أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

وفيه تأمل ، لأنّ مجرد التوافق في التعدية لا يوجب الاتحاد في المفهوم كما في مادة حتمت عليه أن يفعل ، فإنّه موافق لمادة الطلب في التعدي بنفسه إلى المطلوب ، مع أنّه نص في اللزوم والوجوب ، بخلاف مادة الطلب ، فتأمل.

قوله : بأن يقال بدلالة الصيغة على الوجوب دون الأمر أو بالعكس ... إلخ (١).

قد يتأمل في العكس ، فإنّه بناء على كون الصيغة للأعم والأمر للوجوب لا ينطبق الأمر على مطلق الصيغة ، وإنما ينطبق على خصوص ما كان منها للوجوب ، وتوضيح ذلك : أن إثبات كون مادة الأمر للوجوب وكذلك إثبات كون صيغة افعل للوجوب ، إن كان كل منهما بدليله الخاص أو بدليل واحد جار في كل منهما مثل التمسك بالاطلاق أو الانصراف ، فلا وجه لكون إثبات أحدهما موجبا لاثبات الآخر ، ولكن بعد أن ثبت أنّ ما تحدثه الصيغة يكون مصداقا خارجيا لمفهوم الأمر ، لا بمعنى أن مصداق أحدهما يكون مصداقا للآخر كما تراه فيما بين مفهوم الأمر ومفهوم الطلب ، فإن الاتحاد فيهما بحسب المصداق لا يكشف عن كون أحد المفهومين عين المفهوم الآخر على وجه لو كان التحتم والوجوب داخلا في أحدهما يكون قهرا داخلا في المفهوم الآخر ، فإنّ هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع ، لأنّ الاتحاد بين المفهومين في مصداق يجتمع مع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه أو العموم المطلق ، ولا ينحصر ذلك بالتساوي بين المفهومين ، بل المراد في هذا المقام هو أنّ مفاد الصيغة لا يكون إلاّ مصداقا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٢.

٣٢١

خارجيا ، وبعد أن كان هذا المصداق الخارجي مما ينطبق عليه مفهوم الأمر يكون ذلك موجبا للتلازم ، بمعنى أنا لو ثبت عندنا أنّ ما تحدثه الصيغة هو الطلب الوجوبي ، يلزمنا القول بأنّ مفهوم الأمر المنطبق على ذلك المصداق الخارجي من الطلب هو عين الوجوب ، إذ لا يمكننا القول بأن ما تحدثه الصيغة هو الوجوب لكن مفهوم الأمر للأعم من الوجوب والاستحباب.

وتوضيح ذلك : أنّ هذه المصداقية إن كانت من الطرفين ، بمعنى أنّ كل ما تحدثه الصيغة ينطبق عليه مفهوم الأمر ، وكلما وجد مفهوم الأمر صح إيجاد الصيغة في مورده ، فلو ثبت كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب كان لازم ذلك هو كون مفهوم الأمر للوجوب ، كما أنه لو ثبت كون مفهوم الأمر هو الوجوب كان لازم ذلك هو كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب وذلك واضح لا غبار عليه. والظاهر أنّ ذلك هو المراد لشيخنا قدس‌سره كما يظهر ممّا حررته عنه ، قال : والظاهر الملازمة بين كون الظاهر هو الوجوب من مصداق مفهوم الأمر الذي هو نفس صيغة افعل ، وبين كون الظاهر من نفس هذا المفهوم هو الوجوب ، لأن حصر المصداق في شيء يكون موجبا لحصر المفهوم المنطبق على ذلك المصداق في ذلك الشيء ... إلخ.

ولعل هذه العبارة غير وافية بما هو المراد من التلازم بين الطرفين ، والأولى تحريره بنحو آخر : وهو أنّ مصداقية الصيغة لمفهوم الأمر ليست على حذو المصاديق للمفاهيم الكلية كي يقال إن اشتمال المصداق على خصوصية لا يوجب أخذ تلك الخصوصية في ذلك المفهوم ، لجواز كون المفهوم أوسع منطقة من مصداقه ، بل إن هذه المصداقية هي مصداقية المعنى الحرفي للمفهوم الاسمي الذي يكون ما يوجده الحرف مصداقا له ، نظير مصداقية ما توجده أداة الاستفهام كلفظة هل لمفهوم الاستفهام ، فان

٣٢٢

صيغة افعل إنّما توجد مفهوم الطلب أو مفهوم الأمر فلا يمكن أن يكون ما توجده الصيغة من هذا المفاد مخالفا لذلك المفاد سعة وضيقا.

وإن شئت فقل : إنّ كل ما ينوجد بالصيغة ينطبق عليه مفهوم الأمر ، وكلما وجدت مادة الأمر كان من الممكن إيجاد الصيغة في مورده ، فلا يكون التخالف بينهما من حيث السعة والضيق ممكنا.

وعلى كلا التقريبين يتم ما أفاده شيخنا قدس‌سره من استحالة التفكيك بين مفاد الصيغة ومفاد مفهوم الأمر. نعم لو منعنا الملازمة من الطرف الثاني بأن لا يكون لدينا من البرهان إلاّ أنّ ما تحدثه الصيغة مصداق من مصاديق الأمر من دون الالتزام بأنه كلما وجد الأمر أمكن إيجاد الصيغة مكانه ، فلا إشكال في أنّه لو ثبت كون مفهوم الأمر هو الوجوب يكون لازمه كون ما تحدثه الصيغة الذي ينطبق عليه مفهوم الأمر للوجوب أيضا ، إذ لو لم يكن ما تحدثه الصيغة هو الوجوب ، فان كان ما أحدثته هو الندب فكيف ينطبق عليه مفهوم الأمر الذي هو عبارة عن الوجوب ، وان كان ما أحدثته الصيغة هو نفس الطلب معرّى عن الوجوب والندب لم يكن أيضا مصداقا لمفهوم الأمر الذي هو الوجوب. على أنّ كون ما تحدثه الصيغة هو مطلق الطلب الذي هو القدر الجامع غير معقول ، لعدم إمكان وجوده بنفسه خارجا معرّى عن جهة الوجوب والاستحباب ، هذا من طرف الأمر.

أما من طرف الصيغة بأن يكون الثابت كونه للوجوب هو الصيغة لا الأمر ، فالظاهر أنّ ذلك أعني ثبوت كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب لا يوجب كون مفهوم الأمر المفروض انطباقه عليه للوجوب ، لجواز كون مفهوم الأمر هو مطلق الطلب وقد انطبق على هذا الطلب الحتمي الذي أحدثته الصيغة كانطباق الجنس على النوع.

٣٢٣

وربما يقال : إنّ ذلك إنّما يتجه لو كان ما تحدثه الصيغة مركبا من الطلب والمنع من الترك ، أما لو لم يكن إلا بسيطا فلا يكون الطلب جنسا له كي يصح انطباقه عليه.

ولكن لا يخفى ما فيه : فإن ما تحدثه الصيغة وإن كان بسيطا إلاّ أنّ مفهوم الأمر لمّا كان هو مطلق الطلب كان منطبقا قهرا على الطلب الوجوبي وعلى الطلب الندبي ، وهما وإن كانا عند حدوثهما بالصيغة بسيطين ، إلاّ أنّ ما به الاشتراك في كل منهما عين ما به الامتياز كما هو الشأن في البسائط إذا كان لها قدر جامع ، فلاحظ وتأمل ، وسيأتي (١) لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى عند الكلام على ظهور الصيغة في الوجوب.

قوله : بوجه يشبه الانصراف (٢).

سيأتي (٣) إن شاء الله تعالى أن الوجوب يكفي فيه الجعل الواحد وهو الطلب ، والاستحباب يحتاج إلى جعل الطلب وجعل الترخيص في الترك ، وما لم يتحقق الجعل الثاني يكون مقتضى الجعل الأول هو الايجاب.

قوله : فلا محالة تدل مادة الأمر على الوجوب أيضا بتلك الدلالة وإن لم يكن الاستعمال في غيره مجازا ... إلخ (٤).

الأولى أن يقال : إنّ مادة الأمر فيها دلالة على الوجوب لما تقدّم (٥) من جهة مرادفتها للالزام ، أو من جهة دلالة الأدلة الأخر مثل قولها « أتأمرني

__________________

(١) في صفحة : ٣٤٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٣٢ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) في صفحة : ٣٥٠ وما بعدها.

(٤) أجود التقريرات ١ : ١٣٢.

(٥) في صفحة : ٣٢٠.

٣٢٤

يا رسول الله ، فقال : لا إنما أنا شافع » (١) ونحو ذلك مما ذكروه ، على وجه يكون تطبيق الأمر على صيغة الطلب دليلا على أنها للوجوب وإن لم يثبت دلالة الصيغة بنفسها على الطلب ، ولأجل ذلك جعلوا النزاع في دلالة مادة الأمر على الوجوب نزاعا آخر غير النزاع في دلالة الصيغة عليه.

قوله : ثم لا يخفى أنّ الصيغة مطلقة ليست من مصاديق الأمر ... إلخ (٢).

قد يتأمل في عدم صدق الأمر على الطلب من المساوي أو السافل ، فإنّ عدم وجوب إطاعة المساوي أو العالي لا دخل له بصدق عنوان الأمر ، والأمر لا دليل على أنّه يعتبر فيه أزيد من التحتيم وإن كان صادرا من السافل. وتقسيم الطلب إلى الأمر والالتماس والدعاء ، لعل الأولى فيه تقسيم الأمر إلى إلزام والتماس ودعاء. ولو سلّم عدم صدق الأمر على الالتماس والدعاء ، فلا ينبغي الريب في صدقه على كل ما يصدر من العالي من الطلب ولو كان ارشاديا. وبالجملة : أنّ المولوية ليست معتبرة في صدق عنوان الأمر.

قوله : وقد يكون لإنشاء تحقّق المادّة في عالم التشريع (٣).

مثل قوله : إذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو ونحو ذلك ، ليكون على الضد من النفي في مثل « لا رهبانية في الاسلام » (٤) فإنّ ذاك [ ينفي ](٥) الرهبانية في الاسلام باعتبار أنّها غير داخلة في قوانينه ، وهذا

__________________

(١) كنز العمال ١٦ : ٥٤٧ / ٤٥٨٣٨ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٣٢.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٣٣.

(٤) مستدرك الوسائل ١٤ : ١٥٥ / أبواب مقدمات النكاح ب ٢ ح ٢.

(٥) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٢٥

يثبت السجود ويحققه في الشريعة باعتبار دخوله في قانونها الذي هو الوجوب مثلا ، هذا.

ولكن مثل ذلك أعني الاثبات والنفي باعتبار الدخول في عالم التشريع إنّما يحسن في نفس الفعل ، بأن يقال لا رهبانية في الاسلام ، أو يقال : إنّ التزوج موجود في الاسلام ، بخلاف مثل قولك : إذا بلغت تزوجت ، بل الأقرب فيه أنه كناية عن الأمر ، لأن الأمر والبعث يستدعي الانبعاث ، والانبعاث يستدعي وجود المبعوث إليه ، وتحققه من الشخص المبعوث ، فجعلت هذه النتيجة كناية عن أصلها الذي هو البعث ، فلاحظ.

قوله : فإذا ظهر أنّ الموضوع له للهيئة ليس إلاّ النسبة الايقاعية الإنشائية ، ظهر لك أنّ القول بكون الموضوع له هو الطلب الانشائي لا معنى له ـ إلى قوله : ـ وكذلك الهيئة إذا استعملت في معناها تكون من مصاديق الطلب ... إلخ (١).

لا يخفى أنّ مفاد الهيئة إذا كان هو النسبة الايقاعية ، يعني إيقاع المادة في عالم التشريع على عاتق المكلف الذي هو عبارة عن بعثه إليها ، فإن كان ذلك البعث بداعي انبعاث المكلف ، بحيث كان انبعاثه إليها هو العلّة الغائية من ذلك البعث الانشائي ويعبّر عنه بالغرض من ذلك البعث ، كان ذلك مصداقا لمفهوم الطلب ، وإن كان بداعي التهديد والاختبار أو التهكم ، كان مصداقا لمفهوم التهديد أو الاختبار أو التهكم. وبالجملة ليست الهيئة موضوعة لايجاد الطلب الانشائي كما يستفاد من الكفاية (٢) كي يكون حالها في ذلك حال حرف الجر مثل « من » الموضوعة لايجاد الابتداء ، ويكون

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٤ [ مع اختلاف عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) كفاية الاصول : ٦٩.

٣٢٦

إعمالها فيه مصداقا لمفهوم الابتداء ، ويكون الفرق بين إعمال الصيغة في إيجاد الطلب ومفهوم الطلب هو الفرق بين ما توجد لفظة « من » وما هو مفهوم لفظ الابتداء. نعم هي بالنسبة إلى ما توجده من النسبة الايقاعية ومفهوم النسبة من قبيل لفظة « من » ولفظ الابتداء ولفظة « يا » ولفظة النداء.

والحاصل : أن لفظة الصيغة لم تكن موضوعة للطلب أو لايجاده إنشاء كي يكون الفرق بينها وبين مفاد لفظ الطلب هو الفرق بين لفظة يا ولفظ النداء ، ويكون الفرق بين الصيغة في مقام الطلب الجدي وبينها في مقام الطلب الصوري هو كون إنشاء الطلب في الأول كان بداعي الطلب النفساني القائم بالنفس ، وفي الثاني لم يكن انشاء الطلب بذلك الداعي أعني الطلب النفساني بل كان بداعي السخرية أو التهديد.

بل إنّ الفرق بينهما إنّما هو باعتبار أنّ ما توجده الصيغة من البعث في الأول كان بداعي الانبعاث وفي الثاني لم يكن بداعيه بل كان بداعي السخرية ، بمعنى أنّ الغرض والعلة الغائية من ذلك البعث هو الانبعاث في الأول والسخرية في الثاني ، ويكون الأول حينئذ مصداقا للطلب ، ويكون إعمالها بداعي الانبعاث موجبا لتحقق الطلب في عالم التشريع ، غايته أنّ البعث بداعي الانبعاث إذا كان صادرا من الحكيم فلا بد أن يكون مسبوقا بقيام الطلب أو الارادة في نفسه ، بحيث كان قيامه في نفسه علة لصدور البعث عنه بداعي الانبعاث ، وتسمية ذلك الطلب النفساني داعيا لذلك البعث لا يخلو من مسامحة ، لأنّ الداعي على الفعل إنّما هو العلّة الغائية المترتبة عليه كالانبعاث فيما نحن فيه ، فتسمية علّة صدور الفعل بالداعي لا يخلو من مسامحة ، بل إن تسمية ذلك الطلب النفساني الذي هو الارادة النفسانية علّة لذلك البعث الانشائي لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ تلك الارادة

٣٢٧

النفسانية المتعلّقة بفعل المكلف إنّما تكون علّة لتعلّق إرادة الآمر بانشاء البعث ، فتكون إرادة إنشاء البعث معلولة لتلك الارادة النفسانية المتعلقة بنفس الفعل ، لا أنّ البعث بنفسه معلول ابتداء لتلك الارادة النفسانية ، فتسمية تلك الارادة النفسانية بكونها علّة لنفس البعث لا تخلو عن تسامح ، لأنّها إنّما تكون علة لارادة ذلك الانشاء ، وإرادة ذلك الانشاء تلك علّة للانشاء.

وبالجملة : أن الارادة المتعلقة بنفس الفعل لا تكون علّة لما يتوصل به إلى صدور ذلك الفعل من المقدمات ، وإنما تكون علّة لتعلق إرادة ثانية بتلك المقدمات ، وتكون هذه الارادة الثانية مترشحة من الارادة الاولى ، فلا يصح أن يقال إنّ الارادة الاولى علّة لنفس المقدمات ، لأنّ ذلك مناف لاختيارية تلك المقدمات وصدور الفعل بالارادة ، وإنّما لا ينافي اختياريته إذا كانت تلك الارادة متعلقة بنفس ذلك لا فيما إذا كانت متعلقة بفعل آخر وكان حصول ذلك الفعل الآخر متوقفا على ذلك الفعل ، فإنّ ذلك الفعل لا يكون معلولا لتلك الارادة وإنما يكون معلولا للارادة المتعلقة بنفسه ، وإن كانت تلك الارادة معلولة وناشئة عن إرادة اخرى متعلقة بما يتوقف عليه.

والحاصل : أنّ إعمال الصيغة في إيجاد البعث إن كان بداعي الانبعاث كان طلبا حقيقيا لا إنشائيا محضا ، نعم لا بد أنّ تكون العلّة في إيجاد ذلك البعث بداعي الانبعاث هو الطلب أو الارادة النفسانية ، وإن لم يكن البعث بداعي الانبعاث بل كان بداعي السخرية مثلا لم يكن من قبيل الطلب أصلا لا حقيقيا ولا إنشائيا ، إذ لا يصدق عليه أنّه طلب بقول مطلق بل يصدق عليه أنه تهكم وسخرية ، فليست الصيغة موضوعة لانشاء الطلب وإيجاده ، وأن إنشاء الطلب بها إن كان بعلّة الارادة النفسانية والطلب النفساني كان طلبا حقيقيا ، وإن لم يكن بتلك العلة كان طلبا إنشائيا كما يظهر من الكفاية في

٣٢٨

هذا المقام (١).

نعم عبّر في أول مبحث الصيغة (٢) عن ذلك بما محصله : هو أنّ الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، فان كان بداعي البعث والتحريك كان طلبا حقيقيا ، وإن لم يكن بذلك الداعي بل كان بداعي التهديد كان طلبا انشائيا فأخذ الداعي بمعنى العلة الغائية ، بخلاف الداعي فيما تقدم منه في مادة الأمر فإنّه أخذه بمعنى العلة الموجدة ، وكيف كان فهذا التعبير أهون من تعبيره في مادة الأمر (٣) من جعل الداعي على إنشاء الطلب في الطلب الحقيقي هو الطلب النفساني. نعم يرد عليه ما تقدم مما استفدناه من شيخنا قدس‌سره من عدم كون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب بل هي موضوعة لايقاع المادة على المكلف أعني البعث ، وأن المائز بين الطلب الجدي والصوري هو كون البعث بداعي الانبعاث وكونه لا بهذا الداعي.

ثم إن البعث والتحريك من أفعال الباعث والمحرّك الذي هو الطالب فلا يحسن التعبير بأخذه علة غائية وغرضا لفعله الذي هو الطلب الانشائي ، فإنّ الغرض من الفعل الذي هو علّة غائية له لا بد أن لا يكون مقدورا له ابتداء ولو بواسطة كونه عنوانا ثانويا ، فان ذلك الغرض لو كان مقدورا ابتداء بلا واسطة حتى مثل العنوان الأولي لم يكن حاجة في التوصل إليه إلى فعل شيء آخر ، بل يفعله الفاعل ابتداء من دون أن يعمد إلى فعل يترتب ذلك الغرض عليه ، ومن الواضح أن البعث والتحريك مقدور للآمر بلا واسطة ، لما عرفت من أن الصيغة آلة للبعث والتحريك ، فهو بايجاده لتلك الآلة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٧.

(٢) كفاية الاصول : ٦٩.

(٣) كفاية الاصول : ٦٧.

٣٢٩

يكون موجدا للبعث والتحريك.

وبالجملة : أن العلة الغائية أعني الغرض المعبّر عنه بالداعي يخالف العلة الفاعلة بامور :

الأول : الداعي لا بد أن يكون بوجوده الواقعي معلولا للفعل وإن كان بوجوده العلمي علّة للفعل ، بخلاف العلة الفاعلة فإنّها إنّما تكون علّة بوجودها الواقعي لا العلمي.

الثاني : أنّ الداعي يكون بوجوده الواقعي متأخرا عن الفعل ولو رتبة بخلاف العلّة الفاعلة فانّها لا بد من تقدمها عليه.

الثالث : أن الغرض أعني العلّة الغائية إنّما يكون علّة في الفعل الاختياري ، دون العلّة الفاعلة فإنّها تكون علّة في الفعل غير الاختياري ، والسر في ذلك هو ما عرفت من كون الاولى أعني العلّة الغائية جزءا من مقدمات الاختيار في الفعل ، بخلاف الثانية فإنّها علّة في الفعل نفسه دون إرادته واختياره حتى في مثل إرادة الفعل بناء على كونها علّة فيه فإنّها إنّما تؤثر في الفعل نفسه لا أنّها من مقدمات اختياره وإن كانت هي عين اختياره.

الرابع : أنّ الاولى أعني العلّة الغائية لا بد أن لا تكون فعلا بلا واسطة للفاعل ، إذ لو كانت فعلا له بلا واسطة لم يكن له حاجة إلى التوصل إليها بواسطة فعل آخر ، بل لا يعقل أن يكون فعل آخر مقدمة لها ومتوصلا به إليها ، لما عرفت من كونها فعلا للفاعل وأنها مقدورة له بلا واسطة. وأنت بعد اطلاعك على هذه التفاصيل تعلم أنه بعد البناء على كون الصيغة لانشاء الطلب لا وجه للقول بأنه صادر بداعي الطلب النفساني أو أنّه صادر بداعي البعث والطلب ، سواء فسّرنا الداعي في هذا التعبير بالعلة الفاعلة أو فسّرناه بالعلة الغائية.

٣٣٠

نعم يمكن أن نقول : إنّ الارادة النفسانية المتعلقة بفعل المكلف تكون علّة لارادة المولى إنشاء الطلب المتعلق بذلك ، لا أنّها تكون ابتداء علة لنفس إنشاء الطلب إلا بنحو من المسامحة ، وحينئذ يكون صدور ذلك الفعل من المكلف أو انبعاثه إليه علة غائية لذلك الانشاء ، وتكون الارادة النفسانية المتعلقة بذلك الفعل علة لارادة ذلك الانشاء ، وبناء على ما ذكرناه من كون معنى الصيغة هو انشاء البعث ، فالأولى التعبير عن الغرض حينئذ بالانبعاث والحركة ليكون صدور الطلب الانشائي منه بداعي انبعاث المأمور وحركته نحو المأمور به ، فيرجع إلى ما ذكرناه ، غير أنّه جعل الفعل الانشائي الذي هو المغيى طلبا إنشائيا ، بخلاف ما ذكرناه فان الفعل الصادر من الآمر هو البعث وغايته هو الانبعاث ، وإذا كان صادرا بتلك الغاية كان طلبا حقيقيا ، وكان لازمه ثبوت صفة الطلب وقيامها بنفس الطالب.

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : ولا يخفى أنّ تسمية هذه الامور بالدواعي إنّما هو بالنظر إلى حصولها بايقاع تلك النسبة الإلقائية في مقام أحد هذه الامور ، فإنّ إيقاع تلك النسبة في مقام بعث العبد وتحريكه يكون بعثا له على المادة وتحريكا له نحوها ، وذلك عين الطلب الذي تقدم أنّه عبارة عن كون الشخص بصدد تحصيل مراده ، فتسميته بالداعي على إيجاد الصيغة نظرا إلى كونه حاصلا بذلك إذا كان إيجادها في ذلك المقام ، فتكون الغاية من إلقاء الصيغة في ذلك المقام هو تحقق الطلب ، ومن الواضح أنّ الغاية المترتبة على صدور الشيء تكون داعيا وباعثا على صدوره ، وهكذا الحال في بقية هذه الدواعي ، لا أنّ هذه الامور تكون صفات نفسانية قائمة بالنفس ويكون قيامها بالنفس داعيا إلى إلقاء الصيغة كما يستفاد من الكفاية (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٩ ـ ٧٠.

٣٣١

قلت : الأولى هو ما تقدم من أن الداعي على البعث الذي هو إلقاء الصيغة إن كان هو الانبعاث كان ذلك مصداقا للطلب الجدي. والمطلب بعد وضوح المراد سهل فتأمل ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكون تحقق الطلب في عالم التشريع غاية لايجاد البعث المفروض عدم ترتبه عليه إلاّ مع قصده منه ، فيكون الحاصل أن فعل البعث بداعي ترتيب الطلب عليه يتوقف على كونه مترتبا على ذلك البعث ، وترتبه عليه يتوقف على قصده منه الذي هو فعله بداعي الطلب.

قوله : فإنّ الارادة باتفاق الكل عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس ، وأمّا الطلب فهو موضوع لتصدي تحصيل شيء في الخارج ... إلخ (١).

قلت : قد يقال إنّها أعني الارادة من مقولة الفعل ، ولعل النزاع المذكور ، أعني كونها من مقولة الكيف أو من مقولة الفعل لفظي ، فمن يدعي أنّها من مقولة الكيف عنى بها الشوق المؤكد ، ومن يدعي أنها من مقولة الفعل عنى بها الاختيار نفسه الذي هو المقدمة الأخيرة المتوسطة بين الفعل والشوق المؤكد ، ولا ريب أنّه أعني الاختيار الذي عبّرنا عنه بالطلب من مقولة الفعل ، ولا أظن أحدا يدعي أنّ ذلك الاختيار من مقولة الكيف ، كما أني لا أظن أحدا يدعي أنّ الشوق المؤكد من مقولة الفعل.

ثم إن اندفاع الجبر بما تقدم أو سيأتي تفصيله (٢) واضح إذا كان تقريبه بأن الفعل معلول للارادة وهي غير اختيارية ، لما عرفت من أنّه غير

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) لم يتعرض قدس‌سره فيما تقدم أو ما سيأتي لشبهة الجبر بالتفصيل ، وإنما أشار إلى ذلك في طيّات هذه المباحث ، فراجع صفحة ٣٢٨ ، ٣٣٧ ، ٣٤٣ وما بعدها.

٣٣٢

معلول للارادة التي هي عبارة عن نفس الشوق المؤكد ، لوجود ذلك الشوق بنفسه أو بما هو آكد وأقوى منه في الشوق إلى الممتنع مثل الشوق إلى ملاقاة الحبيب الميت ، أو الشوق إلى بعض المحرمات مع وجود حاجز التقوى.

وكذلك الحال لو قرّب الجبر بالانتهاء إلى الارادة الأزلية التكوينية ، فإن الفعل الخارجي لم يستند إليها ولم يكن ذلك الفعل مخلوقا لها كما يدعيه أهل الجبر من أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، غايته أنه تعالى خلق الفاعل وأوجده لا أنه تعالى خلق فعله أيضا ، نعم كانت الارادة التكوينية التي هي العلم بصلاح النظام ، قد تعلقت بصدور ذلك الفعل من فاعله باختياره ، وقد صدر منه كذلك ، غايته أنّه لا بد من صدوره منه باختياره لا أنه مجبور على صدوره ، فإنّ التحتم غير الجبر ، هذا إذا كانت الارادة التكوينية هي مجرد العلم بالصلاح المتعلق بالنظام.

وإن كانت عبارة عن العلة الموجدة المعبّر عنها بـ « كن » ، فلا نسلّم تعلّقها بالفعل ، وإنّما أقصى ما في البين هو تعلقها بايجاد الفاعل ، غايته أنّ ذلك الفاعل يختار الفعل ويوجده باختياره.

وإن قرّب الجبر بالانتهاء إلى النفس والذات وهما غير اختياريين ، فهو أوضح فسادا ، فإنّ فعل النفس بالاختيار هو الذي يكون محط التكليف والعقاب وقد صدر الفعل منها بالاختيار ، ووجود النفس ليس علة لذلك الفعل والاختيار ، بل إن ذلك الاختيار فعلته النفس وأوجدته ولا تعاقب إلا على فعلها. وأما السؤال عن أنّه لم أوجدته النفس؟ فلنا أن نقول في جوابه إنّها أوجدته وفعلته بلا علّة وبلا سبب يوجب عليها إيجاده ، بل فعلته من تلقاء ذاتها أو بمرجح رجح لها ذلك ، وهو ذلك الشوق المؤكد ، لا أن

٣٣٣

الشوق المذكور كان علّة في ذلك الاختيار لما عرفت من تعلقه بالممتنع ، فتأمل.

قوله : وأمّا صيغة الأمر فهي دالة على النسبة الانشائية الايقاعية فقط ، فما لم تصدر الصيغة لا يتصف المكلف بأنّه وقع عليه المادة في عالم التشريع ... إلخ (١).

كأنه قدس‌سره يرى أن مفاد الهيئة هو إلقاء المادة على عاتق المكلف ، فتكون الصيغة آلة ذلك الالقاء ، والأقرب أنها آلة بعث وتحريك نحو المادة ، وعن ذلك البعث والتحريك التشريعي ينتزع كون المادة على عاتقه أو انشغال ذمته بها ، والأمر في ذلك سهل فلاحظ.

قوله : بقي الكلام في اتحاد الطلب والإرادة وعدمه ... إلخ (٢).

هذا البحث تعرض له في الكفاية (٣) والتزم في إرادة المكلفين لأفعالهم الاختيارية بعدم توسط شيء بين الارادة والفعل ، كما أنه في إرادة الآمرين التزم باتحاد الطلب والارادة الواقعيين والانشائيين ، لكن شيخنا قدس‌سره (٤) التزم بالواسطة بين إرادة الفاعل وبين فعله وسمى تلك الواسطة بالطلب النفساني الذي هو فعل النفس ، والتزم بأنّه غير الارادة التي هي صفة قائمة بالنفس وأنّها من مقولة الكيف ، وذلك الطلب الذي هو فعل من أفعال النفس من مقولة الفعل ، ولم يتعرض للارادة والطلب الانشائيين ، وإنما تعرض للارادة والطلب الواقعيين وجعل أحدهما مغايرا للآخر ، وقاس

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٣٤.

(٣) كفاية الاصول : ٦٤ وما بعدها.

(٤) أجود التقريرات ١ : ١٣٦.

٣٣٤

الارادة الشرعية الواقعية الآمرية على إرادة المأمور ، فجعل الارادة من الآمر المتعلقة بقيام زيد مثلا من الصفات النفسانية ، وجعل صدور الأمر تحريكا للمأمور ، وسمى ذلك الأمر من سنخ الطلب النفساني الذي هو فعل من أفعال النفس المحرّك لعضلات المريد ، وجعل المأمور بمنزلة عضلات نفس المريد ، إلى آخر ما أفاده في هذا المقام.

ولكن في النفس شيء من هذا القياس ، فانك لو أردت قيام عبدك عن مجلسك ، فهناك إرادة منك نفسانية تعلقت بقيام عبدك ، فلو فرضنا أنه لا يقوم إلاّ بأن تتناوم وتنطرح على فراشك فعلت ذلك ، إلاّ أن نومك على فراشك فعل اختياري لك قد صدر عنك بالارادة المنبعثة عن إرادتك القيام ، فهذه الارادة الثانية منك المتعلقة بالنوم يتعقبها طلبك النوم الذي هو طلب نفساني للنوم ، فهناك إرادة نفسانية وطلب نفساني للنوم والنوم الخارجي ، فإذا تمت هذه الامور وقع مطلوبك الأصلي الذي هو قيام العبد ، وحينئذ لا يكون منك بالنسبة إلى القيام إلاّ مجرد تعلق الارادة النفسانية به ، وليس هناك حملة نفس ولا طلب نفساني يتعلق منك بالقيام. نعم لك أن تسمي هذه الامور أعني إرادة النوم وطلب نفسك النوم والنوم نفسه أنها سعي وطلب للقيام ، لكنّه ليس هو ذلك الطلب النفساني الذي أراده شيخنا قدس‌سره وجعله واسطة بين إرادة القيام والقيام الخارجي ، وهذا باب واسع ضابطه هو أن كل من تعلقت إرادته بصدور الفعل الفلاني من الغير باختياره ينحصر طريقه إلى صدور ذلك الفعل من ذلك الغير باختياره وإرادته باحداث الداعي لذلك الغير بالنسبة إلى ذلك الفعل ، وإحداث الداعي له يختلف باختلاف حال ذلك الغير ، فربما كان حدوث الداعي لذلك الغير منحصرا بمثل ما ذكرناه من إظهار ذلك المريد كسله وأنه يريد النوم ، وربما كان لا

٣٣٥

يحدث له الداعي إلا بايجاد ما يكرهه ذلك الغير من مثل إحداث العجاج في المحل أو إحضار من يكرهه ذلك الغير ، إلى غير ذلك من الأمثلة المختلفة الداخلة تحت جامع واحد ، وهو ما يوجب حدوث الداعي لذلك [ الغير ](١) بالنسبة إلى ذلك الفعل المراد ، ومن جملة ما يوجب حدوث الداعي هو مجرد أمره بالقيام ، وكل ذلك يتوقف على إرادة ثانية من ذلك المريد للقيام تكون متعلقة بذلك الفعل الموجب لحدوث الداعي لذلك الغير ، وتتعقب هذه الارادة المتعلقة بذلك الفعل الموجب لحدوث الداعي حملة النفس عليه وبعدهما يحصل الفعل المذكور.

والخلاصة فيما نحن فيه هي : أنّ إرادة الآمر لفعل عبده المأمور يولّد إرادة تتعلق بأمره به الذي هو فعل اختياري للآمر ، وعن هذه الارادة المتعلقة بالأمر المذكور يتولد طلب نفساني يتعلق بحركة عضلات الآمر نحو الأمر فيأمر ويصدر الأمر لعبده بذلك الفعل ، وحينئذ لم تكن إرادة الآمر مقرونة بطلب نفساني الذي هو حركة النفس نحو الفعل المأمور به. نعم إنّ مجموع هذه الامور ، أعني إرادة الآمر وطلبه النفساني وصدور الأمر هو سعي وطلب وتحصيل للفعل من المأمور ، إلاّ أن ذلك ليس هو طلب نفساني متعلق بفعل المأمور الذي تعلقت به الارادة الأولية من الآمر ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، إنّ مجموع هذه الامور سعي وطلب لذلك الفعل الذي تعلقت الارادة به ابتداء ، إلاّ أنّ توسط هذه الامور بين الارادة والفعل المراد مختص بخصوص ما لو كان الفعل المراد فعلا للغير ، فالاحتياج في حصول ذلك

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٣٦

المراد إلى هذه الامور التي يكون مجموعها طلبا وسعيا في حصول المراد لا يكون برهانا على جريان ذلك فيما لو كان المراد فعلا من أفعال [ المريد ](١) فإنّ هذه الجهات أعني كون الارادة التشريعية عين الطلب أو أنّها غيره لا أهمية له ، إنّما الأهمية في الارادة المتعلقة بفعل المريد وهل أنّها بنفسها علّة في حصول ذلك الفعل منه بحيث إنّه لا واسطة بينها وبين ذلك الفعل ، أو أنّ في البين واسطة وهي المسماة بطلب الفعل وحركة النفس نحوه ، وهذه المعركة هي معركة الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، ووجهة البحث هي لزوم الجبر على الأول لانتهاء الفعل إلى الارادة وهي إلى الذات ، بخلافه على الثاني ، وللجبريين شبهة اخرى وهي تعلق الارادة التكوينية منه تعالى لأفعال العباد.

وعلى كل حال ، أنّ هذه الشبهة بأيّ طريق كانت لا دخل لها بمسألة اتحاد واقع الارادة والطلب في جانب الشارع المقدس ، فإنّ المعروف هو ابتناء القول بالتغاير على الكلام النفسي وجعل الطلب من سنخ الكلام النفسي ، وابتناء القول بالاتحاد على إنكار الكلام النفسي.

وبعضهم بنى التغاير بينهما على أنّ المراد بالطلب الطلب الانشائي ، والمراد بالارادة هو الارادة الواقعية ، ولكن شيخنا قدس‌سره (٢) مع إنكاره الكلام النفسي ، ومع التزامه بأنّ المراد من الطلب هو الطلب الواقعي لا الانشائي قال بالتغاير بينهما ، من جهة ما أفاده من أنّ الطلب من مقولة فعل النفس وأنه غير الارادة التي هي كيف للنفس ، وربما سلّمنا ذلك في إرادة الشخص المتعلقة بفعل نفسه ، أمّا إرادته فعل الغير فقد عرفت انحصار الطريق إلى

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) لم نعثر عليه في مظانه ، وربما نقله قدس‌سره عن بعض تقريراته المخطوطة.

٣٣٧

ذلك الفعل باحداث الداعي على الفعل في حق ذلك الغير ، ومن جملة ما يحدث له الداعي هو الأمر ، وليس الأمر لذلك الغير من قبيل تحريك السيارة أو الفرس للوصول إلى الغاية المرادة أوّلا التي هي حصول المريد في المكان الفلاني ، أو فراره عن المكان الحالي ليكون الأمر من قبيل فعل النفس وحملتها نحو ذلك المراد ، بل إنّ الأمر المحدث لذلك الداعي من قبيل سائر أفعال المريد التي يتوصل بها إلى إحداث الداعي في كونه فعلا اختياريا للمريد تتعلق به إرادته لأجل الوصول إلى تلك الغاية ، بل يمكننا القول بذلك حتى في مثل تحريك السيارة أو الفرس ، نعم بينهما فرق وهو أنّ تحريك السيارة أو الفرس إنما يراد لأجل التوصل إلى حصول المريد في المكان الفلاني أو إلى بعده عن المكان الحالي وفراره عنه ، فيمكننا القول بأنّ هذا التحريك من مقولة حملة النفس وطلبها إلى ذلك الفعل أعني الحصول في المكان الفلاني أو الفرار عن المكان الحالي ، بخلاف الأمر فانه لا يتوصل به إلى فعل المريد ، وإنما يتوصل به إلى حصول الفعل من المأمور بارادته واختياره ، فلا يكون من قبيل حملة النفس ، بل يكون من قبيل ما عرفته من النوم ونحوه مما يكون فعلا مرادا غايته أنه اريد للتوصل إلى حدوث الداعي لذلك الغير.

والحاصل : أن فعل الغير باختياره لا يكون قابلا لتعلق الارادة التكوينية به ، وإنّما أقصى ما في البين هو تعلق الارادة بمقدماته الاعدادية كما ذكروه في مبحث الشروط في ضمن العقد في اشتراط صيرورة الزرع سنبلا ، فمن مال إلى صدور فعل من عبده باختياره لا وجه لتعلق إرادته التكوينية بذلك الفعل من العبد ، وأقصى ما في البين هو تعلق إرادته التكوينية بالمقدمات الاعدادية لصدور ذلك الفعل من عبده ولو بأمره به ، فان

٣٣٨

الأمر من السيد يكون مقدمة إعدادية لفعل العبد باختياره ، لأنه يولّد الداعي إلى اختيار العبد ذلك الفعل.

والخلاصة : هي أنّ إرادة فعل الغير باختيار ليست من الارادة التكوينية ، وأقصى ما في البين هو الارادة التي هي من سنخ الارادة التشريعية ، وهي ليست من كيفيات النفس ولا من أفعالها ، بل هي من سنخ الأحكام التي تنجعل بالجعل ، نظير الوجوب والزوجية ونحوهما من الأحكام ، وإن شئت فسمّها طلبا وإن شئت فسمّها وجوبا أو أمرا أو إرادة تشريعية ، إذ لا مشاحة في التسمية ، بل واقع الأمر أن الارادة التشريعية عين الطلب ، وهو عين الوجوب الذي لا ريب في كونه من المجعولات الشرعية ، ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمل فيما أفاده في الكفاية بل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره فلاحظ وتأمل.

وبتقريب أوضح هو أن يقال : إنّ المراد بالارادة [ في ](١) هذا التحرير أعني كون الارادة عين الطلب ، أو كونها غير الطلب ، إن كان المراد بها الارادة التكوينية ، فلا يحسن التعبير بالطلب الظاهر في أنّ هناك مطلوبا منه ، بل ينبغي تحرير النزاع هكذا ، وهو أنّه هل يتوسط بين الارادة والفعل المراد مرتبة اخرى هي فعل النفس المعبّر عنها بالاختيار أو أنّه لا واسطة في البين وأنّ الاختيار هو عين الارادة ، وإن كان المراد بالارادة الارادة التشريعية المحتاجة إلى من يراد منه ، فلا شبهة في أنّها من سنخ الأحكام الشرعية وأنّها عين الطلب ، بل هي عين الوجوب أيضا ، وليست هي من صفات النفس ولا من أفعالها ، بل هي من الأحكام الشرعية.

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٣٩

نعم ، هناك أمر آخر وهو أنّ الوجوب من سنخ الأحكام الوضعية وهكذا الحال في الحرمة ، فهل هو المجعول ابتداء وأنّ البعث والزجر يكون تابعا له نظير الجزئية بناء على أنّها هي المجعولة ابتداء ، ويتبعها الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالمركب ، أو أنّ الأمر بالعكس بأن يكون المجعول أوّلا هو البعث المستفاد من صيغة افعل والزجر المستفاد من صيغة لا تفعل ، ويتبعهما الحكم الوضعي الذي هو الوجوب والحرمة ، كما أنّ المجعول ابتداء هو الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالمركب وعنه تنتزع الجزئية.

وإن شئت فقل : إنّ دعوى تحقق الارادة من الآمر فيما لو أمر عبده بالفعل ، إن كان المراد بها هو الارادة التكوينية ، فقد عرفت أنه لا معنى لتعلق ارادة الشخص تكوينا بفعل غيره اختياريا إلاّ على نحو الاجبار وسلب الاختيار ، وإن كان المراد هو الارادة الشرعية ، فإن كان المراد بها الطلب والوجوب فقد عرفت أنها تنجعل بالجعل وأنّها ليست من صفات النفس ولا من أفعالها ، ففي الحقيقة لا يكون في البين إلاّ العلم بالمصلحة وجعل الوجوب أو الطلب أو الارادة التشريعية على طبقها ، وما لم يكن في البين جعل لا يكون هناك وجوب ولا طلب ولا إرادة تشريعية بالمعنى المذكور ، وذلك نظير ما إذا لم يوقع ولم ينشئ البيع أو الهبة مثلا ، لا يكون في البين بيع ولا هبة ولو أرادهما المالك بألف إرادة واشتاق إليهما بأقصى مراتب الاشتياق ، ولو اريد بالارادة الشرعية معنى غير الارادة التكوينية وغير الوجوب والطلب ، فذلك لا واقعية له ولا بد من تصوره أوّلا ثم الكلام على وجوده وعدمه.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو : أنّ المجعول أوّلا هل هو الوجوب ، ويتبعه الأمر بالصيغة الذي هو عبارة عن البعث ـ إمّا من باب أن الشيء إذا

٣٤٠