أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

في الكفاية (١) في ذيل الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس ، فانه استدل عليه بالتضاد بين قولك : زيد قائم وقولك : زيد قاعد.

واجيب بأنّه مبنائي ، لأنّه لو قلنا بأنّه لخصوص المتلبس لكان التضاد متحقّقا بخلاف ما لو قلنا بأنّه للاعم.

وردّه بأنّ التناقض وجداني ارتكازي لا مبنائي ، فيكون كاشفا كشفا إنيا عن الوضع لخصوص المتلبس.

ثم نقل الاعتراض على هذا الرد بأنّ هذا الارتكاز لعلّه ناش عن الاطلاق ، فانّ المنسبق بحسب الاطلاق هو خصوص المتلبس.

ثم أجاب عن هذا الاعتراض بأنّه لا يمكن أنّ علّة التضاد هو الانسباق الاطلاقي لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء.

إلى هنا توجّه الاشكال بأنّه لا يصح أن نلتزم بهذه الكثرة لأنّه يوجب كثرة المجاز على الحقيقة وهو مناف لحكمة الوضع ، وحينئذ أوّل هذه الكثرة إلى حال التلبس ، وحيث إنّ هذا التأويل بلا دليل يكشف أنّ المستعملين لاحظوا هذا التأويل انقلب الاستدلال إلى الجدل ، بمعنى أنّ القائلين بالأعم لا داعي لهم إلى هذا التأويل ، فعلى مذهبهم ينبغي لهم الالتزام بهذه الكثرة من دون إرجاع إلى حال التلبس ، وحينئذ يقال لهم إنّه على مذهبكم لا بد من توجيه هذا التضاد الارتكازي ، ولا يصح لكم أن تقولوا بأنّ علّته الانسباق الاطلاقي ، لفرض كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء. نعم إنّ القائلين بالوضع لخصوص المتلبس يلزمهم تأويل الكثرة المذكورة ، وهي وإن أضرت بالاستدلال على مذهبهم بالتضاد الارتكازي فلا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦.

٣٠١

يصح لهم أن يستدلوا بالتضاد المذكور ، لاحتمال كون منشئه هو كثرة الاستعمال في موارد التلبس بعد فرض أنّهم أرجعوا الكثرة في موارد الانقضاء إلى حال التلبس ، هذا.

ولكن شيخنا قدس‌سره بدّل وضعية الاستدلال وجعل كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء من أدلة القول بالأعم ، فجعل المهاجمة بكثرة الاستعمال من جانب القائلين بالأعم على القائلين بالوضع لخصوص [ المتلبس ](١) وحينئذ حيث صار القائلون بالوضع لخصوص المتلبس في مقام الدفاع عن هذا الاستدلال ، فلهم أن يجيبوا عنه باحتمال كون المراد من تلك الكثرة هو خصوص المتلبس بالتأويل المذكور ، وهم في هذا الحال لا يحتاجون إلى إثبات هذا التأويل ، بل يكفيهم مجرد الاحتمال المذكور في ردّ هذا الاستدلال ، فهم يسلّمون الكثرة ، لكن دفعا للزوم كثرة المجاز يقولون إنّ من المحتمل أنّه ليس بمجاز وأنّه راجع إلى الحقيقة ، وحينئذ يتوجه عليهم النقض الذي أشار إليه شيخنا قدس‌سره بقوله : وتوهم أنّ الاستعمال لو كان بلحاظ حال التلبس حتى يكون حقيقة ، فلا يكون فرق في هذا اللحاظ بين المشتقات والجوامد ، إلخ (٢).

وحاصله : أنّه بناء على ما ذكرتموه من تسليم الكثرة ودعوى التأويل ، فينبغي أن تتحقق تلك الكثرة في الجوامد مع الالتزام بالتأويل المذكور.

وأجاب عن هذا التوهم بما تقدم منه في الفرق بين الجوامد والمشتقات (٣) بما حاصله : أنّه في الجوامد يكون الملحوظ هو الصورة

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ١١٩.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١١٣.

٣٠٢

النوعية لا المادة ، ومن الواضح أنّه بعد تبدل الصورة النوعية لا يبقى شيء يصح استعمال اللفظ [ فيه ](١) ولو بلحاظ ما مضى بناء على التأويل المذكور ، وهذا بخلاف المشتقات فانّ الذات باقية فيصح الاستعمال فيها بلحاظ التلبس المنقضي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الملحوظ في المشتق بناء على مسلكه قدس‌سره هو المبدأ وقد انعدم ، والذات أجنبية عنه ، فلا بد حينئذ من الالتزام بأنّ المنظور إليه في المشتق هو الذات ، ويكون المشتق عنوانا منتزعا منها باعتبار تلبسها بالمبدإ ، وحينئذ لو قلنا بأنّ المشتق موضوع لخصوص المتلبس ، بمعنى أنا نعتبر المقارنة بين جريه على الذات وبين وجود التلبس ، أمكننا أن نؤوّل تلك الكثرة إلى حال التلبس ، فيكون الاستعمال الآن ويكون حال التطبيق وحال التلبس فيما مضى على ما مرّ شرحه في تحرير محل النزاع ودفع توهم كون التطبيق راجعا إلى صحة الحمل وعدمه.

وحاصله : هو أنّ أصل النزاع إنّما هو في سعة المفهوم وضيقه ، ويتفرع عليه صحة الحمل على من انقضى عنه المبدأ وعدم صحته إلاّ بالعناية والتنزيل في الحمل الصريح أو الحمل الضمني ، وبناء على ضيق المفهوم أعني كون الموضوع له هو خصوص المتلبس يكون جريه وحمله ضمنا على من انقضى عنه المبدأ بالعناية والتنزيل ، لكنّا يمكننا إخراجه عن ذلك بأن نقول : إنّ ذلك الجري الضمني على تلك الذات المفروض انقضاء المبدأ عنها في حال الاستعمال يكون المنظور فيه هو حالة التلبس فيما مضى ، فلا يحتاج ذلك الحمل إلى تلك العناية وذلك التنزيل ، بل يكون

__________________

(١) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣٠٣

ذلك الحمل الضمني مقارنا لحال التلبس ، فلا يحتاج إلى العناية المذكورة ، فراجع ما حررناه في حاشية ٤٧ (١) وتأمل.

ثم لا يخفى أنّ هذا الاحتمال أعني احتمال إرجاع موارد الانقضاء إلى حال التلبس وإن كان نافعا في رد استدلال القول بالأعم بكثرة الاستعمال فيما مضى ، باحتمال كون المراد في تلك الاستعمالات هو الجري في حال التلبس ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يفسد علينا الاستدلال ، لكونه موضوعا لخصوص حال التلبس بالتبادر وبالتضاد الارتكازي ، إذ للقائل بالأعم أن يردّ علينا ولو جدلا بأنّ الكثرة في موارد الانقضاء مسلّمة وأنتم ترجعونها إلى موارد التلبس ، وحينئذ لا يحصل لكم الجزم بأنّ العلّة في ذلك التبادر وذلك التضاد الارتكازي هو الوضع ، إذ لعل العلّة في ذلك هو كثرة الاستعمال بلحاظ حال التلبس ، وحينئذ لا مندوحة لنا في الجواب عن هذا الجدل إلاّ دعوى عدم كون المستند في ذلك التبادر وذلك التضاد إلاّ اللفظ نفسه دون ما هو خارج عنه من كثرة الاستعمال ، وهذه الدعوى لازمة لكل من يدعي التبادر ونحوه ، فانه لا بد له من دعوى كون المستند فيه هو اللفظ نفسه دون غيره من القرائن الخاصة أو العامة ومنها كثرة الاستعمال.

أما الانصراف الاطلاقي الذي ذكره في الكفاية بقوله : إن قلت : لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط (٢) فلم يعلم المراد منه. نعم ، يمكن أن يقال إنّ اللفظ وإن كان للأعم إلاّ أنّ المنصرف منه عند الاطلاق هو خصوص حال التلبس ، بدعوى أنّ الانقضاء يحتاج إلى مئونة

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، راجع الصفحة : ٢٤٣ وما بعدها من هذا المجلّد.

(٢) كفاية الاصول : ٤٦.

٣٠٤

زائدة ، ولكن هذه الكلمات إنّما تقال فيما لم يمكن فيه إرادة الجامع ودار الأمر فيه بين كون المراد مثلا هو خصوص حال التلبس أو خصوص الانقضاء ، ومن الواضح أنّ إرادة الجامع فيما نحن فيه بناء على الأعم بمكان من الامكان ، وعلى كلّ حال أنّ ذلك لا ربط له بكثرة الاستعمال فكيف ربطه به بقوله : قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر ... إلى آخره. فانّ هذه الجملة إنّما تقال لو كان المراد من الاعتراض هو دعوى كون التضاد الارتكازي ناشئا عن كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس في الحال.

قوله : إنّ كون الاستعمال في الآية المباركة في حال الانقضاء ممنوع فضلا عن كونه بلحاظ الانقضاء ، بل هي من قبيل القضايا الحقيقية التي فعلية الحكم فيها بفعلية موضوعه ، فتدور فعلية الحكم مدار فعلية السرقة ... إلخ (١).

لا ريب في أنّ هذا النحو من القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها مجعولا على كل ما وجد وكان ينطبق عليه عنوان المشتق ، فمن يقول بالأعم يقول إنّ المشتق منطبق على الذات حتى بعد انقضاء المبدأ عنها ، ولازم ذلك بقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ عن الذات ، لأنّ مداره هو الانطباق على الذات ، وذلك أعني الانطباق متحقق حتى بعد انقضاء المبدأ ، وحينئذ تكون النتيجة هي بقاء الحكم إلاّ أن يقوم دليل على ارتفاعه بعد انقضاء المبدأ.

أما من يقول باعتبار التلبس فعلا في انطباق المشتق على الذات فهو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢٠ [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٠٥

في ذلك على العكس ، بمعنى أنّه يلزمه الالتزام بارتفاع الحكم عن الذات عند انقضاء المبدأ عنها ، ولا يمكنه الالتزام ببقاء الحكم بعد الانقضاء إلاّ بدليل يدل على ذلك ، من دون فرق في ذلك بين كون الحكم آنيا مثل قطع يد السارق ، وبين كونه استمراريا مثل حرمة بنت الزوجة أو امها ، أو كونه تكراريا مثل تصديق العادل في كل ما يخبرك به ، فلو قال : أطعم ضيفك فبناء على الأعم يلزمنا القول باطعامه حتى بعد انسلاخه عن الضيفية بأن خرج من داري وذهب إلى أهله أو نزل في منزل شخص آخر ، ولا بعد عن وجوب إطعامه إلاّ بدليل ، أما بناء على الاختصاص فمقتضى القاعدة ارتفاع الوجوب عند ارتفاع الضيفية حتى لو أنّ صاحب المنزل قد قصّر ولم يطعمه حينما كان في منزله ، لأنّ الحكم ينعدم بانعدام موضوعه سواء حصل امتثاله عند ما كان موضوعه متحقّقا أو أنه لم يحصل امتثاله.

نعم لو كان المبدأ مما ليس له حالة استقرار بل كان آنيا مثل السرقة والزنا والقتل في مثل اقتل القاتل ، فعلى الأعم لا إشكال في بقاء الحكم الذي هو وجوب قطع اليد أو الجلد أو الاقتصاص ، لأنّه بعد انقضاء السرقة يصدق عليه أنّه سارق ، وهذا بخلافه على الاختصاص ، إلاّ أن القائل بالاختصاص لا بد له من الالتزام ببقاء الحكم في هذا النحو من المشتقات وإلاّ كان جعله لغوا لعدم إمكان إجرائه في حال ارتكابه الجريمة قبل فراغه منها ، بل يمكن القائل بالاختصاص دعوى كون المستفاد من مثل اقطع يد السارق هو أنّ موضوع الحكم هو من ارتكب السرقة وانقضت عنه.

ومن ذلك يتضح لك الاشكال فيما أفاده ، فانّ عدم الامتثال بعد فرض انعدام الموضوع لا أثر له في بقاء الحكم ، بل تكون المسألة من قبيل سقوط الحكم بسقوط موضوعه مع فرض العصيان في ظرف وجود

٣٠٦

الموضوع ، فالعمدة في ذلك هو ما عرفت من أنّ هذا النحو من المشتقات مما لا يكون لمبادئها حالة استقرار لا بدّ أن يكون الموضوع هو ما بعد انتهائها.

كما أنّه يتضح منه ما أفاده قدس‌سره في التنبيه الأوّل ، وتوضيح ذلك : أنّ كون المشتق موضوعا ومركبا للحكم مطلب ، وكون مبدأ الاشتقاق علة في حدوث الحكم مطلب آخر ، لا ربط لأحدهما بالآخر ، والأوّل أعني كون المشتق موضوعا ومركبا للحكم من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ مثل جواز الاقتداء يكون مركبه هو عنوان العادل ، وعنوان العادل منطبق على الذات ، لكن جواز الاقتداء لا يكون منطبقا على الذات كي تكون الذات مركبا له ، بل إنّ الذات مركب للعدالة والعدالة مركب لجواز الاقتداء ، وهذا بخلاف ما لو أخذنا المبدأ علّة في الحكم ، فانّه يكون حينئذ أجنبيا عن مركبية الحكم ، والحكم يكون راكبا على الذات ، ولا يكون توسطه إلا من قبيل الواسطة في الثبوت كما يقال إنّ التغيّر علّة في عروض النجاسة على نفس الماء ، وهذا الفرق أعني الفرق بين ما يكون مركبا للحكم وما يكون علة له واضح مقرر في مواضع متعددة ، منها باب الاستصحاب عند حدوث تبدل في ناحية الموضوع ، فراجع.

والغرض أنّ لنا في المقام حكمين لا إشكال في كل واحد منهما لأحد من القائلين بعموم المشتق والقائلين باختصاصه ، وهو أنّ مثل الحكم على عابد الصنم بأنّه لا ينال الخلافة ، والحكم على القاتل بلزوم الاقتصاص منه ، يبقى الحكم المذكور وإن انقضت عبادة الصنم أو انقضى القتل ، كما أنّ مثل الحكم بجواز الاقتداء والتصديق يزول عن العادل بعد زوال عدالته. والحكم الثاني يشكل به على القائلين بالأعم ، كما أنّ الحكم الأول يشكل به

٣٠٧

على القائلين بالاختصاص ، ولا بد لكل واحد منهما من الالتزام بأنّ مورد الاشكال ليس هو من قبيل ما يكون عنوان المشتق مركبا فيه للحكم بل هو من قبيل علّة الحكم ، فالقائل بالأعم يدعي أنّ العدالة علّة في جواز الاقتداء والتصديق ، وهي علّة ماداميّة ، فلا يثبت الحكم بعد ارتفاعها ، وإن صح لنا أن نطبّق على ذلك الشخص عنوان العادل لعدم كون العادل موضوعا ومركبا للحكم ، والقائل بالاختصاص يدعي أنّ عبادة الصنم علّة في المنع من الخلافة ، وهي من قبيل العلّة في الحدوث والبقاء لا علّة ما دامية ، وحينئذ يكون معلولها وهو المنع من الخلافة باقيا وإن لم ينطبق على الشخص أنه عابد للصنم ، لعدم كون عنوان العابد له موضوعا ومركبا للحكم المذكور ، بل إن حدوث نفس العبادة يكون علّة في ورود هذا الحكم على تلك الذات وبقائه بعد انقضائها ، نظير علّية الزوجية والدخول في حرمة بنت الزوجة وإن زالت الزوجية كما لو طلقها وتزوجت من آخر وأولدها بنتا. نعم ، إنّ هذه الخصوصيات من استفادة العلية لا الموضوعية ، وكونها على نحو المادامية أو على النحو المقابل لها يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، إلاّ أنّ الغرض هو أن من يلتزم به لا يلتزم بكون المشتق موضوعا للحكم ، لما عرفت من التغاير بين الموضوع والعلة فلاحظ ، هذا.

ولكن هناك طريقة اخرى غير طريقة كون المبدأ علّة في الحكم يمكن أن يسلكها القائل بالاعم في مثل صلّ خلف العادل ، وهي أنّ العادل وإن كان بحسب الوضع شاملا لمن انقضى عنه المبدأ ولمن تلبس به فعلا ، إلاّ أنّه قامت قرينة خارجية على أنّ المراد به في مثل هذه الأحكام هو خصوص المتلبس بالمبدإ ، ولو كانت تلك القرينة هي مناسبة الحكم والموضوع ، ونحو ذلك مما يدل على أنّ المراد به هنا هو خصوص

٣٠٨

المتلبس.

كما أنّ للقائل بالاختصاص طريقة يمكنه سلوكها في مثل عابد الصنم لا يلي الخلافة ، وهي أنّ المشتق وإن كان بحسب وضعه مختصا بخصوص المتلبس ، إلاّ أنّه في مثل هذه الأحكام قامت القرينة على أنّ المراد به الأعم وهي في غاية البعد ، أو يلتزم بأنّ موضوع الحكم هو من انطبق عليه أنه عابد للصنم ولو كان الانطباق فيما مضى بحيث يكون الحكم الآن والانطباق فيما مضى ، وهو أيضا خلاف ظاهر الاستدلال بظهور الآية الشريفة ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بأنّ هذا الحكم جرى في حقه عند ما كان عابدا للصنم ، وهذا الحكم له خصوصية توجب بقاءه ولو بعد انقضاء المبدأ وامتناع الانطباق بعد ذلك ، وتلك الخصوصية هو كونه أبديا كما يستفاد من النفي في قوله تعالى ( لا ينال عهدي الظالمين )(١) فانّ مفاده أنّه لا يناله إلى الأبد ، فهذا الحكم وهو عدم نيل الخلافة إلى الأبد موضوعه هو المتلبس ، وقد تحقق هذا الموضوع وانطبق على ذلك الشخص ، فلحقه الحكم عند ما كان عابدا للصنم ، ففي ذلك الظرف صار محكوما عليه بأنّه لا ينال الخلافة إلى آخر الدهر أو آخر حياته ، وهذا الحكم لا يزول عن مقتضاه إلاّ بالنسخ ونحوه ، بل لا يزيله إلاّ النسخ دون حديث الجب ونحوه ، لأنّ محصل ذلك الحكم الأبدي هو أنه لا يرفعه رافع ، بل يمكن القول بانّه غير قابل حتى للنسخ ، ولعل هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره وهذه الطريقة غير محتاجة إلى التشبث بأذيال كون المقام من قبيل العلة المحدثة مبقية ، لما عرفت من أنّها تشبث بكون الحكم أبديا ، فلاحظ وتأمل.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٢٤.

٣٠٩

ولا يخفى أنه لا حاجة إلى التشبث بذيل كون الحكم أبديا كي يقال من أين أحرزتم الأبدية ، بل يكفينا كون مفاده هو نفي نيل العهد في الاستقبال ، فان نيل العهد مثل دخول الجنة أو شمّ رائحتها في قولهم العاق لا يدخل الجنة أو لا يشمّ ريحها ، فاذا كان عابد الصنم مركبا لهذا النفي في الاستقبال ، وكان الشخص مركبا لعابد الصنم في وقت عبادته ، فقد ركب عليه في ذلك الوقت هذا الأمر الاستقبالي وهو أنه لا ينال العهد.

قوله : الأمر الثاني : أنّ العنوان المذكور في محل النزاع وان كان يعمّ جميع المشتقات إلا أنّه لا بد من تخصيصه بغير اسم المفعول واسم الآلة ... إلخ (١).

الظاهر أنّه لا فرق بين المشتقات ، وأنّ هذا الفرق الذي أبداه قدس‌سره إنّما هو لأجل أنّه قد أخذ في المبدأ جهة زائدة على أصل المعنى ، وتلك الخصوصية هي لحاظ الانقضاء والمضي في نفس المبدأ ، وحينئذ لا يتصور الانقضاء في اسم الفاعل كما لا يتصور في اسم المفعول ، ويدلك على ذلك أنّه لا يقال هذه المسألة معلومة لزيد فيما إذا علمها ثم جهلها ، وكذلك الحال في مثل قولك هذا الاناء مملوء ماء فيما إذا امتلأ ثم فرغ ، وكذلك الحال في اسم الآلة أعني المفتاح مثلا فانه قد أخذ في مبدئه التهيؤ للفتح وهو بهذا المعنى لا يكون قابلا للانقضاء في اسم الفاعل أعني الفاتح كما هو غير قابل له في اسم الآلة أعني المفتاح ، ويدلك على ذلك أنّ هذا العنوان أعني المفتاح أو الفاتح يصدق على هذه الآلة بمجرد الفراغ من صنعتها وإن لم يتحقق الفتح الفعلي فيها. ومثل ذلك يأتي في اسم المكان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

٣١٠

مثل المصلى والمربض والمربط والمعلف ونحو ذلك مما يراد بالمبدإ فيه التهيّؤ. نعم لم أجد في اسم الآلة ما هو مجرد عن أخذ المبدأ فيه بمعنى التهيؤ ، وإن وجد في اسم المكان ما هو مجرد عن معنى التهيّؤ مثل المقتل والمضرب.

ثم لا يخفى أنّه بعد أخذ الانقضاء في مفهوم المبدأ يكون اسم المفعول قابلا لأن يكون في مورد النفي كما يكون في مورد الاثبات ، وذلك لا دخل له في واقعية الانقضاء والوقوع ، كما أنّه يصح استعماله فيما لو كان التطبيق في الاستقبال كما في قولك زيد يكون مضروبا غدا.

ومنه يظهر لك التأمل فيما تضمنته الحاشية صفحة ٨٣ (١).

والخلاصة : هي أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا المقام لعلّه من قبيل إدخال معنى الحرف في المادة ، فإنّ قولك ضرب زيد عمرا تتضمن الهيئة فيه نسبة الضرب إلى زيد على جهة الوقوع منه وإلى عمرو على جهة الوقوع له ، وهذه الجهة للنسبة التي [ هي ](٢) معنى حرفي أدخلها في المادة فجعل المنسوب إلى عمرو هو وقوع الضرب عليه ، ومن الواضح أن الوقوع يبقى وإن انقضى الضرب ، فلا يتصور الانقضاء في لفظ المضروب.

وفيه تأمل ، أما أوّلا : فلأنّ لازم ذلك أن يكون اسم الفاعل كذلك ، فيكون معنى ضارب من وقع منه الضرب وهو باق لا ينعدم.

وثانيا : ما عرفت من أنّه إدخال جهة النسبة في المادة المنسوبة ، وهو الذي عبّرنا عنه بادخال المعنى الحرفي في المادة.

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ١٢٤ من الطبعة الحديثة / حاشية رقم ١.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣١١

وثالثا : أنّه لو تمّ ذلك لكان الاشكال بأنّ الحدث لا دوام له لأنّ الوقوع آني لا بقاء له ، لا أنّه لا انقضاء له.

ورابعا : أن ذلك كله في الوقوع بمعنى الصدور ، فنقول : وقع الحدث بمعنى صدر وخرج من العدم إلى الوجود ، وذلك عبارة اخرى عن وجود الحدث ، وهذا الوقوع الذي أفاده قدس‌سره ليس هو بذلك المعنى بل هو بمعنى السقوط ، بمعنى أنّ عمرا في قولك ضرب زيد عمرا قد سقط عليه الضرب ووقع عليه ، فهو مما يقبل الانقضاء ، لا أنه بمعنى الخروج من العدم إلى الوجود كي لا يكون قابلا لذلك ، فتأمل.

قوله : وينبغي التنبيه على امور : الأول أن المراد من الحال ... إلخ (١).

هذا التنبيه معقود لتوضيح الرد على استدلال القائلين بالأعم بلزوم كثرة المجاز لو كان الموضوع له هو خصوص المتلبس.

ولا يخفى أن قوله قدس‌سره : وعلى كل تقدير فلا محالة لا ينفك الحكم عن وجوده ، فلا بد وأن يكون مستعملا في خصوص المتلبس وإلا فيلزم ما ذكرناه سابقا من تخلف الحكم عن موضوعه وهو محال (٢).

لا يخلو عن تأمل ؛ فانّ ذلك إنما هو فيما لو كان الحكم متحققا قبل التلبس ، دون ما لو كان تحقق الحكم بعد التلبس والانقضاء كما في الأحكام المشروطة بشرط وقد تحقق التلبس وانقضى قبل حصول الشرط.

والخلاصة : هي أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا المقام لعله قدس‌سره ناظر فيه إلى كون الأحكام الشرعية أزلية ، وإلاّ فعند تشريع الحكم على عنوان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٢٣.

٣١٢

المشتق لو كان بعض الموجودين قد وقع منه الحدث فيما سبق وانعدم فيه الآن ، يتصور فيه شمول الحكم له بناء على العموم ، وعدم شموله له بناء على الخصوص لخصوص المتلبس الفعلي ، وهكذا الحال فيما لو كان الحكم مشروطا بشرط وكان البعض واجدا للمبدا قبل حصول الشرط وانتفى منه مثل قولك : إذا دخلت الصحن فأكرم كل معمم تجده فيه ، فهل يشمل من كان معمما قبل دخولك ولكنه عند دخولك قد نزع العمامة وهكذا ، بل وكذلك في الأحكام الاستمرارية في من وجد له الحدث ولحقه الحكم ولكنّه بعد ذلك انتفى عنه الحدث ، إلى غير ذلك من المواقع التي يكون المشتق فيها موضوعا ويكون الحدث قد انتفى عن ذلك الموضوع ، وقد تقدم (١) مثال الرضاع ، فكيف أفاد شيخنا أن ما اخذ موضوعا لا يتصور فيه الانقضاء ، ببرهان أنّ الحكم لا يتأخر عن موضوعه ، فلاحظ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما اخذ معرّفا ومشيرا إلى ما هو الموضوع الواقعي يكون صالحا للانطباق على من انقضى عنه التلبس ، فلو فرضنا [ أنّا ](٢) أخذنا عنوان المعمم معرّفا ومشيرا إلى من هو موضوع وهم زيد وعمرو وبكر إلخ ، إلاّ أنّ تلك الأفراد تختلف قلّة وكثرة باعتبار ذلك العنوان الذي اخذ معرّفا لها أعني المعمم ، فان كان هو مطلق المعمم ولو انقضى عنه المبدأ كان المشار إليه بذلك العنوان أوسع منه فيما لو أخذناه لخصوص المتلبس ، فإنّ خالدا الذي خلع العمامة مثلا يكون على الأول من جملة المشار إليهم ، بخلافه ما لو أخذناه على الثاني فإنّه حينئذ لا يكون من جملة المشار إليهم فيكون داخلا في محل النزاع وذلك واضح ، هذا.

__________________

(١) في صفحة : ٢٢٠ وما بعدها.

(٢) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣١٣

والذي يظهر مما حررته عنه قدس‌سره هو دخول العنوان المعرّف في محل النزاع ، كما أنّا لم نضبط البرهان العقلي الذي أفاده في وجه عدم إمكان إرادة من انقضى عنه المبدأ فيما اخذ موضوعا ، فراجع ما حررته عنه قدس‌سره (١) في التنبيه وتأمل فيه ، كما ينبغي مراجعة ما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي خصوصا ما حرره في صفحة ٦٥ (٢).

قوله : وأما بحسب اللحاظ فقد تؤخذ لا بشرط ويصح حمل بعضها على بعض واخرى بشرط لا ... إلخ (٣).

لا يخفى أن أخذ المبدأ لا بشرط أو بشرط [ لا ](٤) إنّما هو بالقياس إلى الذات أو النسبة والحمل عليها ، وليس هو بالقياس إلى صفة اخرى ومبدأ آخر.

ومنه يظهر لك التأمل فيما شرحه في المثال ، فإنه إنّما يفيد في اتحاد إحدى الصفتين أعني العلم والقدرة بالاخرى ، وهو لا ينتج الاتحاد بين الصفة والذات ، وعلى كل حال أنّ كلامنا في المفاهيم اللفظية وهي لا دخل لها باتحاد واقع تلك الصفات فيه تعالى مع الذات ، وسواء قلنا بالاتحاد أو قلنا بزيادتها على الذات ، فذلك مبحث آخر لا دخل [ له ](٥) بعالم مفاهيم الألفاظ.

قوله : والذي يمكن أن يقال إنّه لو بنينا على تركّب المشتق ، فحيث إنّه مشتمل على النسبة الناقصة التقييدية ـ إلى قوله : ـ وأمّا إذا

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٢) حسب الطبعة القديمة ، راجع فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ١٢٥ ـ ١٢٧ من الطبعة الحديثة.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٢٥.

(٤) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

(٥) [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

٣١٤

قلنا ببساطته فحيث إنّه عار من النسبة فيكون حاله حال المبدأ بل هو هو ... إلخ (١).

قال قدس‌سره فيما حررته عنه : وإن قلنا إنّ المشتق بسيط لم يكن التجوز في النسبة التي دلت عليها الهيئة في الفعل موجبا للتجوز في المشتق ، لأنه بناء على هذا القول لا يكون إلاّ مفهوما بسيطا منطبقا على الذات باعتبار أخذ المبدأ فيها عرضيا محمولا. نعم انطباق ذلك المفهوم البسيط وحمله على غير ما هو له كما إذا قلت النهر جار ، انطباق وحمل على غير من هو له ، فيكون هذا الحمل والانطباق مجازا عقليا ، وأين هذا من التجوز في نفس مفهوم المشتق.

وبالجملة : كون النسبة في الفعل من قبيل المجاز العقلي لكونها نسبة إلى غير ما هو له ، لا يكون مستلزما لكون استعمال مفهوم المشتق من هذا القبيل أعني المجاز العقلي ، وإن استلزم كون حمل ذلك المشتق على من لم يكن له من قبيل المجاز العقلي لكونه حملا له على غير من هو له ، فلا ربط لأحد التجوزين بالآخر ، فالمجازية المذكورة لا تسري من الفعل إلى مفهوم المشتق بناء على كونه بسيطا بل يمكن أن يقال إنّ هذا التجوز لا يسري إلى مفهوم المشتق ولو قلنا بكونه مركبا ، بأن يكون المراد من كونه مركبا هو التركيب الانحلالي من جهة انحلال مفهومه عقلا إلى ذات ثبت لها المبدأ وإن كان بحسب الصورة بسيطا ، نعم لو قلنا بالتركيب بمعنى دلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة كان التجوز في الفعل مستلزما للتجوز بالنسبة في هيئة المشتق.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢٧ [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

٣١٥

قلت : قد يتوهم تحقق الملازمة بين التجوزين حتى لو قلنا بالبساطة التي هي مختاره قدس‌سره بتخيّل أنّه لا ريب في دلالة هيئة المشتق على أخذ العرض عرضيا ، ولا ريب أنّ مثل الجريان إنّما يكون عرضيا بالنسبة إلى ما هو له ، وأمّا بالنسبة إلى غير ما هو له فلا يكون عرضيا له إلاّ بنحو من ذلك التجوز العقلي.

ولكن لا يخفى أنّ مفاد هيئة المشتق إنما هو كون العرض عرضيا ، ولا ريب أن هذا المعنى متحقق في مثل النهر جار ، وإنما وقع التجوز في مفاد الجار والمجرور من قولنا عرضيا له ، ولا ربط لهذا المفاد بمفاد هيئة المشتق ، وإنما يرجع مفاد هذا الجار والمجرور إلى حمل ذلك المشتق على الذات ، فان حمل على غير ما هو له كان الحمل مجازيا ، وإلاّ كان الحمل حقيقيا بلا دخل لذلك في مفاد هيئة المشتق.

وإن شئت قلت : إنّ في حمل المشتق على الذات نظرين ، الأوّل : إلى أنّه متلبس فعلا بالمبدإ أو أنّه قد انقضى عنه المبدأ ، وهذا النظر تابع لما وضعت له هيئة المشتق ، فان قلنا إن الهيئة موضوعة لخصوص المتلبس الفعلي ، كان حمله على من انقضى عنه المبدأ مجازا.

النظر الثاني : هو النظر إلى نسبة الحدث إلى الذات ، فإن كانت النسبة حقيقية كان الحمل حقيقيا وإلاّ كان الحمل مجازيا ، وربما اجتمع التجوزان كما لو انقضى الجريان عن الماء وقيل النهر جار ، فإنّ هناك تجوزين : التجوز في النسبة الحملية والتجوز في مفاد الهيئة ، وربما ينفرد الأول عن الثاني كما في قولك الماء جار بعد انقضاء الجريان عنه ، وربما انفرد الثاني عن الاول كما في قولك النهر جار في حال جريان الماء فيه.

٣١٦

[ مبحث الأوامر ]

قوله : فيما يتعلق بمادة الأمر ، وقد ذكر لها بحسب اللغة معان متعددة ، منها الشيء والطلب والحادثة والغرض ... إلخ (١).

وزاد في الكفاية الفعل والفعل العجيب والشأن (٢) ، ولكنّه قدس‌سره أسقط أربعة بدعوى كونها من اشتباه المفهوم بالمصداق ، وهي الحادثة والفعل العجيب والغرض والشأن ، ثم قال : ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة ، وفي بعض النسخ إلحاق الشيء بالطلب.

ولم يتعرض لما هو المستعمل فيه في الأربعة المذكورة التي أنكرها. ولا يبعد أن يكون نظره أنّ المستعمل فيه فيها هو الشيء ، كما ربما يستفاد ذلك من تسليمه أنّه حقيقة فيه وفي الطلب في الجملة بقوله : ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، انتهى على ما في بعض النسخ.

كما أنّه لم يتعرض لرد دعوى استعمالها في الفعل مثل قوله تعالى : ( وما أمر فرعون برشيد )(٣) ولعل نظره أنه مثل استعمالها في الفعل العجيب في كونه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق بناء على أنّ المستعمل فيه في الآية الشريفة هو الشيء أيضا ، لكنّه ينطبق عليه مفهوم الفعل أيضا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣١.

(٢) كفاية الاصول : ٦١.

(٣) هود ١١ : ٩٧.

٣١٧

فيكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، وتخيّل أنّها مستعملة في ذلك المفهوم المنطبق على المستعمل فيه أعني الشيء.

ومع هذا كلّه فقد قال بعد ذلك كلّه ما لفظه : وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ... إلخ ، مع أنّه بعد تقديم ما قدّمه بأنّ جميع تلك الموارد من باب الخلط بين المصداق والمفهوم وأنّها لم يثبت استعمالها إلاّ في الطلب والشيء ، كيف يصح أن يقول إنها استعملت في غير واحد من المعاني.

وكأنّه لأجل ذلك حصر شيخنا قدس‌سره موارد استعمالها في الطلب ، وفي الواقعة التي لها أهمية في الجملة ، بل جعل الطلب داخلا في المعنى الثاني ، فيكون المستعمل فيه في جميع تلك الموارد هو الواقعة التي لها أهمية.

ولكن يمكن أن يقال : إنّها لم تستعمل في مفهوم الواقعة ذات الأهمية ، وإنّما استعملت في الشيء ، غايته أنّ ذلك الشيء الذي استعملت فيه يكون مصداقا لما هو ذو الأهمية ، وحينئذ فلا يخرج ذلك عن كونه من باب إدخال المفهوم في مصداقه الذي استعملت فيه ، ولعل شرح موارد استعمال هذه اللفظة أعني لفظة الأمر يتضح بالقياس إلى لفظ الشيء فانّه مصدر شاء يشاء ، وأما إطلاقه على ما في الخارج من جواهر وأعراض من قبيل إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق على المخلوق واللفظ على الملفوظ والقول على المقول ، بل ورد في الروايات (١) إطلاق البيع على

__________________

(١) على بن يقطين « عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن؟ قال : الأجل بينهما ثلاثة أيام ، فان قبّضه بيعه ، وإلاّ فلا بيع بينهما. [ الوسائل ١٨ : ٢٢ / أبواب الخيار ب ٩ ح ٣ ] إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه‌السلام قال « من اشترى بيعا فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء فلا بيع له » [ المصدر المتقدم ح ٤ ] هذا في خيار

٣١٨

المبيع في كثير من روايات خيار التأخير وغيره فراجع ، فإنّ جميع تلك الموارد يصدق عليها أنّها شيء بمعنى مشاء ، فإنّها مشاءة إما بنفسها أو بما يتعلق بها بنحو من التوسع ، حتى بالنسبة إلى ذاته تعالى فإنّها شيء باعتبار ارادة معرفتها ونحو ذلك من التوسع المصحح للتعبير عنها بأنّها شيء بمعنى مشاء.

وهذا التفصيل بعينه يتأتّى في الأمر فإنّه مصدر من أمر يأمر بمعنى طلب ، وصدقه على جميع الموارد المذكورة في الكفاية وغيرها باعتبار أنّ الأمر بمعنى الطلب ، وأن كل واحد من تلك الموارد مطلوب ، فيكون استعمال الأمر فيها من قبيل استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول ، وصدق المطلوب على تلك الأشياء بنحو من التوسع على حذو ما ذكرناه في لفظ الشيء ، غير أن الشيء يطلق على كل موجود سواء كان جوهرا أو عرضا ، والأمر لم يثبت إطلاقه على الجواهر ، لكن هذا المقدار من التفاوت لا يضر بالمقايسة المذكورة.

أما جمع الأمر بمعنى الطلب على أوامر وبالمعاني الأخر على امور ، ففيه أنّه خلاف ما يظهر من القاموس (١) من كون الامور جمعا للكل. مضافا إلى أنّ الأوامر إنّما هي جمع الآمرة بمعنى الصيغة الآمرة كالنواهي جمع

__________________

التأخير.

وفي بيع ما لم يقبض صحيحة معاوية بن وهب « عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ... إلخ » [ الوسائل ١٨ : ٦٨ / أبواب أحكام العقود ب ١٦ ح ١١ ] ورواية منصور « عن رجل اشترى بيعا ليس فيه كيل ولا وزن أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ... إلخ » [ المصدر المتقدم ح ١٨ ][ منه قدس‌سره ].

(١) القاموس المحيط ١ : ٣٦٥ مادة الأمر.

٣١٩

الصيغة الناهية كذلك (١) جمع الصاحبة على صواحب وشاعرة على شواعر وليس هو جمع الصاحب والشاعر ، وفي تاج العروس (٢) بحث مفصل في جمع الأمر بمعنى الطلب على أوامر ، فراجعه.

وعلى كل حال لا يبعد أن تكون الأوامر جمع الآمرة ، وهي إما بمعنى الأمر نظير ما ذكراه من استعمال الفاعلة بمعنى المصدر كالعاقبة ، أو هي بمعنى الصيغة الآمرة ، والثاني هو الأقرب.

وبناء على ذلك يكون أظهر تلك الموارد هو الطلب ، لأنّ انطباق الأمر عليه يكون على وفق الوضع الأولي أعني المصدرية ، وإطلاقه على غيره من تلك الموارد يحتاج إلى عناية كونه من باب (٣) استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول.

ولكنّه بعد مجال النظر ؛ لأنّا إنّما نصحّح استعمال المصدر في مورد اسم المفعول في خصوص ما لو كان المفعول هو نتيجة ذلك المصدر مثل الخلق والمخلوق واللفظ والملفوظ ، دون مثل ما نحن فيه ، سيما فيما كان اسم المفعول فيه ناقصا يحتاج إلى متعلق أعني المأمور به ، لكن ينافيه استعمال البيع في المبيع.

ثم لا يخفى أنّ الأمر لا يرادف الطلب ، لأنّ الطلب يتعدى إلى المكلف المطلوب منه بمن وإلى المطلوب بنفسه ، بخلاف الأمر فإنّ مثل أمر يأمر يتعدى إلى المطلوب منه بنفسه وإلى الفعل المطلوب بالباء ، فالأشبه أن يكون قد اشرب فيه معنى الالزام.

__________________

(١) [ في الأصل : فذلك ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) تاج العروس ٣ : ١٧ مادة أمر.

(٣) [ في المصدر زيادة « إطلاق » والصحيح ما أثبتناه ].

٣٢٠