدة والضعف.

ولكن شيخنا قدس‌سره لم يرتض هذا الوجه لما يأتي (١) من مسلكه قدس‌سره من عدم الاختلاف بين الطلب الوجوبي والطلب الندبي وأن الطلب فيهما واحد لا يختلف حاله ، كما أن الظاهر منه قدس‌سره [ أنه ](٢) لم يرتض الوجه الرابع الذي شرحناه فيما سيأتي (٣) إن شاء الله تعالى من كون المركب هو الندب دون الوجوب ، بتخريج الترخيص في الترك على متمم الجعل ، بأن يكون الاختلاف في قوة المصلحة وضعفها هو الموجب للاكتفاء في الواجبات بجعل واحد وهو الطلب بخلاف المندوبات.

وهذا الوجه هو الذي جرينا عليه فيما تقدم ، وكنا نحتمل تنزيل كلام شيخنا قدس‌سره عليه ، لكن تنزيل كلامه في هذا التحرير عليه بعيد جدا ، بل إن ما في هذا التحرير ظاهر بل صريح بانحصار الفرق بين الوجوب والاستحباب باختلاف المصلحة قوة وضعفا ، وأن نفس الطلب كاف في تحقق الوجوب الذي هو حكم عقلي ، وأنه لا يجوّز العقل ترك ذلك المطلوب إلاّ بقرينة الترخيص الدالة على ضعف المصلحة ، فهو لا يريد أن يجعل الترخيص في الترك حكما شرعيا بل يجعله قرينة على ضعف المصلحة ، وأن المصلحة إذا كانت ضعيفة لم يحكم العقل بلزوم ذلك الفعل المطلوب بطلب ناش

__________________

(١) في صفحة : ٣٥٤.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

(٣) في صفحة : ٣٥١.

٣٤٨

عن تلك المصلحة الضعيفة ، ولعل هذا خلاف مسلكه قدس‌سره في أنّ المدار في الاطاعة الحاكم بها العقل على الالزامات الشرعية ولا شغل للعبد بالمصالح والمفاسد الواقعية.

ولو تم ذلك ، أعني كون الترخيص قرينة على ضعف المصلحة ، وأن الطلب الناشئ عن المصلحة الضعيفة لا يكون وجوبيا ينحصر الوجوب بالطلب الناشئ عن المصلحة القوية من دون حاجة إلى إخراج الوجوب عن كونه شرعيا إلى كونه عقليا من باب لزوم الاطاعة كما يظهر من قوله : إن الصيغة متى صدرت ـ إلى قوله : ـ وتوضيح ذلك ـ إلى قوله : ـ فكذلك الثبوت في عالم التشريع ، فما هو ثابت بنفسه نفس إطاعة المولى ... إلخ (١).

قوله : وقبل الخوض في بيان ما هو الحق في المقام ينبغي تقديم مقدمة ، وهي أنّ المتقدمين من الأصحاب ذهبوا إلى تركب الوجوب والاستحباب ... إلخ (٢).

لا يخفى أن النظر إلى الوجوب والاستحباب تارة يكون من ناحية كونهما أحد الأحكام الخمسة ، وهما بهذا النظر ملحقان بالأحكام الوضعية القابلة للانجعال بالجعل الابتدائي ، وحينئذ يكون بينهما كمال التباين كالتباين بين أحدهما والحرمة مثلا. وهما بهذا النظر لا يكونان إلا بسيطين في أقصى درجات البساطة.

واخرى يكون النظر إليهما من ناحية استفادتهما من الصيغة أعني صيغة افعل ، وقد عرفت أنها آلة البعث والتحريك ، أو أنّها آلة إلقاء المادة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٤٣.

٣٤٩

على عاتق المكلف ، وهي من هذه الناحية لا تكون إلاّ مصداقا للبعث والتحريك أو مصداقا لالقاء المادة على عاتق المكلف على حذو مصداقية « هل » في قولك « هل قام زيد » للاستفهام ، أعني مصداقية المعنى الحرفي للمفهوم الاسمي المنطبق عليه على ما مر (١) في المعنى الحرفي من الفرق بين مفاد لفظة « من » مثلا وبين لفظ « الابتداء ».

وعلى هذا فلا يكون ما ينوجد بالصيغة مصداقا للطلب ولا للوجوب إلاّ إذا قلنا إنها آلة إيجاد الطلب ليكون معناها الحرفي هو الطلب الآلي ، وحينئذ ينطبق عليها مفهوم الطلب انطباق المفهوم الاسمي على ما أوجده الحرف ، وحيث إنه قد تحقق أنّها آلة البعث والتحريك فلا يكون المنطبق عليها إلاّ مفهوم البعث والتحريك ، أما الطلب فهو منتزع منها نظير انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي. وهكذا الحال في انطباق مفهوم الوجوب أو مفهوم الاستحباب على ما أحدثته الصيغة من البعث والتحريك ، فيكون مفهوم الوجوب منتزعا عمّا أحدثته الصيغة انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا ريب في بساطة البعث الذي توجده الصيغة وأنه بعث واحد لا تركيب فيه ، ولا اختلاف فيه أيضا بالشدة والضعف ، كما أنها حقيقة واحدة لا تعدد فيها ليكون لنا بعث وجوبي وبعث ندبي. وهكذا الحال في الطلب المنتزع منها أو المنطبق عليها لو قلنا إنها آلة الطلب ، أما الوجوب والاستحباب فقد عرفت تباينهما وبساطة كل منهما.

__________________

(١) في صفحة : ٥٥ وما بعدها.

٣٥٠

نعم إن هذا البعث أو هذا الطلب لو خلي ونفسه ولم يتعقبه أو لم يقترن به ترخيص في الترك انتزع منه الوجوب ، ولو اقترن به الترخيص في الترك أو تعقبه انتزع منه عنوان الندب. وعليه فيكون ملاك الوجوب المجعول ابتداء أو المجعول انتزاعا من صيغة افعل بناء على إفادتها البعث أو بناء على إفادتها الطلب ممّا يكفي فيه الجعل الواحد ، بأن يجعل الوجوب للفعل ابتداء أو يجعل البعث ويخلقه بقوله « افعل » أو بقوله « بعثتك إليه » أو بقوله « أطلبه » أو « طلبته منك » بخلاف الندب فانه وإن أمكن وفاء الجعل الواحد به لكن ذلك فيما لو جعله ابتداء بأن يقول جعلت الفعل الفلاني مندوبا ، أما لو كان جعله بغير ذلك مثل جعل البعث أو جعل الطلب فلا يكفي فيه الجعل الواحد ، بل لا بد فيه من الجعلين : الأول هو جعل البعث والثاني هو جعل الترخيص في الترك ، ولك أن تسمي هذا الجعل الثاني متمّما للجعل الأول على حذو ما أفاده شيخنا قدس‌سره في التعبدي والتوصلي (١) ، وإن كان بينهما فرق في الجملة ، فان الجعل الأول في ذلك الباب يكون أقل من المصلحة فلا يكفي فيها ، بل لا بد في استيفائها من ضم الجعل الثاني إليه ، بخلاف ما نحن فيه فان الجعل الأول فيه يكون زائدا على المصلحة الباعثة على جعل الحكم الاستحبابي المفروض كونها غير مقتضية إلاّ للحكم غير الالزامي.

فجعل الطلب وحده يكون موجبا لكون الحكم إلزاميا ، فيكون الآمر مضطرا لأن يجعل جعلا آخر يتضمن جواز الترك ، ليتم بذلك الحكم غير الالزامي الذي هو ناش عن المصلحة غير الالزامية. ومن ذلك يعلم أن هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٣٥١

التجويز غير مناقض لطلب الفعل والبعث ونحوه ، لأنه إنما يناقضه إذا بقي على إطلاقه ، فتأمل.

ويمكننا القول بأنّ المجعول الأولي في الحقيقة إنما هو نفس الوجوب والتحريم والاباحة والاستحباب والكراهة بما أنها من سنخ الأحكام الوضعية ، وهذه الأوامر والنواهي والبواعث والزواجر كلها في مقام الاثبات وفي مقام الكشف عن ذلك المجعول الأولي ، فهي أشبه شيء بالارشاد إلى ما يلزم العقل به من الانزجار والانبعاث أو الارشاد إلى ما حكم به أوّلا من الوجوب والتحريم ، أو أنها من اللوازم القهرية نظير لزوم وجوب المقدمة عند وجوب ذيها.

وعلى أيّ حال لا يكون الوجوب محتاجا إلى أزيد من البعث والتحريك أو الطلب الانشائي ، وهذا بخلاف الاستحباب فانه في ذلك المقام يحتاج إلى زيادة الترخيص في الترك ، فلاحظ وتدبر.

والظاهر أنّ هذه الطريقة هي المتعيّنة في الواجبات والمندوبات الشرعية ، ويجري مجراها المحرمات والمكروهات ، وأنّ المجعول الأولي هو الوجوب والندب والحرمة والكراهة على حذو الأحكام الوضعية ، وأن الوصول إلى مفاد الصيغة الذي هو مقام البعث والزجر إنّما هو بعد الفراغ عن جعل الحكم الواقعي ، لما قرر في محله من أنّ مرتبة البعث والزجر متأخرة عن مرتبة جعل الحكم الواقعي. فان شئت فقل : إنّ هذه المرتبة بمنزلة الارشاد إلى نفس الحكم الواقعي ، أو شئت فقل إنها لازمة للحكم الواقعي متأخرة عنه رتبة ، لكونها معلولة له نظير معلولية وجوب المقدمة عن وجوب ذيها.

نعم ، في الوجوبات الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم أو الآباء

٣٥٢

بالنسبة إلى أبنائهم ، كما يمكن فيها هذه الطريقة فكذلك يمكن فيها العكس بأن يكون المجعول والصادر أوّلا هو البعث ، فان كان عن مصلحة قوية اقتصر عليه ، وان كان عن مصلحة ضعيفة أضاف إليه الترخيص في الترك ، ويكون الأول منشأ عقلائيا لاعتبار الوجوب ، والثاني منشأ عقلائيا لاعتبار الندب ، فيكونان جهتين اعتباريتين ، والمنشأ في الاعتبار الأول هو مجرد البعث والطلب ، والمنشأ في الثاني هو ذلك مع الاقتران بالترخيص المذكور.

وما هذا الاعتبار العقلائي إلاّ نظير اعتبارهم الملكية من الحيازة أو اعتبارهم الولاية من نصب من له النصب ، لا أنّ الوجوب منطبق على ذلك الطلب ومتحد معه انطباق الكلي الطبيعي على أفراده واتحاده معها. وعلى كل حال فليس الوجوب المعتبر في هذه المرحلة من باب حكم العقل بالاطاعة ، بل هو توأم مع الندب منتزع اعتبارا من ذلك البعث المجرد أو من ذلك البعث المقرون بالترخيص ، فنراهم ينسبونه إلى الباعث الذي هو السيد أو الأب لا إلى العقل. نعم حكم العقل بلزوم الاطاعة أو وجوبها إنّما هو بعد ذلك الانتزاع ، فلاحظ وتدبر.

قوله : فكما أنّ في التكوينيات يكون ثبوت شيء تارة بنفسه واخرى بغيره ، وما كان بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ... إلخ (١).

قال المرحوم الشيخ محمد علي : وبتقريب آخر : الوجوب ليس معناه لغة إلاّ الثبوت ، ومنه قولهم الواجب بالذات والواجب بالغير ، فإنّ معنى كونه واجبا بالذات هو أنّ ثبوته يكون لنفسه ... إلخ (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

(٢) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ١٣٧.

٣٥٣

والذي يظهر أو اللازم من هذه التحارير هو إنكار الوجوب الشرعي أو الندب الشرعي ، إذ ليس لنا ممّا هو المجعول للشارع إلاّ الطلب وهو واحد لا يختلف ، وانما تختلف مصلحته شدة وضعفا ، فذو المصلحة الشديدة يحكم العقل بلزوم إطاعته بخلاف ذي المصلحة الضعيفة ، وأنّ الطلب بنفسه قاض بحكم العقل بلزوم الاطاعة ، إلاّ إذا قامت قرينة على أنه لا تلزم إطاعته ، فتكون هذه القرينة كاشفة عن كون مصلحته ضعيفة.

ويمكن التأمل في ذلك أوّلا : بأنّه خلاف ما استقر عليه الأصحاب بل الكل ، من كون الوجوب والندب من الأحكام الشرعية.

أنّ حكومة العقل بلزوم الاطاعة ليس المدار فيها على المصلحة وإنّما المدار على الطلب ، فما لم يكن الترخيص حكما شرعيا لا يسوّغ العقل الترخيص لمجرد ضعف المصلحة مع فرض تحقق الطلب من المولى (١).

ورابعا : أنا لو سلّمنا وحدة الطلب فيهما وأن الاختلاف في المصلحة ، لم يكن ذلك موجبا لانكار كون الوجوب حكما شرعيا وكذلك الندب ، بل يكونان حكمين شرعيين مجعولين بسيطين متباينين ، وعنهما ينشأ البعث المجرد في الأول والمقرون بالترخيص في الثاني. ولو كان المجعول أوّلا هو البعث وكانا منتزعين منه ، أمكن القول بأنّ البعث في الأول كاف في المصلحة ، بخلاف الثاني فانّه يحتاج البعث فيه إلى ضم الترخيص كما عرفت.

وخامسا : أنّه لو كان الأمر كما أفاده قدس‌سره فلا داعي لانكار شرعية الوجوب ، لامكان أن يقال إن الطلب وإن كان بسيطا وكان واحدا لا تعدد في

__________________

(١) [ لم يذكر ثانيا وثالثا فلاحظ ].

٣٥٤

هويته ، إلاّ أنه من الممكن أن يقال إن الطلب الناشئ عن المصلحة القوية هو الوجوب الشرعي والناشئ عن المصلحة الضعيفة هو الندب ، على تأمل في ذلك ، إذ مع وحدة الطلب وبساطته لا وجه لكون الأول وجوبا والثاني ندبا ، فتأمل.

قوله : توضيح ذلك أن الوجوب لغة بمعنى الثبوت ... إلخ (١).

يمكن التأمل في ثبوت كون الوجوب لغة بمعنى الثبوت (٢) ، وأيّ داع لهذه الدعوى ، أفلا يكفينا أن نقول إن الوجوب بمعنى اللزوم ، أما نفس الفعل المأمور به كالصلاة مثلا فليس انطباق الوجوب عليها من جهة انطباق الاطاعة عليها ، لأنّ ذلك إنما هو في الوجوب العقلي بمعنى اللزوم العقلي ونحن نتكلم في الوجوب الشرعي.

والحاصل : أنّ الذي يظهر من هذه الجمل هو أنّ الوجوب المبحوث عنه هو الوجوب العقلي الذي يكون بمقتضى لزوم الاطاعة ، ولازم ذلك أنّ المندوب ما حكم العقل بجوازه بمعنى أنّ ما يدل عليه الدليل المنفصل هو جواز الترك عقلا مع فرض عدم تفاوت في الطلبين لا من حيث الشدة والضعف ولا من حيث التركب ، وأنه لا منشأ لذلك اللزوم العقلي ولا لذلك الجواز العقلي إلاّ كون المصلحة في الأول مصلحة ملزمة وفي الثاني غير ملزمة ، وواضح أنّ ذلك خلاف ما استقرت عليه كلمتهم من كون الوجوب والاستحباب من الأحكام الشرعية دون الأحكام العقلية التي هي عبارة عن وجوب الاطاعة. وكيف يمكن القول بأنّ هذا الطلب الشرعي واجب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

(٢) لاحظ تاج العروس ١ : ٥٠٠ مادة وجب ، فانه حكى ذلك عن التلويح ، ولاحظ لسان العرب ١ : ٧٩٣.

٣٥٥

الاطاعة عقلا من دون اطلاع العقل على أنّ ذلك الطلب إلزامي.

وحينئذ لا بد لنا أن نقول : إنّ الفرق بينهما وان كان بحسب قوة المصلحة وضعفها أو بحسب وجود ما يزاحمها ، إلا أنّ مصلحة الوجوب يكفي فيه مجرد الطلب بخلاف مصلحة الندب فإنّ جعل الطلب يكون أضيق منها ، فلا بد للشارع حينئذ من سلوك طريق متمم الجعل ، بأن يجعل الطلب ثم بعد ذلك يرخّص في ترك ذلك المطلوب ترخيصا شرعيا ، فتكون مصلحة الحكم الاستحبابي محتاجة إلى جعلين في مقام الطلب وإن كان يمكنه استيفاؤها بجعل واحد في غير مقام الطلب ، نظير أن يقول هذا مندوب أو مستحب أو مستحسن عندي أو ما أشبه ذلك ممّا يكون ملحقا بجعل الأحكام الوضعية.

قوله : وهو أنّ الصيغة الواحدة في استعمال واحد كيف يمكن أن يستعمل في مطلق الطلب من دون أن يتفصّل بفصل ، أو كيف يمكن أن يوجد طلب في الخارج غير محدود بحد الشدة والضعف ... إلخ (١).

الاشكال الأول وارد على القائلين بالتركيب ، وأنّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، والاستحباب مركب من طلب الفعل وجواز الترك ، فإنّه بناء على ذلك يكون كل من المنع من الترك وجواز الترك فصلا منوّعا لطلب الفعل ، ويتكون الوجوب من انضمام المنع من الترك إلى طلب الفعل ، كما أن الاستحباب يتكون من انضمام جواز الترك إلى طلب الفعل ، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون المنشأ والمجعول في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اغتسل هو مطلق الطلب غير متفصل بأحد فصليه ، لاستحالة وجود الجنس

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٥.

٣٥٦

بدون فصل. وليس ذلك من قبيل استعمال المفهوم الكلي من الطلب في القدر الجامع بينهما ، بل هو إيجاد خارجي للطلب الخارجي ، ويستحيل وجود الجنس خارجا بدون واحد من فصوله.

ومنه يظهر توضيح الاشكال على القول الثاني ، أعني الاختلاف بينهما في الشدة والضعف ، لاستحالة وجود الكلي في الخارج غير محدود بأحد حديه.

وينبغي أن يعلم أن القول بتركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك لا دخل [ له ](١) بما سيأتي في مسألة دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده العام بمعنى الترك التزاما أو تضمنا أو مطابقة ، بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام ، فإنّ تلك الدلالة على النهي عن ضده العام على وتيرة طلب الفعل ، إن كانت لزوما فلزوم أو استحبابا فاستحباب. وبالجملة الغرض هناك أن الأمر بالشيء يكون له دلالة على طلب ترك تركه على وتيرة الأمر المتعلق بذلك الفعل من حيث التحتم وعدمه ، فيكون الأمر الاستحبابي داخلا في تلك الدلالة ، بخلاف القول بالتركيب هنا فإنّه مبني على شيء آخر وهو كون الوجوب مركبا من جعلين أحدهما طلب الفعل بقول مطلق والآخر حرمة ترك ذلك الفعل ، كما أن الاستحباب يكون مركبا من أمرين أحدهما ذلك الطلب والآخر الترخيص في الترك.

والحاصل : أن النظر إلى المنع من الترك في تلك المسألة باعتبار كونه من لوازم الطلب المتعلق بالفعل أو أنه عينه أو أنه جزء مدلول الأمر ، سواء كان ذلك الطلب وجوبيا أو استحبابيا ، ويكون تحتم ذلك المنع من الترك

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٥٧

وعدم تحتمه تابعا لذلك الطلب المتعلق بالفعل. والنظر إليه هنا باعتبار كون الوجوب مركبا من حكمين أحدهما طلب الفعل والآخر حرمة تركه ، كما أن الاستحباب مركب أيضا من طلب الفعل وجواز الترك ، فلا ربط لاحدى المسألتين بالاخرى.

ولا يخفى أنّ هذا التركيب المذكور لو بنينا عليه لا يكون مصحّحا لدعوى كون الاطلاق وعدم بيان الترخيص في الترك دليلا على إرادة الوجوب ، لما عرفت من أنه بناء عليه يكون القدر المشترك هو الطلب ، وأنّ تفصّله بأحد الفصلين المتقابلين محتاج إلى بيان ، سواء كان ذلك الفصل هو حرمة الترك أو كان هو الترخيص فيه. كما أن الأمر كذلك لو قلنا بالفرق بينهما بالشدة والضعف ، فإنّه أيضا لا وجه حينئذ لجعل الاطلاق دليلا على المرتبة الشديدة منه أعني الوجوب ، إذ ليس ذلك إلا نظير ما نقله في الكفاية (١) من دعوى ظهور الصيغة في الوجوب لكونه أكمل.

بل إن الأمر كذلك بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من الفرق بينهما بحسب كون المصلحة ملزمة أو غير ملزمة ، فانه بناء على ذلك لا وجه لحمل إطلاق الطلب على ما يكون ناشئا عن المصلحة الملزمة بعد فرض كون الطلب في حد نفسه واحدا ، وأن المصلحة على قسمين لازمة الاستيفاء وغير لازمة ، وأنّ الدليل الدال على جواز الترك لا يكون إلا من مجرد بيان أنّ هذه المصلحة غير لازمة الاستيفاء. فما افيد بقوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أن الصيغة متى صدرت من المولى فالعقل يحكم بلزوم امتثاله ... إلخ (٣) لم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

٣٥٨

يتّضح وجهه بعد فرض ذلك التقسيم للمصلحة ، وأن التي يلزم بها العقل هي المصلحة الملزمة دون غيرها.

والحاصل : أنّ هذا الحكم العقلي بعد فرض ذلك التقسيم للمصلحة إن كان من باب الموضوعية فلا وجه له ، وإن كان من باب الاحتياط لاحتمال كون المصلحة ملزمة فلم يتضح الوجه في لزوم هذا الاحتياط ، وأيضا يبقى السؤال في ذلك الدليل الدال على جواز الترك ، إن كان من قبيل الاخبار بكون تلك المصلحة غير لازمة الاستيفاء ، فلا يكون تصرفا شرعيا ، فهو خلاف ما هو المعروف من كون الاستحباب أحد الاحكام الشرعية ، وإن كان حكما شرعيا لزم كون الاستحباب مركبا كما شرحناه.

٣٥٩

[ التعبدي والتوصلي ]

قوله : وقد يطلق التوصلي على معنى يعم بعض التعبديات أيضا وهو ما يسقط أمره بمطلق وجوده في الخارج ولو كان بفعل الغير ... إلخ (١).

إن السقوط بفعل الغير تارة لا يكون متوقفا على قصد النيابة كما في غسل الثوب وتطهيره ، واخرى يكون متوقفا على قصد النيابة. والنيابة في هذا تارة تكون تبرعية واخرى تكون بالاجارة والاستيناب. وهذا الذي يكون بالاستيناب لو كان نفس الاستيناب فيه كافيا في السقوط عن المكلف نظير الضامن الذي يضمن ما في ذمة الشخص في كونه موجبا لانتقال المضمون إلى ذمة الضامن وبراءة ذمة المضمون عنه ، فالظاهر لامثال له في الواجبات الشرعية. وعلى كل حال لو فرض وقوع الشك في أنّ هذا الفعل الواجب هل أنه واجب بنفسه أو أن المكلف مخير شرعا بين نفس الفعل والاستنابة فيه ، كانت المسألة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي ، والوظيفة من حيث الأصل اللفظي أو العملي في ذلك معلومة واضحة كما حرر في محله.

لكن فرض الكلام فيما نحن فيه إنما هو في القسم الثاني وهو ما لا يكفي فيه الاستنابة بل لا بد من وقوع الفعل من النائب ، فقد يتخيل أنه من قبيل الدوران بين تعيّن الفعل وبين التخيير بين الفعل نفسه والتسبيب له.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٦.

٣٦٠