أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٩

في جريان النزاع في اسم الزمان من جهة أنه لا يتصور فيه الجري على ما انقضى عنه التلبس حتى يتكلم في أنّه حقيقة أو مجاز ، وكونه من قبيل الكلي المنحصر في فرد اعتراف بهذا الاشكال لا أنّه جواب عنه.

قلت : لو كان النزاع متوجها إلى نفس الجري على الذات التي انقضى عنها المبدأ وأنه حقيقة أو مجاز ، لتم الاشكال المذكور على الكفاية ، أما لو كان النزاع في أصل الوضع ، وأن الموضوع له هو خصوص المتلبس أو هو الأعم على وجه يكون هذا هو مركز النزاع ، ويكون الاستعمال في الذات التي انقضى عنها المبدأ حقيقة أو مجازا ، من ثمرات النزاع المذكور ، لتمّ ما أفاده في الكفاية (١).

نعم ، يتوجه على الكفاية أنه لا ثمرة على النزاع في اسم الزمان ، إذ الثمرة منحصرة بما ذكر من كون الاستعمال في الذات التي انقضى عنها حقيقة أو مجازا ، والمفروض عدم ترتبها ، وهذا بخلاف النزاع في لفظ « الله » وأنّه علم للذات المقدسة أو أنه كلي منحصر بفرد ، فانه يترتب عليه ثمرة أدبية في الجملة ولو مجرد ترتيب آثار العلمية وعدم ترتيبها.

ثم لا يخفى أنه يمكن إدخال اسم الزمان في محل النزاع من جهة اخرى غير ما أفاداه قدس‌سرهما وذلك بعد فرض أنّ الزمان لا واقعية له إلاّ هذه الاعتبارات العقلائية العرفية ، فيجعلون اليوم مثلا اسما لما بين الطلوع والغروب ، والاسبوع لما بين الجمعة والجمعة ، وهكذا في الشهر والسنة والقرن ، وحينئذ نقول إنّ المضرب مثلا إن لاحظناه بالقياس إلى ذلك الآن الذي وقع فيه ، فهو أعني ذلك الآن غير باق بعد الانقضاء ، لكن اذا قسناه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

٢٤١

إلى اليوم الخاص وكان قد وقع الضرب على زيد قبل الزوال من ذلك اليوم ، فنحن بعد الزوال إذا أجرينا « المضرب » على ذلك اليوم ، وقلنا ( ونحن بعد الزوال من ذلك ) : هذا اليوم مضرب زيد ، كان من قبيل بقاء الذات مع انقضاء المبدأ ، وهكذا الحال لو قسناه إلى الشهر أو إلى السنة أو إلى القرن. والغرض أنّ جميع ذلك يتصور فيه بقاء الذات أعني المسمى باليوم أو الشهر أو السنة مع فرض انقضاء المبدأ ، نعم بعد انقضاء نفس ذلك المسمى لا يكون داخلا في محل النزاع.

أما ما أفاده شيخنا قدس‌سره فهو يتوقف على صدق بقاء اليوم العاشر من المحرم مثلا بعد فرض انتهاء الشخص الأول منه وقبل مجيء الشخص الثاني ، وهو محل تأمل ، فان اليوم العاشر وإن أخذناه كليا شاملا لكل ما يتجدّد في كل سنة ، إلاّ أنّ ذلك الكلي يتجدّد بتجدّد أفراده ، فهو ينقضي بانقضاء كل فرد ويتجدّد بتجدّد فرد آخر. إلاّ أن يدّعى أنّ في البين وحدة اتصالية ، لكن الدعوى ممنوعة إلاّ إذا أخذنا تلك الأيام أجزاء ويكون ابتداء اليوم العاشر بابتداء الدهر وانتهاؤه بانتهائه ، فلاحظ وتأمل.

لا يقال : إنّ يوم العاشر إذا وقع القتل في أوله وكان ذلك كافيا في تحقق تلبس تمام اليوم بالقتل ، لأن الواقع على الجزء أو فيه واقع على الكل أو فيه ، فبعد الظهر لا يكون حال انقضاء عن نفس اليوم بل يكون التلبس بالنسبة إلى تمامه باقيا بحاله ، لأن تلبسه به إنّما هو تلبس جزئه ، فذلك الجزء وإن كان قد مضى إلاّ أنّ تلبس الكل الناشئ عن تلبس الجزء باق بحاله ولا يكون له حالة انقضاء.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين مقام تصحيح التلبس بالنسبة إلى اليوم باعتبار تلبس جزئه وبين بقاء تلبس تمام اليوم بعد انقضاء القتل ، إذ لا

٢٤٢

شبهة في أنّ القتل الذي ورد على تمام اليوم ( ولو بوروده على جزئه ) قد انقضى عن ذلك اليوم وجدانا مع فرض بقاء نفس اليوم ، ولو تمت هذه الشبهة لجرت في الكلي ، فإنّ تلبس طبيعة اليوم العاشر إنّما هو بتلبس فردها ، وحينئذ يتوجه الاشكال بأنّ تلبس الطبيعة يعدّ باقيا ولو انقضى ذلك الفرد منها.

قوله : ويطلق اخرى ويراد منه حال التلبس. وليس المراد منه زمان التلبس كما في عبارة كثير من الأعلام ومنهم المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ... إلخ (١).

لم أعثر في الكفاية في هذا المقام على عبارة دالة على كون المراد من الحال هو زمان التلبس ، بل صرّح بأنّ المقصود من الحال هو حال التلبس لا حال النطق (٢). نعم قال في آخر ذلك : ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات ... إلخ ، فلعل هذه العبارة توهم أنه في مقام تأييد ما نفاه أوّلا من أنّ المقصود ليس هو حال النطق ، فكأنه أخذ حال النطق بمعنى زمان النطق ، وجعل اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان مؤيدا لما نفاه من حال النطق ، فيكون حال النطق حينئذ بمعنى زمان النطق ، فلا بد أن يكون المراد من مقابله وهو حال التلبس هو زمان التلبس.

ولكن لا يخفى أنّ اتفاقهم على ذلك كما يكون دليلا على عدم دلالة المشتق على زمان النطق يكون أيضا دليلا على عدم دلالته على زمان التلبس ، فلا بد أن لا يكون مراده من حال التلبس هو زمان التلبس.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤٣ ـ ٤٤.

٢٤٣

ثم إن تفسير الحال بحال التلبس ربما لا يلائم ما ذكروه في عنوان المسألة من أنّ المشتق هل هو حقيقة في خصوص المتلبس في الحال ، لأنه يكون الحاصل حينئذ هل هو حقيقة في خصوص المتلبس في حال التلبس.

فالأولى أن يفسر الحال بحال الجري ليكون المعنى أنّ المشتق حقيقة في من كان متلبسا بالمبدإ في حال جري المشتق عليه. وبعبارة اخرى : يعتبر اتحاد حال الجري وحال التلبس ، بأن يكون المشتق قد اعتبر في جريه على الذات كون الذات متلبسة بالمبدإ في حال جريه عليها. وان شئت قلت : إنه يعتبر في صحة الجري على الذات أن يكون جريه عليها في حال تلبسها بالمبدإ ، وان كان كل من الجري والتلبس قد مضى ، مثل قولك : كان زيد ضاربا أمس ، أو كان كل منهما في المستقبل مثل سيكون زيد ضاربا غدا ، على أن يكون « الأمس » و « غدا » متعلقين بالمبدإ الملحوظ نسبته إلى الذات ، ويكون الحمل مقارنا لذلك بقرينة قوله « كان » في الأول و « يكون » في الثاني ، وهذا بخلاف ما لو جرّدت الجملة عن الكون وقيل : زيد ضارب أمس أو ضارب غدا ، فإنّ الظرف في مثل ذلك يتعلق أيضا بالحدث ملحوظا به النسبة إلى الذات ، والظاهر من القضية الحملية أنّ الحمل في الحال ، فيكون الأول ممّا انقضى عنه المبدأ في حال الحمل ، وفي الثاني ممّا لم يتحقق له التلبس بعد. ولا يمكن أن يكون الظرف متعلقا بنفس النسبة الحملية ليكون الجري والحمل واقعا بالأمس أو في غد ، ويكون المحمول هو مطلق الضارب ، لأنّها ملحوظة باللحاظ الحرفي الآلي الذي هو مفاد هيئة الجملة الاسمية ، ولا يمكن حينئذ أن تكون طرفا للنسبة الاضافية الظرفية بينها وبين الأمس أو غد ، كما أنّ هذا الظرف لا يمكن

٢٤٤

تعلقه بنفس الموضوع الذي هو زيد ، لعدم إمكان كونه طرفا للنسبة الظرفية لجموده ، بل لا يمكن أن يلحقه أيّ قيد إلاّ باعتبار جهة عرضية فيه حتى في مثل زيد قائما أحسن منه قاعدا ، فإنّ « قائما » إنما يكون قيدا للضمير المرفوع المستتر في « أحسن » ، و « قاعدا » أيضا إنما يكون قيدا للضمير المجرور في « منه » ، لا أنّ المقيّد بذلك هو ذات زيد.

ولو صحّ تعلق هذا الظرف بالنسبة الحملية أو بنفس المبتدأ لصحّ لنا أن نقول : « زيد الآن غدا ضارب بالأمس » بمعنى أنّ زيدا الموجود في هذا الآن محمول عليه غدا ضارب بالأمس ، وشهادة الوجدان بعدم صحة ذلك وكونه من قبيل التناقض ، شاهد على أنّ متعلق هذه الظروف شيء واحد وهو الحدث الملحوظ منسوبا إلى الذات. ولو كان كل واحد من هذه الظروف متعلقا بواحد من هذه الامور الثلاثة غير ما تعلق به الآخر ، لم يكن ذلك من التناقض مع أنّا نراه وجدانا من التناقض ، فدلّ هذا التناقض الوجداني الارتكازي على عدم تعلق الظرف بالنسبة الحملية أو بنفس المبتدأ ، فلاحظ.

وخلاصة البحث : أنّ لنا في مسألة المشتق كالضارب بالنسبة إلى من تلبس به أعني زيدا مثلا في قولنا « زيد ضارب » أحوالا ثلاثة ، الأول : حال النطق أو حال الاستعمال ، أعني إعمال لفظ « الضارب » بجعله محضرا لمفهومه الكلي في ذهن السامع.

الثاني : حال تطبيق هذا المفهوم على زيد المذكور ، وهو المعبّر عنه بحال الجري ، أعني إجراء الضارب على زيد بجعله حاكيا عنه أو بحمله عليه.

الثالث : حال التلبس أعني حال وجود الضرب لزيد. وهذا الأخير

٢٤٥

واقعي بخلاف الأوّلين ، فانهما بفعل المتكلم.

ثم إنّ الحال الأول لا يكون ماضيا ولا مستقبلا ، بل لا يكون إلاّ حاليا أعني حال التكلم ، بخلاف الأخيرين فان كل واحد منهما يمكن أن يكون سابقا على حال التكلم ، ويمكن أن يكون لاحقا له ، ويمكن أن يكون مقارنا له.

ومن هذه الجهة يتضح لك العموم من وجه بين الأول وبين كل من الأخيرين ، بمعنى إمكان مقارنة الأول لكل منهما وامكان عدم مقارنته لكل منهما ، بأن يتقدم على كل منهما أو يتأخر ، بمعنى أن يكون الاستعمال الآن ويكون الجري أو التلبس فيما مضى ، أو يكون الاستعمال الآن ويكون الجري أو التلبس فيما يأتي. ولا إشكال في أنه لا يعتبر في المشتق مقارنة حال الاستعمال لحال الجري ولا لحال التلبس ، وإنما النزاع في الأخيرين أعني حال الجري وحال التلبس ، فالمشهور اعتبار المقارنة بينهما سواء كانا سابقين على حال التكلم أو كانا مقارنين لحال التكلم أو كانا معا لاحقين لحال التكلم.

أما لو اختلف الحالان أعني حال الجري وحال التلبس ، فإن كان حال الجري سابقا على حال التلبس كان مجازا بلا إشكال ، وإن انعكس الأمر بأن كان حال التلبس سابقا على حال الجري بأن كان الجري بعد انقضاء التلبس فهذا هو محل الكلام ، فالمشهور يقولون بأنه مجاز وفي قبالهم القول بأنه حقيقة. أما عنوان النزاع فلك أن تقول إنّ المشتق حقيقة في خصوص ما لو كان الجري على الذات في حال التلبس ، أو أنه حقيقة فيها ولو كان الجري عليها بعد حال التلبس ، كما لك أن تقول إنه حقيقة فيما لو كانت الذات متلبسة بالمبدإ في حال جريه عليها ، أو أنه يكون حقيقة ولو كان تلبسها

٢٤٦

بالمبدإ سابقا على جريه عليها ، مع الاتفاق على كونه مجازا فيما لو كان الجري قبل حال التلبس. وأنت بعد اطلاعك على هذا الذي فصلناه تعرف أن صاحب الكفاية قدس‌سره وكذلك شيخنا قدس‌سره (١) لمّا أخذا عنوان التلبس في طليعة النزاع فقالا : المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال ، كان عليهما أن يقولا إن المراد من الحال في هذا العنوان هو حال الجري لا حال التلبس ، فلاحظ وتأمل.

ويرد على ما أفاداه من أنّ المراد بالحال في قولهم « المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال » هو حال التلبس ، أنّ قولهم « في الحال » إن كان متعلقا بالمتلبس كان الحاصل هو أنّه حقيقة في من كان تلبسه في حال تلبسه ، ولا يخفى ما فيه. وإن كان متعلقا بقولهم « حقيقة » كان محصّله أن كونه حقيقة في المتلبس مختص بما إذا كان الاستعمال في حال تلبسه ، فكان لفظ « المتلبس » في كلامهم شاملا لما انقضى عنه التلبس ، فيحتاج إلى التقييد بكون ذلك التلبس في حال الاستعمال ، فيكون هدما لقولهم بالاختصاص ، بل يكون الحاصل أنّ المشتق حقيقة في المتلبس في خصوص ما لو كان تلبسه حاليا يعني حال الاستعمال ، وحينئذ يعود محذور تفسير الحال بحال الاستعمال ، فلاحظ.

ولكن المراد هو ما ذكرناه من اعتبار المقارنة ، وإن كانت عبارتهم قاصرة عن ذلك. فان شئت قلت : لا بد من المقارنة بين نفس التلبس وبين جري المشتق على الذات ، أو قلت : لا بدّ من المقارنة بين حال التلبس وبين حال الجري ، أو قلت : لا بدّ من المقارنة بين زمان التلبس وبين زمان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨ ، أجود التقريرات ١ : ٧٧ و ٨٤.

٢٤٧

الجري ، كل ذلك صحيح والمقصود واحد واضح. وليس التعبير الأخير راجعا إلى دخول الزمان في دلالة المشتق كي يتأبّى عنه من جهة عدم دلالته على الزمان ، فان دلالته على المقارنة بين زمان التلبس وزمان الجري غير دلالته على زمان التلبس ، وذلك واضح.

والحاصل : أن كلا من التلبس والجري حادث من الحوادث لا بدّ له من زمان يقع فيه. ولو قلنا إنّه لا بد من المقارنة بين التلبس والجري كان لازمه أو عينه الاقتران بين الحالتين أو الاقتران بين الزمانين ، وأين هذا من دعوى كون المشتق دالا على زمان التلبس أعني زمان وقوع الحدث التي هي كدعوى دلالة الفعل على زمان وقوع الحدث وأنه الزمان الماضي أو الزمان الحالي أو الزمان المستقبل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ تحوير النزاع إلى ما ذكرناه من اعتبار المقارنة بين الجري والتلبس ، وأنه لو جرى المشتق على الذات في حال تلبسها بالمبدإ يكون الاستعمال حقيقيا ، ولو جرى عليها قبل تلبسها به يكون مجازا بلا إشكال ، وأنّ محل النزاع ما لو جرى عليها بعد انقضاء تلبسها به هل هو حقيقة أو مجاز ، ممّا لا يمكن الالتزام به ، فإنّ جري المشتق على الذات ممّا لا يتصف بالحقيقة والمجاز وإنّما يتصف بالصدق والكذب ، حيث إنّ الجري إنّما هو الحمل سواء كان صريحا كأن تقول : زيد ضارب ، أو كان ضمنيا بأن تقول : جاءني الضارب وتعني به زيدا.

والأوجه هو ما عرفت الاشارة إليه فيما تقدم (١) في مسألة اسم الزمان ، من أنّ صحة الجري وعدمه متفرع عن سعة المفهوم وضيقه كما هو الحال

__________________

(١) في صفحة : ٢٤١.

٢٤٨

في جميع الشبهات المفهومية ، مثلا النزاع في مفهوم العادل وأنه هل هو خصوص تارك الكبيرة والصغيرة ، أو أنّه مطلق تارك الكبيرة سواء ارتكب الصغيرة أو تركها ، تتفرّع عليه صحة الجري وعدمه في زيد الذي هو تارك الكبيرة وفاعل الصغيرة ، سواء كان الجري والحمل صريحا كأن تقول : زيد عادل ، أو كان ضمنيا كأن تقول : جاءني عادل وتعني به زيدا المذكور. وهكذا الحال في النزاع في أنّ مفهوم الصلاة هو خصوص الصحيح منها أو هو الأعم ، تتفرع عليه صحة حمل عنوان الصلاة على التي صلاها زيد فاسدة ، فتقول : هذه صلاة ، أو تقول : إنّ زيدا قد صلّى. وهكذا الحال في جميع الشبهات المفهومية فإنّ أصل النزاع إنّما هو في عالم المفهوم الكلي الذي وضع له اللفظ ، هل هو الأخص أو هو الأعم. وصحة الحمل وعدمه على غير الأخص وإن كان متفرعا على ذلك النزاع ، إلاّ أنّه لا يتّصف بالحقيقة والمجاز وإنّما يتّصف بالصدق والكذب.

نعم ، بعد الفراغ عن كون اللفظ موضوعا للأخص يكون حمله صريحا أو ضمنا على غير الأخص باطلا وكاذبا ومخالفا للواقع ، ويكون ذلك أعني صحة الحمل وعدم صحته إلاّ بالعناية ، من قبيل الأمارة على الوضع وعدمه كما تقدّم (١) في مسألة أمارات الحقيقة والمجاز من صحة السلب وعدمه فلاحظ. لكن لو قلنا بالوضع للأخص ، وكانت هناك عناية مصحّحة لتنزيله منزلة ذلك الأخص ، صحّ الحمل المذكور بالعناية المزبورة وكان من قبيل الاستعارة على مذهب السكاكي (٢) لا من باب التوسعة في المفهوم كالأسد والعادل بعد البناء على وضعه لخصوص تارك الاثنين ، بل

__________________

(١) لم يتقدم منه قدس‌سره بحث بعنوان أمارات الحقيقة والمجاز.

(٢) مفتاح العلوم : ١٥٦.

٢٤٩

من باب تنزيل الرجل الشجاع منزلة الحيوان المفترس ، أو تنزيل تارك الكبيرة فقط منزلة تارك الاثنين. أما سلخ اللفظ عن معناه الموضوع له وهو الأخص وإعماله في الأعم من دون أن يكون في البين جري وحمل ، لا صريح ولا ضمني ، كأن تقول : أكرم الضارب وتعني به الأعم من المتلبس ومن انقضى عنه الضرب ، أو تقول : أكرم العادل وأنت تعني به مطلق تارك الكبيرة ، أو تقول : أعط للمصلّي درهما وانت تعني مطلق الصلاة ، فهذا هو التجوّز الذي ينبغي إرادته في المقام ، وهو مبني على كون العموم والخصوص من العلائق المصحّحة للتجوّز.

وفي المقام تأمل حاصله : أنّ مثل هذه الجمل لو نزّلناها على القضايا الحقيقية كان مرجعها إلى الحمل الضمني ، لأن حاصل القضية حينئذ أن كل من وجد وكان ضاربا يكون حكمه كذا ، وهو عين الحمل. نعم في القضية الطبيعية مثل قولك : العادل خير من الفاسق ، ومثل قولك : الظالم رذيل ونحو ذلك ممّا يكون الحكم ناظرا إلى نفس الطبيعة مع قطع النظر عن أفرادها ، يكون من باب الاستعمال ، وأن المستعمل فيه هو الخاص أو هو العام ولا يكون متضمنا للحمل أصلا. أما القضايا الحقيقية فهي متضمنة للحمل كما عرفت ، لكن لا بد من كون المتكلم قد أعمل ذلك اللفظ في المفهوم الكلي ، غايته أنه لاحظ تطبيقه على الأفراد ، ويقع الكلام في ذلك المفهوم الكلي الذي أعمل فيه اللفظ ، فلو كان اللفظ موضوعا للأعم وقد أعمله فيه فلا إشكال ، لكن لو كان موضوعا للخاص وقد أعمله في العام كان من المجاز الاستعمالي لا من باب الحمل والتطبيق. لكن من يدّعي رجوع المسألة إلى صحة الحمل وعدمه يقول إنه لو كان اللفظ موضوعا للخاص فهو لا يستعمل إلاّ في الخاص ، غايته أنّ تطبيقه على فاقد الخصوصية وحمله عليه

٢٥٠

يكون تجوزا ، لا أنّه يستعمل في كلي الفاقد تجوزا ويكون حمله على المصداق الفاقد حملا حقيقيا.

وعلى كل حال ، نحن في مقام تحرير عنوان النزاع لا ينبغي لنا إدخال الجري والحمل ، بل لا بد من تجريده عنه بأن نقول هل المشتق موضوع لخصوص الواجد للحدث أو هو موضوع للصادر منه الحدث ، والقائل بالأول لا يلزمه القول بأنّه مجاز في الأعم ، فإنّ ذلك تابع للعلاقة المصحّحة للاستعمال بعد فرض عدم وضع اللفظ للأعم. أمّا تطبيقه على الفاقد بعد الوجدان فذلك راجع إلى صحة الحمل بالعناية والتنزيل ، وكل منهما لا دخل له بأصل المطلب وهو وضع المشتق لخصوص واجد الحدث ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، إنّ ذلك أعني صحة الحمل الصريح أو الضمني على من فقد الحدث حقيقة أو عدم صحته إلاّ بالعناية والتنزيل يكون كاشفا ، فإن كان الحمل صحيحا بلا عناية كشف عن وضع اللفظ للأعم ، وإلاّ كشف عن وضعه للأخص ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما تقدّم (١) في علائم الحقيقة والمجاز من عدم صحة الحمل وصحة السلب ، فليس النزاع هنا في صحة الحمل وعدمه ، بل النزاع هو في وضع المشتق ، والتعبير بصحة الحمل إنما هو تسامحي لكونه كاشفا عن الوضع ، فلاحظ وتدبر. هذا كله فيما نقل عن البعض من أنّ النزاع ليس في مفهوم المشتق بل في الصدق ، وأنّ القوم لم يميّزوا محل الكلام ومورد النقض والابرام.

وأما ما يعود إلى ما ينقل من إنكار المجاز في الكلمة ، فتفصيل الكلام

__________________

(١) لم يتقدم منه قدس‌سره بحث بعنوان علائم الحقيقة والمجاز.

٢٥١

فيه : هو أنّهم قسّموا المجاز إلى قسمين ، الأول : المجاز في الاسناد وسمّوه المجاز العقلي ، وهو إسناد الفعل ونحوه إلى غير من هو له لجهة مصحّحة لذلك الاسناد. وقد ذكروا هذا القسم في الباب الأول من علم المعاني وهو باب الاسناد الخبري ، وذلك مثل جرى النهر وسال الميزاب. والقسم الثاني هو المجاز في الكلمة وذكروه في علم البيان ، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مصحّحة لذلك ، والعلائق تسع أوّلها المشابهة.

ولا يخفى أنّ المشابهة المصحّحة للتجوّز على نحوين ، الأول : أن تشبّه شيئا بشيء وتحذف المشبّه به وتذكر المشبّه وتنسب إليه شيئا من لوازم المشبّه به ، ويسمى في اصطلاحهم بالاستعارة بالكناية ، مثل قولهم « أنشبت المنية أظفارها بفلان » فشبّهوا المنية بالأسد وحذفوه وذكروا شيئا من لوازمه وهو الأظفار ، ونسبوها إلى المنيّة. وعلى هذا يمكن أن يخرج باب المجاز العقلي الذي عبّروا عنه بالمجاز في الاسناد ، بأن نقول إنّه شبّه النهر بالماء أو أنه نزّل منزلته لكونه محلا له ، ثم حذفوا المشبّه به والمنزّل عليه وهو الماء ونسبوا إلى المنزّل والمشبّه الذي هو النهر شيئا من لوازم الماء الذي هو المشبّه به وذلك هو الجريان ، وبذلك ينسد باب المجاز العقلي ويعود إلى الاستعارة بالكناية.

أما المجاز في الكلمة فقد عرفت أنه مبني على العلاقة المصحّحة للتنزيل وأوّلها المشابهة وهي الاستعارة ، وهي عكس الاستعارة بالكناية ، فانّك في هذه تحذف المشبّه وهو زيد وتذكر المشبّه به وهو الأسد ، وتنسب إليه شيئا من لوازم المشبّه وهو الرمي ، فتقول : رأيت أسدا يرمي ، وتعني به زيدا ، وهذه هي المسماة بالاستعارة ، وقد عرفت مسلك السكاكي فيها وأنّ التجوّز عنده فيها إنما هو في الحمل والتطبيق لا في الاستعمال.

٢٥٢

ويمكننا إجراء هذا الطريق في جميع أنواع المجاز في الكلمة ، فإنّ مرجع العلاقة أيّ علاقة كانت إلى ما يكون مصحّحا للتنزيل ، سواء كانت هي المشابهة أو غيرها من أنواع العلاقات ، فيكون حال تلك العلائق حال المشابهة في كونها مصحّحة للتنزيل ، وحينئذ يجري فيها مسلك السكاكي ، وبذلك ينغلق باب المجاز في الكلمة ويعود الكل إلى التجوز في الحمل والتطبيق نظير قولهم عليهم‌السلام « الطواف بالبيت صلاة » (١) في كون المصحّح للتنزيل والحمل وإطلاق الصلاة على الطواف هو الاشتراك في الحكم وهو لزوم الطهارة.

والانصاف أن مسلك السكاكي هو الذي ينبغي أن يصار إليه ، إذ لو نزّلنا الاستعارة على المجاز في الكلمة لكان محصّله أنّا نستعمل لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، ونحمل الرجل الشجاع على زيد ، ولم يكن ذلك إلاّ عبارة عن قولنا زيد رجل شجاع في الخلو عن اللطف والمبالغة في الشجاعة ، فإنّ رتبة الاستعمال ليس فيها إلا استعمال لفظ الأسد في كلي الرجل الشجاع ، وهذا لا دخل له بزيد ، وإنما الذي يرجع إلى زيد هو حمل ذلك المستعمل فيه اللفظ أعني الرجل الشجاع على زيد ، فلا يكون حاصله إلاّ أنّ زيدا رجل شجاع ، وهذا هو ما ذكرناه من الخلو من المبالغة.

وأمّا ما أورده عليه شيخنا قدس‌سره ممّا حاصله : أنّ قولنا زيد أسد يشتمل على الادعاء والتنزيل ، وهو أعني الادعاء والتنزيل إمّا في الموضوع أو في المحمول أو في النسبة. ولا إشكال في عدم الادعاء والتنزيل في الموضوع وهو زيد ، فاما أن يكون في المحمول بتوسعة في المفهوم فهو المطلوب

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

٢٥٣

الذي هو مختار المشهور في المجازات ، وإمّا أن يكون في النسبة فيكون من الدعاوي الكاذبة الجزافية ... إلخ (١) فلا يخلو عن تأمل ، لما عرفت من أنّ التسامح والتنزيل إنما هو في النسبة ، وكونه كذبا هو الموجب لحسنه وبلاغته ولطفه الراجع في الحقيقة إلى المبالغة في شجاعة زيد وتنزيله منزلة الأسد في جعله أسدا ، وحمل الاسد بمعناه الأصلي عليه ، فلاحظ وتدبر.

قوله : وربما يشكل على ما ذكرنا ـ من أنّ المراد بحال التلبس هو فعليّة التلبس والزمان خارج عن مدلول المشتق ـ بوجهين ... إلخ (٢).

لا يبعد أن يكون الذي حررته عنه قدس‌سره في هذا المقام أبسط من هذا التقرير ، فالأولى نقله بعين عبارته ليكون كشرح لما افيد عنه قدس‌سره في هذا التقرير وهذا نصه :

أنّ الحال المذكور في عنوان المسألة ليس المراد به زمان الحال المقابل للزمان الماضي والزمان المستقبل ، ولا حال التكلم ولا زمان النسبة وإن نسب الأخير (٣) إلى شيخنا ( أعلى الله مقامه ) بل المراد به حال التلبس وهو قد يقارن زمان الحال وقد لا يقارنه. وليكن هذا هو المراد من كون النسبة بينهما هي العموم من وجه ، لا أنّ بينهما العموم من وجه على وجه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٨٦.

(٣) قلت : الظاهر أنّه ناظر إلى ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الرسالة المنسوبة إليه المطبوعة مع رسالة التسامح في أدلة السنن [ قديما والمطبوعة أخيرا مستقلا بعنوان « المشتق » ] ، وذلك قوله [ في صفحة ١٧ ] في المقام الثاني « والظاهر أنه لا إشكال في أنّ المتبادر ـ إلى قوله : ـ هو كون التلبس متحققا في زمان النسبة ». ولا يخفى أنّه لا دلالة لهذا الكلام على ذلك بل هو على خلافه أدل ، فراجعه وتأمل [ منه قدس‌سره ].

٢٥٤

يكون أحدهما صادقا على الآخر في مورد ، إذ لا يخفى عدم استقامة ذلك ، إذ لا ربط لحال التلبس بزمان الحال ، غاية الأمر أنّه قد يتفق أن يكون التلبس في زمان الحال فيتقارنان وجودا ، لا أنّ أحدهما صادق على الآخر.

وبعد أن اتّضح لك أنّه ليس المراد بالحال هو زمان الحال وأنّ المراد به هو حال التلبس ، يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوهم من أنّ هذا النزاع مناف لما استقرت عليه كلمة أهل العربية من عدم دلالة الاسم على الزمان ، فإنّ المنافاة المذكورة إنما تتوجه إذا كان المراد من الحال في هذا النزاع هو زمان الحال. وأما ما ذكره علماء العربية (١) من عدم إعمال اسم الفاعل إذا كان للماضي وإعماله إذا كان للحال أو الاستقبال ، فليس المراد به دلالة اسم الفاعل على زمان المضي والحال والاستقبال ، بل المراد به انقضاء التلبس وفعليته واستقباله.

ولو سلّم أنّ المراد به هو زمان المضي والحال والاستقبال ، فهو أيضا غير مناف لما استقرت عليه كلمتهم من عدم دلالة الاسم على الزمان (٢) لجواز أن يكون المراد ممّا ذكروه في باب الاعمال هو فهم الزمان الماضي والحال والاستقبال بالقرينة الخارجة عن لفظ اسم الفاعل.

وأمّا ما ربما يتوهم من أنّ المناسب لما قرر في هذا البحث ـ من الاتفاق على كونه مجازا في الاستقبال وحقيقة في الحال ومحل الخلاف في الماضي ـ هو عدم إعماله إذا كان للاستقبال ، وانحصار إعماله بما إذا كان للحال وأن يكون إعمال ما يكون للماضي محل الخلاف.

ففيه أوّلا : أن الاعمال لا ربط له بما ذكر في هذا البحث ، بل هو مبني

__________________

(١) راجع شرح ابن عقيل ٢ : ١٠٦.

(٢) شرح ابن عقيل ١ : ١٥ ، شرح شذور الذهب : ١٤.

٢٥٥

على مناسبات لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب كسائر المطالب السماعية.

وثانيا : أنّ أصل ذلك التفصيل الذي ذكروه في باب الاعمال يمكن المناقشة فيه ، إذ لم يثبت عدم إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى المضي.

ثم قال قدس‌سره فيما حررته عنه : وحاصل ما تقدّم وتوضيحه : أنّ لنا جملة عناوين ومباحث ربما يتوهم اختلاط بعضها بالآخر ، العنوان الأول : هو عنوان مسألتنا هذه ، وهو أنّ المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال أو للأعم منه وممّا انقضى عنه المبدأ بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما لم يتلبس بعد. العنوان الثاني : قول النحويين أنّ اسم الفاعل يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ولا يعمل إذا كان بمعنى الماضي. العنوان الثالث : قولهم إنّ الظاهر من الجملة الاسمية مثل زيد قائم هو الحال. العنوان الرابع : ما هو محل الخلاف بين الفارابي والشيخ الرئيس ، من أنّ صدق عنوان الموضوع على ذاته هل هو بالامكان أو هو بالفعل ، سواء كان حالا أو ماضيا أو مستقبلا.

أما العنوان الأول ، فقد عرفت أنّ المراد بالحال فيه هو حال التلبس لا زمان الحال كي يناقض ما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسم على الزمان.

وأما العنوان الثاني ، فيمكن أن يكون المراد به هو المراد بالعنوان الأول. ولو سلّم إرادة الزمان منه فإنّما هو بالقرينة لا بنفسه ، مع أنّ عدم إعماله بمعنى المضي محل تأمل وإشكال يحتاج إلى التتبع فيما ورد عن أهل اللسان.

وأمّا العنوان الثالث ، فالمراد به أنّ الجملة الاسمية إذا كانت مجردة من الرابطة التي هي كان أو يكون الناقصة ، فالمستفاد منه بالدلالة الالتزامية هو الحال ، فلا يكون المشتق بمفهومه الافرادي دالاّ على الزمان كي يناقض ما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسم على الزمان. مع أنّ ما ذكروه من دلالة

٢٥٦

الفعل على الزمان ، ليس المراد به أنه يدل بنفسه على الزمان ، بل المراد به كما سيأتي ان شاء الله تعالى أنّ الدلالة المذكورة بالالتزام ، والقرينة الخارجة عن نفس اللفظ وهي كون الفعل الماضي مثلا لوقوع الحدث الزماني الملازم لانقضائه ومضيه.

وأمّا العنوان الرابع ، فقد يتوهم أنه مناقض لما تقدّم من عدم صحة استعمال العنوان الذاتي إلاّ في حال تحقق ذلك العنوان ، وأنّ استعماله في حال عدم تحقّقه غلط صرف ، بيان المناقضة : هو أنّ المتحصل من كلا القولين هو عدم اعتبار التلبس الحالي ، وأن الأول يكتفي في الصدق بمجرد الامكان ، والثاني يعتبر الفعلية التي هي الأعم من التلبس الحالي أو الماضي أو المستقبل.

والجواب عن المناقضة : أنّه لا ربط لمسألتنا بهذه المسألة المنطقية ، لأنّ مسألتنا إنما يبحث فيها عن مرحلة وضعية لفظية وهي راجعة إلى ما يقتضيه نفس المفهوم الافرادي ، وتلك المسألة إنما يبحث فيها عن جهة معنوية ، وهي أنّه هل يكتفى في ثبوت المحمول لذات الموضوع مجرد إمكان اتصاف تلك الذات بالوصف العنواني ، أو أنّه لا بد في ذلك من الفعلية ، ومن الواضح أنّ جهة هذا البحث في هذه المسألة لا ربط لها بجهة البحث في مسألتنا ، فإنّ جهة البحث في تلك المسألة إنما تكون بعد الفراغ عن أنّه لا بد في ثبوت المحمول للموضوع من حالية الوصف العنواني للموضوع ، هل يكفي في ذلك أن يكون ثبوت ذلك الوصف بالامكان أم لا بد من الفعلية. وجهة البحث في مسألتنا راجعة إلى أنه هل يعتبر في صدق الوصف التلبس بالمبدإ فعلا أم يكفي فيه مطلق التلبس ولو فيما مضى ، فتأمل.

٢٥٧

قلت : لا يخفى أنّ كلام الشيخ والفارابي في تلك المسألة لم يكن بعد الفراغ عن اعتبار حالية الوصف العنواني وإلاّ لانحصر كلامهما في العرفية العامة أو المشروطة العامة دون باقي القضايا ، مع أنّه لو كان كلامهما بعد الفراغ عن ذلك لورد عليهما أنه حينئذ لا معنى للتكلم في كفاية ثبوت العنوان بالامكان أو بالفعل بمعنى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة مثلا ، فإنّ اعتبار حالية الوصف العنواني أضيق من كلا القولين. وعليك بمراجعة الأمر الرابع من الامور التي ذكرها في الرسالة الثانية في المشتق (١) المطبوعة مع رسالة التسامح في أدلة السنن تجده وافيا بالمقصود في هذا المقام إن شاء الله تعالى.

ولا بأس بنقل كلامه برمّته ليتّضح لك ذلك ، قال : الرابع : الظاهر أنّ هذا النزاع من الأبحاث اللفظية المتعلقة بتعيين مدلول المشتق لفظا كما يظهر من ملاحظة كلماتهم وأمثلتهم ، واستدلال الطرفين بالتبادر وصحة السلب ونحوها. فلا تنافي بين الذهاب إلى أنّ المشتق ظاهر في الفعلية بالمعنى المتقدم ، وبين ما هو المعروف من علماء الميزان من أنّ الوصف العنواني في الموضوع في القضايا المتعارفة في المحاورات هل يكفي فيه مجرد إمكان اتصاف ذات الموضوع به كما هو المنسوب إلى الفارابي أو يجب فيه تحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة التي يعبّر عنه بالفعلية التي تؤخذ جهة في قبال الامكان والضرورة والدوام كما هو المنسوب إلى الشيخ حيث إن القول بالامكان في تلك المسألة ينافي اعتبار الفعلية بالمعنى المذكور هناك ، فكيف بالمعنى المراد في المقام.

__________________

(١) المنسوبة إلى المجدد الشيرازي قدس‌سره.

٢٥٨

ووجه عدم المنافاة ، أنّ الظاهر أنّ ذلك النزاع في صحة الحكم والقضية بحسب المعنى والعقل ، إذ لا يعقل الحكم على ما لا يمكن اتصافه بعنوان الانسانية في قولك : الانسان كاتب أو ضاحك ، ولا تجري المحاورة على شيء يمتنع اتصافه بوصف الانسانية مثلا. فالامكان هو القدر المتيقن فلا حاجة إلى فرض تحقق النسبة في زمان في صحة الحكم والقضية كما أفاده الشيخ. وذلك لا ينافي أن تكون العبارة الدالة على ثبوت عنوان الموضوع أو المحمول ظاهرة في الفعلية أو في غيرها كما هو المطلوب بالنزاع في المقام كما هو ظاهر على المتأمل.

والحق في المقام أنّ النزاع المذكور أيضا من الأبحاث اللفظية المتعلقة بتعيين مدلول اللفظ الواقع موضوعا في القضية كما يظهر ممّا أورده شارح المطالع في بيان الخلاف الواقع بين الشيخ والفارابي ، وما اختاره الشيخ في تلك المسألة هو بعينه ما اختاره المحققون في المقام من توقف الصدق على التلبس الفعلي ، وإن فرض ذلك قبل زمان التلبس أو بعده لكن الاطلاق باعتبار زمان التلبس ، قال بعد ما بيّن المراد من الامكان : ثم إنّ الفارابي اقتصر على هذا الامكان ، وحيث وجده الشيخ مخالفا للعرف زاد قيد الفعل ، لا فعل الوجود في الأعيان ، بل ما يعم الفرض الذهني والوجود الخارجي ، فالذات الخالية عن العنوان يدخل في الموضوع إذا فرضه العقل موصوفا به بالفعل ، مثلا إذا قلنا كل أسود كذا ، فيدخل في الأسود ما هو أسود في الخارج أو ما لم يكون أسود ويمكن أن يكون أسود إذا فرضه العقل أسود (١) ، انتهى. وهو بعينه هذا النزاع اللفظي وإلاّ فلا وجه لقوله :

__________________

(١) شرح المطالع : ١٣٥.

٢٥٩

وجده الشيخ مخالفا للعرف ، فإنّ الاستدلال بالعرف دليل على ذلك. ولا يراد بالفعلية تحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة وإن لم يفرض معه التلبس في زمان الحكم كما لا يخفى.

وحينئذ فقول الفارابي مخالف للعرف جدا ، حيث إنه اكتفى في الصدق بمجرد الامكان وهو بعيد جدا.

ولم يحك في المسألة قولا لأحد من أصحاب النظر ، فلعلّ نظره إلى ما تقدّم من صحة الحكم ولو في القضية المعقولة ، وقد عرفت أنّ المتجه ما أفاده ، ولا يحتاج إلى الفعلية ، إلاّ أنه لا ينافي قول الشيخ بتوقف الصحة في القضية الملفوظة العرفية على الفعلية بالمعنى المتقدّم. فمورد النفي والاثبات في كلامهما غير متحد ، انتهى (١).

قوله : المقدمة السادسة في تعيين مبدأ المشتقات ومفاد هيئاتها ... إلخ (٢).

تقدم الكلام (٣) في باب الوضع وأنّه ينقسم إلى الشخصي والنوعي.

والأول هو ما كان الموضوع فيه كليا تحته أفراد وهو وضع الجوامد. والثاني ما كان الموضوع فيه كليا تحته أنواع تحتها أفراد وهو وضع الهيئات ، سواء كانت هيئات الجمل أو هيئات المشتقات ، وقد تقدم لنا أن قلنا إنّ المواد في المشتقات ينبغي القول بأنّها موضوعة بالوضع النوعي ، إذ كما نقول إنّ هيئة فاعل موضوعة لمن تلبس بالمبدإ في أي مادة وجدت فتشمل الضارب والشارب ، فكذلك لنا أن نقول إنّ مادة الضرب موضوعة لذلك الحدث

__________________

(١) رسالة في المشتق ( ضمن مجموعة من الرسائل ) : ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٩٠.

(٣) تقدم ما يرتبط بالمقام في الصفحة : ٩٧ وما بعدها.

٢٦٠